خالد بيومي
·
كاتب ومترجم وناشط سوريٌّ في المجال الثقافي والفكري
·
كتب الكثير من المقالات والدراسات في مجال النقد الأدبي وسوسيولوجيا
الثقافة كما ترجم الكثير من الكتب في مجال الأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية نشر
عددٌ منها في مصر.
·
يعيش في باريس منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي حيث أتم دراسته
بالحصول على الدكتوراه ثم عمل بين عامي 1983 و2012 في معهد العالم العربي في باريس
وشغل فيه عدة مناصب كان آخرها المدير العام المساعد.
1ـ أنت تقيم
في باريس منذ فترة طويلة ، لكنك لم تزل (العربي المقيم في باريس ) وظلت علاقتك
بعالمك العربي في صلب ترجماتك وكتاباتك .. كيف استطعت المحافظة على خصوصيتك
العربية ضمن بيئة غير عربية خلال كل هذه الفترة الزمنية؟
** كنت في
الثلاثين من العمر حين وصلت باريس. أعني أنني كنت قد تجاوزت مرحلة التكوين الفكري
والنفسي الأساسية التي يعيشها الفرد منذ طفولته وحتى سن رشده. يقال إن هذه المرحلة
لا تكتمل إلا في سن الأربعين! لكن البذور كانت قد مدّت جذورها
في الأعماق ولاسيما في ما يتعلق بالانتماء إلى أرض وثقافة أمّة ذات جذور ضاربة في
أعماق الزمان والتاريخ. ثم إنني حين غادرت دمشق لم يكن يخطر في ذهني على الإطلاق
أمر استمرار إقامتي في فرنسا. بمعنى أن سفري لم يكن رغبة في الهجرة. كنتُ تواقاً
إلى أن أعيش تجربة غربية على صعيد اللغة والثقافة والحياة بينما أتابع دراساتي
العليا لأعود بعد ذلك وفي أسرع وقت ممكن إلى وطني وبيتي: دمشق. ومنذ البداية، كنتُ
عازماً على أن تبقى وسائل التواصل مع الأرض العربية مستمرة وفعالة وفاعلة. سرعان
ما اتفقت آنئذ مع الدكتور سهيل إدريس لأكون مراسلاً لمجلة الآداب في باريس، وسرعان
أيضاً ما شرعت في تعاون فكري على أكثر من صعيد مع الصديق المرحوم أنور عبد الملك
الذي قمت بإعداد وترجمة عدد من دراساته التي حررها بالفرنسية والتي صدرت عام 1974
عن دار الآداب تحت عنوان "الفكر العربي في معركة النهضة".. على أن
الأمور سارت من بعدُ في اتجاهات لم أكن أتوقعها، فرأيتني أصرف النظر عن العودة إلى
دمشق حتى إشعار آخر! لكن الصلات التي بدأتها اعتباراً من باريس استمرت واغتنت من
خلال الفعاليات التي مارستها على كل أكثر من صعيد: الترجمة، والعمل الثقافي العربي في فروعه
المختلفة حتى وصولي إلى معهد العالم العربي في باريس عام 1983، الذي أتاح العمل لي
فيه أن أوسع من تجربتي لتشمل العالم العربي بأكمله. ذلك ما يفسر في ما أرى محافظتي
على خصوصيتي العربية كما تقول. لقد كنت على وعي بذلك منذ وصولي إلى باريس، المدينة
التي استسلمت لسحرها إذ صارت واقعاً بعد أن كانت حلماً، وكنت لهذا أعتبر أن مسألة
اللغة أساس في هذا المجال، ومن ثمَّ فقد وضعت لنفسي حاجزاً عند استخدامي اللغتين:
لا أخلط بينهما، ولا أقحم كما يفعل البعض المفردات الفرنسية في سياق الجُمَل
العربية التي أستخدمها في الحياة اليومية.. أما الأساس الآخر فهو أني أعيش على وقع
عالمي الأصلي، هذا العالم الذي كان شبه منحصر في سورية ثمَّ اتسع ليشمل العالم
العربي بأكمله..
2- ما
مفهومك للترجمة، وحتمية تورط المترجم في ترجماته؟
** الترجمة
من حيث المبدأ هي أن تقول بلغة أخرى ما يقوله النص الذي تترجمه في لغته الأصلية.
ولكن، هل يمكن أن تحقق ذلك فعلاً وأنتَ تعلم مسبقاً أن لكل لغة خصوصيتها سواء في
تكوينها أو في تطورها التاريخي، وأنَّ لكل كلمة، في كل لغة، تاريخها ودلالاتها
الكامنة في تركيبها أو في مواضع وفي طرق استخدامها؟ من الواضح أن الترجمة، بدايةً،
مسألة إشكالية. وهي ورطة كما تقول بكل ما تعنيه الكلمة من معنى! هناك العديد من
وجهات النظر في كيفية حلِّ هذه الإشكالية. أول ما يتبادر إلى ذهننا، في تراثنا
العربي الحديث، مصطفى لطفي المنفلوطي. قال من جاء بعده عن ترجماته التي قام بها إنه
قام بالتعريب، أي بالخروج عن النص كلما اضطره الأمر ليأتي نصه عربيّ البيان
والتبيين! هذا يعني إعادة الكتابة بالعربية ما سبق وأن كتب بالفرنسية أو بأي لغة
أخرى. لا يزال العديد ممن يترجمون اليوم في عالمنا العربي يسيرون على هذا النهج
بهذا القدر أو ذاك، مما دفع أستاذنا الكبير الدكتور بديع الكسم، وكان من كبار
أساتذة الفلسفة في جامعة دمشق، إلى أن يقول يوماً، إنه حين يقوم كتّابنا بالترجمة
يؤلفون، وحين يؤلفون يترجمون! على هذا النحو تمت ترجمة العديد من روائع الأدب
الفرنسي والإنجليزي والروسي والألماني والأمريكي.. قارن، على سبيل المثال نص
الترجمة التي تمت لكتاب "أعمدة الحكمة السبعة"في خمسينيات القرن الماضي مع
النص الأصلي، وستجد العجب العجاب..لكني، من ناحيتي، اخترت لنفسي طريقاً في الترجمة
ومنهجاً وجدت في ما بعد أنه أقرب إلى طريقة ومنهج الروائي ميلان كونديرا. لم يكن
كونديرا مترجماً، لكنه عندما غادر بلده الأصلي، تشيكوسلوفاكيا، عام 1975 إلى
فرنسا، اكتشف بالصدفة ومن خلال أسئلة أحد الصحفيين الفرنسيين حول أسلوبه في
الكتابة الروائية، وجود خلل ما في الترجمة الفرنسية لرواياته. وحين قرأ الترجمة
طلب إلى ناشره وقف بيع رواياته المترجمة وقضى عدداً من السنوات يشرف على إعادة
ترجمة رواياته من جديد إلى اللغات الأربع التي كان يتقنها، ومنها الفرنسية بالطبع.
اكتشف على سبيل المثال أنه لا يجوز التضحية بأسلوب الكاتب من أجل جمال اللغة
المنقول إليها لاسيما وأن الكاتب، في معظم الحالات، ينتهك ما يسمّى "الأسلوب
الجميل" في لغته الأصلية وأن في هذا "الانتهاك" إنما يوجد إبداع
فنه. هنا على المترجم فهم هذا "الانتهاك"، وعليه أن يعيد إنتاجه في
اللغة التي ينقل إليها. لقد تنبهت أيضاً إلى أن من الضروري كذلك أن أتيح لقارئ
الترجمة التي أقوم بها أن يتحسس قدر الإمكان خصوصية اللغة التي أنقل منها بما في
ذلك الصور البلاغية الخاصة بها التي تستخدمها. أريد أن أقول إن النصَّ المترجم يجب
أن يبدو، كما هو في الحقيقة، مترجماً، لا أن يبدو وكأنه كتب باللغة التي نقلَ
إليها. أعرف أن ذلك يكسر القواعد المتبعة والتي يتم تعليمها في المدارس والجامعات،
وأعرف أيضاً أن البعض يمكن أن يصرخ بالويل وبالثبور لجهل قواعد الترجمة ولقواعد
اللغة العربية. ولكن الأمانة في الترجمة (وأعني بها هنا أقل قدر من خيانة النصِّ
الأصلي) تقتضي أن ألتصق بنصّ الكاتب، أي بفكر الكاتب، الذي أقوم بترجمته، لا أن أجعله
يقول شيئاً لم يقله. على أن
الحديث في هذا المجال لا يمكن له أن يستنفذ كل ما يمكن أن يقال ولاسيما بعد خوض
ترجمة أكثر من ثلاثين كتاباً في الأدب أو في العلوم، الإنسانية منها والاجتماعية.
3- ترجمت
كتاب (معك) لسوزان طه حسين .. برأيك ما الذي تبقى من تراث وفكر طه حسين بعد مرور
أربعين عاما على رحيله ؟
** أتيحت لي
الفرصة أكثر من مرة للحديث عن تراث طه حسين بصدد كتاب زوجته الذي ترجمته عام 1974
ونشرته للمرة الأولى في السنة التالية دار المعارف بمصر. كان طه حسين حدثاً في تاريخ الثقافة العربية في النصف الأول من القرن
العشرين على الأصعدة كلها: صعيد حرية التعبير، صعيد النقد العميق للتراث وللتاريخ
وللمناهج التقليدية، صعيد التزام الكاتب بمشكلات مجتمعه، صعيد الرؤية المستقبلية
للثقافة وللتربية في بلده.. والقائمة لا تنتهي. بل من الممكن القول إنه كان
يجسِّدُ المثقف العضوي بالمعنى الذي تحدث عنه غرامشي. لقد تمثل التراث العربي
الكلاسيكي مثلما تمثل التراث الغربي بدءاً بجذوره اليونانية والرومانية، واستطاع
بقدراته الهائلة في التركيب وفي التوليف أن يعيد قراءة التراث العربي قراءة نقدية
واعية وشاملة قلّ من قام بمثلها حتى يومنا هذا..
كان أول من هاجم طه حسين، منذ البداية كما نعلم، أؤلئك الذين يحاولون
حتى اليوم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ولا يزالون يحاربونه حتى وهو في قبره،
شأنه في ذلك شأن الكثرة من كتاب ومفكري مصر التنويريين الكبار.. لكن طه حسين سيعود
لاحتلال الساحة من جديد، وسيظل علماً من أعلام حرية الفكر والاجتهاد واستقلال
الرأي عن كل سلطان، أياً كانت سلطة هذا السلطان..وإني لأعتبر أن شباب مصر الذين
قاموا بثورة 25 يناير هم من حيث لا يدرون أبناء طه حسين بامتياز..
4- ترجمت
أكثر من عمل للكاتب التشيكي ميلان كونديرا .. ما سر ولعك بهذا الكاتب وهل له
تلاميذ في العالم العربي ؟
** ترجمتُ في
الحقيقة كتبه الخاصة التي تضمنت تأملاته في فن الرواية، أعني: فن الرواية؛ الوصايا
المغدورة، الستار. وهي كتب مستقلة، ونشرت على هذا النحو، لكنها
متكاملة. نُشِرت ترجمة الكتاب الأول منها في المغرب أولاً، ثم نُشِرَت الكتب
الثلاثة وفق رغبة كونديرا نفسه في مجلد واحد صدر عن المركز القومي للترجمة
بالقاهرة في عام 2007 . أما ولعي بأعمال
كونديرا فقد بدأ عام 1983 حين قرأت رواية المزحة. ما إن أنهيت قراءتها حتى
ذهبت من فوري إلى مكتبة غاليمار في شارع راسباي بباريس واشتريت رواياته كلها التي نشرت
حتى ذلك التاريخ وقرأتها خلال شهر الإجازة. والحقيقة أن هذه القراءة أتاحت لي أن
أعيد النظر في ما كنت أعتبره مفهوم فن الرواية وأن أعيد قراءة كبار الروائيين
الروس والفرنسيين والإنجليز والأمريكيين من جديد. الحقيقة أنَّ تاريخ
الإنسان/الفرد في المجتمعات يكتبه الروائيون. شريطة ألا نرى في كل كتاب يكتب مؤلفه
أو ناشره تحت العنوان كلمة "رواية" رواية! أما بالنسبة إلى تلاميذ
كونديرا في العالم العربي فمما لاشك فيه أن هناك من يحاول تقليده، أو السير على ما
يظنه طريقته في الكتابة الروائية..لكن ذلك، إن وجد فعلاً، لن يخرج عن إطار التدريب
على الكتابة.
5- ترجمت وأعددتَ
كتاب ( الفكر العربي في مرحلة النهضة ) للدكتور أنور عبد الملك .. وهناك من يرى أن
أنور عبد الملك هو رائد الاستشراق في العالم العربي وليس إدوارد سعيد .. ما رأيك؟
** تريد أن
تقول رائد نقد الاستشراق؟ لقد كتب أنور عبد الملك ونشر دراسته "الاستشراق
في أزمة" عام 1963 في حين كتب إدوار سعيد ونشر كتابه "الاستشراق"
عام 1978، أي بعد خمسة عشر عاماً من دراسة عبد الملك. كلاهما ينتقد الاستشراق، أي
نقد النظرة العلمية الغربية إلى التراث العربي، الذي هو تراثهما معاً. هناك أسبقية
زمنية في تناول هذا الموضوع ومن هذه الزاوية بالذات. ولابدّ من الإشارة إلى أن
إدوار سعيد يصرح بدينه إلى أنور عبد الملك. لقد أثارت دراسة هذا الأخير عند نشرها
عواصف من النقد ومن السجال طال معظم ميادين البحوث الاستشراقية وشارك فيه
المستشرقون في فرنسا خصوصاً وهزّ معظم القناعات الراسخة لدى قطاع عريض من الجمهور
آنئذ. وهو ما يفسر الاستقبال الفاتر الذي حظي به في فرنسا كتاب إدوار سعيد عند
ظهور ترجمته. لا مجال هنا للمقارنة بين الدراستيْن. ولست ممن يميل إلى الحديث
بمفردات المفاضلة بين جهديْن علمييْن حظي كلٌّ منهما بتقدير يليق بالجهد الذي بذل
في تحقيقهما. لكلٍّ من الدراستيْن منطلقاتها وحججها على الرغم من إمكان تشابه
الاثنتيْن في منطلقاتهما، أي بوصفهما نقداً علمياً للاستشراق. أفضل الحديث بالأحرى
عن منهج كلٍّ من الباحثيْن في تناول موضوع الاستشراق، ومنطلقاته الفكرية
والأيديولوجية وانتمائه الأكاديمي عندما
كتب كلٌّ منهما دراسته.. إلخ. ذلك أمر قام به بعض الباحثين ولا سيما توماس بريسون الذي
كتب دراسة تحمل عنوان "النقد العربي للاستشراق في فرنسا وفي الولايات المتحدة"
والتي نشرتها مجلة أنثروبولوجيا المعرفة في عددها الثالث عام 2008.
6- ترجمت
كتابا عن الفرنسية يتناول حياة أم كلثوم .ما الجديد الذي كشفته في هذا الكتاب؟
** كان
الجديد الذ عكسه هذا الكتاب هو الطريقة التي تم بها تقديم أم كلثوم إلى الجمهور
الفرنسي. بالنسبة لمن عرف أم كلثوم في العالم العربي وتابعها منذ نشأتها في بيئة
ريفية فقيرة ثم صيرورتها فنانة ومناضلة، لم يكن في هذا الكتاب جديد. إذ كان موجهاً
للجمهور الفرنسي ونشر خصيصاً لمرافقة المعرض الذي أقمناه في معهد العالم العربي
والذي حمل عنوان: أم كلثوم، الهرم الربع. وقد ترجمته للفرنسية بناء على طلب وزارة
الثقافة في مملكة البحرين حين قررت استقبال المعرض في المنامة وكان لابد من أن
يكون الكتاب المرافق مترجماً إلى اللغة العربية.
7- يلاحظ
انحيازك لترجمة الروايات على حساب الأجناس الادبية الأخرى .. فهل تؤمن بمقولة نحن
في زمن الرواية لجابر عصفور ؟
** ليس هناك
أي انحياز. في مجال الإبداع الأدبي؛ أول عمل ترجمته في حياتي كان قصيدة طويلة
للشاعر الفرنسي رامبو تحمل عنوان "الحدّاد" نشرت عام 1970 في مجلة
"الطليعة" الدمشقية، دعاني على إثر نشرها رئيس تحرير المجلة آنئذ،
المرحوم محي الدين ناصر، للعمل في المجلة كمحرر فني ثم كمحرر فني وأدبيٍّ معاً..
كما أنه سبق لي وأن ترجمت المسرحية والقصة القصيرة والدراسات المختلفة في ميدان
العلوم الإنسانية والاجتماعية. لا يتجاوز عدد الروايات التي ترجمتها أربع روايات،
وإن لم ينشر منها سوى ثلاث. ولا يمكن اعتبار ذلك انحيازاً بالنسبة لعدد الكتب التي
ترجمتها حتى الآن!
8- الملاحظ
ان كل ترجماتك عن الفرنسية ، وهناك من يرى ان الادب الفرنسي تراجع كثيرا على
المستوى العالمي .. ما رأيك ؟
** ترجمت
أيضاً من العربية إلى الفرنسية! أول ما ترجمت على هذا النحو قصائد لشعراء يمنيين
كانت مؤلفة كتاب "كنت طبيبة في اليمن"، كلودي فايان، قد نشرت مختارات من
الشعر اليمني وطلبت إلي المشاركة في ترجمة بعض القصائد..
لا أرى أن الأدب الفرنسي قد تراجع
كثيراً أو قليلاً. لكل عصر أدباؤه. ومن المؤسف أن ما يترجم عن الفرنسية يخضع
لمعايير لا علاقة لها على الإطلاق بالقيمة الأدبية أو بأهمية العمل الأدبي الفنية،
رواية أو مسرحية أو قصيدة شعرية. عدد كبير من كبار الكتاب الفرنسيين المعاصرين لا
يزالون مجهولين من القارئ العربي غير الناطق بالفرنسية. لقد التفت الناشرون العرب
إلى ترجمة الكتب الرائجة ولاسيما منها ما كتبه كتاب عرب بالفرنسية مثل أمين معلوف
والطاهر بن جلون وياسمينة خضرا..
9- الملاحظ اشتغالك
على ثيمة ( الزمان ) في اكثر من عمل .. هل تعني زمنك أم زمن الآخرين ؟
** خلال عام
2008، اقترح عليَّ الصديق الطاهر لبيب، وكان
آنئذ مدير المنظمة العربية للترجمة، أن أقوم بترجمة كتابين يتناولان ثيمة الزمان
هما كتاب الفيلسوف البولوني الذي يعيش في فرنسا كريستوف بوميان "نظام
الزمان" وكتاب المؤرخ فرنسوا هارتوغ "تدابير التاريخانية". وذلك
لأن الفكر العربي المعاصر لم يتناول هذه الثيمة إلا نادراً أو عابراً بخلاف الفكر
العربي الكلاسيكي وخصوصاً، على سبيل المثال لا الحصر، ابن خلدون. وهذا ما دفعني
إلى مغامرة ترجمة هذين الكتابيْن اللذين تطلبا الكثير من الجهد الفكري ولا سيما
على صعيد المصطلحات والمفاهيم التي لم يسبق أن فكرناها باللغة العربية. كما ترى ما
شغلني فهم الزمان، وفهم الزمان يعني بين ما يعني فهم التاريخ أساساً، وما يعنيني بالتأكيد
هو فهم زمني الذي أعيش فيه.. لكن هل يستقيم فهم الزمن الحاضر من دون فهم الماضي؟
10- كيف ترى
الدور الثقافي لمعهد العالم العربي في باريس في عندما لا يأتي الدعم المادي لا من
فرنسا ولا من العالم العربي ؟
** ومن قال
لك إن الدعم المادي لمعهد العالم العربي لا يأتي من فرنسا؟ الحقيقة أن المعهد يشكو
من غياب الدعم المالي الرسمي والمنتظم من العالم العربي الذي يعتبر من خلال الدول
العربية الأعضاء في الجامعة العربية شريكاً مع فرنسا في تأسيس وفي إدارة وفي تسيير
هذا المعهد. فباستثناء دولة الكويت التي تبرعت بأربعة ملايين يورو لدعم مشروعي
إعادة تأهيل متحف المعهد ومكتبته العامة، لم تقدم أي دولة عربية أخرى أي دعم مالي
خلال السنوات العشر الأخيرة. كان يفترض بشريكي المعهد، عند التأسيس،
أي فرنسا
والدول العربية كلها، أن يتقاسما أعباء ميزانية المعهد بالتساوي. إلا أنه أمام
قيام بعض الدول العربية بالوفاء بالتزاماتها المالية بانتظام، وهي أقلية، وإحجام
معظم الدول العربية عن القيام بذلك، اقترحت فرنسا أن تقوم الدول العربية بتسديد ما
عليها من التزامات متراكمة لتوضع في صندوق خاص، كالوقف، للاستفادة من ثمرات المبلغ
المجموع في ميزانية المعهد السنوية التي استمرت فرنسا بدفعها بلا توقف. وكان أن
توقفت الدول العربية التي كانت تدفع التزاماتها بانتظام عن الدفع، وانتظرت إدارة
المعهد أن تقوم الدول العربية المدينة أن تسدد ديونها واحدة بعد أخرى. ورغم مرور ما
لايقل عن عشر سنوات على اقتراح هذا الحل، لم يقم بعض الدول العربية ببدء التسديد
أصلاً فضلاً عن أنه لازال البعض الآخر يسدد هذه الديون بالتقسيط. من الواضح أن ذلك
يعكس موقف لامبالاة كاملة بالمعهد وبما يعنيه وجود صرح ثقافي عربيٍّ كبير فرض نفسه
خلال أقل من ربع قرن على المشهد الثقافي الباريسي. لم أكن شخصياً من أنصار هذا
الحل الذي ارتأته فرنسا والذي جاء نتيجة اليأس من إقناع الدول العربية كي تنفذ
التزاماتها. لكن الدول العربية كانت في وادٍ آخر.
هذا القصور في التمويل حمل إدارة المعهد
على أن تولي الموارد الخاصة اهتمامها الأكبر، فبدأت في إقامة المعارض الكبرى التي
تجذب عشرات الألوف من الزوار، وافتتحت مكتبة البيع، كما طور قسم تأجير القاعات،
وأقيم مركز تعليم اللغة والحضارة العربيتين، وعمل على تقديم معارضه خارج جدران
المعهد سواء في المدن الفرنسية المختلفة أوفي أوربا أو حتى في بعض المدن
العربية..وكان من شأن هذه الجهود أن بلغ إسهام الموارد الخاصة في ميزانية المعهد
بعض السنوات نسبة 35% من الميزانية العامة للمعهد، مما سمح له بالاستمرار في
نشاطاته الثقافية المختلفة؛ لكن هذه الميزانية بقيت خاسرة، حتى وصل الأمر في عام
2005 إلى أن يبلغ نقص السيولة حوالي خمسة عشر مليون يورو، وهو ما أدى إلى القيام
بإعادة النظر في نشاطات المعهد وهيكليته وعدد موظفيه، مما ساعد خلال عدة سنوات في
الحد من هذا النقص دون أن يلغي الخلل الدائم في ميزانية المعهد على الرغم من أن
فرنسا قد زادت في مبلغ إسهامها السنوي بما يعادل ثلاثة ملايين يورو لقاء قيام
إدارة المعهد بترشيد التسيير المالي والإداري ضمن خطة يتم تجديدها كل ثلاث سنوات.
ما قام ويقوم المعهد به في نظري من
نشاطات ثقافية خلال السنوات العشر الأخيرة يبقى ممثلاً للحد الأدنى مما يمكن له أن
يقوم به. كثيرة هي النشاطات التي ألغيت لأنها لا تأتي بالموارد التي تغطيها
كمهرجان الشعر وكرسي معهد العالم العربي ومهرجان السينما ومعرض الكتاب العربي
الأوربي، كما أن الندوات الدولية التي يخطط المعهد لها وينفذها باتت شبه
نادرة، وما لم تكن هناك مؤسسات أخرى تبحث
عن قاعات لاستقبال ندوات صممتها وخططت لها ووضعتها موضع التنفيذ لما كان ثمة أية
ندوة دولية تجري في المعهد..مردّ ذلك كله بالطبع هو سياسة التقشف الاضطرارية التي
لا يمكن للمعهد أن يستمر بدونها. هذا وضع يحمل على الأسف الشديد. عندما نشهد محاولات
الدول غير العربية في منطقة الشرق الأوسط كي تجد طريقاً يسمح لها بالتواجد بصورة
أو بأخرى في المعهد، ندرك مدى حجم التقصير العربي تجاه المعهد، بل ومدى غياب
الشعور بالمسؤولية من عدد كبير من الدول العربية التي لا ينقصها المال إزاء صرح
بهذه الأهمية فرض نفسه على المشهد الثقافي الفرنسي ويستطيع أن يحقق الكثير للثقافة
العربية في مختلف مظاهر تجلياتها..
11- كيف ينظر
الغرب والفرنسيون الى ثورات الربيع العربي ؟
** فوجئ الغرب على اختلاف دوله بثورات الشباب العربي (ذلك أنه يجب ألا
يغيب عن ذهننا أبداً أن هذه الحركات الثورية التي انطلقت مؤخراً كانت حركات شبابية
بامتياز) في عدد من الدول العربية. وتعامل معها في البداية بنوع من الخفة، ولاسيما
في تونس، معتبراً إياها ضرباً من أعمال الشغب يمكن التغلب عليه بسهولة، وكان ذلك
على وجه الخصوص رد فعل بعض المسؤولين الفرنسيين! لكن سرعان ما تجاوزت هذه الدول
الصدمة الأولى وانخرطت في محاولة فهم ما يجري ثم في محاولة ركوب الموجات الثورية
والعمل على توجيهها بحيث تخدم مصالحها في المقام الأول. ساعدها في ذلك غياب
المجتمعات المدنية الحقيقية في الدول العربية التي انتفض فيها الشباب العربي،
ووجود حركات إسلامية شديدة التنظيم انخرطت في الثورة متأخرة لكنها استطاعت أن تحتل
مقدمة المشهد كما أمكنها بفعل نهمها إلى السلطة أن تناور على المستويات كلها لكي
تكسب ثقة الجماهير وسكوت الغرب الذي عرفت ما كان ينتظره منها منها فاستجابت.. هذا
ما يفسِّر أن الثورة لا تزال قائمة في تونس وفي مصر..وذلك بلا شك أمر طبيعي بعد
أكثر من ثلاثين سنة من الاستبداد ومن التدجين ومن الفساد ومن انعدام الفعل السياسي
التعددي على مستوى المجتمع بأكمله..
لكن
ما يجري في سورية يقدم الدليل الأكبر على هذا الصراع من أجل تحقيق مصالح متناقضة
على الصعيدين الإقليمي والدولي للقوى المختلفة، الغربية منها وغير الغربية. وليس
من قبيل الصدفة أن تستمر الثورة في سورية أكثر من سنتين يقتل فيها السوريون بجرعات
منتظمة وبلا توقف. ذلك أن النظام الذي تمرس خلال أربعين عاماً على المتاجرة بسورية
على الصعيد الدولي استطاع أن يدوّل ما بدأ واستمر ثورة شعب يطالب بكرامته وبحريته.
لم يعد الشعب السوري يثور ضد نظام استبدادي فاسد وفاجر فحسب بل يواجه أيضاً مصالح
القوى المتناقضة في ميدان المعركة مثلما هو الأمر في ميدان السياسة. كان سقوط بن
علي ومبارك وبن صالح سريعاً نسبياً فلم تتجلّ المصالح الغربية بوضوح في تحقيق أو
توجيه أهداف الثورة. لكن ما حدث في ليبيا قرع ناقوس الخطر: لا شيء مجاني. كذلك
كانت الأمور ولا تزال كذلك وستستمر على هذا النحو. ثم قامت الثورة في سورية وقدمت
المثل الأكثر بياناً ونجوعاً في هذا المجال: فأمام كل هذه المشاهد، وأمام استنكاف
الجميع عن أيقاف المجزرة التي يمارسها النظام السوري ضد شعبه، أدرك الشعب السوري
أن عليه ألا يعتمد على أحد، ومن هنا الصرخة التي أطلقتها جماهيره: "يا الله
مالنا غيرك يا الله".
** جرت هذه المقابلة في شهر آذار/مارس 2013، ونشرت في عدد تشرين الثاني/نوفمبر 2017 من مجلة
"تراث" (ص. 76ــ 79)، باستثناء السؤال والإجابة الأخيرين.