jeudi 20 décembre 2018



بين عالميْن
 بدرالدين عرودكي 
قبل أسابيع، أثار إعلام النظام الكيمياوي في سورية، على عادته في الصفاقة وفي الاستغباء، سخرية العالم، حين تحدث عن "العنف" الذي واجهت به الشرطة الفرنسية مظاهرات وتجمعات السترات الصفراء. لم يكن وحده الذي تميز بذلك في العالم العربي. فإعلام عدد من النظم الاستبدادية التي تسوق مواطنيها إلى السجن بلا محاكمة، أو تقتلهم أثناء التعذيب، أو تقوم باغتيالهم، لمجرد ممارستهم حق التعبير بتغريدات على وسائل التواصل الاجتماعي، أو بمقالات يعبرون فيها عن رأيهم حول ما يجري في بلادهم، وتعجز عن النظر إلى انعكاس أفعالها ــ التي ترتقي إلى جرائم حرب ــ على وجوهها في المرآة، سار في الدرب نفسه مادامت النظم التي يعمل تحت إمرتها قادرة على أن ترى في ما يقوله الآخرون أفعالًا تتيح لها توجيه التهم الرخيصة والكاذبة لهم، وتسمح لإعلامها ممارسة حرية المبالغة والتشويه، في الوقت الذي ترفض فيه أن ترى سوأتها التي يراها الجميع. هكذا، لا يستطيع المواطن العربي، بدءًا من السوري، إلا أن يقارن، بمرارة، بين عالميْن يتواجدان في زمن واحد، وفي قرية واحدة صارتها الكرة الأرضية !
مظاهرات السترات الصفراء العفوية التي انطلقت تعلن مطلبًا بسيطًا: إلغاء قرار رفع أسعار الوقود الذي كان مقررًا تطبيقه اعتبارًا من أول العام الجديد، تحولت خلال أسابيع ثلاثة إلى حركة عمَّت فرنسا كلها، واكتسبت دعمًا شعبيًا منقطع النظير، منذ بداياتها، أرغم الرئيس والحكومة على إعادة النظر في قراراتهما، وعلى اتخاذ قرارات لم تكن على جدول أعمالهما بلغت كلفتها الأولية ما لا يقل عن 12 مليار يورو. صحيح أن ما قامت به جماعات المشاغبين من اختراق لمظاهراتها، وارتداء بعض أفرادها السترات الصفراء، ومن تكسير واجهات المتاجر ونهبها، وقلب السيارات الخاصة للمواطنين وحرقها، وممارسة العنف الحقيقي ضد كل من يحاول من المتظاهرين السلميين مواجهتها، أدى، في نهاية الأمر إلى انحسار الدعم الشعبي للمظاهرات، إلا أن هذا الدعم بقي على حاله بالنسبة إلى المطالب التي كان سقفها يرتفع يومًا بعد آخر. لم تعد المظاهرات تنادي بضرورة رفع الحد الأدنى للأجور أو تخفيف الضرائب عن الغالبية العظمى من الطبقات الفقيرة والوسطى، أو إلغاء زيادة الرسوم المقررة على رواتب المتقاعدين فحسب، بل انتقلت في قفزة نوعية، ذات طابع سياسي هذه المرة، إلى المطالبة بتطبيق  نظام يسمح للشعب التدخل مباشرة في الحياة السياسية عن طريق استفتاءات يمكن بها إلغاء هذا المرسوم أو ذلك القانون، من خلال ما أطلق عليه استفتاء مبادرة المواطنة، تستجيب الحكومة له بناء على عريضة يوقعها سبعمائة ألف مواطن، على غرار النظام المعمول به في سويسرا خصوصًا. أي، بعبارة أخرى، كسر ديمقراطية التمثيل عبر المؤسسات المختلفة التي تعرفها فرنسا ودول الاتحاد الأوربي والانتقال، بصورة أو بأخرى، إلى الديمقراطية المباشرة التي تمارس عبر الاستفتاءات وتؤدي إلى إقالة أي مسؤول منتخب أو معيّن، بما في ذلك رئيس الجمهورية في حال عدم تطبيقه البرنامج الذي انتخب بناء عليه.
حملت هذه الحركة الشعبية الواسعة لا على استنفار أجهزة الإعلام المختلفة التي شرعت بإجراء نقاشات واسعة حول مطالب الحركة وإمكانات الاستجابة لها فحسب، بل كذلك على استنفار كافة أجهزة الدولة، بدءًا برئاسة الجمهورية، من أجل دراسة طرق العمل لتحقيق هذه المطالب، ومن ثم على دعوة كافة القوى الحزبية والنقابية وممثلي السترات الصفراء في مختلف مدن فرنسا ومناطقها، للإسهام في مناقشة كل ما يطال الأمور التي تمس حاضر فرنسا ومستقبلها على صعيد البيئة والسياسة والاقتصاد، بما في ذلك المطلب الذي بات رئيسًا لدى السترات الصفراء، أي استفتاء مبادرة المواطنة.
يحمل ما جرى في سورية أيضًا، قبل ما يقارب اليوم من ثمانية سنوات، على القيام بمقارنة طفيفة مع ما يجري في فرنسا منذ نيف وشهر. فما يمكن أن نسميه اليوم "الحدث السوري" بدأ بمظاهرات سلمية تطالب بالحرية وبالكرامة. لكن قوات الأمن الأسدية لم تواجه المتظاهرين بخراطيم المياه، أو بالغازات المسيلة للدموع، كما فعلت الشرطة الفرنسية خصوصًا عند قيام أي من المتظاهرين بمخالفة قانون التظاهر، بل اختارت ما كانت تراه أكثر فعالية ونجوعًا: بدءًا بالرصاص الحي وانتقالًا إلى القصف بالمدافع، وصولًا إلى تدمير المدن والقرى بالبراميل. لم تقم قوات الأمن السورية بإحالة المتظاهرين إلى القضاء بسبب أفعال عنف أو ارتكاب مخالفات للقانون العام، كما فعلت الشرطة الفرنسية مع المشاغبين واللصوص الذين اخترقوا مظاهرات السترات الصفراء حصرًا، بل قامت باعتقال المتظاهرين ومارست تعذيبهم الذي كان ينتهي إلى القتل غالبًا. أما مؤتمرات "الحوار" الصورية التي دعا إليها نظام الاستبداد الأسدي، فلم تكن تستهدف سوى ذرَّ الرماد في العيون، بينما كانت قواته الأمنية تمارس مهامها في القمع بلا رحمة.
سوى أن فرنسا بلد ديمقراطي ــ كما يتجاهل نقادها في النظم الاستبدادية العربية ــ لا يستطيع فيه الحاكم أيًّا كان ــ حتى لو كان جنرالًا ــ أن يفعل ما يشاء كيف يشاء. وليس بوسعه إلا أن يعمل ضمن حدود القوانين. لهذا، كان أصحاب السترات الصفراء يمارسون حقهم الكامل في الاحتجاج وفي الاعتراض على القرارات الحكومية. ولم يكن ارتفاع سقف مطالبهم إلى ما وصل إليه خلال أسابيع قليلة إلا نتيجة تراكم ما تواجهه الديمقراطية التمثيلية نفسها من مشكلات تجلت في تضاؤل نسبة الإقبال على الاقتراع في الانتخابات الرئاسية والنيابية. كما لو أن الديمقراطية التمثيلية، على تفاوت طرق ممارستها بين بلد أوربي وآخر، قد بلغت حدودها القصوى، فبات ضروريًّا إعادة النظر في بعض مفاصلها الأساس. ولاشك أن اللبرلة المفرطة للاقتصاد خلال الأربعين عامًا الماضية قد لعبت دورًا، لا في محو الحدود على هذا الصعيد بين اليمين واليسار التقليديين فحسب، بل للحدّ من دور النقابات الذي كان شديد الفعالية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. أدى ذلك كله إلى تراجع متواصل في مستوى معيشة الطبقات الوسطى، وإلى الحدِّ من فوائد الضمان الاجتماعي والصحي، مثلما أتاح، في الوقت نفسه، لليمين المتطرف أن يستغل هذا القصور من خلال شعارات شعبوية تمكن بفعلها من الوصول إلى السلطة في ثماني دول أوربية. وكانت النتيجة في فرنسا نمو التيارين الشعبويين، اليمين المتطرف واليسار المتطرف، على حساب اليمين واليسار التقليديين اللذين لا زالا يعيشان انهيارًا غير مسبوق خلال السنوات الأربعين الأخيرة.
بين عالميْن إذن: عالم بلاد يقمع فيها حكامُها شعوبَها ويحرمون عليها الحرية قولًا وفعلًا، وعالم تسعى فيه شعوبٌ مجاورةٌ ترغم فيه حكامَها على الاستجابة إلى ما تطالب به: تعميق الديمقراطية التي تعيش مع ذلك في ظلها والتي يسَعها، بفضلها، أن تفعل ذلك.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 20 كانون أول/ديسمبر 2018


dimanche 16 décembre 2018




صحبةَ مُبدَعِ كونديرا (1)
En compagnie de l'oeuvre de Kundera

بدرالدين عرودكي 
كتب كونديرا: "...الروائي هو الذي يريد، كما يرى فلوبير، أن يختفي وراء مبدعه. أن يختفي وراء مبدعه يعني التخلي عن دور الشخص العامّ. وليس ذلك من السهل اليوم حيث يتوجب على كلِّ شيء ينطوي على أهمية ما إن يمرّ من خلال مشهد وسائل الإعلام الجماهيرية المضاء على نحوٍ لا يحتمل والتي تقوم، خلافاً لقصد فلوبير، بإخفاء المبدع وراء صورة مؤلفه. وفي هذا الوضع الذي لا يستطيع أي امرئ تفاديه كلياً، تبدو لي ملاحظة فلوبير كما لو أنها تحذير: ذلك أن الروائي، إذ يقبل القيام بدور الشخص العام، يعرِّض للخطر مبدعَهُ الذي يمكن أن يعتبر مجرد ملحق لحركاته ولتصريحاته ولمواقفه. هذا في حين أن الروائي ليس ناطقاً باسم أحد، بل إنني سأذهب في هذا التأكيد إلى درجة أن أقول إنه ليس  ناطقاً حتى باسم أفكاره الشخصية."
هذا الاختفاء الذي الذي كان فلوبير يراه ضروريًا للروائي كي لا يرى القارئ أمامه سوى الرواية وحدها، سوف يعمل به كونديرا جاعلًا منه قاعدة حياته وسلوكه روائيًا. فقد كان في أعماقه يتمنى، كما صرح بذلك مرارًا، لو استطاع، أن يكتب تحت اسم مستعار، ولاسيما حين كلفته كتاباته فقدان وطنه الأصلي، الذي كان أيضًا وطن فرانز كافكا. إذ أنه بعد نشر روايته "المزحة" عام 1967 في بلده خلال ربيع براغ، منع من النشر كليًا في السنة التالية، وبقي كذلك حتى اضطراره إلى الهجرة إلى فرنسا عام 1975.
ازدادت مع الأيام قناعته بضرورة أن يحمي مبدعاته من أية عناصر يمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار من أجل فهم مبدعاته، سواء تلك المستقاة من سيرته الشخصية، أو تلك التي يمكن أن تؤخذ من مقابلات صحفية أو إذاعية لم يمهرها بتوقيعه، أي لم يعترف بها، كالمحادثتيْن اللتين ثبَّتهما في كتابه فن الرواية. وقد أتيحت له الفرصة أن يجسّد هذه الرغبة فعلًا حين قررت منشورات غاليمار استقبال أعماله ضمن سلسلتها الشهيرة، لابلياد، أو الكواكب، والتي تقوم منذ إطلاقها في بداية العقد الثالث من القرن الماضي، بنشر الأعمال الكاملة أو شبه الكاملة للكتاب والفلاسفة في العالم، اعتمادًا على المخطوطات والطبعات المختلفة للأعمال المنشورة من قبل، يقوم المختصون بدراستها وتمحيصها وتحليلها وتقديمها للقارئ قبل أن يضمها مجلد أو أكثر في السلسلة. كان دخول كونديرا هذه السلسلة وهو على قيد الحياة استثناءًا سمح له اشتراط إعداد هذه الطبعة تحت إشرافه المباشر. ومن هنا تفرّدت هذه الطبعة، ضمن المجلدات التي نيَّفت هذا العام على ستمائة وثلاثين مجلدًا في هذه السلسلة بأنها، بدلًا من أن تحمل كمثيلاتها عنوان: "الأعمال الكاملة Œuvres complètes"، أو "أعمال Oeuvres" بالنسبة للطبعات التي لم تكن كاملة بعد، حملت على المجلديْن اللذيْن خصصا لها، عنوان: "عمل Oeuvre"، جمعت فيهما مجموعته القصصية الوحيدة، ورواياته العشر، ومسرحيته الوحيدة، وكتبه الأربعة حول الرواية. وبذلك كانت منشورات غاليمار تستجيب عمليًّا لمطلب كونديرا في أن يختفي وراء ما يعتبره "أعماله"، مهملًا على سبيل المثال مجموعاته الشعرية الثلاث التي سبق له أن نشرها شابًا قبل أن يتحول كليًا نحو الرواية، أو قصصًا قصيرة كتبها ولم تضمها مجموعته الوحيدة في هذه الطبعة، فضلًا عن العديد من المقابلات الإذاعية والتلفزيونية أو الصحفية التي سبق له أن أجراها خلال السنوات العشرين التي تلت وصوله إلى فرنسا ولاسيما بعد أن غطت شهرته الآفاق بعد نشر روايته خفة الكائن التي لا تحتمل وترجمتها إلى مختلف لغات العالم الحية.    
لذلك، لن يجد ماتيو غاريغو ـ لاغرانج، صاحب برنامج "صحبةَ المؤلفين" بإذاعة فرنسا الثقافية، والذي خصص أربع حلقات للحديث عن مُبْدَع ميلان كونديرا أذيع بين الإثنين 3 والجمعة 6 كانون الأول/ديسمبر الحالي، سوى بضع كلمات تلخص حياة كونديرا الشخصية: ولد في الأول من نيسان/أبريل بمدينة 1929، بمدينة برنو في تشيكوسلوفاكيا؛ هاجر إلى فرنسا عام 1975؛ جُرِّدَ من جنسيته التشيكية عام 1979؛ حصل على الجنسية الفرنسية عام 1981. أما مضمون البرنامج، الذي سيشارك فيه عدد من الذين كتبوا عن كونديرا، كتابًا أو أكاديميين، فسوف يتناول مؤلفات كونديرا الروائية أو حول الرواية، على النحو الذي أراد لها أن تكون المرجع الأساس الذي باتت طبعة لا بلياد التي أشرف عليها بنفسه، تؤلفه من الآن فصاعدًا.
لم يُدعَ كونديرا للحديث مباشرة خلال هذه الساعات الأربع التي خصصت له وهو يقترب من عامه التسعين. ولا أظن أنه كان، لو دُعِيَ، سيقبل المجيء، لاسيما بعد أن بدا في هذه الطبعة المشار إليها وكأنه يختتم ما أراد أن يقوله، خصوصًا وأن روايته الأخيرة، عيد اللا معنى، التي لم يضمها المجلد الثاني من سلسلة لابلياد عند صدورها، قد أدرجت في طبعة جديدة للمجلد الثاني إلى جانب رواياته التسع التي ضمتها طبعته الأولى. وكان على صاحب البرنامج أن يبحث في أرشيف الوسائل السمعية البصرية عن مقابلات أو حوارات سبق لكونديرا أن أجراها من قبل ولم ينشرها كم قلنا، أو قراءة بعض المقتطفات من أعماله ذاتها في تناول هذه الثيمة أو تلك التي عالجتها كل من الساعات/الحلقات الأربع.
هل يعني هذا أن كونديرا بلغ الغاية التي كان ينشدها من حماية أعماله بسور منيع لا تنفذ منه أية عناصر أخرى تشوه فهمها أو تحور دلالاتها؟  
من الممكن القول، بعد الاستماع إلى الحلقات الأربع، إن كونديرا لن يكون مستاءًا مما قيل خلالها، رغم أنه، كأي روائي مبدع مثله، ربما كان ينتظر قراءة أخرى لمبدعاته عبر تحليلها بعمق أكثر وربما باستخدام مناهج أخرى في القراءة النقدية مادامت النصوص المرجعية متاحة بكاملها للقارئ وللناقد. غير أن الحذر ــ كما أرى ــ غلب على معظم المشاركين باستثناء واحد منهم بدت قراءته لتجربته الشخصية في الحب أكثر طغيانًا على ما قام به من تحليل لهذه الثيمة في مبدع كونديرا بوصفه وثيق الصلة به وبمؤلفه.
خصصت كل حلقة لمعالجة ثيمة محددة في روايات وفكر كونديرا : الوضع الوجودي، الذي دعي للحديث فيه الأكاديمي الكندي فرنسوا ريكار، الذي أعد تحت إشراف كونديرا طبعة مبدعاته في سلسلة لابلياد وقدم لها مثلما كتب سيرة المبدعات، كلاً على حدة ــ لا سيرة مؤلفها! ــ؛ نظرية للرواية التي دعيت لتقديمها مارتين بواييه فينمان، أستاذة الأدب المعاصر بجامعة ليون؛ عن الحب، التي دعي للحديث فيه الكاتب آلان فنكلكروت؛ وأخيرًا، كونديرا :الالتزام؟ المنفى؟، التي دعي لمناقشتها هيلين باتي دولالاند، أستاذة الأدب الفرنسي في القرن العشرين بجامعة باريس، والكاتب فرنسوا تايّاندييه.
أما مدير البرنامج فقد التزم رغبة كونديرا في الاعتماد على كتاباته كما وردت في طبعة لابلياد، وعلى مقابلات أجراها، لم ترد في الطبعة المذكورة، لكنها مسجلة بصوت كونديرا نفسه من جهة، ولا تخرج عما كتبه في مختلف مبدعات الروائية أو حول الرواية، لكن الغرض من الاعتماد عليها كان إتاحة الفرصة سماع صوت كونديرا نفسه وهو يدلي بها.
لا يزال السؤال، مع ذلك، مطروحًا: ما مدى نجوع القاعدة التي عمل كونديرا على فرضها على دارسي مبدعاته ونقادها، الآن وفي المستقبل؟
(سنستعرض في المقال القادم منهج مقاربة الحلقات الأربع المشار إليها لمبدع كونديرا، وكذلك التساؤل عن مدى صمود السور الذي بناه كونديرا حول مبدعه.)   

** نشر على موقع جيرون، يوم الأحد 16 كانون أول/ديسمبر 2018.


jeudi 6 décembre 2018



الديمقراطية في محنة الامتحان 
 بدرالدين عرودكي 
  يمكن لمظاهرات السترات الصفراء، التي انطلقت في مختلف مناطق فرنسا منذ نيف وثلاثة أسابيع، أن تقدم بعض الدروس الدقيقة والضرورية حول الديمقراطية، بوصفها نسقًا وخبرة وممارسة، والتي تواجه، خلال السنوات الأخيرة في أوربا، بعض أخطر امتحاناتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي التي شهدت، وبواسطتها، صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا. وهي دروس لابد أن يقرأها جيّدًا من يحسبون، في العالم العربي عمومًا وفي سورية خصوصًا، أن النظام الديمقراطي ينحصر في أو يقتصر على صناديق الاقتراع والانتخابات الحرة؛ أو الذين يتجاهلونها باستهتار حين يصرون على سلوك نهجهم في استغباء أنفسهم وكل من حولهم وهم يبثون عبر وسائلهم الإعلامية المرئية صورًا متحركة تظهر الحياة الوديعة في دمشق جنبًاً إلى جنب صور مماثلة تبرز النار والدخان و "عنف" الشرطة ضد المتظاهرين في شوارع باريس في اليوم ذاته؛ أو أيضًا، وربما خصوصًا، من يتشدقون بها ليل نهار في أحاديثهم أو في كتاباتهم دون أن يمارسوها يومًا حتى ضمن دائرة أسرتهم. ذلك أن ما تعيشه ديمقراطية فرنسا اليوم من احتجاجات شعبية، آخذة في النمو وفي التطور وفي الاتساع على كل المستويات، بات من الصعوبة بمكان مقارنتها، سواء على صعيد الظروف الاقتصادية أو السياسية، مع ما عاشته خلال السنوات التي سبقت استقلال الجزائر في نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، أو خلال ثورة الطلبة في أيار/مايو، أو حتى في خريف عام 1995.
لم يكن العنف وسيلة المتظاهرين من أجل استقلال الجزائر أو وسيلة حركة الطلبة الثائرين ذات الطابع السياسي والاجتماعي والثقافي، بل أداة السلطة وحدها، آنئذ، لقمع المتظاهرين. أما اليوم، فهو، إلى جانب ممارسته المعتادة في المظاهرات السلمية من قبل مجموعات قليلة من المشاغبين الدخلاء على المتظاهرين من أجل السرقة والأذى، يُمارسُ من قبل قطاع من المحتجين الذين ساروا على أثرهم، ولم يترددوا في اللجوء إليه وسيلة لفرض مطالبهم على الحكومة من أجل الرجوع على قراراتها في فرض الضرائب على أسعار الوقود، ثم احتجاجًا على النظام الضريبي في مجمله كما يمارس اليوم في فرنسا. سوى أن العنف الذي لابد أن يستدعي عنفًا مُقابِلًا يمكن أن يتفاقم من الطرفين وأن يضع النظام الديمقراطي نفسه على المحكِّ تحت طائلة خطر انهياره إن لم تتوفر شروطه الضرورية كاملة.
وإذا كان انطلاق حركة السترات الصفراء بسبب قرار زيادة الضرائب على أسعار الوقود انطلاقًا عفويًا اكتسب شعبيته على نطاق واسع في فرنسا بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه تطور خلال أسابيع ثلاثة إلى حركة احتجاج واسعة ضد النظام الضريبي غير العادل وانخفاض مستوى القدرة الشرائية لدى المواطن الفرنسي العادي ورفض رفع الحد الأدنى للأجور. ولأنها كانت حركة خارج الأحزاب وخارج النقابات التقليدية، فقد حاول، بوجه خاص، كلّ واحد من حزبيْ المعارضة الشعبوييْن، في أقصى اليسار وفي أقصى اليمين، استثمار هذا الاحتجاج الواسع وتجييره لصالحه. عبثًا. لكن ذلك لم ولن يحول دونهما ودون التسلل في صفوف الحركة التي رغم أنها لم تفرز ممثلين لها للتعبير عن مطالبها، أو لم تنتخب قيادة تعمل على صوغ مطالبها، بل ولم تتمكن بالتالي من التعبير عن نفسها إلا في الشارع وفي التمركز عند مداخل المدن المختلفة، باتت، ولا سيما في مظاهرتها الأسبوعية، تشكل خطرًا تخشاه الحكومة بسبب العنف الذي رافق التجمع الذي شهدته باريس في الأول من الشهر الحالي في شارع الشانزيليزيه. ذلك أن أفرادها الذين باتوا هدف الأجهزة الإعلامية على اختلاف انتماءاتها وأيديولوجياتها يتفاوتون في التعبير عن مطالبهم بل ويختلفون في تحديد أولوياتهم. لكن هذا الاختلاف في تحديد الأولويات، وغياب الممثلين الذين يمكن أن يفاوضوا ممثلي الحكومة حول مطالبهم فاقم من خطر تحول هذه الحركة إلى ثورة عارمة يمكن أن تفضي إما إلى إسقاط رئيس الجمهورية وحكومته، أي إلى انقلاب على قوانين الجمهورية الديمقراطية ذاتها، وإما إلى لجوء الرئيس والحكومة معًا، للحيلولة دون ذلك، إلى فرض حالة الطوارئ، وفي كلتا الحالتيْن إلى تعريض الديمقراطية إلى هزة عنيفة قد تودي بها إذا ما تمكن اليمين المتطرف أو ما يسمى يسار اليسار، الشعبوييْن، من الوصول إلى السلطة.
لاشكَّ أن الديمقراطية في فرنسا تجتاز اليوم امتحانًا شديد الخطورة والوضوح معًا. تحدث وزير الداخلية عن اللجوء إلى فرض حالة الطوارئ؛ ولم تكن جملة عابرة، تلك التي قالها مسؤول حكومي معلقًا على العنف الذي غلب على مظاهرة يوم الأول من كانون الأول/ديسمبر: هم كانوا يستخدمون العنف بلا حدود؛ أما نحن، فقد كانت لدينا حدود، تلك التي تفرضها قوانين الديمقراطية. كان لدى السلطة أدواتها التقليدية: الغاز المسيل للدموع والاعتقال والإحالة إلى المحاكم. سوى أنها لا تستطيع الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين حتى على سبيل الإنذار (كما حدث في سورية مثلًا). ولا يسعها اعتقال أحدٍ دون القيام بإحالته على القضاء أو الإفراج عنه. وفي الإعلام، تكرِّرُ السلطة يوميًا احترامَها لحق التظاهر السلمي، وتطلق الدعوات للحوار.
هنا تبدو متطلبات الممارسة الديمقراطية وشروطها الموضوعية. إذ من كان يتخيل لحظة واحدة أن رفع أسعار الوقود عن طريق زيادة الرسوم عليها سوف يطلق حركة احتجاج تتسع كل يوم في مطالبها وتكتسب مزيدًا من الدعم الشعبي لها حتى لتكاد تنقلب إلى ثورة عارمة ضد نظام بأكمله؟ ومن كان يتصور أن الحكومة التي لم تكف عن الإعلان عن أنها لن تحيد عن خط الإصلاحات التي التزمت بها أمام الناخبين سوف تتراجع شيئًا فشيئاً، وخلال ثلاثة أسابيع، حتى فقد تراجعها، الذي تمثل في إلغاء قرار الرسوم على الوقود، كلَّ أثر على المتظاهرين الذين اعتبروه مجرد فتات يلقى إليهم رغم أن هذا الإلغاء كان يعني فقدان الدولة ملياري يورو سنويًا؟ لاشك أن القوانين تضع الحدود والقيود مثلما تحدد الحقوق والواجبات. لكنها تتطلب أيضًا ما يتجاوز ذلك، ولاسيما عند الأزمات غير المتوقعة التي توشك أن تودي بكل شيء عند استفحالها. فالخبرة التي يتمتع بها الحاكم، ومعارفه، وقدرته على الإحاطة بالمشكلة، وعلى اتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة، لا تفرضها القوانين طبعًا، لكن غيابها  لابدَّ أن يحمل الناخبين على سحب الثقة ممن انتخبوه، وعلى المطالبة برحيله مادام عاجزًا لسبب أو لآخر عن القيام بما انتخب لأجله أو على أن يتوقعوا استقالته.
هوذا المعنى الذي يبدو أنه يشع من حركة السترات الصفراء: ما لم تستطع الحكومة الحالية، بدءًا برئيس الجمهورية، الخروج من هذا المأزق الذي وضعتها فيه هذه الحركة الشعبية الواسعة، فلن يكون عليها إلا الرحيل، لا استجابة، بالضرورة، للمطلب الأقصى لجماهير المتظاهرين، بل لفشلها في أداء المهمة التي انتخبت لأجلها. وهو ما قد يعني نهاية الديمقراطية في فرنسا، ولاسيما إذا ما أدى ذلك إلى وصول اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف إلى السلطة.
وربما كان دانييل كوهن بنديت، أحد أشهر ممثلي حركة الطلبة في أيار/مايو 1968، على حق، حين قال في تحليله لظاهرة السترات الصفراء: "كنا نقاوم ضد جنرال في السلطة. أما أصحاب السترات الصفراء اليوم فهم يطالبون بجنرال كي يستلم السلطة!"...

** نشر هذا المقال على موقع جيرون يوم الخميس 6 كانون الأول/ديسمبر 2018.


mercredi 28 novembre 2018




دروسُ روايةٍ غير منجزة


  
بدرالدين عرودكي 
"آه! ياله من لقاء حزين، لقاء الكتاب الكبار!". كذلك كتب ميلان كونديرا تعليقًا على حادثة إرسال فرانز كافكا مخطوط روايته المسخ إلى مجلة كان مسؤولُ تحريرها، روبير موزيل، على استعداد لنشرها، إذا قام المؤلف باختصارها. موقف مماثل، لكنه أشدّ عنفًا، تمثل في رفض أندريه جيد ــ وكان مستشارًا للنشر لدى منشورات المجلة الفرنسية الجديدة التي ستقوم عليها من بعد منشورات غاليمار ــ نشر الجزء الأول من رواية مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود، وإن اعتبر، وهو يعتذر بعد ذلك، أن رفضه كان "الأكثر مرارة في حياته".  لن تكون مثل هذه اللقاءات إذن حزينةً دومًا. إذ حين أصدر روبير موزيل (1880 ــ 1942)، الذي سيعتبر أحد كبار روائيي القرن العشرين، الجزء الأول من روايته الكبرى الإنسان بلا خصائص، كتب روائي كبير آخر عن هذه الرواية، بما يضفي بعض الغبطة على لقاءات أخرى بين كبار الكتاب: » مشروع شعري، لا مجال للشك في أهميته الحاسمة من أجل تطور الرواية الألمانية، وارتقائها، وثرائها الروحي. هذا الكتاب المتألق الذي يحافظ بأروع الطرق على التوازن الصعب بين المقالة والكوميديا الملحمية، لم يعد، ولله الحمد، رواية بالمعنى الجاري للكلمة: لم يعد لأنه، كما قال غوته، "كل ما هو كامل في نوعه، يسمو بهذا النوع، كي يصير شيئًا آخر، غير قابل للمقارنة". فسخريته، وذكاؤه،  وروحانيته، تقع ضمن أكثر المجالات دينية، وطفولية، أي ضمن مجال الشعر. إنها أسلحة النقاء، والأصالة، والطبيعي ضد الغريب، والاضطراب، والتزييف، ضد كل ما أطلق عليه موزيل، باحتقار حالم، "الخصائص" «. لم يكتب هذه الكلمات ناقد أدبي أو مؤرخ آداب، بل كتبها أحد كبار روائيي القرن العشرين، توماس مان، صاحب الجبل السحري، و موت في فينيسيا، حول مشروع أحدِ أهمّ مبدعات القرن العشرين الروائية، رواية معاصرهِ روبير موزيل، الرجل بلا خصائص، التي ترجمت إلى العربية في طبعتيْن ناقصتين بالنسبة إلى طبعاتها الألمانية المختلفة للرواية ولاسيما بالنسبة التي طبعة (Rowohlt ) المعتمدة والتي كان قد أشرف عليها بعناية فائقة أدولف فريزيه (Adolf Frisé)، الأولى الصادرة في عام 2003 عن دار الجمل بترجمة فاضل العزاوي تحت عنوان "الرجل الذي لا خصال له" وتمثل ثلث الرواية تقريبًا، والثانية الصادرة في عام 2007 عن دار المدى، بترجمة محمد جديد، تحت عنوان "رجل بلا صفات" وتمثل خمْسيْ الرواية. أي أن نصَّ الرواية، المعتمد اليوم في اللغة الألمانية، والمتاح سواء لقارئها أو للقارئ في البلدان الأخرى عبر ترجماته الكاملة إلى مختلف اللغات الأوربية، لا يزال غير متاح بكامله لقارئ اللغة العربية. 
سوى أن اللقاءات الحزينة بين الكتاب الكبار لا تحدث، غالبًا، إلا بسبب توقف مفاجئ في عمل البصيرة لدى بعضهم، يحول بينهم وبين رؤية ما ينطوي عليه عمل أدبي من إمكانات جديدة أو ما يقترحه من آفاق غير مسبوقة، كما كان الأمر مع كافكا أو مع بروست. فحين نشر روبير موزيل الجزء الأول من روايته الإنسان بلا خصائص، سيفضل البعض، ممن لا يمكن مع ذلك الشك في ذائقتهم، ذكاء موزيل على فنه، في حين سينصحه آخرون أن يسير على هدي بروست في الكتابة الروائية! لم يكن هؤلاء وأؤلئك، وهم يكتبون ذلك، قادرين على رؤية الجدّة التي تخرج بهذه المبدعات عن المألوف، أو عن التقاليد شبه الراسخة في هذا الجنس الأدبي الذي كان يشهد، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، قفزة نوعية في تاريخه مع مارسيل بروست ثم مع فرانز كافكا وهرمان بروخ  وروبير موزيل.
على غرار رواية البحث عن الزمن المفقود، التي لم يتمكن مارسيل بروست من إنجازها في حياته، كانت رواية الرجل بلا خصائص مشروع حياة أكثر منها مجرد رواية بين روايات أخرى. كان روبير موزيل وهو في الثالثة والعشرين من عمره، يضع تصوراته الأولى عن روايته هذه التي يبدو أنه كان آنئذ يخطط أن تكون سيرة حياته، واضعًا لها عنوان "الجاسوس"؛ لكنه سرعان ما سيتخلى عنه حين سيعكف فعليًا، وقد بلغ الأربعين من عمره، بين عاميْ  1920 و 1926، على وضع مخططها، الذي سيعرضه في مقابلة له عام 1926، مشيرًا إلى أنه وضع لها عنوان "الأخت التوأم". ولسوف يستمر عشرين عامًا في الكتابة فيها إلى أن داهمه الموت على حين غرّة يوم 15 نيسان/أبريل عام 1942 وهو منكبٌّ على  كتابتها، من دون أن ينجزها. لم يكن قد نشر قبل وفاته منها إلا  ثلثي الفصول التي ستتضمنها طبعة أدولف فريزيه. إذ أن الفصول الأخرى، التي ستكون حصيلة جهود زوجته أو أصدقائه، والتي انصبت على دراسة مخطوطات غير نهائية للفصول القادمة من الرواية وفق خطتها الأساس والتي تركها موزيل وراءه، سمحت في النهاية، مع بعض الافتراضات، بضروب ترميم تتمات افتراضية للرواية في الطبعة المشار إليها، أي تلك التي اعتمدتها طبعة الترجمة الفرنسية الصادرة في عام 1956 في حوالي 1842 صفحة.
لكن الذين أدركوا أهميتها في حياة مؤلفها، أي قبل تمامها، كانوا من الروائيين أساسًا، على غرار توماس مان وهرمان بلوخ، ثم من جاء بعدهم من كبار روائيي أوربا الوسطى كما يحلو لميلان كونديرا أن يميزهم، مثل غومبروفيتش، بل وكونديرا نفسه. فقد اكتشفوا ما كانت تمثله هذه الرواية، على الرغم من عدم اكتمالها، بوصفها مشروعًا روائيًّا يجدِّد الكتابة الروائية الغربية. أما نقاد الأدب المعاصرين لهم، فلم ينتبهوا إلى ما كانت تنطوي عليه رواية موزيل،  بل لم يروا فيه روائيًا حقيقيًّا. منهم الناقد الأدبي والمترجم الألماني، والتر بينيامين، الذي حملته الإنسان بلا خصائص على التعبير عن إعجابه بذكاء مؤلفها لا بفنه! في حين وجد الناقد الأمريكي إدوار روديتي أن شخصيات موزيل في هذه الرواية خالية من الحياة؛ وبلغ به الأمر أن اقترح على مؤلفها السير على هدي مارسيل بروست حين أجرى على سبيل المثال مقارنة بين إحدى شخصيات بروست، مدام دو فيردوران، وبين شخصية رواية موزيل: ديوتيم، على صعيد الواقعية السيكولوجية.  
كان توماس مان، إذن، أول من رحّبَ برواية موزيل، قبل اكتمالها، بعدَ أن أدرك ببصيرته كروائي ما كانت تنطوي عليه من جدّة لم يلمحها أو يدركها معاصروهما من نقاد الأدب أو مؤرخيه. وسيليه بالطبع معاصر آخر، هو هرمان بروخ، صاحب رواية السائرون نيامًا، التي استقصت، هي الأخرى، إمكانات الفن الروائي فيما وراء ما عرف بالواقعية السيكولوجية التي انطوت على قوانين بدت للبعض شبه دائمة، والتي بدا أن نقاد موزيل ورفاقه يتوقفون عندها، والتي أطلق عليها ميلان كونديرا القواعد الثلاث: "1) يجب إعطاء أكبر قدر من المعلومات عن الشخصية: عن مظهرها الخارجي، وعن طريقتها في الكلام وفي السلوك؛ 2) يجب عرض ماضي الشخصية لأننا سنجد فيه دوافع سلوكها كلها في الحاضر؛ 3) يجب أن يكون للشخصية استقلالها التام، أي أن على المؤلف أن يختفي وأن تختفي آراؤه الشخصية كي لا يزعج القارئ الذي يريد الاستسلام للوهم واعتبار التخييل واقعاً".
لكن موزيل أخلَّ بهذه القواعد مثلما أخلَّ بها، كلٌّ على طريقته، عددٌ من كبار معاصريه في بداية القرن الماضي. يرى كونديرا أن أكبر روائيي المرحلة ما بعد البروستية، وخصوصًا كافكا وموزيل وبروخ وغومبروفيتش، أو من كان من جيله، مثل كارلوس فوينتيس، كانوا "شديدي الحساسية لجمالية الرواية، شبه المنسيّة، التي سبقت القرن التاسع عشر: فقد أدمجوا التأمل المقالي في فن الرواية؛ وجعلوا التأليف أكثر حرية؛ واستعادوا حرية الاستطراد؛ ونفخوا في الرواية روح اللا جدية واللعب؛ وتخلوا عن عقائد الواقعية السيكولوجية بابتكارهم الشخصيات دون أن يزعموا منافسة السجل المدني (على طريقة بلزاك)؛ وبصورة خاصة: فقد عارضوا واجب الإيحاء للقارئ بوهم الواقعي: الواجبُ الذي حَكمَ بصورة مطلقة زمن الرواية الثاني برمّته".
هذه الحساسية هي أيضًا حساسية كونديرا التي تجلت في مبدعه الروائي. وهي أيضًا ما يفسر كيف أنَّه في ثلاثيته حول الرواية (فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار) يكاد لا يتوقف في معظم فصولها عن الإشارة إلى روبير موزيل وإلى روايته الإنسان بلا خصائص، تارة يقارنها مع رواية توماس مان، الجبل السحري، التي حول فيها "بعض السنوات قبل حرب 1914 إلى عيد رائع لوداع القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كان فيه موزيل يسبر "الأوضاع البشرية في الحقبة التي ستلي، أي هذه المرحلة النهائية في الأزمنة الحديثة التي بدأت في عام 1914 وهي فيما يبدو في طريقها إلى أن تختتم اليوم [ستينيات القرن الماضي] تحت أعيننا؛ وتارة أخرى يشير إلى  ما أدخله موزيل، ومعه بروخ أيضًا، في جمالية الرواية الحديثة. إذ لا علاقة للتأمل في رواية كل منهما مع تأمل العالم أو الفيلسوف، بل وربما يكاد يكون، كما يرى،  لا فلسفيًا بل معادٍ للفلسفة، أي مستقلٍّ بعنف عن كل نسق أفكار مسبق التصميم. ذلك أن الرواية ــ كما يقول الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو في روايته الملاك المُبيد (1974) ــ "هي ما تبقى لنا في عالم هجرته الفلسفة [...] بوصفها آخر مرقب يسعنا منه أن نحتضن الحياة الإنسانية بوصفها كلًّا".
تلك هي فرادة الرواية التي فكَّرَها موزيل وبروخ في النصف الأول من القرن الماضي: تلك التي لا يسع سواها قولَ ما تقوله.

** نشرت على موقع جيرون، يوم الأربعاء 28 تشرين ثاني 2018.




jeudi 15 novembre 2018



العنف "المُقَدَّس" راهنًا 
بدرالدين عرودكي
 يرى عدد من المؤرخين الذين انكبوا على ثيمة العنف وأصوله الاجتماعية والثقافية عبر التاريخ، اجتماع شرطين لإمكانه في المجتمعات البشرية: الدين والأيديولوجية. هذا، على أن يفهم الدين خصوصًا ــ كي لا تختلط الأمور على المتسرعين ــ ضمن مفهومه التاريخي، البشري، نظرًا وممارسةً، أي مجموع تأويلات النصوص المقدسة الجوهرية، والمتوالية على مرِّ العصور، وكذلك ما كان يضاف إليها دومًا من تأويلات لها أو تعليقات عليها، تجسدت خلال مراحل تاريخية في ممارسات تعتمد حرفية النصوص، أو تنتقي ما يلائم منها الظرف والمكان عمومًا، وتتبنى انطلاقًا من ذلك التأويلات التي تستجيب لأغراضها الآنية أو العاجلة، بمعزل عن قداستها، مع تبنٍّ أحينًا لهذه الأخيرة في الوقت نفسه.
يكمن الدين والأيديولوجية إذن، معًا، في التأويل والتفسير والاجتهاد على مر العصور أصولًا وتراكمًا، مثلما يُعتمدان من أجل تبرير استخدام العنف وإضفاء طابع من "القداسة" عليه في حملات تبرير لا تخفى مرجعياتها الدينية، ولا سيما حين يستخدم من قبل جماعات أو مؤسسات أو أنظمة لا صلة لها بالدين أو، على الأقل، لا تتذرع به منهجًا لسلوكها أو لممارساتها. شهد القرن العشرون على امتداده واستمر مع القرن الحالي ممارسة وتبرير العنف على هذا النحو من قبل إمبراطوريات غابت الشمس عنها اليوم ومن دول عظمى ورثتها وحلت محلها. لكن أشكالًا أخرى من العنف ولدت في العالم العربي تميزت بخصوصية غير مسبوقة، سواء على صعيد الممارسة، أو أدواتها، أو ممارسيها، أو ضحاياها.
فقد حفلت سنة 2011 التي شهدت انطلاق ثورات الشعوب العربية والسنوات التالية عليها في البلدان الأساس من العالم العربي، تلك التي تميزت بموقعها الجغرافي، أو بممارساتها التاريخية للسياسة بمعناها الأصل، أو بهيمنة شبه مطلقة فيها للاستبداد، أمثلة على ممارسة أشكال مختلفة من عنف بدت من الوهلة الأولى وكأنها غير مسبوقة تاريخيًا، لكن وجودها سرعان ما تجلى للجميع، ضمن صيرورة طبيعية واستمرارية تاريخية انطلقت، أساسًا، من اعتماد النصوص المقدسة الأولى تارة، أو الإيديولوجيات الدينية التالية عليها تارة أخرى، لكن عددًا من ممارسيها المعاصرين اصطنعوا لها مبررات جديدة، دنيوية في ظاهرها، لكنها لن تختلف على كل حال عن الأولى لا في الشكل ولا في المضمون ولا في الغايات. ذلك يعني أن نظم الاستبداد في العالم العربي على اختلافها، ملكية أو "جمهورية"، وجدت ضالتها في ما استحدثته أو شجعت على استحداثه مؤسسات أمنية متعددة الجنسيات بالتعاون الرسمي أو الخفي مع مؤسساتها المماثلة من جماعات وهيئات وألوية و "جيوش"، مسلحة كلها، وفي مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي فرض نفسه بأشكال من العنف مغرقة في البدائية مع تسويق لها بوسائل وأدوات مغرقة في الحداثة.
لا يعني ذلك أن العنف قد بدأ في العالم العربي اعتبارًا من السنة المشار إليها. لكن أشكاله كانت خلال هذه الفترة، بالمقارنة مع تلك التي مورست خلال القرن الماضي، شديدة الاختلاف وأقرب، في مداها وطرقها وقسوتها، ــ ولاسيما تلك التي اعتمدها النظام الأسدي في سورية، والتي يستهدف هذا المقال بحثها ــ إلى تلك التي مارستها النظم النازية والفاشية في أوربا في النصف الأول من القرن العشرين، وفي أمريكا اللاتينية في نصفه التالي. كما أنها شملت خلال الأعوام الثمانية الماضية طيفًا واسعًا يبدأ من القتل الفردي اغتيالًا أو بعد التعذيب في المعتقلات وينتهي بالقتل الجماعي قصفًا بالبراميل أو بالسلاح الكيمياوي، أو عن طريق مجازر جماعية تختتم بحرق الضحايا.
وقد تعددت أشكال العنف بتعدد الغايات المستهدفة منه وبتعدد هوية مستخدميها، مثلما تعددت طرق الإعلان عنه وتسويقه. أما المبررات فلم تكن تقدم إلا في صيغ دعائية دينية أو أيديولوجية أو الاثنين معًا كانت كلها وبلا استثناء أقرب إلى السذاجة في مرجعيتها الدينية، أو إلى الكذب الصراح في مرجعيتها الأيديولوجية "النضالية".    
أما الغايات فكانت تتراوح بين قمع المعارضين، فرادى وجماعات، من القياديين حتى الأنصار، بواسطة الاعتقالات والتعذيب، وإدانتهم بعد محاكمات صورية غالبًا، وبين اغتيالهم حيثما كانوا، داخل البلاد أو خارجها. وكانت في بلدان عربية أخرى تستهدف طائفة بعينها، الشيعة في هذا البلد، أو السنة في البلد الآخر. أما في سورية فكان الوضع مختلفًا كليًا عن البلدان العربية كافة. إذ لم يكن ثمة تمييز والحق يقال في استخدام مختلف أشكال العنف بين انتماء المستهدفين، أيًا كانت أحزابهم أو أصولهم الإثنية أو الدينية أو الطائفية ماداموا موضع شك في ولائهم غير المشروط للنظام الحاكم.
أما الوسائل فكانت تتطور بالتدريج مع تطور الثورة وامتدادها الشعبي، جغرافيًا وزمنيًا، اعتبارًا من آذار/مارس 2011. فبعد أن كان العنف مقتصرًا، خلال أربعين سنة من الهيمنة الأسدية، على القمع والإرهاب الأمني والاعتقال مدى الحياة بلا محاكمات طوال سنين بل عقودٍ من السنوات، وعلى اغتيالات محدودة لعدد من المعارضين، بدأ النظام الأسدي في عهد الوريث يمنهج خياراته وطرقه في العنف. فقد لاحظ، منذ البداية، أن الشباب كانوا القوة الأساس في المظاهرات التي انطلقت من درعا إلى حلب ومن دمشق إلى دير الزور. وأن قادتها ومنسقيها كانوا شبه مجهولين لدى مختلف الدوائر الأمنية الممسكة بخناق السوريين طوال نيف وأربعة عقود. ومن ثم فقط عمل الأمن الأسدي على استهدافهم بمختلف الوسائل: باعتقالهم وقتلهم تحت التعذيب وتسليمهم موتى إلى أهاليهم كما لو كان يعلن للآخرين من أمثالهم مصيرهم إن اعتقلوا. ثم تطور العنف إلى استهداف المتظاهرين بالرصاص الحي، كي يتواصل بعد ذلك قصفًا بالدبابات وبالمدافع كما حدث في حمص وحماه ودير الزور بعد ستة أشهر من انطلاق الثورة؛ استخدمت كافة الأسلحة الكلاسيكية والمحرمة، كالسلاح الكيمياوي في 21 آب/أغسطس 2013، فصار القتلى لا يعدون بالمئات ولا بالآلاف بل بعشراتها، كي يتجاوز عددهم الثلاثمائة ألف في نهاية عام 2014، دون الحديث عن استمرار الاعتقال والتعذيب والقتل الذي سيكشف من خلال عملية قيصر، المصور الفوتوغرافي في الشرطة العسكرية السورية، الذي سرب إلى فرنسا جزءًا هامًا من صور المعتقلين القتلى في السجون الأسدية في عام 2015.
لم تقتصر أشكال العنف على الاعتقال والتعذيب والقصف الجوي والبري، بل اعتمد أيضًا وسيلتين إرهابيتيْن يحقق عبرهما هدفه الأساس، أي التغطية على الفظاعات التي يرتكبها بحق شعب كامل. الأولى، عن طريق ميليشيات غير رسمية من ناحية، وعن طريق الجماعات "الإسلامية" التي بلغ عددها المئات خلال عامي 2014 و2015 والتي أعلنت وسائل إعلامه عن وجودها قبل أن توجد حقًا حين تحدثت عن جماعات إسلامية أنشأت "إمارات سلفية" تذكر بقندهار من حول حمص وحماه، وقد ارتكب الجيش الأسدي باسم هذه الميليشيات عددًا من المجازر استهدفت عائلات بأكملها لحض الناس على الهجرة من بيوتها وقراها في مختلف البقاع السورية، وارتكبت الميليشيات ذاتها عددًا منها، مثل مجزرتي البيضاء وبانياس في أيار عام 2013، أو مجزرة عدرا في كانون الأول من السنة ذاتها. والثانية هي انطلاق ما سمي بتنظيم تنظيمات الدولة الإسلامية (داعش) من سورية في نيسان/أبريل 2013، والذي تشير كثرة من الأدلة والقرائن إلى استخدام النظام الأمني الأسدي لها في تحقيق مآربه داخل سورية وخارجها، مثلما تشير أدلة وقرائن أخرى أيضًا وفي الوقت نفسه على استخدام الهيئات الأمنية لها لدى القوى الأجنبية، الإقليمية والدولية، المتواجدة في سورية.
كانت أشكال العنف بلا حدود، غير المسبوقة في سورية العصر الحديث، وسائلَ هذه القوى جميعًا للقضاء على ثورة شعب أولًا، ثم تحويلها، ثانيًا، إلى صراع بين قوى علمانية وقوى سلفية تارة، أو بين نظام الممانعة والمقاومة من جهة، وقوى ارتهنتها قوى إقليمية ودولية لإسقاط هذا النظام من جهة أخرى. وكان الهدف النهائي من استخدامها إرغام العالم كله على الاختيار بين النظام الأسدي والنظام السلفي الذي تعد به "الجماعات الإرهابية الإسلامية التي لم ترفع يومًا شعار إسقاط النظام، ولا علم الثورة (الذي استحوذت عليه بعد تعديله أو بالأحرى تحريفه بما يعني حرْفًه عن هدف الثورة السورية أساسًا).
لم يكن النظام الأسدي الذي بات اليوم أسير قوتيْن، إقليمية ودولية، من استطاع تحقيق كل ذلك وحده، بل كان منذ البداية تحت رعاية ورقابة سياسية على الصعيد الدولي، ولوجستية وعسكرية من قبل إيران وروسيا، اللذين انتهيا إلى الاستحواذ على سورية أرضًا ومصيرًا ولأجل لا يضع حدّا له سوى الشعب السوري نفسه. لكن الدين ــ ضمن مفهومه التاريخي كما أسلفنا ــ  والأيديولوجية كانا، عبر أشكال العنف غير المسبوقة، الأداتين الرئيستين في التبرير وفي التهويل وفي الإرهاب، دفاعًا عن نظام الاستبداد، ثم تثبيتًا لدعائمه عن طريق محاولات تأهيله التي باتت اليوم، رغم كل شيء، أضغاث أحلام.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 15 تشرين أول/أكتوبر 2018.



dimanche 11 novembre 2018



حفل العربدة الدائم ملاذًا


بدرالدين عرودكي 
"الوسيلة الوحيدة لتحمّل الوجود، هي أن ينهمك المرء في الأدب كليًا كما ينهمك في حفل عربدة دائم". ستكون الكلمات الثلاث الأخيرة في هذه الجملة التي كتبها الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير في واحدة من رسائله عام 1858، عنوانًا استعاره روائيٌّ آخر في كتاب سيصدره بعد أكثر من نيف وقرن على ما كتبه فلوبير في هذه الرسالة الخاصة التي ستجد طريقها، هي الأخرى، للنشر بعد وفاته. كان الكتاب، في الواقع، بمثابة ثناء على مُبدع مدام بوفاري، عبر تأملات في رواية، كانت في نظره، هي الرواية بامتياز، وكانت بطلتها قد صارت، منذ لقائه الأول بها، حبيبته الأولى.
ثمينة في الواقع هي التأملات التي قام بها عدد من كبار الروائيين الغربيين، الحديثين والمعاصرين، حول فن الرواية الذي كان خيار الكتابة الذي فرض نفسه عليهم في لحظة ما من سنوات تفتح وعيهم على العالم والتخييل، وعلى الكتابة من ثمَّ، بوصفها بابًا ينفتح على عوالم موازية للعالم الواقعي لا حدود لها. تأملات تكاد تؤلف في معظمها سِيَرًا أو اعترافات أدبية، تكشف عن ميول كاتبها نحو هذا النوع من الرواية أو ذاك، وعن أسلافه من الروائيين الذين كانوا أساتذته في هذا الفن على غير علم منهم، وعن معاصريه ممن يتابع ما يكتبونه ويتابعون ما يكتبه، نقدًا تارة، وإعجابًا غالبًا. ولنا في بروست في بداية القرن الماضي، أو في كونديرا في نصفه الثاني، مثاليْن بليغين في هذا المجال. لنا أيضًا في  ماريو فارغاس يوسا، أحد كبار وأهمّ روائيي أمريكا اللاتينية المعاصرين، مثلًا آخر لا يقل بلاغة عن سابقيه، وربما لا يختلف عنهم إلا بتفصيل دقيق، إلا أنه ثريٌّ في معناه وفي دلالاته، يتمثل في أن هواه الروائي قد بدأ في التأجج، على وجه الدقة وبصورة حاسمة، حين كان في الثالثة والعشرين من عمره عند وأثناء قراءته للمرة الأولى، بباريس، رواية غوستاف فلوبير: مدام بوفاري، في طبعة شعبية. كان قد رآها فيلمًا في بلده: بيرو، في التاسعة عشر من عمره ، لكن الفيلم لم يشجعه على قراءتها، ثم أتيح له فرصة أن يسمع حولها عام 1958، نتفًا من محاضرة في احتفال أكاديمي بمناسبة مرور مائة عام على كتابة الرواية قاطعها مناضلون جزائريون بهتافاتهم من أجل حرية الجزائر يومئذ ضد السفير الفرنسي الذي كان حاضرًا ذلك الاحتفال.
يروي يوسا أنه، بعد شرائه الرواية في طبعتها الشعبية، عاد إلى غرفته في فندق متواضع في الحي اللاتيني، وطفق يقرأ فيها دون توقف حتى فجر اليوم التالي، حين خلد إلى النوم مرهقًا، كي يستيقظ بعد ساعات ويتناول الرواية من جديد لمتابعة قراءتها. لكنه كان، وهو يتناول الكتاب، يشعر، على غير انتظار، باستحواذ يقينيْن على كيانه، سيؤكدهما من بعدُ  في الأربعين من عمره: "كنتُ أعرف، من الآن فصاعدًا، أيُّ كاتبٍ وددتُ أن أكونه، وعرفت أنني سأعيش، منذئذ وحتى موتي، عاشقًا لإيما بوفاري، وأنها ستكون في المستقبل بالنسبة إلي [...] عشيقة كل الروايات، و أنها، هي، بطلة كل المسرحيات المأساوية، وموجة مجلدات الشعر جميعًا".
ما الذي جعل مدام بوفاري تحرك لدى ماريو فارغاس يوسا طبقات على هذا القدر من العمق في كيانه، وما الذي حملته له مما لم تستطع روايات أخرى أن تقدمه له؟ إذ هاهو، بعد قراءته لها للمرة الأولى، يعيد قراءتها من أولها إلى آخرها نصف دزينة من المرّات، ويقرأ فصولًا منها أو مقاطع فيها منفصلة في مناسبات كثيرة، مرات ومراتٍ أيضًا، دون أن يخيب ظنه في الرواية، كما كتب، على عكس ما كان يحدث له كلما كان يعيد قراءة روايات أخرى كانت عزيزة عليه. كان يكتشف في كل قراءة، كلية أو جزئية، "جوانبَ سرية، أو تفاصيل غير مسبوقة".  
يدرك يوسا أن لديه من الأسباب اثنين حملاه خصوصًا على هذا الإعجاب غير المشروط. أولهما أنه اكتشف بفضل هذه الرواية ميله في المبدعات الفنية أيًا كان مجالها، إلى ما يجده فيها من بناء شُيِّدَ وفق نظام صارم ومتناسق، مع بداية ونهاية؛ بناء يجعل من الرواية تنغلق على نفسها وتعطي الانطباع بعمل كامل منجز. صحيح أن العمل الفني المنفتح يبدو أقرب إلى الواقع، بما يوحي به من إمكانات واحتمالات، لكن يوسا يرى أن العمل الفني المقتطف من واقع يضعه الكاتب ضمن بنية جريئة وتعسفية لكنها مقنعة هو ما يعطي الانطباع بالهيمنة على الواقع وبتلخيص الحياة من خلالها. وثاني هذه الأسباب أنه، بين وصف الحياة الموضوعي والذاتي، والفعل والتأمل، يفضل الأول على الثاني. إذ أن "المهارة الكبرى تكمن في وصف الثاني عبر وصف الأول بدلًا من العكس". كان فلوبير مقتنعًا أنه، وهو يكتب رواية مدام بوفاري، إنما كان يكتب رواية أفكار لا رواية أحداث. ذلك ما حمل البعض على اعتبار الرواية خالية من كل حدث باستثناء الأسلوب! لكن أحداث الرواية كما يشير يوسا كثيرة: ففيها الزواج، والزنا، والحفلات، والرحلات، والنزهات، والاحتيالات، والأمراض، والمشاهد المسرحية، والانتحار. لاشك أنها مغامرات تعتبر عادية بصورة عامة، لكن روايتها التي كانت انطلاقًا من الانفعالات بها أو من ذكريات أبطال الرواية بأسلوب فلوبير المادي إلى درجة الهوس، أضفت على الواقع الذاتي كثافة وثقلًا ماديًّا جعله شبيهًا بالواقع الموضوعي. هكذا صارت الأفكار والمشاعر في مدام بوفاري وقائع يمكن أن ترى بل وأن تلمس تقريبًا.
لم يكن اكتشاف ماريو فارغاس يوسا لرواية مدام بوفاري ولكاتبها غوستاف فلوبير  إذن حدثًا طارئًا في حياته. إذ يكاد يكون حاضرًا، بصورة أو بأخرى، في كل ما كتبه من روايات. أما الكتاب الذي وضعه في الأربعين من عمره والذي استعار له عنوانًا من رسالة كتبها فلوبير عام 1858: حفل العربدة الدائم (L’Orgie perpetuelle)، فهو يتجاوز مجرد الثناء على الرواية وعلى الروائي كي يقدم رؤيته النقدية في هذه الرواية/الحدث الذي سكنه. يلخص ماريو فارغاس يوسا في المقطع الذي  يفتتح به مقدمة وجيزة لكتابه: "هناك من جهة، الانطباع الذي تتركه إيما بوفاري لدى القارئ الذي يقترب منها للمرة الأولى ( أوالثانية، أو العاشرة): التعاطف، اللامبالاة، السأم. وهناك، من جهة أخرى، ماهية الرواية في ذاتها خارج اِلأثر الذي تحدثه قراءتها: القصة التي تؤلفها، والمصادر التي تستخدمها، والطريقة التي تجعل بها من نفسها زمنًا وأسلوبًا. وأخيرًا، ما تعنيه الرواية، لا بالنسبة إلى من يقرؤونها، ولا بوصفها شيئًا مستقلًا بذاته، بل من وجهة نظر الروايات التي كُتِبَت قبلها أو بعدها"، وكما يكتب هو نفسه، خيارات ثلاثة في مقاربة الفن الروائي يؤلف كلٌّ منها شكلًا من أشكال النقد التي عرفتها الثقافة الغربية: "الأول فردي وذاتي، ساد في الماضي وأطلق عليه أنصاره النقد الكلاسيكي؛ والثاني، حديث، يزعم كونه علميًّا، يقوم على تحليل المبدع بطريقة موضوعية حسب قواعد عامة، وإن كانت هذه القواعد تتنوع حسب ضروب النقد (تحليل نفسي، ماركسي، أسلوبي، بنيوي..إلخ)، والثالث، يتعلق بتاريخ الأدب أكثر مما يتعلق بالنقد بصورة دقيقة.
حول فلوبير ومدام بوفاري، يقيم ماريو فارغاس يوسا إذن حفل العربدة الدائم هذا على شرف رواية و روائي، معتمدًا في ذلك هذه المنظورات الثلاثة، ومُحاولًا التعبير عن إعجابه الكامل مادامت هذه الرواية قد استجابت لمزاجه ولعقله في آن واحد.

** نشر على موقع جيرون، يوم الأحد 11 تشرين ثاني 2018.



jeudi 1 novembre 2018



تغييب الصوت السوري 
بدرالدين عرودكي 
في  الوقت الذي كان فيه مبعوث الأمم المتحدة ستيفان ديمستورا ــ كما يبين تقريره إلى مجلس الأمن ــ يستمع بدمشق إلى حديث وزير خارجية الأسد حول مسألة "السيادة الوطنية" ذات الحساسية البالغة ومن ثمَّ رفضه الحديث عن أي دور للأمم المتحدة في تشكيل اللجنة الدستورية عبر اختيار قائمة الثلث الأوسط  الذي يفترض أن تقترحه إلى جانب قائمتيْ النظام والمعارضة فيها، كان الرئيس الروسي بوتين، في قمة إسطنبول الرباعية الأخيرة التي شارك فيها إلى جانب المستشارة الألمانية والرئيسين التركي والفرنسي، يتحدث عن المسألة نفسها، أي مسألة "السيادة الوطنية" السورية وصعوبة الضغط على النظام الأسدي في هذا المجال، هذا على الرغم من أن دور الأمم المتحدة في العملية السياسية كان أحد "تفاهمات" روسيا مع الأمم المتحدة. لم يكن ذلك نتيجة تنسيق مسبق بقدر ما كان بعض ضروب اللعب الدبلوماسي الروسي في الوقت الضائع بعد رفض الدول الغربية الخوض في مسألة إعادة الإعمار في سورية قبل إنجاز العملية السياسية بإشراف الأمم المتحدة. وكما لاحظ كل من يتابع الحدث السوري، كان مفهوم "السيادة الوطنية" يسعف روسيا والنظام الأسدي، الذي يعمل تحت إمرتها، كلما كان الهرب إلى أمام هو المخرج الوحيد لها حين تحشر في زاوية احترام التزامات تعهدت بها أمام المجتمع الدولي، بل ووقعت عليها، كما حدث في مؤتمرات جنيف وفيينا، أو بالنسبة إلى مقررات مجلس الأمن في الشأن السوري.
الملاحظ في هذا "التوافق" في الموقف بين ما قاله الرئيس الروسي في إسطنبول وما قاله وزير خارجية الأسد بدمشق، أن الصوت السوري الوحيد الذي تريد روسيا إسماعه هو صوت النظام الذي تحميه والذي تعمل على إعادة تنظيمه وتنسيقه وتوجيهه والإعداد لمستقبله وفق مصالحها قبل موعد الحسم الأخير. سبق لروسيا أن كيَّفت خطابها حول الحدث السوري لكي يتلاءم مع إنكارها العنيد لثورة الشعب السوري، ثم أن حاولت ــ ولا تزال تحاول حتى الآن ــ تفريغ كل تمثيل سياسي مناهض للنظام الذي تحميه بعد أن عملت ونجحت ــ نسبيًا ــ في تحييد مختلف هيئاته، إثر سقوط الغوطة ودرعا على يديها. ذلك ما جعل الصوت السوري الآخر، صوت الصامتين والنازحين داخل سورية والمهاجرين واللاجئين خارجها مُغَيَّبًا كليًا. فهذه الهيئات التمثيلية، أيًّا كان الرأي في تكوين أهمها، كالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أو الهيئة العليا للمفاوضات السورية أو المجلس الوطني السوري، وأيًّا كانت أخطاء ممارساتها أو خياراتها أو تحالفاتها، كانت كلها تعلن انتماءها إلى مطالب السوريين الأولى حين خروجهم في عام 2011 وفي مقدمتها إسقاط النظام الاستبدادي والانتقال إلى نظام ديمقراطي، مثلما كانت ترفع شعاراتهم مبادئ لها. كانت صوت السوريين الحاضر إعلاميًّا، أيًّا كانت درجة قوته، وسياسيّا في المحافل الإقليمية والدولية أيًّا كان تأثيره. ولذلك كانت المستهدف الأول لقوى الاحتلالين الأساس، الروسي والإيراني، لا من أجل تغييب صوت من تمثلهم فحسب، بل لتأكيد نظرتهما إلى الحدث السوري بوصفه تمرد جماعات إرهابية ضد "نظام المقاومة والممانعة" تارة، أو ضد "الدولة" التي يحميها النظام الأسدي ويتماهى فيها تارة أخرى، أو تارة ثالثة، ضد "الحكومة الرسمية" التي لم تفقد شرعيتها في نظر هاتين القوتين مادامت تتيح لهما تحقيق مصالحهما لقاء المحافظة على النظام القائم أيًا كان الثمن الواجب دفعه.
مما لاشك فيه أن هذه التكوينات كانت تدرك أنها مستهدفة جميعها، وأن العمل يجري حثيثًا على إلغاء دورها منذ أن قررت روسيا احتلال سماء سورية ثم أرضها من أجل إنقاذ النظام الأسدي من سقوط معلن، ومن ثم إعادة تأهيله، وإرغام العالم بالتدريج على القبول به. ولكن ما الذي كانت عليه، منذئذ، ممارساتها من أجل الدفاع عن صوت الشعب الثائر الذي تصدت لتمثيله والنطق باسمه؟ وهل كانت تستجيب لضرورات الواقع الذي فُرِضَ عليها بقوة السلاح والدبلوماسية معًا؟ 
لم يكن النقد الموضوعي الذي كان يوجه إلى هذه الهيئات منذ إنشائها خالٍ من المبررات، سواء ذلك الذي كان يتعلق بهيمنة فصيل من فصائل المعارضة عليها بطرق لا ترقى في مستواها السياسي أو الأخلاقي إلى خطورة الكارثة التي تعيشها سورية، أو ذلك الذي كان يتناول منهج عملها على الصعد السياسية والإعلامية، أو حتى ذلك الذي كان يستهدف سلوك بعض مسؤوليها على المستوى الشخصي أوالمسلكي. ومن المؤسف أن البنى القيادية في هذه الهيئات لم تر ضرورة للرد على هذا النقد بصورة أو بأخرى، لا دفاعًا ولا تبريرًا ولا اعترافًا. كما أنها، وهي ترى الخطر يداهم وجودها السياسي والفعلي على أيدي دولتي الاحتلال، لم تبادر إلى القيام بخطوات تستعيد بها حماية الناس الذين تصدت لتمثيلهم عبر أفعال وممارسات تثبت قدراتها وجداراتها بتمثيلهم. كما لو أنها قررت الاستسلام قبل الأوان إلى واقعها الجديد الذي أسهمت بفعلها وبممارساتها في أن تكون أسيرته على هذا النحو، أو أنها ظنت أنها استنفذت قواها ولم تعد قادرة على رؤية مختلف الإمكانات التي لا تزال قائمة داخل سورية وخارجها ولدى السوريين أنفسهم، لو شاءت أن تنصرف إلى العمل الحقيقي المجدي الذي يمكنها أن تقوم به. ولعل هذا ما جعل الثقة بها تتلاشى شيئًا فشيئا، وما حمل الناس أيضًا على أن ينفضّوا من حولها بعد أن كانت في لحظة ما موضع أملهم.
لم يقرع أحدٌ أجراس الهزيمة؛ وليس بوسع أحد، أيًا كان، أن يعلن انتصاره، بما في ذلك روسيا. ومن الواضح الآن لمن لم يكن يتوقع ذلك، أن كل مناورات هذه الأخيرة عبر سوتشي وأستانة لفرض حلٍّ يكون روسيًا بدلًا من الحل الأممي، والتي يبدو للبعض أنها نجحت، حتى الآن على الأقل، في تسويقه بوصفه الحلّ الوحيد الذي سيرغم الجميع على القبول به، ستؤول في أسوأ الأحوال إلى العودة بصورة أو بأخرى إما إلى تكييف الحل الروسي وفق الحل الذي نصت عليه القررات الأممية، وإما إلى العودة إلى هذه الأخيرة نصّاً وروحًا.
ومن الواضح أيضًا أن ذلك لن يتم بين يوم وليلة. إلا أن أوان الدور الرئيس الذي يمكن أن تؤديه هيئات المعارضة المشار إليها قد حان الآن، لو أنها وضعت وحدة العمل والهدف منهجًا وحيدًا لها بصرف النظر عن الخلافات الشخصية أو الأيديولوجية أو الفكرية. هناك اليوم دعوات تصدر عن قوى شعبية عديدة من أجل عقد مؤتمر وطني عام لتقرير النظام البديل. من المؤكد أن التقاء أصحاب هذه الدعوات كلها من حول برنامج تشارك جميعها في وضعه من أجل مرحلة انتقالية حقيقية سيسمح باستعادة الصوت السوري المُغّيَّب من أجل التمهيد لسورية المستقبل الذي يبدو دون شك بعيدًا، لكنه بكل تأكيد، ليس مستحيلًا..

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 1 تشرين ثاني/نوفمبر 2018.


samedi 27 octobre 2018




جمال خاشقجي
 بين الكَتَبَةُ والكُتّاب 
 بدرالدين عرودكي
لم يكن جمال خاشقجي في عالمنا العربي المعاصر أول صحفي أو كاتب رأي يقتل اغتيالًا بسبب آرائه. فقد سبق أن اغتيل عدد من الصحفيين الغربيين، خلال السنة الأولى من الثورة السورية وفي سورية، الفرنسي جيل جاكيه (كانون الثاني 2012) والأمريكية ماري كولفين (شباط/فبراير 2012) ومن قبلُ في لبنان، اللبنانيين سمير قصير (حزيران 2005) وجبران تويني (كانون أول/ديسمبر 2005). لم يثر قتل هؤلاء، وهم الأشهر بين مئات الصحفيين والكتاب والإعلاميين الذين قتلوا خلال السنوات الأخيرة، ما أثاره مقتل الخاشقجي على الصعيد الإعلامي خصوصًا من استنكار وبلا توقف منذ نيف وثلاثة أسابيع حتى الآن. أسباب عديدة وراء هذا الاهتمام غير المسبوق، قد يكون مهمًا بكل تأكيد الإشارة إلى بعضها وإن لم يكن ذلك غرض هذا المقال: هناك بلا شك شخصية القتيل وجنسيته السعودية وصفته ككاتب معارض لحكومة بلده، ودعم صحيفة أمريكية شهيرة، واشنطن بوست، التي كان أحد كتابها؛ هناك أيضًا الطريقة التي اغتيل بها عن طريق استدراجه وقتله بل وتقطيع جسده إربًا كما يبدو؛ بل لعل أبرز هذه الأسباب أنها المرة الأولى التي يكاد يقبض فيها بالجرم المشهود على دولة بارتكاب جريمة موصوفة في مجال حقوق الإنسان.
شهدنا وتابعنا العاصفة الكاسحة وغير المسبوقة التي أثارها مقتل الخاشقجي على الصعيد الإعلامي. إذ سرعان ما عبرت حكومات الدول الكبرى في الدائرة الديمقراطية عن مواقفها في أسئلة طرحتها على الدولة المسؤولة التي حدثت الجريمة في قنصليتها لدى دولة أجنبية، والتي أنكرت في البدء ارتكاب الجريمة داخل جدرانها؛ وتراكم كمٌّ هائل، على وجه الخصوص، من التعليقات والتفسيرات والتأويلات، سواء عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو عبر الصحافة المكتوبة والمرئية والإلكترونية، وهي المعنية هنا. كان من الممكن، منذ يوم اقتراف الجريمة، تصنيف مؤلفي التعليقات والتحليلات في العالم العربي (ممن لا ينتمون إلى الدولة المعنية) على الأقل ضمن فئات خمس نقرأ ما تكتبه أو نسمع ما تدلي به عبر وسائل الإعلام الصوتية والمرئية: فئة أولى كانت تردد من دون أي محاولة للتحليل أو التساؤل، وبصورة شبه حرفية، ما كانت وسائل إعلام الدولة المعنية تذيعه، كما لو أن مؤلفيها جعلوا من أنفسهم ناطقين باسمها، لا هوية لهم إلا هوية مُستَخدميهم. تنطوي كتاباتهم على يقين قاطع وحاسم يحول دون أي نقاش في المبدأ أو في التفاصيل. وهو يقين يستمد قوته ــ أو يجهد في بيان ذلك ــ من "قوة" السلطة التي يقول خطابها. أما مداخلاتهم الشفهية في مواجهة الطرف الآخر، فنادرًا ما تصمد أمام قوة حجج هذا الأخير، وتبدو على وجه المغلوب على أمره منهم  آثار الحرج أو الضيق، في حين يستمر من اعتاد منهم الخنوع في القيام بوظيفته طمعًا في الحصول على أجره دون تأخير.
 أما مؤلفو الفئة الثانية فهم يرددون ، في مواجهة مؤلفي الفئة الأولى، كل ما يمكن أن يفتت حججها ويلغي صلاحيتها؛ ولقد يبدو أنهم لا يستهدفون في كتاباتهم أو عبر مداخلاتهم سوى قول الحق أو الوصول إلى الحقيقة. لكن التأمل في طبيعة خطابهم يحيل دومًا ــ حتى وإن بدا أنهم لا يجانبون الحق أو يستهترون بالحقيقة ــ إلى طبيعة خطاب سلطة أخرى تواجه السلطة الأولى، أو هي في حالة حرب سياسية علنية معها. وهو ما يثير الشك في صلاحية ما يكتبون أو ما يقولون مادامت كتاباتهم لا تقول بالضرورة آراءهم ولا تعتمد حججهم الشخصية بقدر ما تكرر بصور متباينة، هي الأخرى، خطاب "السلطة" المقابلة.
تضم الفئة الثالثة كتّابًا عمدوا، قصدًا أو اضطرارًا، إلى اعتماد  ضروب من صمت يشي بالحرج أو بالخوف من أو استحالة قول الرأي ونشره في وسائل إعلامية تمولها الدولة المتهمة. وربما كان الذين قصدوا الصمت يفضلون، أمام فيض الكذب، والمعلومات المزيفة، وتغلب كمِّ ما لا يقال على كمِّ ما يقال، اعتمادَ ذلك حجة في العزوف عن الإدلاء برأيهم، وهو ما يظنون أنه كافٍ في آن واحد للمحافظة على شرف مهنتهم وعلى مصادر رزقهم. أما الصمت الاضطراري فهو إما نتيجة استحالة قول الرأي الحرّ في وسيلة إعلامية لا تملك استقلالها ولا قِبَلَ لها بالخروج على خطاب سلطة الدولة التي تمولها أو التي ينتمي إليها ممولها. هكذا اقتصرت مثل هذه الوسائل على تكرار الأخبار التي تذيعها وسائل الإعلام الرسمية وانتقاء ما يناسب خطاب هذه الأخيرة من وسائل الإعلام الأخرى، واختفت منها مقالات الرأي على شهرة كتابه فيها وقدراتهم.
لكن الفئة الرابعة التي تتمثل في ما بات مقبولًا انتماء مجموع أفرادها إلى اليسار فاقد الذاكرة، رأت في جريمة الاغتيال، مثلما رأت في ثورات الربيع العربي مؤامرة الإمبريالية العالمية وحلفائها في المنطقة العربية، مناسبة استثنائية لتكرار ضخ صيغها الجاهزة المماثلة. ولن يعدم هؤلاء فرصة يتعرضون فيها لشخص القتيل لتجريده من أية صلاحية تسمح باعتبار اغتياله كبتًا لحرية التعبير، وتهديدًا دائمًا لكل الكتاب الأحرار والمعارضين داخل البلاد وخارجها بما أن يد الاستبداد قادرة على الوصول إلى معارضيه والقضاء عليهم، وهو المعنى الأول الذي ينبض به حدث اغتيال جمال خاشقجي.   
أما كتاب الفئة الخامسة فهم، في واقع الأمر، أكثر المثقفين غيرة على حرية تفكيرهم وقلمهم، وأشدهم حرصًا على استقلالهم عن أية سلطة أو حكومة أو دولة. كان هؤلاء يبرهنون على ذلك حين كانوا، بمناسبة هذا الحدث ،لا يأبهون لموقف هذه الدولة أو تلك إلا بمقدار ما يكشف عن بعدٍ أو أكثر من أبعاد حدث كانت تفاصيله المادية وظروف ولحظات حدوثه تتكشف يومًا بعد يوم. كان همّهم ينصب أساسًا على ما يقع حصرًا ضمن فضاء اختصاصهم بوصفهم مثقفين أحرارًا، وخصوصًا في ما يحمله الحدث نفسه، أو يصدر عنه، من دلالات المعنى والرمز والأبعاد.  
هذا العرض السريع للفئات الخمس من "الكتبة" و "الكتاب" حسب طبيعة مواقفهم من اغتيال كاتب وإعلامي لا يملك إلا قلمه يحيلنا إلى ما كشفت عنه الثورة السورية بوجه خاص في مجال ضحالة الثقافة السياسية لعدد كبير من "المثقفين" و "الكتبة" من "المعارضين"، ولا سيما في مماهاتهم مفهوم النظام السياسي مع مفهوم الدولة. فإذا كانت الأنظمة الاستبدادية العربية تعتمد في خطاباتها هذه المماهاة دفاعًا عن نفسها، فإن قيام معارضيها بذلك يكشف إما الغباء أو ضحالة التجربة والفهم السياسييْن. ذلك أن اغتيال جمال الخاشقجي أتاح لنا أيضًا أن نرى هذه الضحالة ذاتها لدى العديد من الكتبة العرب المستأجرين لخدمة السلطات القائمة الذين كانوا يماهون، هم أيضًا، بين الدولة والنظام.
مقتل الخاشقجي اغتيالًا يطرح أكثر من أي وقت مضى وبقوة المسألة الأساس الخاصة بالنظم الاستبدادية، ملكية وجمهورية سواء بسواء، أي مسألة حرية التعبير.

** نشر على موقع جيرون يوم السبت 27 تشرين أول/أكتوبر 2018.


jeudi 18 octobre 2018



الحريّة المستباحة.. 
بدرالدين عرودكي 
كما لو أن الحرية في عالمنا المعاصر، والعربي أولًا وبوجه خاص، باتت، في ممارستها الحقيقية اليومية، وهمًا، يُضاف إلى كمٍّ من الأوهام التي تحفل بها جوانب حياتنا العربية المختلفة، لا يزال يتضخم حجمه ووزنه، ويتسع فضاء جغرافيته، العربية خصوصًا،  يومًا بعد يوم. ليس الأمر جديدًا بكل تأكيد. لكنه لم يكن يومًا على هذا النحو من الاتساع والعمق والشمول. كانت هوامش من الممارسة الواقعية والحقيقية للحرية في الفضاء السياسي أو الفكري المتاحة تسمح بتجاوز الشعور بالاختناق البطيء، وتحمل المبدعين أو الناشطين في مختلف المجالات على الاستفادة من هذه الهوامش بهذا القدر أو ذاك، عبر إنتاج مبدعات أصيلة في الميدان الثقافي، أو اتخاذ مواقف نقدية صلبة في الميدان السياسي. إلا أن هذه الهوامش بدأت، منذ خمسين عامًا، تتلاشى بالتدريج. في السياسة أولًا ثم في الثقافة. وتحول ثالوث المحرمات (الدين والسياسة والجنس) الذي كان من قبل سائدًا كعرْفٍ تفرضه المواضعات الاجتماعية، إلى شبه قانون سرعان ما اعتمدته السلطات السياسية الرسمية ذات الاتجاه الشمولي، فضلًا عن السلطات الدينية غير الرسمية فيما يخصها، فصارت هيمنته أكثر عمقًا وشمولًا من أي وقت مضى.
وبصورة ضمنية وتدريجية، أعادت السلطات الاستبدادية العربية تحديد مفهوم الحرية نفسه وكيفيّات ممارستها في الفضاء السياسي خصوصًا والاجتماعي عمومًا. فحُدِّدَ السقف الذي يمكن ممارستها تحته أو في ظله، ووضعت قوانين تحدد طرق ممارستها ومختلف العقوبات في حال الخروج عليها. فإذا كانت حدود فضاء الحرية تحددها قوانين الدول الديمقراطية التي وضعها ووافق عليها ممثلو الأمة ديمقراطيًا بما يكفل للمواطن حرية التعبير، ولم يؤدّ تطبيقها يومًا إلى أن يُساق كاتب أو فنان أو ناشط سياسي إلى المحكمة فالسجن بجريمة التعبير الحر عن رأيه  أيًا كان موضوعه،  فإن النظم الاستبدادية في عالمنا العربي التي وإن اعتمدت ما يشبه هذه القوانين في صوغها، إلا أنها لم تتبنَّ طرق اعتمادها أو وضعها موضع التنفيذ، أدّت إلى وضع هجين، ظاهره حرية في الممارسة وفي التعبير السياسيين والفكرييْن، وباطنه رقابة صارمة أودت ولا تزال تودي بصاحبها إلى السجن إن لم يكن إلى القتل في بعض الأحيان. إذ في الوقت الذي يمارس فيه القضاء في النظم الديمقراطية الرقابة على تطبيق القوانين بوصفه المرجع الأول والأخير، صارت الدوائر الأمنية في النظم الاستبدادية هي التي تقوم بهذا الدور. لم تعد الحرية في هذه الأخيرة تعني، بين ما تعنيه، أن يكتب أو يقول المواطن ما يراه من سلبيات في شؤون البلد، أو من مشكلات في برامج وممارسات حكومته، بل في أن يكون المنافحَ عنها والمروِّجَ لمحاسن أفعالها. هكذا ولد الكاتب والمثقف المنضوي، والموظف غالبًا لدى الدوائر الأمنية التي ستستخدمه أولًا، مثالًا حيًا على ممارسة الحرية التي حددت مفهومها، وثانيًا، في الرقابة على كل من يرفض الانضواء تمهيدًا لترويضه أو للجمه.
انفجر ذلك كله في العالم العربي مع ثورات الشباب العربي قبل ثمانية أعوام، وفي سورية خصوصًا هذه المرة. كان من أولى الآثار الفورية لهذه الثورات، انطلاق أصواتٍ لم تكن من قبل مسموعة، وبروز أسماء لم تكن معروفة، ولاسيما في أوساط الشباب. وفي كل مجالات التعبير، السياسي والأدبي والفني والإعلامي. ذلك ما أثار حفيظة الأنظمة الاستبدادية التي سارعت إلى كمِّ الأفواه بالسجن أو بالقتل أو بالدفع إلى مغادرة البلد، كما حدث في سورية منذ الأشهر الستة الأولى للثورة. لكن الثورات أدت، في الوقت نفسه، إلى ظهور فئة من المثقفين والكتاب والإعلاميين المرتزقة، سوف يتزايد عدد أفرادها مع انتصار الثورات المضادة في مختلف بلدان الربيع العربي، ومع التغلغل الإيراني في النسيج الاجتماعي لأربعة بلدان عربية. فقد امتلأت بكتاباتهم الصحف الموالية سواء للنظم الاستبدادية، أو لإيران الولي الفقيه؛ وباتوا الطرف الآخر في نقاشات كل برنامج تلفزيوني أو إذاعي  تبثه الفضائيات العربية أو الأجنبية الناطقة بالعربية: "محللون استراتيجيون"، أو "خبراء سياسيون"، أو "مختصون بالجماعات الجهادية أو الإرهابية"، يرددون بلا تعب أو كلل، وبصفاقة ترسمها البسمات الصفراء في وجوههم، خطابات ومزاعم الأنظمة الاستبدادية وأكاذيبها؛ هذا على أنهم إما لم يعيشوا في ظلها ولم يكتووا بنار استبدادها، أو أنهم كانوا من كبار المنتفعين فيها ومنها. وككل المنافقين، لا يجدون أي حرج في التغاضي عن الجرائم التي يرتكبها النظام الذي يدافعون عنه، ولا في تجاهل المشكلة الأساس موضوع النقاش، أو في التركيز على تفاصيل لا تمت إليها بصلة هربًا من المواجهة.
هكذا استعيدت استباحة الحرية كما كانت مستباحة قبل عام ثورات الربيع العربي.
في سورية مثلًا، لا يزال الوضع على حاله في المناطق التي يسيطر عليها النظام الأسدي: كتّاب ومثقفون موالون أو منضوون، كما كانوا من قبل، أو سواهم ممن اختاروا الصمت بوصفه نهجَ أضعف الإيمان. لكن استباحتها كانت أكثر عنفًا وصفاقة في المناطق التي سيطرت عليها الجماعات "الجهادية"، على اختلاف انتماءاتها ومزاعمها "الدينية"، وهي تحاول إقامة "نظام" لا يقل عنفًا عن النظام الذي تزعم مواجهته وتطمح إلى الحلول مكانه. كما أعيد استباحة الحرية مجدّدًا أيضًا، لا داخل بلدان الربيع العربي فحسب، بل في عموم المساحة العربية. فقد أعيد لجمها ضمن أطر تلائم النظم الجديدة التي أنجبتها الثورة المضادة في الأولى، وتم التشديد بصرامة على لجمها في البلدان الأخرى، العريقة أساسًا في كبت الحريات كلها وفي كل الميادين.
على هذا النحو، صارت ممارسة حرية التعبير من جديد، كما كانت من قبل، لا تتاح إلا في المنفى، عبر فضاءات محدودة، ولكن تحت طائلة الانتقام ممن يمارسها بصورة أو بأخرى. والأمثلة في هذا المجال لا حصر لها.  شهدنا بعضها من قبل خارج وداخل سورية، مثلًا، طوال السنوات الثمانية الماضية، حيث تجاوز عدد ضحايا الاغتيال أو الاعتقال أو القتل من الإعلاميين الثلاثمائة؛ مثلما شهدنا ولا نزال نشهد أيضًا بعضها الآخر ممن دفعوا حياتهم ثمنًا للتعبير عن آرائهم.
على أن فضيحة قمع الحرية بالقتل، أيًا كانت دوافع استغلالها أو استثمارها إعلاميًا وسياسيًا، تبقى شهادة ودليلًا بيد من يناضلون من أجل حرية تعبير بلا ضفاف.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 18 تشرين أول 2018.