jeudi 9 novembre 2017


المؤلفات الكاملة 
بدرالدين عرودكي 
ربما كانت سلسلة لابلياد، الكواكب، التي تنشرها أعرق وأهم دار نشر في فرنسا، غاليمار، أجمل وأغنى وأهم وأعرق سلسلة كتب في العالم الغربي لنشر المؤلفات الكاملة لكبار الكتاب في العالم. وكانت صدفة محضة ذات يوم من عام 1985 قادتني إلى صاحب الدار ومديرها، أنطوان غاليمار، حين أردت العمل على نشر الترجمة الفرنسية الأكمل التي قام بها باتريك غيوم، الذي كان أستاذ فقه اللغة العربية في السوربون، لرواية الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" ضمن سلسلة "من العالم كله" المخصصة لترجمات روايات أشهر الروائيين في العالم كله.
كنت في بدايات معهد العالم العربي، آنئذ، أتابع باسمه الاتفاق الذي أبرمته رئاسة المعهد مع منشورات لاتيس لنشر اثنتي عشرة رواية لمختلف الروائيين العرب مشرقًا ومغربًا (وكان من ضمنها مثلًا ثلاثية نجيب محفوظ التي اقترحت ترجمتها والتي تناقلت ترجمتها، من بعدُ، دور النشر الأوربية قبل حصول محفوظ على جائزة نوبل). ومن بين الروايات التي اقترحتها كنت أتطلع إلى ترجمة رواية إميل حبيبي المذكورة إلى الفرنسية ونشرها ضمن هذه السلسلة، حين علمتُ من الشاعر والأكاديمي الجزائري جمال الدين بن شيخ، أن باتريك غيوم سبق وأن حقق أفضل ترجمة يمكن أن تنجز لمثل هذه الرواية الصعبة لغويًا. وأعلمني، بالمناسبة، أن غاليمار كان على وشك نشرها إلا أنه أحجم عن ذلك من دون معرفة أسباب ذلك. لكن منشورات لاتيس رفضت الرواية دون بيان الأسباب الحقيقية. الأمر الذي حملني على الذهاب إلى دار غاليمار لمحاولة حثهم على نشرها لقاء إسهام مالي من المعهد معادلٍ لإسهامه في نشر الروايات العربية لدى لاتيس. التقيت يومها جان غيو، المسؤول عن سلسلة "من العالم كله"، وعرفت منه أن سبب الإحجام عن نشر الرواية، كان قيام دار نشر طارئة بنشر ترجمة سيئة لها مما كان سيسيئ لتلك التي بين أيديهم. حين سمع العرض، قبله على الفور، وصحبني إلى مكتب مديره، أنطوان غاليمار، يقدمني إليه ويعلمه بما اتفقنا عليه.
أعترف أنني كنت شديد السعادة أن ألتقي سليل مؤسس هذه الدار الذي قررت الحكومة الفرنسية مؤخرًا تسمية الشارع الذي يتواجد فيه مقرها باسمه: غاستون غاليمار. بعد أن عبَّر عن سعادته لمشروع التعاون مع المعهد بنشر أول رواية عربية في سلسلة "من العالم كله"، لم أقاوم الرغبة في أن أطرح عليه سؤالًا محرجًا، بما أنني من هواة سلسلة لابلياد، وكنت عزمت بعد سنوات من وصولي إلى باريس أن أهدي نفسي ستة مجلدات كل عام منها!، سألته، كيف يمكن لمثل هذه السلسلة الفريدة أن تضم روائع الأدب العالمي شرقًا وغربًا في حوالي أربعمائة مجلد وليس فيها من التراث العربي إلا "القرآن" إلى جانب الإنجيل والتوراة؟ أجاب صراحة: "هذا تقصير منا! الحقيقة أن كل مشروع أعمال كاملة أو حتى أعمال مختارة إذا لم يكن بالوسع نشر الأعمال الكاملة يحتاج منا من سبع إلى عشر سنوات إعدادًا للنشر تحت إشراف فريق عمل يضم ما لا يقل عن خمسة من كبار الاختصاصيين في مؤلفات الكاتب فضلاً عن المترجم عندما يكون النشر متعلقًا بكاتب أجنبي. كان جوابي أنهم في غاليمار لا شك يعرفون جاك بيرك وأندريه ميكيل ومكسيم رودنسون وجمال الدين بن شيخ، على الأقل، بين كبار المختصين بالتراث والآداب العربية..فكان أن نلت ــ على صعيد شخصي محض ــ وعدًا بالتفكير سريعًا بالأمر.. والحقيقة أنه لم تمض سنوات قلائل حتى صدر مجلد "الرحالة العرب"، ثم تلاه مجلدا "مقدمة ابن خلدون وكتاب العبر"، وقبل عدة سنوات، التحفة الأدبية العربية "ألف ليلة وليلة"، التي قضى جمال الدين بن شيخ وأندريه ميكيل في ترجمتها إلى الفرنسية أكثر من خمسة عشر عامًا.
لا تقتصر ميزات هذه السلسلة الفريدة (التي تأسست عام 1923 في إطار الدار التي تحمل اسمها ثم انتقلت إلى ملكية غاليمار عام 1933، كي تصير مؤسسة كاملة ضمنها تحمل عنوان "مكتبة لابلياد")، على نشر كل الأعمال الكاملة أو، على الأقل عند الاستحالة، كل ما هو موجود من أعمال المؤلف المختار. ذلك أنه نشر نقدي كما يقال بالفرنسية، أو محقق كما نقول بالعربية، من كل الجوانب: مقارنة مسار تطور العمل الإبداعي بين مختلف النسخ التي تركها المؤلف، والتغييرات التي أدخلها على عمله قبل الطبعة الأولى ثم من بعدها. كما تتضمن الطبعة دراسة نقدية وتاريخية وافية لكل عمل يضمه مجلد أو أكثر لهذا الكاتب أو ذاك. هكذا يستطيع القارئ العادي أو الباحث، حين يكون بين يديه أعمال الكاتب كلها، أن يدخل فضاءات إبداعه بسهولة يتنقل فيها حيث يشاء: له الحرية في أن يقرأ النصوص الإبداعية وحدها دون أن يلتفت إلى الهوامش التي تسرد خفايا وتفاصيل إعداد العمل وتاريخه، أو، إن كان باحثًا، أن ينظر في مختلف الخطوات التي كان على الكاتب أن يقوم بها حتى يصل إلى النسخة الأخيرة من مبدعه، أو في مختلف التنويعات على هذه الجملة أو تلك، أو على هذا المقطع أو ذاك، والأسباب التي حملت المؤلف على أن يغير هنا مرة أو أكثر، وذلك في دراسات المشرف على الطبعة وفريقه. ذلك كله في طباعة أنيقة على أفخم ضروب الورق (bible) وبأسهل حروف الطباعة على القراءة: هكذا تستطيع أن أن تقرأ مؤلفات ستندال الكاملة، بما في ذلك مشروعاته التي لم تكتمل، ومسودات رواياته التي أمكن الوصول إليها، مع دراسات لا نظير لعمقها عن الكاتب ومبدعاته، أو روايات فلوبير ومراسلاته التي تزيد في حجمها على رواياته، أو بلزاك، الكوميديا الإنسانية ومعها ما كتبه من قصص أخرى قصيرة وطويلة، فضلًا عن رسائله هو الآخر...
هي إذن طبعات نقدية أو محققة، خضعت لأشد شروط العمل البحثي والنشري صرامة ودقة. بهذا المعنى، لن يكون عنوان "الأعمال الكاملة" تعبيرًا عاديًا في هذا المجال. إذ أنه لا يوضع إلا على تلك التي يمكن اعتبارها كذلك نتيجة البحوث والدراسات وبإجماع المختصين. أما في الحالات الأخرى، فيكتفى بوضع "أعمال"، دون أن يعفي ذلك الفريق المسؤول عن إعداد الطبعة، من القيام بكافة التحقيقات الضرورية والدراسات المعمقة على مخطوطات المبدعات وتطورها أثناء تأليفها وتقديم ثماره للقارئ. ولهذا سمحت هذه الصيغة الأخيرة بأن تتخذ دار غاليمار قرارًا بنشر أعمال كتاب أحياء بعد أن اقتصرت في المئات الأربع الأولى من مجلداتها على مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين والراحلين  من المعاصرين.
يمكن القول إن هذه السلسلة بمفهومها وتقنيتها وإنجازاتها فريدة في عالم النشر على صعيد العالم كله، وليس لها مثيل إلا في إيطاليا، حين اختارت فيها دار نشر عريقة، هي الأخرى،  أن تتبنى، بالا تفاق مع غاليمار، السلسلة ذاتها، شكلًا وموضوعًا، باللغة الإيطالية.
أما في العالم العربي فباستثناء بعض السلاسل الكلاسيكية التي عرفها النشر العربي في مصر وفي لبنان خصوصًا، حين طبعت كبرى ثمرات التراث العربي في الشعر وفي الموسوعات الأدبية في طبعات محققة على أيدي كبار الباحثين والاختصاصيين،  فلا وجود لهذه الطبعات التي تعنى بجمع الأعمال الكاملة، بالمعنى الدقيق للكلمة، لكبار المؤلفين العرب، القدماء منهم أو المحدثين. لكننا بدأنا نشهد، قبل حوالي أربعين عامًا، ما سمي بالأعمال الكاملة لهذا الشاعر أو ذاك، في طبعات لا جديد فيها سوى إعادة طبع مجموع الدوواين المنشورة، من دون أي جهد علمي أو بحثي أو تاريخي، كما هو متبع في الغرب على هذا الصعيد. لكن الأسوأ من ذلك، أن تعبير "الأعمال الكاملة" لدى دور النشر العربية لم يقتصر، دون تمحيص  فعليًا،  على الراحلين من الشعراء، بل طال الأحياء منهم ممن كانوا لا يزالون يبدعون وينشرون! هكذا نشرت على سبيل المثال الأعمال الكاملة لمحمود درويش والأعمال الكاملة لنزار قباني قبل اكتمالها، مثلما نشرت بالطريقة ذاتها روايات عدد من الروائيين في مصر، كان آخرهم نجيب محفوظ الذي نشرت رواياته، ضمن الشروط المشار إليها، في مجلدات ضخمة مذهبة تصلح للعرض أكثر مما تغري بالقراءة.
ولولا استثناءات نادرة هنا وهناك في العالم العربي، لكان من الممكن القول إن زمن النشر الرفيع الذي تميزت به، على سبيل المثال، في مصر دار المعارف أو الهيئة المصرية العامة للكتاب (ولا سيما في سلسلة ذخائر العرب) في عصرهما الذهبي قد مضى إلى غير رجعة. فالتجارة باتت هي الدافع والهدف لدى معظم دور النشر الخاصة، كما أنَّ ما يمكن أن يطلق عليه "القيام بواجب الوظيفة" بات ديدن معظم دور النشر الرسمية.  ينطبق ذلك على الكتب المؤلفة مثلما ينطبق على الكتب المترجمة.
أسباب هذا التطور غير الطبيعي للنشر في عالمنا العربي كثيرة. لكن ذلك يحتاج بلا شك إلى حديث آخر.


** نشر على موقع جيرون، الخميس 9 تشرين الثاني 2017.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire