jeudi 31 août 2017


مسرح التفاوض العجائبي
بدرالدين عرودكي
خلال جلسات عقدت بين الهيئة العليا للمفاوضات ومنصتي القاهرة وموسكو، كان موضوعها مناقشة المبادئ والترتيبات التي لابد من التوافق عليها قبل الذهاب  ضمن وفد واحد وموحّد للتفاوض حولها مع الطرف الخصم، وبخلاف وفدي الهيئة العليا للمفاوضات ومنصة القاهرة، لم يوافق الوفد الممثل لمنصة موسكو على المبادئ الأساس في الوضع السوري كما يرتسم الآن، وأهمها: تشكيل وفد موحد ومنسجم من الأطراف الثلاثة المشاركة، والمرجعية الدولية التي تجلت في قرارات مؤتمر جنيف ومجلس الأمن، ومسألة الإعلان الدستوري الذي ينظم المرحلة الانتقالية بانتظار وضع دستور جديد، ورحيل رأس النظام.
لا يمكن أن يحمل مثل هذا الرفض الصارم لأواليات أي تفاوض سياسي أو غير سياسي إلا على إدراك أمر صارخ البداهة: استحالة أية عملية تفاوضية حقيقية، أو الدعوة إلى فهم ما لا يجرؤ أحد على التعبير عنه صراحة: الرضوخ، ولكن تحت عنوان التفاوض وآلياته الشكلية. بدا هذا الرفض، شكلاً وموضوعاً، كما لو كانت منصة موسكو تحمل تفويضاً من العاصمة التي تحمل اسمها بتسليم رسالة مفادها: آن الأوان كي تدركوا الواقع في حقيقته: لا مجال لفرض شروط ومواقف تتنافى مع ما آلت إليه مواقف الدول الكبرى والإقليمية كلها! وهي رسالة تلتقي مع مضمون ما أشيع أنه قول وزير الخارجية السعودي نفسه إلى رئيس هيئة المفاوضات أثناء لقائه به  قبل عقد الاجتماع المشار إليه بين الأطراف الثلاثة.
أياً كانت التأويلات أو الرسائل المبثوثة أو المرسلة صراحة أو ضمناً، ألا يلاحظ أي مراقب لما يجري في سورية أن ما سمي بـ"الحل السياسي" لم يكن، منذ نيِّفٍ وخمس سنوات، إلا ضرباً من سراب تجلى في تغذية أمل ما، حول موعد ما، يمكن أن يؤدي إلى ضرب من البدء في إحلال "سلام" ما، بطريقة ما، على الأرض السورية؟ وهل من جديد فعلاً في الرسالة غير المكتوبة التي ضمَّنها عبر مواقفه وفد منصة موسكو بضرب من العنجهية لا تختلف شكلاً أو مضموناً مع مواقف مماثلة كان رأس النظام لا يكل عن تكرارها منذ بداية الثورة السورية ؟ وهل كان بوسع أي عاقل أن يصدق أن رأس النظام سيقبل التفاوض اليوم، هو الذي رفضه مع مواطنيه بصورة مطلقة قبل أن تتدخل الدول الكبرى والصغرى، وقبل أن تسيل قطرة دم واحدة، وبقي يراوغ ويتلاعب إلى أن أحال سورية كلها ساحة حرب وتدمير وقتل وتهجير؟
لكن السؤال الأهم: هل هي فعلاً مفاوضات حقيقية تلك التي جرت وتجري منذ نيِّف وخمس سنوات؟ وربما جاز أيضا طرح سؤال آخر لا يقل أهمية: بين مَنْ ومَن جرت وتجري المفاوضات حول "الحل السياسي" في سورية ؟
من مؤتمر جنيف1 في نهاية حزيران 2012، وصولاً إلى مؤتمر فيينا، ثم إلى صدور القرار رقم 2254 في 20 كانون الأول 2015 عن مجلس الأمن، وصولاً من بعد إلى مؤتمرات أستانة ومعها أو إلى جانبها ما بات يمكن تسميته بمسلسلي مؤتمرات جنيف وأستانة، كانت روسيا تعمل حثيثاً، وبدعم خفيٍّ من الولايات المتحدة بدا للكثير في عهد أوباما أقرب إلى التواطؤ الفعلي، كي تسير أمور "الحل السياسي" وفق رؤيتها، آخذة بعين الاعتبار في صوغ عناصره، وبعد تأمين مصالحها، المصالح الأمريكية أولاً، ثم مصالح القوى الإقليمية على الأرض السورية، ولاسيما إيران وتركيا ثانياً. رؤية بدأت عناصرها وطريقة تحقيقها على الأرض منذ أن اقتحمت روسيا السماء السورية بطائراتها وطفقت تقصف كل من حمل السلاح ضد النظام الأسدي من دون تمييز  وباتت اليوم واضحة لمن يريد أن يرى.
لم يكن على سبيل المثال بعض الغموض الذي شاب مقررات مؤتمر جنيف مجرد صدفة، بل استجابة لمتطلبات اللغة الدبلوماسية التي تفتح الباب واسعاً لاحتمالات مختلفة في التأويل تحول دون أي إجماع يجعل منها قابلة للتنفيذ السريع، إن توفرت الإرادة السياسية، التي لن تكفي، بطبيعة الحال، إذا ما بدأت التفسيرات المتناقضة تأخذ مجراها. كانت هنا بداية الطريق التي سمحت لروسيا في الاستحواذ شيئاً فشيئاً على السير بالحل الذي تراه في سورية وفق رؤيتها. وستتوالى مؤتمرات جنيف، جامعة بين ممثلي النظام الأسدي والمعارضة التي بدت خلالها المسافة شاسعة بين الطرفين. كان ما يهم النظام الأسدي في المقام الأول استمراره، وقد حصل عليه حين ضمنت له هذا الاستمرار روسيا وكافة الدول صاحبة القرار، منذ البداية؛ فكانت مناوراته البهلوانية ضرورية لاستهلاك الوقت؛ في حين كان ممثلو المعارضة يعملون جادّين، من دون إدراك، على ما بدا ولا يزال يبدو، لطبيعة علاقات القوى التي كانت على الأرض السورية، والتي سمح لروسيا منذ تدخلها العسكري الحاسم في تجيير مفاعيلها لحسابها كلياً. فرض هذا الوضع على إيران أن تغير استراتيجيتها على الأرض، فلا تكتفي بالقتال أو باحتلال المواقع التي تراها حيوية لأهدافها وأهداف وكيلها في لبنان فحسب، بل بتجذير وجودها سواء عن طريق شراء الأراضي، أو عن طريق اتفاقيات رسمية مع النظام الأسدي.
أما المعارضة فهي منقسمة كلياً إلى معارضة سياسية موزعة بين منصات ومجالس وهيئات، ولاءُ كلٍّ منها لإحدى الجهات العربية أو الإقليمية، ولا قرارَ لأي منها على الأرض، من ناحية، وإلى معارضة عسكرية ولاؤها لمن يغذيها بالسلاح وبالمال، مقسّمة هي الأخرى إلى فصائل وجماعات لا تقبل الانحناء لأي قرار صادر عن المعارضة السياسية، من ناحية أخرى. صحيح أن الهيئة العليا للمفاوضات قد جمعت بين أطراف المعارضة السياسية والفصائل العسكرية، لكنها لم تستطع، رغم كل ما تلقته من دعم سياسي، الذهاب إلى أية مفاوضات في وفد واحد، موحّد الرؤية والكلمة. ذلك ما جعلها أقرب إلى العجز في مواجهتها خصماً قوامه دولة كبرى ودولة إقليمية يعمل تحت إمرتهما رئيس نظام كانت لهما كل المصلحة في زرقه بكل المقويات حتى يظل واقفاً وقادراً بفضلهما على الثبات كي يحقق كلٌّ منهما ما يريد من أهدافه.
وحين بدأت روسيا بتحويل مجرى المفاوضات التي كانت تحت الخيمة الأممية لتكون في أستانة ثم في جنيف تحت خيمتها ووفق رؤيتها، استطاعت أن تفرض بالتدريج، ومن دون قدرة على المقاومة من الطرف المقابل، خيوط الحل السياسي الذي تريد، في الوقت الذي لم تكن المعارضة بشقيها السياسي والعسكري قادرة على فرض شيء مما تريد.
فإذا كان مبدأ المفاوضات يقتضي وجود طرفين متنافسيْن أو خصميْن أو عدوّيْن يملك كل منهما من القوة ما يظن أن بوسعه عن طريقها تحقيق أهدافه بطريقة أو بأخرى بأقل الخسائر الممكنة، ويعي كلٌّ منهما ضرورة الحديث مع الآخر لتحقيق ما يتطلع إليه، فأين هما الطرفان القادران على قول ما يريدان وتنفيذ ما سيلتزمان به في سلسلة المفاوضات حول "الحل السياسي" في سورية؟ هل هو النظام الأسدي الذي بات كرة تتقاذفها إيران تارة وروسيا تارة أخرى؟ أم هي المعارضات السياسية والعسكرية وقد تقاسمها هي الأخرى داعموها أو ممولوها أو، فيما يخص البعض منها، أولياء أمورها؟
ليس غريباً إذن أن يستحيل مسرح المفاوضات الجوال بين أستانة وجنيف تجريبياً محضاً، تحاول من خلاله روسيا بتواطؤ أمريكي صريح وبدعم إيراني، ولكلٍّ مصلحته، تحديد الأدوار، وفرض الممثلين، ورسمَ الأدوار.
فمَنْ يفاوض مَنْ؟ وأين هي هذه المفاوضات في هذا المشهد العجيب؟


** نشر على موقع جيرون، يوم 31 آب/أغسطس 2017.


jeudi 24 août 2017


احتواء الثقافة: السياسات الثقافية


بدرالدين عرودكي
حين أصر جمال عبد الناصر في عام 1962 على أن تقوم وزارة الإعلام بمهام ثقافية هي من صميم اختصاص وزارة الثقافة، أعلن له ثروت عكاشة، وزير الثقافة آنئذ، عن رغبته في الاستقالة. فما كان من عبد الناصر إلا أن قال له بالحرف: "أنا ما عنديش وزير يستقيل"! لكن ثروت عكاشة أصر على الاستقالة، وأصر عبد الناصر على رفضها، إلى أن توصلا إلى حل وسط: يُعلَنُ عن تعيين الوزير حاكماً للبنك الأهلي في جريدة الوقائع المصرية، قبل الإعلان عن التغيير الوزاري بخمسة عشر يوماً ــ وهو التغيير الذي جرى في أواخر عام 1962 وجمع الثقافة والإعلام في وزارة واحدة ــ ، لكن إجابة عبد الناصر في الرواية التي قصها عليَّ ثروت عكاشة على هذا النحو بباريس عام 1990، صاغها في مذكراته بطريقة أخرى، لكنها لا تغيّر من دلالتها الأعمق: "إن نظامنا الرئاسي لا يعرف استقالة الوزير"!
لم يكن موضوع الخلاف بين عبد الناصر ووزير الثقافة في حكومته محض خلاف حول موضوعات تنظيمية في مهام كل من الوزارتيْن، كما قد يبدو من الوهلة الأولى. بل كان خلافاً سياسيًا بليغًا بامتياز. فالذي توخاه عبد الناصر من رفيق السلاح الذي خاض معه مغامرة 23 تموز/يوليو 1952 واعتذر أن يكون في مجلس قيادة الثورة، ولم يكن يطيق العمل السياسي، لكنه كان، بفعل نشأته العسكرية وتكوينه الفكري، هو الأنسب من بين رجاله كي يقود الوزارة التي أرادها أن تكون للثقافة، يتجاوز بمراحل ما فكر به ثم خطط له وعمل من أجله ثروت عكاشة خلال السنوات الأربع الأولى التي تولى فيها مهام وزير الثقافة بمصر. ولعل إضاءة سريعة على رؤية ثروت عكاشة للثقافة ولمهام وزارة للثقافة، كما طبقها في مصر آنئذ، يمكن أن تساعد على فهم الدلالة الأعمق للخلاف الذي نشب بينه وبين عبد الناصر، لاسيما وأن بين يدينا مصدراً لا يستهان به من أجل ذلك. إذ أن ثروت عكاشة كان، على ما نعلم، وزير الثقافة العربي الوحيد الذي كتب مذكراته وتحدث فيها بوجه خاص عن تجربته وزيراً للثقافة خلال مرحلتيْن.
 كان ثروت عكاشة على وعي منذ البداية بما ينتظره عبد الناصر منه وما وافق عليه كمبدأ. فقد قال له وهو يشجعه في أول يوم عمل له كوزير: "(...) واثق أنك سوف تستطيع أن تشكل رباطًا وثيقًا بين حركة المثقفين وحركة الثورة لتخلق منهما وحدة فعّالة..(..)".  طلب الوزير ثروت عكاشة إلى عبد الناصر أن يمهله فترة يعمل خلالها على وضع خطة ثقافية متكاملة يشارك في تحديد عناصرها ورؤيتها مجموع العاملين في المجال الثقافي بمصر.
إذ لم تكن هناك في الحقيقة تقاليد في العمل الثقافي الرسمي في البلدان الأخرى، عربية أو غربية، يمكن استلهامها. وكانت المؤسسة الثقافية الوحيدة التي تقوم مهمتها على تنسيق جهود الهيئات الحكومية وغير الحكومية العاملة في مختلف الميادين التي أنشىء لأجلها، تتمثل في المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. أما النشاطات الثقافية التي اعتمدت خلال الفترة السابقة على توليه الوزارة، فكانت مصلحة الفنون؟، ومركز الفنون الشعبية، وبرنامجًا ثقافيًا إذاعيًا هو "البرنامج الثاني. لذلك، كان أول ما فعله ثروت عكاشة أن استشار من حوله عددًا من كبار المثقفين المصريين حول ما يمكن أن تكون عليه مهمة هذه الوزارة الوليدة للثقافة. وكان أن توصل إلى فكرة تنظيم مؤتمر عام يشارك فيه أكبر عدد من كتاب ومفكري وأدباء وفناني مصر يتداولون خلاله ما أطلق عليه ثروت عكاشة "السياسة الثقافية"، أو الإطار العام للعمل الثقافي. وهو المؤتمر الذي عقد عام 1959 وشاركت فيه طوال أسبوع كامل، وجوه مصر الهامة في الفكر والأدب والفن والمسرح والغناء، فضلًا عن العاملين في مجال بث الثقافة وتنظيم أنشطتها. ولم يتوان عن المشاركة فيه ألمع هذه الوجوه آنئذ، مثل طه حسين وحسين فوزي ويحيى حقي وأم كلثوم و أبو بكر خيرت، ويوسف وهبي، على سبيل المثال لا الحصر. وكانت نتيجة المؤتمر أن تطابقت رؤية الوزير مع رؤية المشاركين فيه. رؤية تقوم على سلوك طريقيْن معًا وفي الوقت نفسه: أن يتمكن المواطن في أرجاء مصر كلها من قطف ثمرات الثقافة العاجلة في المجالات كلها، من ناحية، وإنشاء المعاهد الفنية المنوعة والمختصة لتربية وإعداد جيل جديد من المبدعين، من ناحية أخرى. هذا فضلاً بالطبع عن تصميم وتنفيذ مشروعات ثقافية كبرى لا يقوى الأفراد على تحقيقها. هكذا ولدت المؤسسات الثقافية الكبرى كقصور الثقافة، وأكاديمية الفنون مع أركانها الأربعة: المعهد القومي العالي للموسيقى والمعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد العالي للسينما ومعهد الباليه؛ كما أنشئت أيضًا فرقة الموسيقى العربية والأوركسترا السمفونية والفرقة القومية للفنون الشعبية. وأنجزت مشاريع كبرى بإسهام دولي واسع كالمشروع الهائل من أجل الحفاظ على آثار النوبة، ومعبد أبو سمبل على رأسها، عند بناء السد العالي. وجنباً إلى جنب، بدأت ثمرات النتاج الثقافي تقدم للجمهور الواسع لا في العاصمة أو في المدن الكبرى فحسب، بل كذلك في مدن الأقاليم. لكن تلك المؤسسات والمشروعات على أهميتها كما نراها اليوم وقد صارت جزءًا لا يتجزأ من المشهد الثقافي المصري، ظهرت في حينه على ما يبدو، وكأنها موجهة للنخبة في المدن الكبرى.
هكذا، ومع ظهور التلفزيون عام 1961 أداة إعلامية وترفيهية وإلحاقه بوزارة الإعلام، بدأت هذه الأخيرة في إنجاز مشروعات ثقافية خاصة بها ولاسيما في مجاليْن هما من صميم اختصاصات وزارة الثقافة: العروض المسرحية على اختلافها ونشر الكتب الموضوعة أو المترجمة. واستثار ما كانت وزارة الإعلام تتمتع به من إمكانات مالية وضعت بتصرفها تستطيع بها منافسة وزارة الثقافة والتفوق عليها من ناحية، وعزوفها عن تقديم ثمرات النتاج الثقافي للوزارة الوليدة، مما أدى إلى اضطراب في الحقل الثقافي عبرت عنه هذه الازدواجية في طبيعة "الإنجاز الثقافي"، والذي بدا وكأن عبد الناصر وراءه حين لم ير بداً في نقاشه مع ثروت عكاشة حول الأمر إلا أن يفصح عن رغبته في توحيد الثقافة والإعلام في وزارة واحدة، وموافقته على ما كان وزير الإعلام ينجز ما طلب إليه تنفيذه، ربما لأن هذا الأخير كان ينجز في نظر عبد الناصر ما كان ينتظر من ثروت عكاشة أن يفعله، أي :أن يشكل رباطًا وثيقًا بين حركة المثقفين وحركة الثورة ليخلق منهما وحدة فعّالة.
كان ما شكا منه ثروت عكاشه إذن يتمثل في ما بدا له طريقة في كسر وحدة السياسة الثقافية في مفهومها الأولي وفي طريقة تنفيذها ضمن الحكومة الواحدة، وعرقلة ما عمل على وضع أسسه من خلال تفضيل الكمِّ على الكيف في كل مجال: المسرح والفن والكتاب.
سيغادر ثروت عكاشة وزارة الثقافة رافضًا نظرة عبد الناصر، وهي النظرة التي سيضطر إلى التخلى عنها بعد سنوات أربع، في عام 1966، حين طلب من جديد إلى صديقه أن يتولى أمورها، وهي الفترة الثانية التي استمرت أربع سنوات، حتى عام 1970.
لاشك أن هذا النوسان بين سياستيْن قد ترك آثاره على أرض الواقع الثقافي في مصر طوال تلك المرحلة التي بدأت مع إنشاء الوزارة عام 1958، والتي كانت الدولة خلالها قد احتكرت المجال الثقافي العام بصورة كاملة. ما كان بالطبع للمؤسسات أو المشروعات الثقافية الكبرى المشار إلى بعضها قبل سطور أن توجد لولا الدولة وقدراتها. لكن ذلك لا يمكن أن ينسينا أن هذا الاحتكار كبح مبادرات المجتمع الفردية التي كان العديد منها قائمًا قبل 23 تموز/يوليو والتي كان يمكن الاستمرار في تشجيعها ودعمها لاسيما وأن معظمها كان منسجمًا مع تطلعات هذا الوزير الطموح الذي كانه ثروت عكاشة.
هنا، لا يجدر بنا أن نتجاهل شهادة أحد كبار المفكرين المصريين حول مسألة "هيمنة الدولة" على الثقافة، ونعني به لويس عوض الذي كتب: "إن ما يسمى تحرير الثقافة من وصاية الدولة المقترنة بمسؤولية وزارة الثقافة عن الثقافة هو محض وهم كبير، لأن وزارة الثقافة في قمة المركزية الناصرية لم تفرض وصاية على فنان أو أديب، بل تركت أكثر الزهور تتفتح. (...). الوصاية على الفن والأدب، لا. إنما كانت الوصاية على الفكر وحده".
"كانت الوصاية على الفكر وحده". ألأن الفكر ليس كالأدب والفن حمّال أوجه؟

** نشر على موقع جيرون، الخميس 24 آب/أغسطس 2017.



lundi 21 août 2017



أدب المأساة السورية   
 بدرالدين  عرودكي  
أرى أن عليَّ البدء بالقول إنني لم أقرا كلَّ، ولا حتى معظم، ما كتبه السوريون  خلال السنوات الست الماضية عن سورية في وضعها الثوري ثم في حالتها الراهنة منذ ثلاث سنوات كبلد محتل تتناهشه ذئاب العالم أجمع وتحتله قوة عظمى هي روسيا، وقوة إقليمية هي إيران التي تحلم بتحقيق أمجاد إمبراطورية خيالية مهما كان الثمن. لكنني أظن أن ما قرأته، على قلته، يسمح لي بإبداء رأي سيبقى مع ذلك حذراً ونسبياً.
نعلم جميعاً أن الثورة حررت السوريين: تفكيراً وتعبيراً. وقد فاجأت الأقلام السورية العالم العربي وهي تنطلق من عقالها وتتناول بلا حرج ولا خوف، بل ولا رقيب داخلي، كل ما طبع أعماق حياة السوريين: العذاب والسجن والقمع والآمال الخائبة والذاكرة المحطمة. وانطلقت أصوات لم يسمع من قبلُ بها أحد، استطاعت جمعاً وفي سرعة قياسية أن تفرض الحديث عن أصوات سورية جديدة، أسهمت في تقديمها مواقع صحفية إلكترونية، ومراكز أو مجموعات بحوث ودراسات اتخذت موضوعها الهمَّ السوري في تجلياته جميعاً: نظام الاستبداد، والثورة، والمهجر/المنفى. وبدا أن هم هذه الأصوات كان إعادة بناء الذاكرة السورية التي كان تغييبها التدريجي لصالحه أول أهداف النظام الاستبدادي غير المعلنة في سورية.
كان الإنتاج الأدبي في أشكاله المختلفة أيضاً، غزيراً ووافراً. وكان السرد القصصي ولاسيما عبر الشكل الروائي صاحب الحظ الأوفر على صعيد الكمِّ بوجه خاص. وكانت فيه جوانبُ المأساة السورية المختلفة الهمَّ الأكبرَ وربما الوحيد في نتاج أصوات روائية راسخة أو مخضرمة أو صاعدة في المشهد الأدبي السوري.
سيكون من المستحيل في مثل هذه العجالة تقويم هذا النتاج ــ ولا أظن على كل حال أن الوقت قد حان لمثل هذا التقويم ــ؛ فالمأساة قائمة لا يزال يكتوي بنارها الجميع دون استثناء. والنتاج الأدبي يُعاش ويُكتب ويُنشر في قلب الحريق. ولابد من مسافة تسمح بالقراءة وبالتأمل. مسافة زمنية ولا شك، لم تتوفر بعدُ لأحد منا. لكن ذلك لا يحول دون الإشارة إلى بعض هذا النتاج مما أتيح لي الاطلاع عليه خلال السنوات الأخيرة والذي لا يمكن بطبيعة الحال إلا أن يُؤخذ بعين الاعتبار في أية دراسة أو مراجعة مقبلة لهذه الفترة الاستثنائية من حياة السوريين.
في مقدمة هذه الأعمال قصص وكتابات زكريا تامر الذي أرى أنه أهم مَنْ عبَّرَ عن العذاب السوري قبل الثورة وخلالها، وكتابه الأخير "أرض الويل" مثل بليغ على ذلك.
وتكاد أكثر عناوين الأعمال الروائية التي صدرت خلال السنوات الماضية تقول موضوع الهم السوري مباشرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: عائد إلى حلب" لعبد الله مكسور، أو "طبول الحرب" لمها حسن، "السوريون الأعداء" و "الشاعر وجامع الهوامش" لفواز حداد، و "زجاج مطحون" لإسلام أبو شكير، و"جداريات سورية:نمنوما" لنبيل سليمان، و"لاسكاكين في مطبخ هذه المدينة" و"الموت عمل شاق" لخالد خليفة، و"الذئاب لا تنسى" للينا هويان الحسن، و"لعنة الكاميديوم" لابتسام التريسي، و "الذين مسهم السحر" لروزا ياسين حسن، و"أبواب العدم لسمر يزبك.
لو اعتبرنا هذه الروايات ممثلة لمجمل الإنتاج الروائي السوري المنشور خلال السنوات الخمس الأخيرة لأمكن القول إن فصلاً استثنائياً في تاريخ الأدب السوري يكتب اليوم تصلح له تسمية "أدب المأساة السورية"، لا "أدب الحرب". ولا أشك شخصياً في أن مثل هذه الأعمال ستكون تربة خصبة لدراسات قادمة تتناولها بوصفها وثيقة أو دلالة أو ــ وهو بالفعل ما يحتاج إلى مسافة زمنية لتقريره ــ بوصفها مبدعاً أدبياً استثنائياً..  


** نشر على موقع 24 ضمن تحقيق حول "أدب الحرب" في سورية، يوم الإثنين 21 آب/أغسطس 2017 



jeudi 17 août 2017


"علمانية"  الاستبداد  الأسدي 
بدرالدين عرودكي 
من أسوأ ما ابتليت به الشعوب العربية خلال نصف القرن الأخير تحت وطأة نظمها الاستبدادية على اختلاف صورها، مدنية وعسكرية، تشويه مختلف مفاهيم وبنى الحياة الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تفتح مجرد كوة تتيح نقدها أو مناقشة مسؤوليها في ما يقترفونه من تخريب معمم وتجهيل مقصود. وخير من يقدم المثل الأهم ضمن هذا المجال  في العالم العربي، هو النظام الأسدي، طوال عهدي الأب والإبن. وكان ما يفاقم من سوء هذا البلاء أن عددًا من المثقفين أو الكتاب أو الشعراء الذين صنفوا أنفسهم أرباباً للحداثة أو رسلها، كانوا لا يصادقون على هذا التشويه فحسب، بل يشاركون فيه بحماس، معززين بمصادقتهم خطاب السلطة الاستبدادية وصلاحيته الفكرية والسياسية، ومُبَررين بمشاركتهم هذه الصلاحية.
وعلى زعم هذه النظم تبنيها للرؤية "الحداثية" في تصميم مشروعها الاستبدادي، لم يسلم أي مفهوم يندرج ضمن مفاهيم هذه الرؤية في الحياة الاجتماعية أو السياسية المعاصرة في تطبيق مشروعها من مثل هذا التشويه، بدءًا من مفاهيم فصل السلطات، وحرية الصحافة، والديمقراطية، مروراً بالانتخابات وطرق تنظيمها، ونظام الدولة، وطبيعته، ومصادره التشريعية، وليس انتهاء بتلك التي تمسُّ حياة المواطن، على مختلف الصعد، في الحياة اليومية، الشخصية منها واالعامة، كالنقابات المهنية، أو البنى التمثيلية كمجلس الشعب أو البلديات، أو الأحزاب، إلخ.
ولم يكن مفهوم العلمانية إلا واحدًا من هذه المفاهيم، برع النظام الأسدي في استخدامه وفي تسويقه كعلامة تميزه عن سواه من النظم العربية الأخرى أو، خلال السنوات الأخيرة، عن "معارضيه" من مختلف جماعات الإسلام السياسي، وخصوصًا في المحافل الغربية، الإعلامية منها والسياسية. لكنه إلى جانب ذلك، كان يكتفي، كما هو شأنه في طريقته "تجسيد" المفاهيم الأخرى، بالمظاهر البراقة التي تخفي، أو تحول دون رؤية حقيقة العفن الكامن وراءها، تاركًا للجميع التخبط في الذهاب إلى تفسيرات تصل إل حدٍّ من التناقض فيما بينها أن يصير المفهوم على ألسنتهم، في نهاية الأمر، لغوًا لا طائل من ورائه. يكفي، على سبيل المثال، أن نستمع إلى الآراء التي تطرح في مختلف الندوات التي تنظم حول مثل هذه المفاهيم، وحول العلمانية منها بوجه خاص، حتى يتبين مثل هذا الاضطراب. فما الذي تعنيه العلمانية فعلاً؟ وأين تتواجد تطبيقاتها؟ ثم ما العلمانية التي كان ــ ولا يزال ــ النظام الأسدي يعنيها حين يسوّقها؟ ما قوامها؟ وأين تتواجد النصوص القانونية الناظمة لها، وأين يمكن أن نرى آثارها في الحياة الاجتماعية والسياسية بسورية؟  
لم يكن مفهوم العلمانية في الغرب مجرد حصيلة تفكير نظري، بل أحد نتائج ما آلت إليه، منذ بدايات العصر الصناعي، مختلف الصراعات الدينية والسياسية في الدول الأوربية التي بلغت ذروتها وحسمت، في فرنسا خصوصًا، مع الثورة الفرنسية لصالح حركة بدأت معها من أجل علمنة المجتمع الفرنسي، ثم تأثر بها، من بعد، عدد من المجتمعات الأوربية الأخرى. فكان لابد للمفهوم أن يبقى بالتالي موضع نقاشات وسجالات بين الكتاب والفلاسفة والسياسيين، حتى رسخ مفهوماً في العلوم السياسية الغربية. لكن الكلمة التي تغطي هذا المفهوم لم تكن هي ذاتها في مختلف اللغات الأوربية، بما فيها تلك التي تنحدر من اللاتينية. فاللغة الفرنسية لم تعتمد الكلمة اللاتينية (saecularismo) التي تقول المعنى المباشر لها، بل استمدت، حين بدأ استخدامها كلمة (laïcité) ــ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على وجه التحديد ــ، من الكلمة اليونانية القديمة (laikos) التي كانت تعني بها ما ينتمي إلى الشعب تمييزا عما ينتمي إلى المؤسسات الدينية. وربما كان هذا الاختلاف في التسمية، وراء بعض التباين في المعنى المراد من هذه الكلمة التي صارت مفهومًا على الصعيدين الاجتماعي والسياسي ولاسيما في فرنسا. بما يعني، في حقيقة الأمر، أن هذا التباين وإن لم يكن ينفي وجود قاعدة فكرية وحقوقية صلبة قام عليها مفهوم العلمانية على نحو دقيق، إلا أنه يؤدي في بعض الأحيان إلى تقليصه في عدد من الدول الغربية الأخرى بحيث يقتصر على مجرد تحديد لطبيعة العلاقة بين الدين والكنائس: بعضها يعتمد الدنيوة (كما يمكن ترجمة الأصل اللاتيني) كألمانيا وبلجيكا والنمسا واللوكسميورغ، وبعضها يعتمد الفصل بين الطرفين كإسبانيا والبرتغال وإيرلندا والسويد،، وبعضها احتفظ بـ"دين الدولة" كبريطانيا وذلك منذ القرن السادس عشر، وكذلك اليونان وفنلندا والدانمارك. لكن جميع الدول الأوربية، مع ذلك، تخضع لمبادئ مشتركة عبرت عن اعتمادها في الاتفاقية الأوربية للمحافظة على حقوق الإنسان والحريات الأساسية، المُوَقعة عام 1950، والتي تستعيد لحسابها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة في ما يخص حرية التفكير والاعتقاد ومبدأ الحرية الدينية.   
لذلك يبدو من الضروري في أي نقاش أو بحث في مفهوم العلمانية وتطبيقاته، الانطلاق من التجربة الفرنسية التي تبدو، في واقع الأمر، وبالمقارنة بينها وبين سواها من الدول الغربية،  تجربة قصوى ومثلاً متكاملاً على صعُد تكوين المفهوم، وتطوره، وتجلياته المتوالية في الممارسة. فبوصفه استمرارًا منطقيًا لعصر التنوير في فرنسا، بدأ دخول مفهوم العلمنة التدريجي الفضاءَ القانوني العام رسمياً مع الدستور الفرنسي عام 1789، أي عام الثورة الفرنسية، الذي اعتمد فكرة الدولة العلمانية، أي الدولة المستقلة عن كل دين أو كنيسة، والحيادية إزاء مختلف الأديان والعبادات. ثم تبع ذلك إعلان حقوق الإنسان في السنة نفسها (26 آب/أغسطس) والذي قاد بعد ثلاث سنوات إلى إقرار المجلس التشريعي الأحوال الشخصية والزواج المدنييْن؛ ثم، قيام بونابرت عام 1802  بإلغاء اعتبار الدين الكاثوليكي دين الدولة  ــ وإن كان دين أكثرية الفرنسيين ــ وجعله كسائر الأديان معترفاً به وخاضعاً لرقابة الدولة.
كانت تلك، كما يقول المؤرخ والاجتماعي الفرنسي جان بوبيرو، أول عتبة في تطور علمنة الدولة الفرنسية. وستليها عتبة ثانية استمرت خلال القرن التاسع عشر حوالي خمسين عاماً وانحصرت في فضاء التعليم والمدرسة، وانطوت على صراع بين رقابة الدولة أو حياديتها، ثم انتهت بقانون 1882 الذي جعل من التعليم إجباريًا وعلمانيًا، ثم قانون 1886 الذي علمن جهاز موظفي التعليم أو المعلمين أنفسهم. ثمَّ كانت العتبة الثالثة والأخيرة التي كرسها بعد فترة الاحتلال الألماني لفرنسا وحكومة فيشي التي ألغت مبدأ العلمانية خلال فترة حكمها، دستورُ 1946 في مادته الأولى: "فرنسا جمهورية لا تتجزأ، علمانية، وديمقراطية، واجتماعية"؛ وهي المادة نفسها التي استعيدت بحذافيرها في دستور الجمهورية الخامسة عام 1958 وأضيف إليها مباشرة: "وهي تضمن المساواة أمام القانون لكل المواطنين من دون تمييز في الأصل، أو العرق، أو الدين. وتحترم كل المعتقدات".
يمكن على هذا النحو تلخيص العلمانية في ثلاثة مبادئ: حيادية الدولة إزاء الإديان؛ والحرية الدينية؛ والتعددية الدينية. أما قوام تطبيقها فهو نظام مدني شامل، أي أنه لا يقتصر على الفضاء العام بل يمتد إلى الفضاء الخاص، أي الأحوال الشخصية والإرث والزواج، ولا يمكن أن يقوم إلا ضمن نظام سياسي يعتمد الديمقراطية نهجاً ويستند إلى الشعب بوصفه مصدر السلطات.
قي ضوء كل ذلك نرى إلى أي مدى يسم الجهل خطابات الجماعات الإسلامية على اختلافها وبلا استثناء حين تتنطع للحديث عن العلمانية. لكن خطاباتها تصل في موعدها، كي تساير وتلائم ما يبتغيه النظام الأسدي منها، هو الذي يريد أن يجعل من نفسه الخيار الأفضل أو البديل الأوحد عنها بوصفه "علمانياً".
ولكن، في ضوء كل ذلك كله أيضًا، وبإيجاز شديد، ألن يشبه البحث عن "علمانية" النظام الأسدي كالبحث الذي يقوم به رجل أعمى في غرفة مظلمة عن قطة سوداء لا وجود لها؟

** نشر على موقع جيرون، الخميس 17  آب/أغسطس 2017.


jeudi 10 août 2017


الضمير الرقيب
بدرالدين عرودكي
"لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير".
كانت هذه الجملة، منقولة عن قائد الحركة الانقلابية عام 1970 وهو يضع نظراً وفعلاً أسس "العهد" الأسدي في سورية، تعلن عن برنامج جديد يحدد طبيعة علاقة المثقف بالسلطة في سورية للسنوات التالية. لكنه برنامج لن يُكتشفَ إلا تباعاً، ومع مرور الأشهر ثم السنوات، كي يترسخ شيئاً فشيئاً سياسة ثقافية لا تختلف في  عناصرها الأساس عن السياسة العامة التي أرساها هذا "العهد" على مختلف الصعد الاجتماعية في الداخل السوري. أما العنصر الهام في هذه الجملة/البرنامج التي كان المواطن السوري في بداية سبعينيات القرن الماضي قد بدأ قراءتها مخطوطة على لوحات من القماش معلقة في كل زاوية من شوارع العاصمة ــ على الأقل ــ مثلما كان يلتقي ــ كذلك ــ صور الرئيس "القائد" و"المفدى" في مختلف المناسبات، فوتوغرافية أو تشكيلية، هو هذه الكلمة السحرية: "الضمير". من الواضح أن اختيارها لم يكن ارتجالًا ولم يأت عفو الخاطر، بل يكاد يكون في آن واحد شديد الخبث في مرماه وفي الاستخفاف بعقول من يرمي إلى شراء قناعاتهم من السوريين عمومًا و العاملين منهم في حقول الثقافة  خصوصًا. فهي من أشد كلمات اللغة العربية غموضًا لافتقارها، لغة، إلى تحديد صريح ومباشر. فالضمير هو "العنب الذابل"، أو "السرُّ وداخل الخاطر" أو "ما تضمره في قلبك"، أو ما يعني في قواعد النحو العربي، متصلًا أو منفصلًا، الأسماء أو الأشياء غير الظاهرة لأنها مضمرة، كما يقول "لسان العرب" وسواه من بعده من المعاجم الكلاسيكية العربية.  أما في الاستعمالات المعاصرة التي عرضتها المعاجم الحديثة، فهو "ما يضمره الإنسان في نفسه ويخفيه"، وهو كذلك "الاستعداد النفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار".
سيكون السؤال الملحّ، مع هذه الشروح والتعريفات التي تزيد كلمة "الضمير" غموضًا على غموض: ما الذي كان يعنيه مؤسس "العهد الأسدي" بالضمير قولًا، وكيف سيتجسَّد أو، بالأحرى، سيُجّسِّدَه فعلًا؟
لاشك في أن المقصود قولًا هو المعنى الحديث الجاري، أي مَلَكَةُ "إدراك الخبيث والطيب" العفوية لدى الناس، ومن ثم فهو ينطوي على معنى حرية مفترضة، لكنه لا يخلو في الوقت نفسه من تهديد مبطن إذا ما نزَعَ الضمير، الفردي بالضرورة، وهو يميز الخبيث من الطيب، إلى تفضيل الأول منهما! ذلك أن عمومية الكلمة في الجملة/البرنامج تبقى خافية على العين إن قرأت، أو على الأذن إن سمعت، لاسيما وأن كلًا منهما ــ في الحالتين ــ ستستحوذان عليها وكأنها لا تعني إلا من تُوجَّه له.
لن ينتبه آنئذ أحدٌ إذن، وكما اتضح، إلى هذه المعاني الخفية. إذ بدت الجملة/البرنامج، بل وأريد لها أن تُفهَمَ، وكأنها تقرير لحرية فكر يقرر مداها الوازع الفردي الداخلي، ولا يفرض طبيعتها أو حدودها قانون أو قرار خارجي. ومن ثم، فلابد والحالة هذه من الاهتمام بتربية هذا "الوازع الداخلي"، أو هذا "الضمير" ، وهي مهمة لن تختص بها وزارة محددة كوزارة الثقافة مثلاً، ولا وزارة الإعلام المناط بها معظم أمور الرقابة على المطبوعات الداخلية والخارجية، بل ستناط تدريجياً ــ ومن وراء حجاب ــ بمجموع الوزارات ذات العلاقة، وبالهيئات ذات الصفة "النقابية" على اختلافها، تتقاسم عناصرها أو تتشارك جميعًا في تنفيذها تحت إشراف مجموع الأقسام الأمنية، في العاصمة وفي فروعها بالمحافظات.
بدأت ملامح هذا التنسيق في منتصف ستينيات القرن الماضي، وأخذت في الارتسام التدريجي طوال السبعينيات كي تستقر فعلًا في نهايتها سياسة عامة. هكذا تجسّدت "إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة السياسية" خلال السنوات الأولى من الانقلاب الأسدي احتواءً كاملًا لكل ما يتعلق بالثقافة والعاملين في حقولها المختلفة.
لقد اتخذ مفهوم "الاحتواء" في سورية طابعًا أقرب إلى مفهوم نظم الدول الشمولية في هذا المجال منه إلى المفهوم الذي تبناه عدد من النظم الجمهورية العربية الأخرى. فهو مفهوم تم تحديد عناصره ومساراته وطرق تنفيذه بمعزل عن العاملين في حقول الثقافة على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية، وعلى أيدي سلطة مركزية لا يعلن ممثلوها الحقيقيين عن أنفسهم. أما من أنيط بهم تنفيذها فكانت سلطة كلٍّ منهم تقتصر على تنفيذ هذا المفهوم ضمن نطاق الدائرة المرسومة له. ومن هنا، لم يكن ثمة من يستطيع تجاوز هذا النطاق، وزيرًا أو رئيس اتحاد كتاب أو نقابة. كما أن اختيار أي من الذين عهد إليهم بالإشراف على المؤسسات الثقافية العامة، من الوزارة إلى سواها من الهيئات ذات الطابع "النقابي"، كان قائماً لا على معايير ثقافية ، بل  على معايير وحسابات أخرى ذات طبيعة تكتيكية أو شخصية. وهو ما يمكن أن يفسر في حقيقة الأمر هذه الفروق العميقة التي نراها، على صعيد "الإنجاز الثقافي" منذ إنشاء وزارة الثقافة في سورية وما تبعها من بعدُ من مؤسسات، (بما في ذلك إنشاء منصب نائب رئيس الجمهورية لشؤون الثقافة)، بين تجارب متوازية في النشأة تاريخيا، وسبقت الإشارة إليها في مقال سابق، ونعني بها الإنجازات الثقافية السورية والمصرية والفرنسية.
 الفروق عميقة بين التجارب الثلاث لكن عمقها بين التجربة السورية من جهة والتجربتين المصرية والفرنسية من جهة أخرى يتجاوز كل الحدود. إذ أن بين هاتين الأخيرتين على صعيد الإنجاز أقل بكثير مما بينهما معًا وبين التجربة السورية، إلا في مجال واحد، لا تخفى دلالته، هو الطريقة التي كان ينظر بها رؤساء البلدان الثلاثة، وجميعهم عسكريون، إلى المثقف.
حين قبل ثروت عكاشة بعد نقاش طويل مع عبد الناصر تعيينه وزيرًا للثقافة في تشرين الثاني عام 1958، كان بين من دعاهم للعمل معه إلى جانبه مديرًا للثقافة، الدكتور لويس عوض الذي كان آنئذ يدرس في جامعة دمشق. وقد قبل بعد اعتذاره وتحت إلحاح ثروت عكاشة فحضر إلى القاهرة وتم تعيينه في العاشر من كانون أول 1958. سوى أنه ما لبث أن اعتقل  في 28 آذار/مارس 1959 ، أي بعد أربعة أشهر من ممارسته لوظيفته الجديدة، بتهمة الشيوعية! حاول الوزير ثروت عكاشة، وهو أحد الضباط الأحرار ورفيق عبد الناصر في مسيرته، المستحيل كي يُفرَجَ عن لويس عوض، لكن محاولاته باءت كلها بالفشل. ذلك أن كبار المسؤولين ــ كما كتب ثروت عكاشة ــ "كانوا لا يؤمنون إلا بما يسجله رجال مباحث أمن الدولة عن الأفراد".
وحين اعتقل في سورية، يوم 15 أيار / مايو 2006 ، ميشيل كيلو، وكان صديقاً لنجاح العطار منذ عملهما معًا في وزارة الثقافة  من قبل أن تصير وزيرة للثقافة ثم نائبة رئيس الجمهورية لشؤون الثقافة. لكنها، وقد فوجئت بخبر اعتقاله، حاولت، هي الأخرى، المستحيل من أجل الإفراج عنه، سوى أنها  فشلت، مثلما فشل من قبلها ثروت عكاشة!
أما حين اعتقلت الشرطة الفرنسية في الأول من 26 حزيران/يونيو 1970 جان بول سارتر وهو يبيع صحيفة "قضية الشعب" التي كان مديرها، والتي لم تكن مع ذلك ممنوعة من الصدور، فلم يكن الجنرال ديغول بحاجة إلى أن يطلب إليه وزير الثقافة في حكومته، أندريه مالرو، الإفراج عن سارتر، بل بادر من نفسه وأمر بالإفراج عنه فوراً قائلاً ببساطة: "لا يوضع فولتير في السجن"!
لكن أمثال فولتير في التاريخ العربي القديم والمعاصر، لم يوضعوا في السجون فحسب، بل عذبوا وقتلوا. ومع ذلك، لن يكون بوسع دلالة هذه السطور الأخيرة، على أهميتها المفجعة، أن تضع نقطة النهاية.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 10 آب، أغسطس 2017.



mardi 8 août 2017




في "المسألة الشرقية الجديدة"


بدرالدين عرودكي
مدخل:
يحيل عنوان كتاب جورج قرم الأخير، المسألة الشرقية الجديدة، بصورة عفوية ومباشرة، إلى ما عرف منذ بدايات القرن التاسع عشر بالمسألة الشرقية التي تجلت في حقيقتها من خلال تنافس الدول الأوربية الكبرى آنئذ، بريطانيا وفرنسا وروسيا، على تقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية، أو كما أطلقت عليها روسيا القيصرية آنئذ: رجل أوربا المريض، حين كانت تعيش انحطاطها وعقود سنواتها الأخيرة. ويكاد جورج قرم بفعل اهتماماته التي عبر عنها في مختلف الكتب التي نشرها والتي تناولت مختلف جوانب وعناصر المشكلات التاريخية القائمة بين الدول الغربية والعالم العربي في العصور الحديثة، أن يكون الكاتب والمؤرخ العربي الوحيد الذي يستعيد هذه المسألة في تجلياتها الراهنة والملحّة اليوم. وهو في تطرقه إلى مشكلة قائمة بين العالم العربي والغرب الأوربي والأمريكي الآن، إنما يسير على غرار سابقيه الذين تناولوا المسألة الشرقية ــ القديمة ــ في عصرهم، أي قبل نيف وقرن. فحين أصدر كل من أمين بن إبراهيم شميّل كتابه "الوافي في المسألة الشرقية ومتعلقاتها" في جزءيْن من 584 صفحة في عام 1879من جهة، ومصطفى كامل، كتابه الذي حمل عنوان "المسألة الشرقية" عام 1898، من جهة أخرى، لم تكن المسألة الشرقية آنئذ بمعناها القديم مسألة راهنة فحسب، بل على رأس قائمة المسائل الراهنة خلال القرن التاسع عشر وعشية القرن العشرين. على أن النظرة إليها اعتباراً من جنوب المتوسط كانت، كما يبدو، تختلف عن تلك التي انطلقت من شماله. ذلك أن أمين شميّل يرى أن المسألة الشرقية "ولدت في ولادة رسول العرب وترعرعت وشبّت وتكهلت في عهد خلفائه للآن"[1]، كما رأى أنها "مثل فصول السنة إذا بلغت نهايتها القصوى تجددت فلا يكاد يرى لها آخر"[2]. وقد سار على نهجه مؤرخ مصري معاصر هو محمود ثابت الشاذلي، نشر في عام 1989 كتاباً حمل، هو الآخر، عنوان "المسألة الشرقية"[3] لكنه كرّسه لدراسة الخلافة العثمانية منذ نشوئها عام 1299 وحتى سقوطها عام 1923، حين اعتبر أن بداية المسألة الشرقية تاريخياً هو عام 629، أي العام الذي وقعت فيه معركة مؤتة (وكان ذلك في عهد الرسول) بين المسلمين والروم. هذا في حين كان مصطفى كامل قد حصرها في كتابه المشار إليه ضمن إطار "مسألة وجود الدولة العلية ــ أي الدولة العثمانية ــ نفسها في أوربا"، رافضًا قول كتّابٍ آخرين بأنها "مسألة النزاع المستمر بين النصرانية والإسلام، أي مسألة حروب صليبية متقطعة بين الدولة القائمة بأمر الإسلام وبين دول المسيحية"[4]. سوى أن مردّ رفضه قصر النزاع بين الطرفين على الدين، على ما فيه من بعض الصحة كما كتب، يعود إلى أنه يرى أن "الدول التي تنازع الدولة العلية وجودها لا تعاديها باسم الدين فقط، بل في الغالب تعاديها طمعًا في نوال شيء من أملاكها"[5]. وهو التعريف الواقعي لمفهوم "المسألة الشرقية" منذ تداوله في الأدبيات السياسية الغربية في القرن التاسع عشر وحتى اليوم.  
ولعل خلو الأدبيات السياسية العربية من التعرض إلى المسألة الشرقية يعود إلى اعتبارها مسألة تاريخية انتهت بانهيار الإمبراطورية العثمانية مع نهايات الحرب العالمية الأولى، وبتمكن الغرب من تقاسم ممتلكات هذه الأخيرة. ومن هنا أهمية كتاب جورج قرم من حيث المبدأ، إذ يرى أنها لا تزال في حقيقة الأمر قائمة وإن في ثياب جديدة. وهو ما دعاه إلى إعادة قراءة مكوناتها في ضوء التطورات التي شهدتها ولا تزال تشهدها المنطقة العربية ومحيطها، ولا سيما في شرق المتوسط، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، محاولاً الإحاطة بها مجدداً بمفردات الاستمرارية والقطيعة مع المسألة الشرقية القديمة. ذلك أن ما نشهده اليوم من ضروب العنف يجد جذوره وامتداداته بلا انقطاع منذ ولادة هذه المسألة، مثلما يجد تجلياته التي بلغت ذراها فيما تعيشه المنطقة العربية شرقي المتوسط وما يجاورها بطبيعة الحال من بلدان تدخل في عداد ما يسمى الشرق الأوسط.
لكن المسألة الشرقية "الجديدة" موضوع الكتاب، هي في حقيقة الأمر "المسألة الغربية" "القديمة" كما رآها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي[6] بحق. كانت كذلك في القرن التاسع عشر ولا تزال، سواء في قطيعتها أو في استمراريتها، حتى اليوم. فالمسألة الشرقية القديمة بدأت مع حملة نابليون إلى مصر عشية بداية القرن التاسع عشر، أما المسألة الشرقية الجديدة فقد بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية. على أن الدافع إلى استعادة هذه المسألة اليوم بمعنييْها، على وجه الدقة، هو ما يراه المؤلف في المشهد العربي الذي يسود خصوصاً منذ نهاية الحرب الباردة بين القوتيْن العظميين على إثر انهيار إحداهما قبل سبعة وعشرين عاماً: "فوضى ذهنية تفسر بصورة واسعة فوضى ضروب من العنف تزداد في إثارتها الاشمئزاز يوماُ بعد يوم، أدى إليها بطلان وقسوة تدخلات القوى الكبرى العسكرية والقوى الإقليمية المخلصة لها"[7]. 
المؤلف:
جورج قرم، مؤلف الكتاب، هو أحد كبار الاقتصاديين العرب ومؤرخيهم. شغل منصب وزير المال في حكومة سليم الحص بين عامي 1998 و 2000، وعمل مستشارًا في كبرى المنشآت والمؤسسات العالمية، وأستاذًا جامعيًا في الجامعات اللبنانية. وهو أيضاً كاتب واسع الثقافة الفكرية والسياسية والتاريخية، كرّسَ العديد من كتبه التي نشرها بالفرنسية لدراسة مشكلات التنمية والعالم العربي، والتي ترجم الكثير منها إلى لغات عدّة منها العربية، نذكر بعض أهمها: تعدد الأديان وأنظمة الحكم (1977)، الاقتصاد العربي أمام التحدي (1977)، التبعية الاقتصادية، مأزق الاستدانة في العالم الثالث في المنظور التاريخي (1980)، التنمية المفقودة، دراسة في الأزمة الحضارية والتنموية العربية (1981)، الفوضى الاقتصادية الدولية الجديدة (1994)، أوربا والشرق، من البلقنة إلى اللبننة، تاريخ حداثة لم تتم (1989)، شرق وغرب، الشرخ الأسطوري (2003)، لبنان المعاصر: تاريخ ومجتمع (2004)، انفجار المشرق العربي (2006)، أوربا وأسطورة الغرب (2009)، حكومة العالم الجديدة (2010)، الفكر والسياسة في العالم العربي (2015).
خطة الكتاب:
يقتضي تناول قضية سياسية ذات بعد تاريخي عميق بطبيعة الحال استعادة جذورها منذ ظهورها قبل قرنين من الزمان، من أجل تمييز العناصر التي باتت في ذمة التاريخ، أو ما يطلق عليه المؤلف القطيعة، من ناحية، وتلك التي لا تزال حية ، أو الاستمرارية، فضلاً عن تلك التي نشأت بفعل عوامل جديدة تمس الفعل والفاعل والأداة.
يعالج المؤلف موضوعه في مدخل وثمانية فصول وخاتمة. يقدم في المدخل مفهوم المسألة الشرقية الجديدة التي يرى أنها، على غرار تسمية أرنولد توينبي لها، هي "المسألة الغربية القديمة" في الحقيقة. ويستعرض فيه دوافع هذه الاستعادة للمسألة الشرقية ومقاربتها في وضعها الراهن. وينتقل في الفصل الأول إلى وضع أسس التحليل التاريخي الضرورية لمقاربته عبر معالجته تطور إطار إدراك وفهم الصراعات في عالمنا اليوم؛ ثم يستعرض في الفصل الثاني عددًا من الثيمات والمسائل الإشكالية في حقيقتها أو التي تبدو بديهية في استخداماتها كنظرية المؤامرة، أو العلاقة بين العنف والدين، أو غموض تعريف الإرهاب، أو الاستخدام الانتهازي للجهاديين من خلال تقسيمهم إلى جذريين ومعتدلين، أو عن الأدوار التي تؤديها العوامل الداخلية والخارجية في مصائب العالم العربي. وفي الفصل الثالث يتناول عدداً من السرديات النمطية العامة كما يراها، من أجل تفنيدها واحدة بعد أخرى كي يباشر في الفصل الرابع القسم الأول من موضوع كتابه: توضيح عناصر المسألة الشرقية القديمة ومراحل العنف التي عرفتها بدءاً بضروب التنافس بين القوى الأوربية منذ حملة بونابرت إلى مصر بين فرنسا وبريطانيا، أو بين الإمبراطوريتين الجرمانية المقدسة والعثمانية، أو بين القوى الأوربية من جهة وروسيا من جهة أخرى، وصولاً إلى سردية رغبة الروس في الوصول إلى المياه الدافئة والتي لا تزال قائمة حتى الآن. وينتقل في الفصل الخامس إلى تحديد معطيات المسألة الشرقية الجديدة والتي أخذت في الظهور مع انتهاء الحرب العالمية الثانية: من صراعات التحرر من الاستعمار ورياح الحرب الباردة وانتهاء بغزو العراق والكوارث الناتجة عن الرغبة الأمريكية في العمل على إعادة تشكيل الشرق الأوسط. وفي الفصل السادس يتناول قرم مصير المسيحيين في المشرق العربي الذي يرى عبره وعبر مصير فلسطين  الرهان المركزي من أجل المحافظة على التعددية  الدينية التي ميزت هذه المنطقة منذ العصور القديمة. ويستعرض في الفصل السابع المسألة التي تبقى على هامش كل سجال حول الفوضى التي تعم المنطقة العربية عمومًا، وهي الأضرار الاجتماعية الثقافية الناتجة عن هيمنة وتعميم اقتصاد الريع النفطي على كل المجتمعات العربية بما فيها تلك التي لا تملك أية احتياطات نفطية. ومن مجمل المعطيات التاريخية والاجتماعية ــ الاقتصادية التي عرضها المؤلف في فصوله السابقة ينتهي في الفصل الثامن إلى وضع مرتكزات رفض نظرية صراع الحضارات التي تستخدم، بصورة واعية أو غير واعية،  في التحليلات السائدة للإرهاب الموصوف بـ"الإسلامي"، وبصورة أعم لتصاعد ضروب العنف في المنطقة منذ عام 2003، عام الغزو الأمريكي للعراق. وسيعمد المؤلف، الذي انطلق من تشخيص المشهد العربي بوصفه فوضى ذهنية عارمة، إلى اقتراح بعض التأملات بهدف الوصول إلى صحة ذهنية يفتقر إليها العالم العربي أكثر من أي يوم مضى، وما يمكن القيام به من أفعال تستهدف مواجهة المخيالات المجنونة وكبحها.
يطمح هذا الهيكل العام للكتاب إلى متابعة خطة معالجة تقوم على قاعدتين: أولاهما تفنيد تراث كامل من "الحقائق" المزيفة أو الخاطئة المبنية على أسس الصراعات الدينية تارة أو على صراع الإثنيات المتباينة التي بنيت عليها نظرية صراع الحضارات، وثانيتهما تقديم الوقائع التاريخية من خلال تحليل يتجنب المقولات الصيغ الجاهزة التي تسود معظم الكتابات في الغرب وفي المشرق والتي سبق تفنيدها في الفصول التمهيدية. 
نحو مقاربة أدق للمسألة الشرقية الجديدة
كانت أطر إدراك وفهم ضروب الصراع في العلاقات الدولية على الدوام موضوع همٍّ أساس في كل محاولة مقاربة جادة لها. إذ رغم الجهود المبذولة في إعادة النظر في نظريات وأطر كتابة تاريخ الصراعات أو تحليلها في العقود الأخيرة من القرن العشرين، إلا أن مطلع القرن الحادي والعشرين يشهد العودة إلى النظريات القديمة، والتخلي عن أي إعادة نظر في أطر إدراك وفهم وتفسير الصراعات الدولية. ولذلك، وفي غمرة التحليلات، الأكاديمية منها والإعلامية، الصادرة عن أطر عفى عليها الزمن، يبدو طريق كل محاولة اليوم معبداً بالعثرات والكمائن التي لابد من إزالتها قبل مباشرة السير فيه. ذلك، في الواقع، ما حمل جورج قرم على التفصيل في استعراضه أطرَ الإدراك والفهم والتحليل من جهة، والسرديات التي باتت تستخدم كمسلمات مفروغ منها لا على شاشات الفضائيات الغربية والعربية فحسب، بل حتى في بعض الكتابات الأكاديمية. فخلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن الماضي، سادت الأنثروبولوجيا عموماً والدينية منها أو الإثنية/القبلية خصوصاً في تفسير صراع الحضارات واستخدمت مفاهيمها وأطرها في شرعنة الصراع والغزو والاحتلال والاستعمار، بل والقمع، عبر إضفاء خصائص أنثروبولوجية سلبية على شعب ما[8]. وقد شجع على ذلك تراجع الهيمنة الدينية في أوربا وشيوع نظرية داروين في أصل الأنواع، وكذلك نظريات أصول اللغات، مما أدى إلى "الاستعانة بمفهوم العرق والمجموعات اللغوية ، وبالمراتبية المفترضة  للأعراق فيما بينها بدلاً من الدين"[9]. فكان الغلو هو سمة هذا الضرب من التحليل. يذكر ألبيريك كاويه في كتابه "المسألة الشرقية في التاريخ المعاصر" المنشور عام 1905، أن "المستشار النمساوي ميترنيخ (1773 ـ 1859) الذي كان يكره الروس يرى في أوربا ثلاثة أعراق: "تضمُّ أوربا ثلاثة أعراق، العرق الجرماني والعرق اللاتيني والعرق السلافي. فلدى العرق الجرماني تعني كلمة "الشرف" القاهر، ولدى اللاتينيين تعني هذه الكلمة النخوة؛ أما لدى السلافيين فلا وجود للكلمة أصلاً في لغتهم"[10].
على أن أطر التحليل في مجال المسألة الشرقية الجديدة ستتغير اعتباراً من نهاية الحرب العالمية الثانية، وسوف يتم التخلي في دراسة العلاقات الدولية، كما يرى جورج قرم، عن المفاهيم الأنثروبولوجية والإثنية لصالح مدرستيْن متعارضتين: الأولى، مدرسة  الفرنسي ريمون آرون حول إطار إدراكٍ ترتد فيه كل الأحداث إلى صراع مفترض على الصعيد الكوني بين الديمقراطيات الليبرالية والشمولية السوفياتية. والثانية مدرسة الكاتبين الأمريكيين: فرنسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون التي ستسود تحليل الأزمات التي زعزعت الشرق الأوسط بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. رافق هذا الانتقال على صعيد العالم العربي خصوصاً، والعالم الثالث عموماً، تغيّرٌ في المفردات التي كانت طوال مرحلة التحرر من الاستعمار مفردات ذات طبيعة دنيوية خالصة، كما أن خطابات حركة عدم الانحياز، التي تأسست عام 1955، كانت هي الأخرى علمانية كلها؛ لكن هذه وتلك أخذت في التلاشي ثم في الامّحاء كليًا، ولاسيما بعد أن فقدت هذه الأخيرة سبب وجودها على عتبة سنوات التسعينيات. ومن المفارقة أن المؤسسة التي حلت محلها كانت منظمة المؤتمر الإسلامي التي كانت قد تأسست عام 1969 بمبادرة من المملكة السعودية وباكستان، وكلاهما حليفتا الولايات المتحدة الأمريكية. وبذلك ستعود الأطر الإثنية والدينية ومفرداتها عندئذ إلى الواجهة، في كل ما يخص الشرق الأوسط، بوصفها عنصراً تفسيرياً هاما للصراعات. وفي الوقت نفسه كان يتراجع الاعتماد على العوامل الأساس في أي تحليل كالعوامل السكانية والاقتصادية والديموغرافية والاجتماعية والسياسية وطموح القادة والبنى الإمبريالية الجديدة ومختلف ظواهر هيمنة القوى الإقليمية. وكان قيام عدد من الدول في المنطقة على أساس ديني انطلاقاً من وعد بلفور عام 1917 وإنجازه عام 1948 في دولة إسرائيل، وقيام السعودية عام 1932، ثم باكستان عام 1947 وإيران عام 1979، استباقاً لظهور المرجع الديني في العلاقات الدولية.
يبقى أن مقاومة الركون إلى التحليلات المتكررة التي تعتمد صيغاً جاهزة ذات طبيعة أنثروبولوجية في مقاربة مجتمعات الشرق الأوسط ومكوناتها الإثنية أو الدينية، تتطلب تفنيدها واحدة بعد أخرى. وهو ما يحاوله المؤلف، مثل نظرية المؤامرة التي تجد أصولها في تفسير أحداث شديدة التعقيد بإعادتها إلى سبب وحيد، كالثورة الفرنسية عام 1789 التي اعتبرت مؤامرة ماسونية، أو الثورة البولشفية التي نظر إليها بوصفها مؤامرة يهودية ماسونية؛ أو العلاقة بين العنف والدين أو نسيان حقب التحديث الكبرى في المجتمعات الإسلامية. ويشير في معرض حديثه عن غموض تعريف الإرهاب فيقدم تفسيراً للعمليات الإرهابية التي جرت في فرنسا وألمانيا عامي 2015 و2016 ، على سبيل المثال، يؤكد فيه المسؤولية الكاملة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الشرق الأوسط كالباكستان والسعودية أو تركيا وقطر. وكأن نظرية المؤامرة التي فند استخدامها في تفسير ضروب الصراع المختلفة في الشرق الأوسط تتسلل في تفسيره هذا تحت قلمه بالذات. إذ لا يختلف ما يكتبه جورج قرم في هذا المجال وهو ينقد الطرق التي يواجه بها الغرب الإرهاب عما يمكن أن يقوله أي "محلل استراتيجي" من الذين ينقد خطابهم على الشاشات الغربية أو العربية[11]. ومما يثير الغرابة، فضلاً عن ذلك، أنه، على سبيل المثال، وهو الذي سجل مصادرة الثورة الشعبية الإيرانية عام 1979 من قبل المؤسسة الدينية في إيران وتحويلها إلى ثورة دينية، يجد في إيران الدولة التي "تسعى إلى جمع المسلمين  من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية (...) أو من أجل التحذير من التوسع الأمريكي."، أو في معرض حديثه عن الاستخدام الانتهازي للجهاديين من قبل الولايات المتحدة، كيف أنها أرسلت إلى سورية عام 2011 من أجل "زعزعة استقرار النظام السوري وشيطنة رئيس الدولة" عشرات الآلاف من الإسلاميين بهدف إسقاط النظام، وأنها حين فشلت في ذلك بدأت الحديث عن جماعات إسلامية معتدلة وأخرى متطرفة. بذلك يمهد على نحو غير مباشر لما سيأتي من حديث عن الثورة السورية عام 2011، وعن الجهد الحربي الإيراني في سورية طوال السنوات الست الماضية مباشرة أو من خلال حزب الله، وكذلك عن الوجود العسكري الروسي الذي جاء دعماً للنظام السوري وللجهد الحربي الإيراني على الأرض، كي يصل إلى نتيجة، أولى وأساس، مفادها أن الحرب في سورية "صارت عام 2017 حرباً بين السنة والشيعة"[12]!
وعلى أن جورج قرم في اعتباره المسألة الشرقية في ثوبها الجديد يرد مصائب العالم العربي إلى تضافر العوامل الخارجية والعوامل الداخلية، إلا أنه يرجح العوامل الخارجية الأكثر تأثيراً والتي تتمثل في سياسة الولايات المتحدة ومعها حلف الأطلسي الهادفة إلى إخضاع المنطقة كلياً لمشيئتها، ومن ثم إعادة تشكيلها مجدداً بما يتلاءم مع سياستها. ويكاد يأخذ على المثقفين العرب انضمامهم ــ تحت تأثير سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، كما يقول، ــ "إلى صفوف المدافعين عن أطروحة الأهمية الأولى للعوامل الداخلية: غياب الديمقراطية، الحريات العامة، وضع المرأة، غياب تجديد الرؤساء..". ذلك أن "كل تحليل لا يأخذ بعين الاعتبار التعقيد الناتج عن التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية يصير ملتزمًا أيديولوجيًا ويُبَسِّط بالتالي ِإلى أقصى حد مشكلات هذه المنطقة من العالم الذي يعيش اليوم شغورًا عنيفا"[13]. ولكن، ألا يصدر الحكم بالأهمية الأولى للعوامل الخارجية عن الكسل الفكري وعن تلافي مواجهة المشكلات البنيوية في أنماط الاجتماع والتفكير والسلوك المعيش  جنباً إلى جنب مع مصادرة السلطة العسكرية القمعية للسياسة ولكل ضرب من ضروب الحريات العامة؟ 
أما السرديات النمطية السائدة في الأدبيات الغربية خصوصًا، فهي، في نظر جورج قرم،  لدى من يحب الإسلام من قبيل اعتبار "الإرهاب الإسلامي نتاج الدكتاتوريات العلمانية التي طبقت سياسات معاكسة لجوهر الإسلام"، أو ــ "بمناسبة الأحداث المأساوية في سورية منذ عام 2011" كما يقول أيضاً، ــ من قبيل اعتبار "الرئيس السوري هو من صنع الدولة الإسلامية المزعومة في المشرق (داعش) للوقوف في وجه ثورة ديمقراطية سلمية ومن أجل بقائه في السلطة رغم كل شيء"، مقولة يعتبرها قرم دفعة واحدة مثيرة للسخرية؛ أو  لدى من يناهض الإسلام من قبيل "استثنائية الإسلام وعدم إمكان الفصل فيه بين الزمني والروحي، أو رفض القول إن الإسلام هو الطريق إلى الديمقراطية.
مكونات المسألة الشرقية القديمة
ارتبطت ولادة المسألة الشرقية، مفهومًا ومشكلة، مع حملة نابليون بونابرت عام 1798 في مصر التي حملت الأسطول البريطاني كقوة أطلسية على التواجد فى البحر المتوسط، وأدى التنافس الفرنسي البريطاني في شرق المتوسط إلى استثارة  رغبة التوسع لدى الروس نحو البحر الأسود والبحر المتوسط. سوف تصِف روسيا الإمبراطورية العثمانية بالرجل المريض. ولسوف تكون الأقليات في الولايات العثمانية/العربية حجة لتدخل القوى الثلاث، في إطار محاولاتها تثبيت حصصها في اقتسام تركة الرجل المريض، سواء في دول البلقان أو في المشرق العربي. وعلى امتداد القرن التاسع عشر، سيطبع تاريخَ المتوسط السباقُ والتنافس بين القوى الأوربية الكبرى من أجل زيادة نفوذها في البلقان وفي قلب الإمبراطورية العثمانية وولاياتها العربية. وسوف يطيل ذلك مدة احتضار الإمبراطورية العثمانية. وعلى أن الفرنسيين والإنكليز سيطروا على بلاد البلقان إلا أنهم لم يسرعوا في تقسيمها خوفاً من سيطرة الروس على بقاياها. وسوف تمهد القوى الأوربية لمطامعها في تركة الرجل المريض بدءاً بكبحها الطموح المصري، حين قام محمد علي عام 1832 بإرسال جيشه تحت إمرة ابنه إبراهيم باشا الذي سرعان ما سيطر على فلسطين وسورية ولبنان بل وعلى جزءٍ من الأناضول. وحين انتصر على جيش السلطان عام 1839، وحاول التقدم إلى استنبول لإسقاط السلطان، ضغطت عليه القوى الأوربية وأرغمته على التخلي عن مكتسباته الجديدة والتراجع إلى مصر عام 1840. على أن الصراع الفرنسي البريطاني في الولايات العثمانية شرق المتوسط سوف يستمر. فبعد كبح محاولة التوسع المصري، تم أيضاً تحطيم أول عملية تحديث وتصنيع قام بهام محمد علي وسبقت بنصف قرن العملية المماثلة في اليابان وبروسيا، وذلك من خلال إغراق مصر بالديون على أيدي خلفاء محمد علي، وصولاً إلى احتلالها. على أن الصراع البريطاني الفرنسي سينتقل إلى جبل  لبنان، حيث حاولت القوتان إنشاء كيانيْن منفصلين، أحدهما للموارنة والآخر للدروز، بين عامي 1842 و 1860. لكن وجود قرى مختلطة في كلٍّ من الكيانين، أفشل التجربة وعادت الاضطرابات تعمُّ جبل لبنان من جديد إلى أن تم، بضغط من القوى الأوربية، الوصول إلى حلٍّ يقوم على تعيين حاكم عثماني شريطة أن يكون من إحدى الطوائف المسيحية غير اللبنانية في الإمبراطورية، وعلى مجلس يمثل الطوائف اللبنانية، مسيحيين ودروز ومسلمين، يمارس صلاحياته إلى جانب الحاكم العثماني، لكنه تابع للقنصليات الأوربية، وهو ما عرف بنظام المتصرفية الذي ضَمِنَ السلام في لبنان بين عامي 1860 و1914.
يشير المؤلف إلى أن فكرة نقل اليهود الأوربيين إلى فلسطين تعود إلى ما قبل ولادة الحركة الصهيونية عام 1897 بعقود. فقد كان نابليون أول من قال بها، ثم تبنتها الدبلوماسية البريطانية التي انتهت إلى إعلان وعد بلفور عام 1916، والذي سيؤدي مباشرة وبعد نيف وثلاثة عقود إلى قيام دولة إسرائيل. خلال ذلك، لم يكف الصراع بين مختلف الطوائف المسيحية في القدس ومن يحمي كلًا منها من القوى الأوربية، حتى صدور فرمان السلطان العثماني عام 1852، الذي نص على إدارة مختلف الأماكن المقدسة بصورة مشتركة من قبل الطوائف كافة.
هذا الإعداد الحثيث من القوتيْن الأوربيتيْن الأساس، بريطانيا وفرنسا، على تنافسهما، لتقاسم تركة الرجل المريض هو ما أدى إلى ما يمكن أن يُطلق عليه بلقنة المشرق العربي وذلك من خلال اتفاقية سايكس بيكو التي خرقت الوعد الآخر الذي قطعته بريطانيا للشريف حسين وأدت إلى تقاسمها مع  فرنسا الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية.  
يسجل المؤلف في عرضه التاريخي للمسألة الشرقية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين هذا التشابه في أحداث يفصل بينها قرن من الزمن جرت على قوس جغرافي يمتد من البلقان إلى تركيا وشرق العالم العربي: بين القلقلة والعنف اللذين سادا الولايات البلقانية في الإمبراطورية العثمانية والولايات الأخرى في الإمبراطورية الجرمانية المقدسة من جهة والولايات العربية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى، ثم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، القلقلة والعنف اللذان سادا بلاد البلقان بين عامي 1991 و1999، والعالم العربي، وأخيرا، الأزمة الأوكرانية عام 2014.
معطيات المسألة الشرقية الجديدة
لقد تمثل الانتقال من المسألة الشرقية القديمة إلى الجديدة بين الحربين في بلقنة العالم العربي التي أدت بطبيعة الحال إلى تكون شعور قومي يستهدف الوحدة. فهل كانت هذه البلقنة سبباً في ما عاناه و لا يزال يعانيه العالم العربي من مشكلات؟ هناك من يرى أن هذه البلقنة لا تنطوي على المساوئ وحدها،.إلا أنه لا يمكن إنكار أن هذه البلقنة وقد أضيف إليها إنشاء دولة إسرائيل هما في أساس المشكلات المدمرة التي استنفدت ولا تزال تستنفد قوى العالم العربي وحيويته. هنا يتجلى تأثير العوامل الخارجية بأوضح صوره. فقد استطاعت الديمقراطيات الغربية، على سبيل المثال، عن طريق العقوبات التي فرضتها على النظام العنصري في جنوب أفريقيا، أن تحمل هذا الأخير على التفاوض مع مانديللا وحزبه، وأن تسهم في ولادة دولة جديدة على أنقاض الدولة العنصرية. ذلك، كما يسجل جورج قرم بحق، ما لم تفعله أو تسعى إليه هذه الديمقراطيات نفسها مع إسرائيل.
تلك كانت بعض مكونات المسألة الشرقية القديمة التي لا تزال مستمرة في نسختها الجديدة. سوى أن نهاية الحرب العالمية الثانية ستسجل تغيرات جذرية في المسألة الشرقية تجلت في ما تمخض عن هذه الحرب الأخيرة على صعيد إعادة تشكيل القوى الدولية والإقليمية، ولا سيما حركة التحرر من الاستعمار وتأثيرها على صعيد العلاقات الدولية من جهة، وعلاقات الشمال المُستعمِر بالجنوب المُسْتعْمَر. لم تعد تركة الإمبراطورية العثمانية وولاياتها الأوربية والعربية موضع النزاع بين أوربا وروسيا، بل حلت محلها الولايات نفسها وقد تبلقنت. أما روسيا القيصرية فقد حل محلها الاتحاد السوفياتي ثم روسيا الاتحادية، في حين ازدادت القوى الغربية قوة وعنفًا بوجود الولايات المتحدة الأمريكية.
لسوف يؤدي تحرر البلدان العربية من الاستعمار إلى ضروب مختلفة من الصراع أحد طرفيها الأساس هي القوى الاستعمارية الغربية. كان أول مظاهرها انقسام الدول العربية في منتصف خمسينيات القرن الماضي إلى محورين: دول حليفة للولايات المتحدة الأمريكية من جهة ودول عدم الانحياز الذي كان يقربها من الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، ثم كان هناك العدوان الثلاثي على مصر إثر تأميم قناة السويس، وحرب التحرير الجزائرية، وحرب حزيران/يونيو 1967، وإنشاء جبهة الصمود والتصدي على إثرها، ثم تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي  عام 1969، ثم حرب الخليج الأولى والثانية، والضغوط على سورية من أجل فكها عن إيران، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.   
على هذا النحو، يستعرض المؤلف معطيات المسألة الشرقية الجديدة بتفصيل يتداخل فيه التحليل التاريخي الصارم المُتّبَع في الفصول الخاصة بتاريخ المسألة الشرقية القديمة، مع قدر وافر لا يمكن إنكاره من التحليل الأيديولوجي، بدت مقدماته ــ كما سبقت الإشارة ــ واضحة في الفصلين اللذين خصصهما لما يمكن تسميته، بحق، السرديات النمطية أو الصيغ الجاهزة المكررة. لكن آثارها الأيديولوجية تجلت على نحو واضح في تحليله للمعطيات المشار إليها. ومن الممكن ضرب أمثلة عديدة على ذلك. منها الربط بين واقعتيْن منفصلتين كما لو كانت إحداهما تبرر الأخرى: فعلى إثر إعدام مواطن سعودي الجنسية، الشيخ نمر باقر النمر، "هاجم متظاهرون السفارة السعودية بطهران، وأضرموا النار في جزء من المبنى دون أن يكون هذا الأخير محميًا من قوات الأمن. ولكن لنذكر هنا، أنه في أيلول 2015 وبمناسبة الاحتفال بعيد الأضحى حيث يجتمع في مكة ملايين المسلمين القادمين لأداء الحج من العالم أجمع، استثار تدافع هائل موت العديد من الحجاج، منهم العديد من الإيرانيين، وبينهم سفير إيران السابق بلبنان"[14]. وحين يضطر المؤلف إلى سرد واقعة تناقض كل طروحاته المتعلقة بالمملكة العربية السعودية ونصرتها لحركات الإسلام السياسي ومنها حركة الإخوان المسلمين، والخاصة بدعم المملكة ومعها الإمارات العربية المتحدة والكويت ماليًا وبكثافة الحكومة المؤقتة التي سمتها السلطة العسكرية المصرية إثر إسقاط الرئيس محمد مرسي، يقوم بتقديم تفسير يحاول به تغطية هذا التناقض، حين يرى الدافع إلى هذا الدعم خشية السعودية من تراجع تأثيرها إذا ما استقر حكم الإخوان المسلمين في أكبر بلد عربي[15]!  هذا دون الحديث عن سرده وقائع تاريخية بلا أي توثيق أو إسناد، كقوله إنه بعد تسمية أمين عام حزب النهضة بتونس، حمادي جبالي، رئيسًا للحكومة، قامت "الحكومة بل وكذلك الرئيس مرزوقي بتسهيل رحيل العديد من التونسيين الإسلامويين للقتال في سورية" مضيفًا مباشرة في إيحاء لا يخفى على القارئ: "ثم إنه في تونس إنما انعقد أول اجتماع لبلدان "أصدقاء سورية"، يوم 24 شباط 2012"[16].   
فهل كان تباعد أحداث المسألة الشرقية القديمة وراهنية المسألة الشرقية الجديدة هو ما حمل المؤلف على المغامرة في الاستسلام إلى أدلجة تذهل أيَّ قارئ ينتظر من المؤلف مستوى من التحليل لا تعتوره الأهواء ولا الأحكام المتسرعة التي تنتهي إلى الإساءة لمجمل الكتاب والتي لم يكن يجد مثيلها في كتبه السابقة؟ وإلا، كيف يمكن قراءة تفسيره لمجريات ما يسميه "المأساة السورية" بادئًا بفصل الثورة السورية عن ثورات المجتمعات العربية الأخرى في بداية عام 2011 ، ومعتبرًا أن زعزعة أمن واستقرار سورية قد بدأت حينئذ[17]؟ وهل يمكن أن يُقبلَ، سندًا لذلك، ما قاله رولان دوما، وزير الخارجية الفرنسي السابق، خلال برنامج سجال نظمته قناة التلفزيون البرلمانية الفرنسية، من أن "إنكلترا كانت قبل سنتين من بدء الأحداث في سورية تعدُّ غزوَ المتمردين في سورية "، متجاهلًا مدى ما يمكن أن يشوب رأيه من خلل بفعل طبيعة العلاقات الشخصية والحميمة التي تربط الوزير ببعض شخصيات النظام الأسدي؟ وكيف يمكن تفسير هذا النص الذي يصف به انطلاق الثورة السورية في ربيع 2011: "فالمظاهرات السلمية التي انطلقت إثر حوادث القمع الدرامية التي قام بها النظام  والتي جرت في مدينة درعا القريبة من الحدود مع الأردن، ثم امتدت إلى مدن أخرى ريفية ثانوية قريبة عمومًا من لبنان والأردن وتركيا، سرعان ما تجاوزها وصول مقاتلين إسلاميين من خارج البلاد بكامل أسلحتهم وتجهيزاتهم"[18]؟ لاشك أن جورج قرم لم يشهد متظاهرين احتلوا الساحات الكبرى بدمشق، كما احتل متظاهرو مصر ميدان التحرير، ومتظاهرو تونس شارع الحبيب بورقيبة، دون أن يذكر سبب ذلك، لكنه لم يشهد كما يبدو أيضاً المتظاهرين بمئات الآلاف الذين احتلوا شوارع وساحات حمص وحماه ودير الزور (وهي ليست مدنًا حدودية كتلك التي يشير المؤلف إليها دون أن يسميها)، كما لم يصل إليه كما هو واضح الطريقة التي واجه بها النظام الأسدي المتظاهرين الذين يصفهم هو نفسه بالسلميين. ولقد وجد من ينبهه إلى ذلك في شخص دني سيفير (Denis Sieffert)، محرر مجلة مجلة بوليتيس (Politis) الفرنسية، الذي سبق له أن كتب أكثر من مرة مراجعات لعدد من كتبه كان يثني فيها عليها، والذي طرح عليه فيها عددًا من الأسئلة حول المسألة السورية. ولعل طبيعة إجاباته على هذه الأسئلة حول المسألة السورية التي نشرت عام 2013، هو ما جعل محرر المجلة يضعها تحت عنوان "تحليل ملائم للنظام السوري" مما حمل جورج قرم على الاحتجاج بشدة ضد هذا العنوان، معتمدًا على "قربه من الحدث ومعرفته المباشرة بالواقع السوري". وكان الاحتجاج على هذا العنوان دافعًا لمحرر المجلة كي يدين بشدة مضمون إجاباته نفسها في العدد التالي من المجلة[19]
والحقيقة، أن أية مقارنة بين رؤية جورج قرم للحدث السوري ورؤية النظام الأسدي وأنصاره له، ولا سيما كما يعبر عنها "المحللون الاستراتيجيون" في لبنان خصوصًا، لا يمكن لها إلا أن تبين، لا التماثل، بل التطابق بينهما، وفي كل عنصر من عناصرهما. وهذا ما يجعل القارئ يدرك لماذا يرى جورج قرم أن "من الصعوبة إمكان إدراج الأحداث في سورية في عداد الثورتين الكبيرتين، المصرية والتونسية في كانون الثاني 2011". وهذا أيضًا ما يجعل الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب التي حملت عناوين: "هل مسيحية الأصول في طريقها إلى الاختفاء؟" و"اقتصاد الريع في أساس مشكلات العالم العربي" و"سيناريو الإخراج الذاتي لـ"صراع الحضارات" والتي تلي تفاصيل معطيات المسألة الشرقية الجديدة، تبدو، في الكتاب لا في ذاتها، وكأنها لا من لزوم ما لا يلزم، بل مما لا لزوم له أصًلا في بنيان الكتاب!.
كما لو أن هذا الأخير كتب أساسًا من أجل الصفحات الأخيرة من الفصل الخامس حول معطيات المسألة الشرقية الجديدة. فقد اعتمد، بوصفه يستهدف القارئ الغربي بالدرجة الأولى، منهجاً في التحليل يسمح في حقيقة الأمر بمواجهة كل أنماط السرديات الأنثروبولوجية والنمطية التي تعتمدها التحليلات الصحفية أو الأكاديمية في تفسير الصراعات التي تمس المنطقة العربية خصوصاً، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً. ولقد حالف التوفيقُ المؤلفَ في تحليلاته التي تناولت مكونات المسألة الشرقية القديمة بمنهجية صارمة، لكنه هجره كليًا حين باشر تحليله وتفسيره لكل ما مسَّ ويمسُّ الأوضاع الراهنة في سورية ولبنان والقوى الفاعلة في كليهما.



[1]  أمين بن إبراهيم شميّل، الوافي في المسألة الشرقية ومتعلقاتها وتاريخ الحرب الأخيرة بين الروس والعثمانيين سنة 1877، راجعه سليم بن خليل تقلا صاحب جريدة الأهرام، مطبعة الأهرام، القاهرة، 1879، الجزء الأول،  ص. 4.
[2]  المرجع السابق، ص. 4.
[3]  محمود ثابت الشاذلي، المسألة الشرقية، دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية (1299م ـ 1923م)، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، القاهرة 1989.
[4]   مصطفى كامل، المسألة الشرقية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة 2014، ص 9. (نشرت الطبعة الأولى بالقاهرة عام 1898)
[5]  المرجع السابق، ص 9.
[6] Toynbee Arnold J., The Western Question in Greece and Turkey. A Study in the Contact of Civilisation, Constable, Lonndres, 1922.
[7]   Georges Corm, La nouvelle question d'Orient, La Découverte, Paris 1917, p. 6.
[8]   جورج قرم، المرجع السابق، ص. 29.
[9]   جورج قرم، المرجع السابق، ص. 30.
[10]   جورج قرم، المرجع السابق، ص. 30. انظرأيضاً:
Albéric Cahuet, La question d’Orient dans l’histoire contemporaine (1821-1905), Dujarric et Cie, Paris, 1905 .
[11]  جورج قرم، المرجع السابق، ص. 75 ـ 76. يسجل المؤلف نقلاً عن ليندا بيلمز Linda Bilmes كلفة الحربين اللتين خاضتهما الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق بين 4000 و 6000 مليار دولار. ويذهب إلى القول إنه "لو خصص جزء صغير من هذا المبلغ (ما يقارب 500 مليار دولار) لخوض حرب أخرى لمحاربة الإرهاب تعتمد طرق عمل الشرطة الكلاسيكية في النضال ضد الإرهاب لأمكن القضاء عليه منذ زمن بعيد". ولاسيما إذا ما صاحب هذا العمل ممارسة الضغوط على السعودية وتركيا وقطر والباكستان لوضع حدٍّ للعديد من المشايخ المتطرفين الذين يدرسون ويبثون عبر الفضائيات الإسلامية..إلخ.
[12]  جورج قرم، المرجع السابق، ص, 81 ــ 86.
[13]  المرجع السابق، ص. 87 ــ 89.
[14]  جورج قرم، المرجع السابق، ص. 176.
[15]  المرجع السابق، ص. 172، هامش 20.
[16]  المرجع السابق، ص.173.
[17]  المرجع السابق، ص. 180.
[18]   المرجع السابق 181 ـ 182.
[19]  Politis, n° 1256 ? 6-12, juin 2013. Politis, n° 1257 .


** نشر في مجلة قلمون، العدد الثاني، آب/أغسطس 2017