مدخل:
يحيل
عنوان كتاب جورج قرم الأخير، المسألة الشرقية الجديدة، بصورة عفوية ومباشرة،
إلى ما عرف منذ بدايات القرن التاسع عشر بالمسألة الشرقية التي تجلت في حقيقتها من
خلال تنافس الدول الأوربية الكبرى آنئذ، بريطانيا وفرنسا وروسيا، على تقاسم تركة الإمبراطورية
العثمانية، أو كما أطلقت عليها روسيا القيصرية آنئذ: رجل أوربا المريض، حين كانت
تعيش انحطاطها وعقود سنواتها الأخيرة. ويكاد جورج قرم بفعل اهتماماته التي عبر
عنها في مختلف الكتب التي نشرها والتي تناولت مختلف جوانب وعناصر المشكلات
التاريخية القائمة بين الدول الغربية والعالم العربي في العصور الحديثة، أن يكون الكاتب
والمؤرخ العربي الوحيد الذي يستعيد هذه المسألة في تجلياتها الراهنة والملحّة اليوم.
وهو في تطرقه إلى مشكلة قائمة بين العالم العربي والغرب الأوربي والأمريكي الآن،
إنما يسير على غرار سابقيه الذين تناولوا المسألة الشرقية ــ القديمة ــ في عصرهم،
أي قبل نيف وقرن. فحين أصدر كل من أمين بن إبراهيم شميّل كتابه "الوافي في
المسألة الشرقية ومتعلقاتها" في جزءيْن من 584 صفحة في عام 1879من جهة،
ومصطفى كامل، كتابه الذي حمل عنوان "المسألة الشرقية" عام 1898، من جهة
أخرى، لم تكن المسألة الشرقية آنئذ بمعناها القديم مسألة راهنة فحسب، بل على رأس
قائمة المسائل الراهنة خلال القرن التاسع عشر وعشية القرن العشرين. على أن النظرة
إليها اعتباراً من جنوب المتوسط كانت، كما يبدو، تختلف عن تلك التي انطلقت من
شماله. ذلك أن أمين شميّل يرى أن المسألة الشرقية "ولدت في ولادة رسول العرب
وترعرعت وشبّت وتكهلت في عهد خلفائه للآن"،
كما رأى أنها "مثل فصول السنة إذا بلغت نهايتها القصوى تجددت فلا يكاد يرى
لها آخر".
وقد سار على نهجه مؤرخ مصري معاصر هو محمود ثابت الشاذلي، نشر في عام 1989 كتاباً
حمل، هو الآخر، عنوان "المسألة الشرقية"
لكنه كرّسه لدراسة الخلافة العثمانية منذ نشوئها عام 1299 وحتى سقوطها عام 1923،
حين اعتبر أن بداية المسألة الشرقية تاريخياً هو عام 629، أي العام الذي وقعت فيه
معركة مؤتة (وكان ذلك في عهد الرسول) بين المسلمين والروم. هذا في حين كان مصطفى
كامل قد حصرها في كتابه المشار إليه ضمن إطار "مسألة وجود الدولة العلية ــ
أي الدولة العثمانية ــ نفسها في أوربا"، رافضًا قول كتّابٍ آخرين بأنها "مسألة
النزاع المستمر بين النصرانية والإسلام، أي مسألة حروب صليبية متقطعة بين الدولة
القائمة بأمر الإسلام وبين دول المسيحية". سوى
أن مردّ رفضه قصر النزاع بين الطرفين على الدين، على ما فيه من بعض الصحة كما كتب،
يعود إلى أنه يرى أن "الدول التي تنازع الدولة العلية وجودها لا تعاديها باسم
الدين فقط، بل في الغالب تعاديها طمعًا في نوال شيء من أملاكها". وهو
التعريف الواقعي لمفهوم "المسألة الشرقية" منذ تداوله في الأدبيات
السياسية الغربية في القرن التاسع عشر وحتى اليوم.
ولعل
خلو الأدبيات السياسية العربية من التعرض إلى المسألة الشرقية يعود إلى اعتبارها
مسألة تاريخية انتهت بانهيار الإمبراطورية العثمانية مع نهايات الحرب العالمية
الأولى، وبتمكن الغرب من تقاسم ممتلكات هذه الأخيرة. ومن هنا أهمية كتاب جورج قرم من
حيث المبدأ، إذ يرى أنها لا تزال في حقيقة الأمر قائمة وإن في ثياب جديدة. وهو ما
دعاه إلى إعادة قراءة مكوناتها في ضوء التطورات التي شهدتها ولا تزال تشهدها المنطقة
العربية ومحيطها، ولا سيما في شرق المتوسط، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، محاولاً
الإحاطة بها مجدداً بمفردات الاستمرارية والقطيعة مع المسألة الشرقية القديمة. ذلك
أن ما نشهده اليوم من ضروب العنف يجد جذوره وامتداداته بلا انقطاع منذ ولادة هذه
المسألة، مثلما يجد تجلياته التي بلغت ذراها فيما تعيشه المنطقة العربية شرقي
المتوسط وما يجاورها بطبيعة الحال من بلدان تدخل في عداد ما يسمى الشرق الأوسط.
لكن
المسألة الشرقية "الجديدة" موضوع الكتاب، هي في حقيقة الأمر "المسألة
الغربية" "القديمة" كما رآها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي بحق.
كانت كذلك في القرن التاسع عشر ولا تزال، سواء في قطيعتها أو في استمراريتها، حتى
اليوم. فالمسألة الشرقية القديمة بدأت مع حملة نابليون إلى مصر عشية بداية القرن
التاسع عشر، أما المسألة الشرقية الجديدة فقد بدأت مع نهاية الحرب العالمية
الثانية. على أن الدافع إلى استعادة هذه المسألة اليوم بمعنييْها، على وجه الدقة،
هو ما يراه المؤلف في المشهد العربي الذي يسود خصوصاً منذ نهاية الحرب الباردة بين
القوتيْن العظميين على إثر انهيار إحداهما قبل سبعة وعشرين عاماً: "فوضى
ذهنية تفسر بصورة واسعة فوضى ضروب من العنف تزداد في إثارتها الاشمئزاز يوماُ بعد
يوم، أدى إليها بطلان وقسوة تدخلات القوى الكبرى العسكرية والقوى الإقليمية
المخلصة لها".
المؤلف:
جورج قرم، مؤلف الكتاب، هو أحد كبار الاقتصاديين
العرب ومؤرخيهم. شغل منصب وزير المال في حكومة سليم الحص بين عامي 1998 و 2000، وعمل
مستشارًا في كبرى المنشآت والمؤسسات العالمية، وأستاذًا جامعيًا في الجامعات
اللبنانية. وهو أيضاً كاتب واسع الثقافة الفكرية والسياسية والتاريخية، كرّسَ
العديد من كتبه التي نشرها بالفرنسية لدراسة مشكلات التنمية والعالم العربي، والتي
ترجم الكثير منها إلى لغات عدّة منها العربية، نذكر بعض أهمها: تعدد الأديان
وأنظمة الحكم (1977)، الاقتصاد العربي أمام التحدي (1977)، التبعية الاقتصادية،
مأزق الاستدانة في العالم الثالث في المنظور التاريخي (1980)، التنمية المفقودة،
دراسة في الأزمة الحضارية والتنموية العربية (1981)، الفوضى الاقتصادية الدولية
الجديدة (1994)، أوربا والشرق، من البلقنة إلى اللبننة، تاريخ حداثة لم تتم
(1989)، شرق وغرب، الشرخ الأسطوري (2003)، لبنان المعاصر: تاريخ ومجتمع (2004)،
انفجار المشرق العربي (2006)، أوربا وأسطورة الغرب (2009)، حكومة العالم الجديدة
(2010)، الفكر والسياسة في العالم العربي (2015).
خطة
الكتاب:
يقتضي
تناول قضية سياسية ذات بعد تاريخي عميق بطبيعة الحال استعادة جذورها منذ ظهورها قبل
قرنين من الزمان، من أجل تمييز العناصر التي باتت في ذمة التاريخ، أو ما يطلق عليه
المؤلف القطيعة، من ناحية، وتلك التي لا تزال حية ، أو الاستمرارية، فضلاً عن تلك
التي نشأت بفعل عوامل جديدة تمس الفعل والفاعل والأداة.
يعالج المؤلف موضوعه في مدخل وثمانية فصول
وخاتمة. يقدم في المدخل مفهوم المسألة الشرقية الجديدة التي يرى أنها، على غرار
تسمية أرنولد توينبي لها، هي "المسألة الغربية القديمة" في الحقيقة. ويستعرض
فيه دوافع هذه الاستعادة للمسألة الشرقية ومقاربتها في وضعها الراهن. وينتقل في
الفصل الأول إلى وضع أسس التحليل التاريخي الضرورية لمقاربته عبر معالجته تطور
إطار إدراك وفهم الصراعات في عالمنا اليوم؛ ثم يستعرض في الفصل الثاني عددًا من
الثيمات والمسائل الإشكالية في حقيقتها أو التي تبدو بديهية في استخداماتها كنظرية
المؤامرة، أو العلاقة بين العنف والدين، أو غموض تعريف الإرهاب، أو الاستخدام
الانتهازي للجهاديين من خلال تقسيمهم إلى جذريين ومعتدلين، أو عن الأدوار التي
تؤديها العوامل الداخلية والخارجية في مصائب العالم العربي. وفي الفصل الثالث
يتناول عدداً من السرديات النمطية العامة كما يراها، من أجل تفنيدها واحدة بعد
أخرى كي يباشر في الفصل الرابع القسم الأول من موضوع كتابه: توضيح عناصر المسألة
الشرقية القديمة ومراحل العنف التي عرفتها بدءاً بضروب التنافس بين القوى الأوربية
منذ حملة بونابرت إلى مصر بين فرنسا وبريطانيا، أو بين الإمبراطوريتين الجرمانية
المقدسة والعثمانية، أو بين القوى الأوربية من جهة وروسيا من جهة أخرى، وصولاً إلى
سردية رغبة الروس في الوصول إلى المياه الدافئة والتي لا تزال قائمة حتى الآن. وينتقل
في الفصل الخامس إلى تحديد معطيات المسألة الشرقية الجديدة والتي أخذت في الظهور
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية: من صراعات التحرر من الاستعمار ورياح الحرب
الباردة وانتهاء بغزو العراق والكوارث الناتجة عن الرغبة الأمريكية في العمل على
إعادة تشكيل الشرق الأوسط. وفي الفصل السادس يتناول قرم مصير المسيحيين في المشرق
العربي الذي يرى عبره وعبر مصير فلسطين
الرهان المركزي من أجل المحافظة على التعددية الدينية التي ميزت هذه المنطقة منذ العصور
القديمة. ويستعرض في الفصل السابع المسألة التي تبقى على هامش كل سجال حول الفوضى
التي تعم المنطقة العربية عمومًا، وهي الأضرار الاجتماعية الثقافية الناتجة عن
هيمنة وتعميم اقتصاد الريع النفطي على كل المجتمعات العربية بما فيها تلك التي لا
تملك أية احتياطات نفطية. ومن مجمل المعطيات التاريخية والاجتماعية ــ الاقتصادية
التي عرضها المؤلف في فصوله السابقة ينتهي في الفصل الثامن إلى وضع مرتكزات رفض
نظرية صراع الحضارات التي تستخدم، بصورة واعية أو غير واعية، في التحليلات السائدة للإرهاب الموصوف
بـ"الإسلامي"، وبصورة أعم لتصاعد ضروب العنف في المنطقة منذ عام 2003،
عام الغزو الأمريكي للعراق. وسيعمد المؤلف، الذي انطلق من تشخيص المشهد العربي
بوصفه فوضى ذهنية عارمة، إلى اقتراح بعض التأملات بهدف الوصول إلى صحة ذهنية يفتقر
إليها العالم العربي أكثر من أي يوم مضى، وما يمكن القيام به من أفعال تستهدف
مواجهة المخيالات المجنونة وكبحها.
يطمح
هذا الهيكل العام للكتاب إلى متابعة خطة معالجة تقوم على قاعدتين: أولاهما تفنيد
تراث كامل من "الحقائق" المزيفة أو الخاطئة المبنية على أسس الصراعات
الدينية تارة أو على صراع الإثنيات المتباينة التي بنيت عليها نظرية صراع
الحضارات، وثانيتهما تقديم الوقائع التاريخية من خلال تحليل يتجنب المقولات الصيغ
الجاهزة التي تسود معظم الكتابات في الغرب وفي المشرق والتي سبق تفنيدها في الفصول
التمهيدية.
نحو
مقاربة أدق للمسألة الشرقية الجديدة
كانت
أطر إدراك وفهم ضروب الصراع في العلاقات الدولية على الدوام موضوع همٍّ أساس في كل
محاولة مقاربة جادة لها. إذ رغم الجهود المبذولة في إعادة النظر في نظريات وأطر
كتابة تاريخ الصراعات أو تحليلها في العقود الأخيرة من القرن العشرين، إلا أن مطلع
القرن الحادي والعشرين يشهد العودة إلى النظريات القديمة، والتخلي عن أي إعادة نظر
في أطر إدراك وفهم وتفسير الصراعات الدولية. ولذلك، وفي غمرة التحليلات،
الأكاديمية منها والإعلامية، الصادرة عن أطر عفى عليها الزمن، يبدو طريق كل محاولة
اليوم معبداً بالعثرات والكمائن التي لابد من إزالتها قبل مباشرة السير فيه. ذلك،
في الواقع، ما حمل جورج قرم على التفصيل في استعراضه أطرَ الإدراك والفهم والتحليل
من جهة، والسرديات التي باتت تستخدم كمسلمات مفروغ منها لا على شاشات الفضائيات
الغربية والعربية فحسب، بل حتى في بعض الكتابات الأكاديمية. فخلال القرن التاسع
عشر والنصف الأول من القرن الماضي، سادت الأنثروبولوجيا عموماً والدينية منها أو
الإثنية/القبلية خصوصاً في تفسير صراع الحضارات واستخدمت مفاهيمها وأطرها في شرعنة
الصراع والغزو والاحتلال والاستعمار، بل والقمع، عبر إضفاء خصائص أنثروبولوجية
سلبية على شعب ما.
وقد شجع على ذلك تراجع الهيمنة الدينية في أوربا وشيوع نظرية داروين في أصل
الأنواع، وكذلك نظريات أصول اللغات، مما أدى إلى "الاستعانة بمفهوم العرق
والمجموعات اللغوية ، وبالمراتبية المفترضة
للأعراق فيما بينها بدلاً من الدين". فكان
الغلو هو سمة هذا الضرب من التحليل. يذكر ألبيريك كاويه في كتابه "المسألة
الشرقية في التاريخ المعاصر" المنشور عام 1905، أن "المستشار
النمساوي ميترنيخ (1773 ـ 1859) الذي كان يكره الروس يرى في أوربا ثلاثة أعراق: "تضمُّ
أوربا ثلاثة أعراق، العرق الجرماني والعرق اللاتيني والعرق السلافي. فلدى العرق
الجرماني تعني كلمة "الشرف" القاهر، ولدى اللاتينيين تعني هذه الكلمة
النخوة؛ أما لدى السلافيين فلا وجود للكلمة أصلاً في لغتهم".
على
أن أطر التحليل في مجال المسألة الشرقية الجديدة ستتغير اعتباراً من نهاية الحرب
العالمية الثانية، وسوف يتم التخلي في دراسة العلاقات الدولية، كما يرى جورج قرم، عن
المفاهيم الأنثروبولوجية والإثنية لصالح مدرستيْن متعارضتين: الأولى، مدرسة الفرنسي ريمون آرون حول إطار إدراكٍ ترتد فيه كل
الأحداث إلى صراع مفترض على الصعيد الكوني بين الديمقراطيات الليبرالية والشمولية
السوفياتية. والثانية مدرسة الكاتبين الأمريكيين: فرنسيس فوكوياما وصموئيل
هنتنغتون التي ستسود تحليل الأزمات التي زعزعت الشرق الأوسط بعد سقوط الاتحاد
السوفياتي. رافق هذا الانتقال على صعيد العالم
العربي خصوصاً، والعالم الثالث عموماً، تغيّرٌ في المفردات التي كانت طوال مرحلة
التحرر من الاستعمار مفردات ذات طبيعة دنيوية خالصة، كما أن خطابات حركة عدم
الانحياز، التي تأسست عام 1955، كانت هي الأخرى علمانية كلها؛ لكن هذه وتلك أخذت
في التلاشي ثم في الامّحاء كليًا، ولاسيما بعد أن فقدت هذه الأخيرة سبب وجودها على
عتبة سنوات التسعينيات. ومن المفارقة أن المؤسسة التي حلت محلها كانت منظمة المؤتمر
الإسلامي التي كانت قد تأسست عام 1969 بمبادرة من المملكة السعودية وباكستان،
وكلاهما حليفتا الولايات المتحدة الأمريكية. وبذلك ستعود الأطر الإثنية والدينية
ومفرداتها عندئذ إلى الواجهة، في كل ما يخص الشرق الأوسط، بوصفها عنصراً تفسيرياً
هاما للصراعات. وفي الوقت نفسه كان يتراجع الاعتماد على العوامل الأساس في أي
تحليل كالعوامل السكانية والاقتصادية والديموغرافية والاجتماعية والسياسية وطموح
القادة والبنى الإمبريالية الجديدة ومختلف ظواهر هيمنة القوى الإقليمية. وكان قيام
عدد من الدول في المنطقة على أساس ديني انطلاقاً من وعد بلفور عام 1917 وإنجازه
عام 1948 في دولة إسرائيل، وقيام السعودية عام 1932، ثم باكستان عام 1947 وإيران
عام 1979، استباقاً لظهور المرجع الديني في العلاقات الدولية.
يبقى
أن مقاومة الركون إلى التحليلات المتكررة التي تعتمد صيغاً جاهزة ذات طبيعة أنثروبولوجية
في مقاربة مجتمعات الشرق الأوسط ومكوناتها الإثنية أو الدينية، تتطلب تفنيدها
واحدة بعد أخرى. وهو ما يحاوله المؤلف، مثل نظرية المؤامرة التي تجد أصولها في
تفسير أحداث شديدة التعقيد بإعادتها إلى سبب وحيد، كالثورة الفرنسية عام 1789 التي
اعتبرت مؤامرة ماسونية، أو الثورة البولشفية التي نظر إليها بوصفها مؤامرة يهودية
ماسونية؛ أو العلاقة بين العنف والدين أو نسيان حقب التحديث الكبرى في المجتمعات
الإسلامية. ويشير في معرض حديثه عن غموض تعريف الإرهاب فيقدم تفسيراً للعمليات
الإرهابية التي جرت في فرنسا وألمانيا عامي 2015 و2016 ، على سبيل المثال، يؤكد فيه
المسؤولية الكاملة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الشرق الأوسط
كالباكستان والسعودية أو تركيا وقطر. وكأن نظرية المؤامرة التي فند استخدامها في
تفسير ضروب الصراع المختلفة في الشرق الأوسط تتسلل في تفسيره هذا تحت قلمه بالذات.
إذ لا يختلف ما يكتبه جورج قرم في هذا المجال وهو ينقد الطرق التي يواجه بها الغرب
الإرهاب عما يمكن أن يقوله أي "محلل استراتيجي" من الذين ينقد خطابهم
على الشاشات الغربية أو العربية. ومما
يثير الغرابة، فضلاً عن ذلك، أنه، على سبيل المثال، وهو الذي سجل مصادرة الثورة
الشعبية الإيرانية عام 1979 من قبل المؤسسة الدينية في إيران وتحويلها إلى ثورة
دينية، يجد في إيران الدولة التي "تسعى إلى جمع المسلمين من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية (...) أو
من أجل التحذير من التوسع الأمريكي."، أو في معرض حديثه عن الاستخدام
الانتهازي للجهاديين من قبل الولايات المتحدة، كيف أنها أرسلت إلى سورية عام 2011
من أجل "زعزعة استقرار النظام السوري وشيطنة رئيس الدولة" عشرات الآلاف
من الإسلاميين بهدف إسقاط النظام، وأنها حين فشلت في ذلك بدأت الحديث عن جماعات
إسلامية معتدلة وأخرى متطرفة. بذلك يمهد على نحو غير مباشر لما سيأتي من حديث عن
الثورة السورية عام 2011، وعن الجهد الحربي الإيراني في سورية طوال السنوات الست
الماضية مباشرة أو من خلال حزب الله، وكذلك عن الوجود العسكري الروسي الذي جاء
دعماً للنظام السوري وللجهد الحربي الإيراني على الأرض، كي يصل إلى نتيجة، أولى
وأساس، مفادها أن الحرب في سورية "صارت عام 2017 حرباً بين السنة والشيعة"!
وعلى
أن جورج قرم في اعتباره المسألة الشرقية في ثوبها الجديد يرد مصائب العالم العربي
إلى تضافر العوامل الخارجية والعوامل الداخلية، إلا أنه يرجح العوامل الخارجية
الأكثر تأثيراً والتي تتمثل في سياسة الولايات المتحدة ومعها حلف الأطلسي الهادفة
إلى إخضاع المنطقة كلياً لمشيئتها، ومن ثم إعادة تشكيلها مجدداً بما يتلاءم مع
سياستها. ويكاد يأخذ على المثقفين العرب انضمامهم ــ تحت تأثير سياسة الولايات
المتحدة الأمريكية، كما يقول، ــ "إلى صفوف المدافعين عن أطروحة الأهمية
الأولى للعوامل الداخلية: غياب الديمقراطية، الحريات العامة، وضع المرأة، غياب
تجديد الرؤساء..". ذلك أن "كل تحليل لا يأخذ بعين الاعتبار التعقيد
الناتج عن التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية يصير ملتزمًا أيديولوجيًا ويُبَسِّط
بالتالي ِإلى أقصى حد مشكلات هذه المنطقة من العالم الذي يعيش اليوم شغورًا
عنيفا".
ولكن، ألا يصدر الحكم بالأهمية الأولى للعوامل الخارجية عن الكسل الفكري وعن تلافي
مواجهة المشكلات البنيوية في أنماط الاجتماع والتفكير والسلوك المعيش جنباً إلى جنب مع مصادرة السلطة العسكرية
القمعية للسياسة ولكل ضرب من ضروب الحريات العامة؟
أما
السرديات النمطية السائدة في الأدبيات الغربية خصوصًا، فهي، في نظر جورج قرم، لدى من يحب الإسلام من قبيل اعتبار
"الإرهاب الإسلامي نتاج الدكتاتوريات العلمانية التي طبقت سياسات معاكسة
لجوهر الإسلام"، أو ــ "بمناسبة الأحداث المأساوية في سورية منذ عام
2011" كما يقول أيضاً، ــ من قبيل اعتبار "الرئيس السوري هو من صنع
الدولة الإسلامية المزعومة في المشرق (داعش) للوقوف في وجه ثورة ديمقراطية سلمية
ومن أجل بقائه في السلطة رغم كل شيء"، مقولة يعتبرها قرم دفعة واحدة مثيرة
للسخرية؛ أو لدى من يناهض الإسلام من قبيل
"استثنائية الإسلام وعدم إمكان الفصل فيه بين الزمني والروحي، أو رفض القول
إن الإسلام هو الطريق إلى الديمقراطية.
مكونات
المسألة الشرقية القديمة
ارتبطت
ولادة المسألة الشرقية، مفهومًا ومشكلة، مع حملة نابليون بونابرت عام 1798 في مصر
التي حملت الأسطول البريطاني كقوة أطلسية على التواجد فى البحر المتوسط، وأدى
التنافس الفرنسي البريطاني في شرق المتوسط إلى استثارة رغبة التوسع لدى الروس نحو البحر الأسود والبحر
المتوسط. سوف تصِف روسيا الإمبراطورية العثمانية بالرجل المريض. ولسوف تكون
الأقليات في الولايات العثمانية/العربية حجة لتدخل القوى الثلاث، في إطار محاولاتها
تثبيت حصصها في اقتسام تركة الرجل المريض، سواء في دول البلقان أو في المشرق
العربي. وعلى امتداد القرن التاسع عشر، سيطبع تاريخَ المتوسط السباقُ والتنافس بين
القوى الأوربية الكبرى من أجل زيادة نفوذها في البلقان وفي قلب الإمبراطورية
العثمانية وولاياتها العربية. وسوف يطيل ذلك مدة احتضار الإمبراطورية العثمانية.
وعلى أن الفرنسيين والإنكليز سيطروا على بلاد البلقان إلا أنهم لم يسرعوا في
تقسيمها خوفاً من سيطرة الروس على بقاياها. وسوف تمهد القوى الأوربية لمطامعها في
تركة الرجل المريض بدءاً بكبحها الطموح المصري، حين قام محمد علي عام 1832 بإرسال
جيشه تحت إمرة ابنه إبراهيم باشا الذي سرعان ما سيطر على فلسطين وسورية ولبنان بل وعلى
جزءٍ من الأناضول. وحين انتصر على جيش السلطان عام 1839، وحاول التقدم إلى استنبول
لإسقاط السلطان، ضغطت عليه القوى الأوربية وأرغمته على التخلي عن مكتسباته الجديدة
والتراجع إلى مصر عام 1840. على أن الصراع الفرنسي البريطاني في الولايات
العثمانية شرق المتوسط سوف يستمر. فبعد كبح محاولة التوسع المصري، تم أيضاً تحطيم
أول عملية تحديث وتصنيع قام بهام محمد علي وسبقت بنصف قرن العملية المماثلة في اليابان
وبروسيا، وذلك من خلال إغراق مصر بالديون على أيدي خلفاء محمد علي، وصولاً إلى
احتلالها. على أن الصراع البريطاني الفرنسي سينتقل إلى جبل لبنان، حيث حاولت القوتان إنشاء كيانيْن
منفصلين، أحدهما للموارنة والآخر للدروز، بين عامي 1842 و 1860. لكن وجود قرى مختلطة
في كلٍّ من الكيانين، أفشل التجربة وعادت الاضطرابات تعمُّ جبل لبنان من جديد إلى
أن تم، بضغط من القوى الأوربية، الوصول إلى حلٍّ يقوم على تعيين حاكم عثماني شريطة
أن يكون من إحدى الطوائف المسيحية غير اللبنانية في الإمبراطورية، وعلى مجلس يمثل
الطوائف اللبنانية، مسيحيين ودروز ومسلمين، يمارس صلاحياته إلى جانب الحاكم
العثماني، لكنه تابع للقنصليات الأوربية، وهو ما عرف بنظام المتصرفية الذي ضَمِنَ
السلام في لبنان بين عامي 1860 و1914.
يشير
المؤلف إلى أن فكرة نقل اليهود الأوربيين إلى فلسطين تعود إلى ما قبل ولادة الحركة
الصهيونية عام 1897 بعقود. فقد كان نابليون أول من قال بها، ثم تبنتها الدبلوماسية
البريطانية التي انتهت إلى إعلان وعد بلفور عام 1916، والذي سيؤدي مباشرة وبعد نيف
وثلاثة عقود إلى قيام دولة إسرائيل. خلال ذلك، لم يكف الصراع بين مختلف الطوائف
المسيحية في القدس ومن يحمي كلًا منها من القوى الأوربية، حتى صدور فرمان السلطان
العثماني عام 1852، الذي نص على إدارة مختلف الأماكن المقدسة بصورة مشتركة من قبل
الطوائف كافة.
هذا
الإعداد الحثيث من القوتيْن الأوربيتيْن الأساس، بريطانيا وفرنسا، على تنافسهما،
لتقاسم تركة الرجل المريض هو ما أدى إلى ما يمكن أن يُطلق عليه بلقنة المشرق
العربي وذلك من خلال اتفاقية سايكس بيكو التي خرقت الوعد الآخر الذي قطعته
بريطانيا للشريف حسين وأدت إلى تقاسمها مع فرنسا الولايات العربية في الإمبراطورية
العثمانية.
يسجل
المؤلف في عرضه التاريخي للمسألة الشرقية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين هذا
التشابه في أحداث يفصل بينها قرن من الزمن جرت على قوس جغرافي يمتد من البلقان إلى
تركيا وشرق العالم العربي: بين القلقلة والعنف اللذين سادا الولايات البلقانية في
الإمبراطورية العثمانية والولايات الأخرى في الإمبراطورية الجرمانية المقدسة من
جهة والولايات العربية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى، ثم، بعد
انهيار الاتحاد السوفياتي، القلقلة والعنف اللذان سادا بلاد البلقان بين عامي 1991
و1999، والعالم العربي، وأخيرا، الأزمة الأوكرانية عام 2014.
معطيات
المسألة الشرقية الجديدة
لقد
تمثل الانتقال من المسألة الشرقية القديمة إلى الجديدة بين الحربين في بلقنة
العالم العربي التي أدت بطبيعة الحال إلى تكون شعور قومي يستهدف الوحدة. فهل كانت
هذه البلقنة سبباً في ما عاناه و لا يزال يعانيه العالم العربي من مشكلات؟ هناك من
يرى أن هذه البلقنة لا تنطوي على المساوئ وحدها،.إلا أنه لا يمكن إنكار أن هذه
البلقنة وقد أضيف إليها إنشاء دولة إسرائيل هما في أساس المشكلات المدمرة التي استنفدت
ولا تزال تستنفد قوى العالم العربي وحيويته. هنا يتجلى تأثير العوامل الخارجية
بأوضح صوره. فقد استطاعت الديمقراطيات الغربية، على سبيل المثال، عن طريق العقوبات
التي فرضتها على النظام العنصري في جنوب أفريقيا، أن تحمل هذا الأخير على التفاوض
مع مانديللا وحزبه، وأن تسهم في ولادة دولة جديدة على أنقاض الدولة العنصرية. ذلك،
كما يسجل جورج قرم بحق، ما لم تفعله أو تسعى إليه هذه الديمقراطيات نفسها مع
إسرائيل.
تلك
كانت بعض مكونات المسألة الشرقية القديمة التي لا تزال مستمرة في نسختها الجديدة.
سوى أن نهاية الحرب العالمية الثانية ستسجل تغيرات جذرية في المسألة الشرقية تجلت
في ما تمخض عن هذه الحرب الأخيرة على صعيد إعادة تشكيل القوى الدولية والإقليمية،
ولا سيما حركة التحرر من الاستعمار وتأثيرها على صعيد العلاقات الدولية من جهة،
وعلاقات الشمال المُستعمِر بالجنوب المُسْتعْمَر. لم تعد تركة الإمبراطورية
العثمانية وولاياتها الأوربية والعربية موضع النزاع بين أوربا وروسيا، بل حلت
محلها الولايات نفسها وقد تبلقنت. أما روسيا القيصرية فقد حل محلها الاتحاد
السوفياتي ثم روسيا الاتحادية، في حين ازدادت القوى الغربية قوة وعنفًا بوجود
الولايات المتحدة الأمريكية.
لسوف
يؤدي تحرر البلدان العربية من الاستعمار إلى ضروب مختلفة من الصراع أحد طرفيها
الأساس هي القوى الاستعمارية الغربية. كان أول مظاهرها انقسام الدول العربية في
منتصف خمسينيات القرن الماضي إلى محورين: دول حليفة للولايات المتحدة الأمريكية من
جهة ودول عدم الانحياز الذي كان يقربها من الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، ثم كان
هناك العدوان الثلاثي على مصر إثر تأميم قناة السويس، وحرب التحرير الجزائرية،
وحرب حزيران/يونيو 1967، وإنشاء جبهة الصمود والتصدي على إثرها، ثم تأسيس منظمة
المؤتمر الإسلامي عام 1969، ثم حرب الخليج
الأولى والثانية، والضغوط على سورية من أجل فكها عن إيران، واستمرار الاحتلال
الإسرائيلي لفلسطين.
على
هذا النحو، يستعرض المؤلف معطيات المسألة الشرقية الجديدة بتفصيل يتداخل فيه
التحليل التاريخي الصارم المُتّبَع في الفصول الخاصة بتاريخ المسألة الشرقية
القديمة، مع قدر وافر لا يمكن إنكاره من التحليل الأيديولوجي، بدت مقدماته ــ كما
سبقت الإشارة ــ واضحة في الفصلين اللذين خصصهما لما يمكن تسميته، بحق، السرديات
النمطية أو الصيغ الجاهزة المكررة. لكن آثارها الأيديولوجية تجلت على نحو واضح في
تحليله للمعطيات المشار إليها. ومن الممكن ضرب أمثلة عديدة على ذلك. منها الربط
بين واقعتيْن منفصلتين كما لو كانت إحداهما تبرر الأخرى: فعلى إثر إعدام مواطن
سعودي الجنسية، الشيخ نمر باقر النمر، "هاجم متظاهرون السفارة السعودية
بطهران، وأضرموا النار في جزء من المبنى دون أن يكون هذا الأخير محميًا من قوات
الأمن. ولكن لنذكر هنا، أنه في أيلول 2015 وبمناسبة الاحتفال بعيد الأضحى حيث
يجتمع في مكة ملايين المسلمين القادمين لأداء الحج من العالم أجمع، استثار تدافع
هائل موت العديد من الحجاج، منهم العديد من الإيرانيين، وبينهم سفير إيران السابق
بلبنان".
وحين يضطر المؤلف إلى سرد واقعة تناقض كل طروحاته المتعلقة بالمملكة العربية
السعودية ونصرتها لحركات الإسلام السياسي ومنها حركة الإخوان المسلمين، والخاصة بدعم
المملكة ومعها الإمارات العربية المتحدة والكويت ماليًا وبكثافة الحكومة المؤقتة
التي سمتها السلطة العسكرية المصرية إثر إسقاط الرئيس محمد مرسي، يقوم بتقديم
تفسير يحاول به تغطية هذا التناقض، حين يرى الدافع إلى هذا الدعم خشية السعودية من
تراجع تأثيرها إذا ما استقر حكم الإخوان المسلمين في أكبر بلد عربي! هذا دون الحديث عن سرده وقائع تاريخية بلا أي
توثيق أو إسناد، كقوله إنه بعد تسمية أمين عام حزب النهضة بتونس، حمادي جبالي،
رئيسًا للحكومة، قامت "الحكومة بل وكذلك الرئيس مرزوقي بتسهيل رحيل العديد من
التونسيين الإسلامويين للقتال في سورية" مضيفًا مباشرة في إيحاء لا يخفى على
القارئ: "ثم إنه في تونس إنما انعقد أول اجتماع لبلدان "أصدقاء
سورية"، يوم 24 شباط 2012".
فهل
كان تباعد أحداث المسألة الشرقية القديمة وراهنية المسألة الشرقية الجديدة هو ما حمل
المؤلف على المغامرة في الاستسلام إلى أدلجة تذهل أيَّ قارئ ينتظر من المؤلف مستوى
من التحليل لا تعتوره الأهواء ولا الأحكام المتسرعة التي تنتهي إلى الإساءة لمجمل
الكتاب والتي لم يكن يجد مثيلها في كتبه السابقة؟ وإلا، كيف يمكن قراءة تفسيره
لمجريات ما يسميه "المأساة السورية" بادئًا بفصل الثورة السورية عن
ثورات المجتمعات العربية الأخرى في بداية عام 2011 ، ومعتبرًا أن زعزعة أمن
واستقرار سورية قد بدأت حينئذ؟ وهل
يمكن أن يُقبلَ، سندًا لذلك، ما قاله رولان دوما، وزير الخارجية الفرنسي السابق،
خلال برنامج سجال نظمته قناة التلفزيون البرلمانية الفرنسية، من أن "إنكلترا
كانت قبل سنتين من بدء الأحداث في سورية تعدُّ غزوَ المتمردين في سورية "،
متجاهلًا مدى ما يمكن أن يشوب رأيه من خلل بفعل طبيعة العلاقات الشخصية والحميمة
التي تربط الوزير ببعض شخصيات النظام الأسدي؟ وكيف يمكن تفسير هذا النص الذي يصف
به انطلاق الثورة السورية في ربيع 2011: "فالمظاهرات السلمية التي انطلقت إثر
حوادث القمع الدرامية التي قام بها النظام والتي جرت في مدينة درعا القريبة من الحدود مع
الأردن، ثم امتدت إلى مدن أخرى ريفية ثانوية قريبة عمومًا من لبنان والأردن
وتركيا، سرعان ما تجاوزها وصول مقاتلين إسلاميين من خارج البلاد بكامل أسلحتهم
وتجهيزاتهم"؟
لاشك أن جورج قرم لم يشهد متظاهرين احتلوا الساحات الكبرى بدمشق، كما احتل متظاهرو
مصر ميدان التحرير، ومتظاهرو تونس شارع الحبيب بورقيبة، دون أن يذكر سبب ذلك، لكنه
لم يشهد كما يبدو أيضاً المتظاهرين بمئات الآلاف الذين احتلوا شوارع وساحات حمص
وحماه ودير الزور (وهي ليست مدنًا حدودية كتلك التي يشير المؤلف إليها دون أن
يسميها)، كما لم يصل إليه كما هو واضح الطريقة التي واجه بها النظام الأسدي
المتظاهرين الذين يصفهم هو نفسه بالسلميين. ولقد وجد من ينبهه إلى ذلك في شخص دني
سيفير (Denis Sieffert)، محرر مجلة مجلة بوليتيس (Politis) الفرنسية، الذي
سبق له أن كتب أكثر من مرة مراجعات لعدد من كتبه كان يثني فيها عليها، والذي طرح
عليه فيها عددًا من الأسئلة حول المسألة السورية. ولعل طبيعة إجاباته على هذه الأسئلة
حول المسألة السورية التي نشرت عام 2013، هو ما جعل محرر المجلة يضعها تحت عنوان
"تحليل ملائم للنظام السوري" مما حمل جورج قرم على الاحتجاج بشدة ضد هذا
العنوان، معتمدًا على "قربه من الحدث ومعرفته المباشرة بالواقع السوري".
وكان الاحتجاج على هذا العنوان دافعًا لمحرر المجلة كي يدين بشدة مضمون إجاباته نفسها
في العدد التالي من المجلة!
والحقيقة،
أن أية مقارنة بين رؤية جورج قرم للحدث السوري ورؤية النظام الأسدي وأنصاره له،
ولا سيما كما يعبر عنها "المحللون الاستراتيجيون" في لبنان خصوصًا، لا
يمكن لها إلا أن تبين، لا التماثل، بل التطابق بينهما، وفي كل عنصر من عناصرهما.
وهذا ما يجعل القارئ يدرك لماذا يرى جورج قرم أن "من الصعوبة إمكان إدراج
الأحداث في سورية في عداد الثورتين الكبيرتين، المصرية والتونسية في كانون الثاني
2011". وهذا أيضًا ما يجعل الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب التي حملت عناوين:
"هل مسيحية الأصول في طريقها إلى الاختفاء؟" و"اقتصاد الريع في أساس
مشكلات العالم العربي" و"سيناريو الإخراج الذاتي لـ"صراع
الحضارات" والتي تلي تفاصيل معطيات المسألة الشرقية الجديدة، تبدو، في الكتاب
لا في ذاتها، وكأنها لا من لزوم ما لا يلزم، بل مما لا لزوم له أصًلا في بنيان
الكتاب!.
كما
لو أن هذا الأخير كتب أساسًا من أجل الصفحات الأخيرة من الفصل الخامس حول معطيات
المسألة الشرقية الجديدة. فقد اعتمد، بوصفه يستهدف القارئ الغربي بالدرجة الأولى،
منهجاً في التحليل يسمح في حقيقة الأمر بمواجهة كل أنماط السرديات الأنثروبولوجية
والنمطية التي تعتمدها التحليلات الصحفية أو الأكاديمية في تفسير الصراعات التي
تمس المنطقة العربية خصوصاً، ومنطقة الشرق الأوسط عموماً. ولقد حالف التوفيقُ المؤلفَ
في تحليلاته التي تناولت مكونات المسألة الشرقية القديمة بمنهجية صارمة، لكنه هجره
كليًا حين باشر تحليله وتفسيره لكل ما مسَّ ويمسُّ الأوضاع الراهنة في سورية ولبنان
والقوى الفاعلة في كليهما.