jeudi 28 décembre 2017


حين تكون الإجابات أسئلة
بدرالدين عرودكي 
صاغ عدد من المفكرين العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إشكالية النهضة، كما كانوا يرونها، في سؤال كان قوامه المقارنة بين النهضة الغربية الطاغية وبين وضع العالم العربي الآسن في زمنهم: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ وقد اصطدمت مختلف الإجابات التي اتخذت من هذه المقارنة أساسًا بما كانوا يظنونه أو كما تراءى لهم السبب على أنه يكمن في "خصوصية الثقافة العربية ـ الإسلامية". هكذا تنوعت الإجابات. فمن قائلٍ بضرورة اقتباس منجزات الحضارة الغربية التقنية مع ضرورة المحافظة على الهوية العربية وخصوصيتها، فبرزت فكرة "الأصالة والمعاصرة"؛ ومن منادٍ بالعودة إلى الأصول الثقافية والحضارية  في القرن السابع الميلادي التي أتاحت نمو حضارة عربية وإسلامية كانت في أساس النهضة الغربية الحديثة، فنمت فكرة "الأصولية الإسلامية" التي بدت عقلانية في بداياتها ثم ما لبثت أن اتخذت، مع مرِّ السنين، صورًا مختلفة تفاوتت بين الانفتاح النسبي والانغلاق الصارم.
على أن الصيغة الأولى، التي مالت إليها النزعات القومية في العالم العربي، لم تؤد في حقيقة الأمر إلى أكثر من مماحكات وجدالات بقيت حبيسة فضاءات محدودة على الصعيد النظري، لاسيما وأن محاولات ترجمتها إلى مشروع سياسي اقتصرت على عملية تلفيق ساذجة، حازت شعبية واسعة، لكنها لم  تقدم أو تؤخر شيئًا في مجاليْ هذه الثنائية. وهو ما فرض ضربًا من الجمود ابتليت به حركات التحرر "التقدمية"، القومية منها واليسارية، نظريًا وعمليًا، منذ ما يقرب من نيف وستين عامًا.
أما الصيغة الثانية فقد تفرعت بها السبل. من التطرف النظري الذي تطلع إلى إعادة نقاء وخشونة وزهد فترة الدعوة الإسلامية، مرورًا بمختلف النظريات التلفيقية التي أريد بها حصر الاستفادة من التقدم الغربي بمنجزاته التقنية المحضة كما لو أن بالوسع فصلها عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية من ناحية، وبناء دولة إسلامية على غرار دولة الخلفاء الراشدين ــ بوصفها المثل الأعلى في نظرهم ــ من ناحية أخرى؛ وصولًا إلى مختلف اتجاهات تطلعت إلى قراءة التراث الفقهي كي تستخرج منه "ما يلائم" الحياة المعاصرة مع البقاء ضمن حدود النص، على ألا يقتصر المراد من هذا الأخير على النصوص المؤسِّسَة، بل يتجاوزها إلى كل ما يمكن أن يدخل في باب الفقه الإسلامي على امتداد العصور. وشأن الصيغة الأولى، وجدت صور محدودة العدد من هذه الصيغة بعضَ محاولات جادة تنم عن قدرات معرفية استثنائية وعن بصيرة حادة في الفهم وفي التأويل، ومحاولات  أخرى كانت أحيانًا صارمة في التطبيق في عدد من البلدان العربية، لم يكن من شأنها إلا أن تكشف الكثير من التناقضات على الصُّعد الفردية والاجتماعية والمؤسساتية.
وكما سبقت الإشارة في مقال "ويحدثونك عن التنوير"، لم تكن محاولة الخروج على هذه الصيغ جميعًا غائبة عن المشهد الثقافي والسياسي العربي خلال قرنين. ولعل هذا ما يفسر بالأحرى بعض أسباب وأد المحاولتين الجذريتيْن المشار إليهما فيه. على أنه إذا كان وأد المحاولة الأولى قد نتج عن كسر المشروع السياسي الأشمل الذي انطوى عليها، فإن وأد المشروع الثاني جاء على أيدي كافة القوى السياسية والفكرية الفاعلة أو المؤثرة التي كان يُنتظر منها توفير كل إمكانات الاستمرار والتطوير. فما الذي جعل الطريق مسدودًا إذن في وجه هذه الصيغ الأولى، على تباعدها أو تلاقيها في بعض المجالات، سواء على الصعيد النظري أو على الصعيد العملي؟ وما السبب في الإسراع بوأد أي مشروع آخر يقف على النقيض من الصيغ الأولى ويحاول تجاوزها؟
هل يكمن السبب فعلًا في "خصوصية الثقافة العربية" التي يؤلف الإسلام قوامها، أم في القراءة التي نقدمها عن أو لهذه الثقافة بصورة أو بأخرى؟
ربما كانت الإجابة عن هذه الأسئلة تكمن في أسئلة أخرى ذات صلة حميمة بصميم الموضوع، منها على سبيل المثال لا الحصر: ما الذي جعل صحابة نبي الإسلام أكثر حرية في فهم آيات القرآن في سياقاتها ومدلولاتها ومراميها من كل الذين جاؤوا بعدهم  أيًا كانت صفتهم أو مراتبهم؟ أو، ما الأساس الذي اعتمده هؤلاء الصحابة أنفسهم لحل المشكلة الكبرى، السياسية والاجتماعية والدينية، التي نجمت عن وفاة النبي؟ أو، ما الذي يعنيه الناسخ والمنسوخ في القرآن الذي جاء به الوحي منجمًا خلال ثلاثة وعشرين عامًا؟، ولماذا لم يجرؤ أحد على طرح السؤال الضروري من أجل فهم الدلالة والمعنى واستخلاص النتائج التي يؤدي إليها كل من الدلالة والمعنى؟ ولماذا صمت الجميع عن قراءة أخرى وتأويل آخر للناسخ والمنسوخ غير ما اعتدنا قراءته في كتب الفقهاء المعتمدين؟ أو، كيف علينا أن نفسر، ومن ثمَّ أن نفهم، تعدد التأويلات أو القراءات في عصر واحد، ثم في عصور مختلفة؟ أو، ما هي دلالات هذه الاختلافات، في القراءة وفي التأويل، ونتائجها في الزمان وفي المكان؟ ثمة كذلك، أسئلة أخرى لا حصرَ لها، تتناول "السنة النبوية" ومجموعات "صحيحها" التي ركن معظم الفقهاء إليها ثم استقروا على اعتمادها دون أدنى نقد تاريخي أو لغوي أو نصّي يقتضيه عادة كل نصٍّ تاريخي. وربما أخيرًا وليس آخرًا، وفي سؤال راهن مبنيٍّ على مجمل الأسئلة السابقة: ما الذي نعنيه بالشريعة الإسلامية اليوم؟ هل هي النصوص المؤسِّسَة، أي القرآن والحديث، أم هي أيضًا مجمل التراث الفقهي المبني على النصوص المؤسسة في عصور مختلفة وأماكن متباينة؟
لا بد من القول، في ضوء ما سبق، إن المسألة ليست هنا بالسهولة التي يظن البعض إمكان مقاربتها بها. لا بل هي أخطر من أن توضع يقينًا بين أيدي من لا يملكون الأدوات الضرورية (وهي أدوات لغوية ومعرفية، تاريخية وفقهية) في مقاربة أمور على هذه الدرجة من الاتساع والتعقيد والخطورة.  ذلك أن أي قراءة تعيد حرفيًا واحدة أو أكثر من القراءات التي تمت من قبل في زمان ومكان مختلفين، وشروط لا تمت إلى الحاضر بصلة، لن تكون أكثر من إضافة هامش على هوامش سابقة عليه، يبتعد بها عن المتن، وتخطئ هدفها الراهن؛ كما أن كل قراءة ــ ولاسيما تلك التي تتطلع إلى ضرب من القطيعة المعرفية ــ لا تأخذ بعين الاعتبار واقعة الإيمان بوصفها "الأيديولوجية الوحيدة  المقبولة كما هي عليه بالنسبة لمجموع الأمة"، كما يقول أنور عبد الملك، ــ وهي طريقة براغماتية حقًا، لكن لا سبيل فيما أرى إلى تجاهلها ــ، لن تبلغ مراميها المنشودة كما أمكن للقراءات السابقة أن تبلغها في عصرها.
ذلك أن أساس الإشكالية لا يكمن في الإسلام دينًا أو ثقافة، وهو الذي اجتاز عصور الانتصارات والأمجاد مثلما عرف عصور النكبات والهزائم، بل في طبيعة ونهج قراءته التي قام بها، لا صحابة النبي فحسب، بل معظم الفقهاء الذين عرفهم تاريخه وهم يجيبون، عبر قراءتهم، عن الأسئلة التي كان العصر الخاص الذي كانوا يعيشون فيه يطرحها عليه وعليهم، بما أنهم كانوا يقومون بقراءته آنئذ. وهو الأمر الذي لم ينتبه إليه معظم من تصدوا لقراءة الإسلام تراثًا وفقهأ ونصوصًا مؤسِّسَة، على الأقل خلال القرن الأخير من تاريخه من خلال حسم في الطريقة وفي المنهج.
كل ذلك، في الأساس، كي لا تبقى مسألة القطيعة المعرفية، المطروحة بإلحاح في الوضع الراهن، قصرًا على نقاش النخب فيما بينها كما كانت عليه في الماضي البعيد والقريب.

** نشر على موقع جيرون الخميس 28 كانون أول/ديسمبر 2017



jeudi 21 décembre 2017


الدمية ومهزلة الحل السياسي 
بدرالدين عرودكي
 الصفاقة والوقاحة، معنيان متقاربان في القاموس العربي لما يمكن أن يوصف به سلوك رأس الطغمة الحاكمة بدمشق حين قال قبل أيام: من يقتل جيشه أو شعبه فهو خائن، ظانًا أنه بمثل هذه الجملة القطعية يستطيع أن يدفع عن نفسه سلسلة الجرائم الموصوفة التي ارتكبها منذ ما يقارب سبع سنوات ولا يزال يرتكبها يوميًا، مثلما ارتكبها بصورة منتظمة منذ استيلائه على السلطة عنوة وكذبًا ونفاقًا، بحق سورية شعبًا وأرضًا ومدنًا ووطنًا وتاريخًا وتراثًا. تلك على كل حال كانت طريقته في تزوير الحقائق، وأسلوبه في الكذب والإنكار منذ أول مظاهرة خرج الشباب السوري فيها يطالبون بالكرامة وبالحرية قبل المناداة بإسقاطه وإسقاط نظامه الأعنف والأخبث والأشد إجرامًا من كل الأنظمة التي عرفتها سورية على امتداد تاريخها الألفي. من الواضح أنه كان يدرك فداحة ما يعمله، لا لأنه يتمتع بدعم لا حدود له من قبل حليفيْه إيران وروسيا فحسب، بل أيضًا، لأنه ربما كان يعرف أنه مُجاز لفعل ذلك بلا حساب، أيًا كانت مسرحيات الإدانة والاستنكار التي صدرت من الدول التي قدمت نفسها بوصفها أصدقاء شعب سورية؛ وكان الأولى أن تستمر في ممارسة نفاقها العريق الذي بات صنوًأ لسياساتها ولمزاعمها في الدفاع تارة عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وتارة في الدفاع عن حقوق الإنسان.
لكنَّ هدف الرسالة التي أراد بثها لم يكن في الحقيقة يقتصر على مجرد دفع التهمة عن نفسه فحسب، بل كان يتجاوز ذلك إلى محاولة إثبات استعادته أهليته السياسية كاملة، بارتجاله موقع رئيس طبيعي، يتمتع بكامل الصلاحيات في اتخاذ قراراته بصورة مستقلة، واضعًا لهذه الدولة أو تلك شروطه للتعامل معها، أو معبرًا عن تفضيله لمؤتمر سوتشي على مؤتمر جنيف، أو مانحًا الأمم المتحدة موافقته على قيامها بمراقبة انتخابات يريد أن يشرف عليها شريطة احترام "السيادة" السورية التي سمح لكل شذاذ الأرض بانتهاكها ماداموا يحققون هدفه في الإبقاء على كرسيه، ناسيًا أنه لم يعد يستطيع التحرك قيد أنملة سياسيًّا أو عسكريّا إلا وفق إرادة وبعد إجازة من يسميهم حلفاءه، في الوقت الذي يظهر هؤلاء الأخيرون للعالم أجمع، ولاسيما روسيا، كيف يعاملونه بصفته الحقيقية: وكيل مصالحهم في سورية.
يعرف رأس الطغمة الحاكمة في سورية أن السوريين الذين خرجوا ضده، أي كل سوري عانى خلال حكمه وعلى يده من قتل أقاربه وأصدقائه، أو من الاعتقال، أو من التهجير ، أو من قصف مدينته بقنابل وبراميل طائراته، لم ولن يصدق حرفًا مما يريد إثباته. كما يعرف حق المعرفة أن أحدًا منهم، وهم أكثرية السوريين الساحقة، لن ينتخبه ــ إلا في الظروف ذاتها ــ إي إلا تحت مطرقة وتهديد أجهزته الأمنية التي يضفي عليها اليوم صفة السيادة الوطنية في وجه رقابة الأمم المتحدة ــ الطبيعية ــ على الانتخابات.
لكنه يريد أن يدخل الطمأنينة على قلوب معاونيه وشركائه في الجريمة: ها هو يستعيد قبضة "الرئيس الحازم" الذي يخاطب رؤساء العالم وكأن شيئًا لم يكن؛ فهو باق في مكانه، وسوف تجري الانتخابات، ولكن بشروطه هو، أي بما يكفل له الانتصار فيها بعد أن أعلن انتصاره الحربي دون أن يعترف أن ذلك، إذا تحقق فعلًا وهو ليس كذلك، قد تمَّ، لا بمساعدة، بل بفضل شريكيه: الإيراني على الأرض والروسي في السماء وفي مجلس الأمن!
ولا يمكن لمن يرى هذه الدمية في حركاتها المرضية إلا أن يتساءل عن شعور حُماتِها الظاهريْن في طهران وفي موسكو، والخفييْن في تل أبيب وواشنطن، إزاء هذا الرجل الذي كان سيواجه مصيرًا أشدّ سوءًا من مصير القذافي، لولا توافقهم جميعًا على ضرورة بقائه  ــ حتى إشعار آخر على الدوام ــ  للحفاظ على مصالحهم. فهده الدمية لا ترى مسًّا بالسيادة السورية حين يصرح مسؤولو إيران عن أن لاشيء في سورية يتقرر سياسيا من دون طهران، ولا عن الاحتلال الروسي وقواعده العسكرية الراهنة والآتية، ولا عن القاعدة والتواجد العسكري الأمريكيين على الأرض السورية، ولا عن القصف الإسرائيلي شبه اليومي لقواعد حلفائه وحماته من الإيرانيين ووكلائهم على مسافة قريبة من قصره. لكنه يرى جيدًا انتهاك "السيادة السورية" في الرقابة الصارمة التي تعِدُ بها الأمم المتحدة على انتخابات توشك أن تودي به ــ كما يخشى لو تمت ــ وفق الشروط  الأممية.
هوذا في النهاية تجسيد الحل السياسي المُراد، والذي نادى به الجميع ــ أي من حلفاء النظام ومن "أصدقاء الشعب السوري"، منذ أن تم القضاء على الثورة السورية، تمهيدًا، به وبواسطته، لتأهيل النظام نفسه، برأسه وبمجرميه على اختلاف مستوياتهم. إذ ما كان يبدو قبل عدة سنوات تواطؤًا حول الشأن السوري بين روسيا والولايات المتحدة، بات اليوم اتفاقًا واضحًا، وإن غير معلن، على قواعد لعبة، تكاد تكون غير مسبوقة على الصعيد العالمي، قوامها المحافظة بطريقة أو بأخرى، وحتى إشعار آخر ما، على النظام الأسدي، بما في ذلك ــ إن أمكن ــ  رأسه على وجه التحديد. لم تكن إيران غائبة عن هذا التواطؤ من قبل، وهي اليوم حاضرة كل الحضور، وإن هامشيًا، في الاتفاق الحالي. ولم يغير منه اختلاف الإدارة في البيت الأبيض بين ديمقراطية وجمهورية.  أما وجود الطغمة الأسدية، فهو بلا شك رهن إرادة الثلاثة ودعم كلٍّ منهم على طريقته، مادامت هي والدمية التي تمثلها، حتى الآن، تؤدي الدور المرسوم لها والذي يستجيب على نحو غريب لمصالح كل طرف على حدة، على ما بين الثلاثة من تناقضات يمكن أن تطيح به في أي لحظة إذا ما تصادمت يومًا ما.
فبين مؤتمر جنيف الأول عام 2012، والمؤتمر الأخير، في المدينة ذاتها، عام 2017، استطاعت روسيا، وبمباركة أمريكية خفية، أن تستأثر بالحل عن طريق صيغ مختلفة بدأت من آستانة مرورًا باتفاقات خفض التصعيد المحلية وصولًا إلى مؤتمر سوتشي الموعود الذي تطمح فيه روسيا، ومن ورائها جميع الدول الحليفة للنظام و"الصديقة للشعب السوري"، أن تغرق وفود المعارضة بهذا العدد الهائل من المدعوين للخروج بقرارات تصوغها الدبلوماسية الروسية ويوافق عليها المؤتمر، كي تظهر روسيا على الملأ بما تسميه الحل السياسي: متمثلًا في دستور لم يضعه ممثلون حقيقيون للشعب السوري، وانتخابات تشرف عليها الأمم المتحدة لكنها تستجيب، وبإيماءة روسية بالموافقة،  لما سماه رأس الطغمة الحاكمة "السيادة السورية"، ورئيس في النهاية ــ أيًا كان ــ على رأس نظام لا يختلف في قليل أو كثير عن النظام الذي نادى الشعب السوري الثائر بإسقاطه: لا في بنيته، ولا في مناهجه، ولا في أهدافه خصوصًا: قمع كل صوت حر، وتأجيل الاستجابة إلى مطالب الحرية والديمقراطية إلى يوم ما، "حين يبلغ الشعب ذروة نضجه" كما وعد مستبدو العالم العربي جميعًا  قبل أن يلقوا مصيرهم المحتوم..
ومع ذلك.. مع كل ذلك، لا يزال هناك أمل في إنهاء هذه المهزلة لو أراد من بيدهم اليوم القدرة على أن يفعلوا: قلب الطاولة على الجميع.. ذلك سلاح الضعيف دون شك.. لكنه ربما كان السلاح الأنجع..السلاح الأنجع استجابة لدماء الذين قتلوا وهم يأملون في سورية حرة..

** نشر على موقع جيرون، الخميس 21 كانون أول/ديسمبر 2017.



jeudi 14 décembre 2017


التنوير بين الثقافة والسياسة 
 بدرالدين  عرودكي 
هل يمكن فصل المشروع الثقافي، نهضويًا أو تنويريًا، عن المشروع السياسي؟ أو، هل يمكن لأي مشروع سياسي ذي معنى أن يتم في غياب مشروع ثقافي؟
في أذهان بعض من يطرح التساؤلات حول قدرة المثقفين العرب على، أو عجزهم عن، القيام بدورهم التاريخي في الحراكات الثورية التي أطلق عليها اسم "الربيع العربي"، نسخة طبق الأصل عن الصورة الآلية التي قدمتها الكتب المدرسية العربية حول علاقة سببية مباشرة بين مثقفي التنوير الفرنسيين خصوصًا ــ والأوربيين عمومًا ــ والثورة الفرنسية عام 1789، وصارت، بعد رسوخها في الذاكرة، مجرد شعارات آلية فارغة من أي مضمون حقيقي: "الفكر ينتج الثورة"، أو "لا ثورة بلا فكر". لكن التاريخ ــ كما نعلم ــ لا يعيد نفسه، مثلما لا تتكرر أحداثه بعد وقوعها في أرجاء أخرى من العالم. فمن الأوْلى إذن أن تُقرَأ هذه الأحداث، كما ينبغي أن تقرأها كل دراسة جادة، ضمن ظروفها وشروطها الزمانية والمكانية، وصولًا إلى ما يمكن استنتاجه منها من عناصر أو قوانين اجتماعية أو سياسية يمكن الاستفادة منها، مع الأخذ بعين الاعتبار نسبية أي قانون يمكن الوصول إليه في العلوم الاجتماعية والإنسانية عامة، مهما كانت درجة الدقة في صوغه أو في التعبير عنه.
والواقع أنه ليس من الممكن مقاربة مسألة دور المثقفين في العالم العربي في أي حراك ثوري حديث أو معاصر عبر مماهاتها مع دور المثقفين في الثورة الفرنسية أو سواها من الثورات الأخرى في العالم. ولم تكن المقاربة السريعة، التي سعى إليها المقال الأخير "ويحدثونك عن التنوير"، تود أن تشير إلى أكثر من محاولتيْن جذريتيْن في تاريخنا الحديث تطلعتا إلى تحريك المياه الآسنة منذ أربعة قرون مضت على المحاولة الأولى وخمسة على الثانية، وكيف أنهما، كلاهما، وُئدتا، على اختلاف ظروف كل منهما: الأولى مع انهيار المشروع السياسي الذي ولدت معه وضمنه، والأخرى بسبب غياب المشروع السياسي عن الثانية أساسًا وتقاعس أو جبن السياسيين الوطنيين عن احتضانها. ذلك أنهما كانتا، كلاهما أيضًا، جذريتيْن في مطامحهما، أي تستهدفان قطيعة معرفية في القراءة وفي التأويل وفي البناء عليهما.
لا يعني ذلك، كما يمكن أن يظن البعض، أن على المثقفين أن ينتظروا مشروعًا سياسيًا يحتضن مبادراتهم بقدر ما يعني ــ بالأحرى ــ أن تنطوي مشروعاتهم الفكرية ذاتها على الحض على صوغ مشروع سياسي. من الواضح، خلال القرنين الأخيرين، أن المفكرين العرب، في كل مكان من العالم العربي، لم يتوقفوا عن مثل هذه المحاولات في مختلف الميادين، لا بل دفعوا ثمنًا فادحًا بسببها في حياتهم أو في معيشتهم أو في حرمانهم من حريتهم عبر السجن أو النفي. لكن ما هو أكثر وضوحًا كذلك أن هذه المحاولات اصطدمت أيضًا، وعلى الدوام، بجهل السياسيين أو بجُبنهم أو بتقاعسهم، فلم تحظ، كما كان ينبغي لها، باعتمادها في مجال السياسة العملية، ولا بالدفاع عنها وعن أصحابها أمام دعاة السلفية والجمود، ولا في إتاحة الفرصة لها عبر فضاء حرية يتيح لها التراكم والتفاعل والإخصاب. ولهذا بقي معظمها حبيس دائرة النخب العربية التي أنتجتها أو التي تفاعلت معها، لا تتجاوزها إلى مختلف الفضاءات الاجتماعية كي تصير جزءاً من المكتسبات العامة التي تصوغ، بفعل ثراء عناصرها، الذهنية العامة، أو الوعي العام، بما يجعلها، عبر استمراريتها، حاضرة على الدوام.
خلال ما لا يقل عن خمسين عامًا على الأقل، لم تكن هذه الممارسة على صعيد السلطة السياسية التنفيذية فحسب، بل على صعيد مختلف الأحزاب والجماعات السياسية التي كان يفترض بها، هي قبل غيرها، وقبل استيلاء العسكر على الحكم، أي قبل ما يقارب سبعين عامًا، أن تسهم في نشر وفي استمرارية وفي تحويل هذا الفكر النقدي، الذي عرفه العالم العربي على امتداد أكثر من قرن ونصف، إلى قوى مؤثرة وفاعلة. صحيح أنها قُمِعَت أو تلاشت تحت وطأة هيمنة الاستبداد في تنويعاته المختلفة، عسكرية أو ملكية مطلقة أو مدنية، فلم يكن بوسع أيٍّ منها بالتالي أن يؤدي أدنى دور في الفضاء العام، بله العمل على ترويج مقولات مختلف ضروب الفكر النقدي. لكن الأنكى من ذلك، أن رقابة السلطات الاستبدادية تراخت إزاء كل ما يفيد هيمنتها، ولاسيما نتاج مختلف أيديولوجيات التجهيل والجمود الظلامية التي نمت وترعرعت خلال ما لا يقل عن خمسين عامًا في أرجاء العالم العربي، مستفيدة من كل ما تتيحه لها الوسائل التقنية الحديثة، ولا سيما الفضائيات المجانية التي انتشرت كالنار في الهشيم في الفضاء العربي خصوصًا، بحيث بدا هذا الأخير وكأنه يرتدُّ على عقبيه قرونًا، لا عقودًا من السنوات. لكن ما فاقم من خبث الاستبداد هذا، كان تواطؤ ما بات يُعرَف بمثقفي السلطان الذين ارتجل البعض منهم أنفسهم مفكرين وباحثين، أو البعض الآخر، من الذين أغرتهم منافع الثروة، فوصل بهم الأمر إلى أن يجعلوا من أكثر التيارات ظلامية وجمودًا ونكوصًا، تيارات تنويرية أو ثورية، وقاموا بإدراجها بكل صفاقة ضمن حركة التنوير الحديثة!
هذا ما أدى إليه تضافر الاستبداد والفكر السلفي والمفكرون الانتهازيون، معًا. وكان أن تجلى فضلًا عن ذلك في قيام هؤلاء الأخيرين بدورهم على نحو أكمل عند انفجار الشارع العربي قبل سبع سنوات. لم يكن مفاجئًا، والحالة هذه، أن تسارع هذه القوى الظلامية إلى الاستحواذ على ثورة لم تكن أصلًا داعية أو محركًا لها، وإلى العمل على تفريغها، بفعل ذهنيتها وطبيعة أيدلوجيتها، من كل المعاني التي انطلقت بفعلها ومن أجلها، وأخيرًا، إلى تسليمها ثمرة إلى من يقوم بالقضاء عليها وعلى المعاني التي حملتها.
لا يمكن، كما يبدو في ضوء ما سبق، فصل الثقافي عن السياسي، شريطة أن يفهم السياسي بالمعنى الإغريقي للكلمة، أي علم تنظيم المدينة، أو، بلغة عصرنا الحاضر، الدولة. إذ لا يمكن للثقافي، مشروعًا أو نتاجًا، أو ممارسة، أن ينمو ويؤدي وظيفته إلا في ظل دولة تتيح له كل الحرية الطبيعية التي تتيح له ذلك بلا قيد أو شرط. كما لا يمكن للسياسي بالمعنى المذكور أن يتخلى عن الثقافي لأنه لابد من أن يكون في أساس قوامه. لا يمكن، أيضًا، لغياب المشروع السياسي إلا أن يشي بضرب من طبيعة استبدادية ما، يُعرّيها غياب أي فكر يمارَس في حرية تامة، بلا حسيب ولا رقيب. لا شك أن بوسع المفكرين خصوصًا، والمثقفين عمومًا، أن يعملوا في السر، خارج حدود رقابة النظم الاستبدادية. ولقد عرف التاريخ أمثلة فاعلة وفعالة كثيرة على ذلك. وهذا ما بات اليوم ممكنًا بفضل كسر جدران الخوف كلها، رغم عنف وهول الثورة المضادة، بعد أن خرج الناس ينادون بالكرامة قبل الخبز.
تبقى المسألة الأساس: طبيعة القطيعة المعرفية الحقيقية التي لم يجرؤ أحدٌ، بعد، على القيام بها..


** نشرت على موقع جيرون، الخميس 14 كانون الأول 2017.


jeudi 7 décembre 2017


إيران  وإسرائيل 
خرافة  المقاومة ومهزلة المقارنة 
بدرالدين عرودكي
بعد ثمانية عشر عامًا من الهيمنة المباشرة، انسحبت إسرائيل بقرار أحادي الجانب من جنوب لبنان عام 2000، فانهار مع انسحابها جيش لبنان الجنوبي بقيادة عميلها أنطوان لحد. وفور الإعلان عن ذلك، هرع حزب الله إلى "تجيير" هذا الانسحاب لحسابه الخاص، واضعًا في خدمة هذا التجيير كل الوسائل التي يمكن أن تجعل من هذا "الحدث" صورة المقاومة المثلى ضد إسرائيل، لا قرين لها في أي بلد عربي آخر خاض المعارك ضد إسرائيل منذ إعلان هذه الأخيرة نفسها دولة، محاولة بها إلغاء وجود شعب وتاريخ وثقافة.
في غمرة هذا الضجيج الإعلامي المصطنع، تمكن حزب الله من فرض صيغة أعاد بها كتابة تاريخٍ لهذا الحدث غاب فيه لا خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ومذبحة صبرا وشاتيلا، والاحتلال الأسدي، ودور مختلف القوى اليسارية الذي كان يتلاشى تدريجيًا تحت وطأة احتكار حزب الله الفعلي والمطرد لأداء دور "المقاومة" في الجنوب فحسب، بل وما هو جوهري في كل هذا: معنى ودلالة وهدف وجود "حزب الله" في المشهد السياسي والعسكري اللبناني، على وجه الدقة، وفي هذه المرحلة بالذات. موجز الصيغة هو ما استقر في أذهان الرأي العام اللبناني والسوري خصوصًا، والعربي عمومًا: حزب الله هو القوة الوحيدة بين كافة القوى العربية التي استطاعت إرغام العدو الإسرائيلي على الانسحاب بقوة السلاح لا بالمفاوضات، وبالتالي استعادة الكرامة العربية. وبعد ست سنوات من ذلك، أي في عام 2006، أضيف إليها الصمود ثلاثة وثلاثين يومًا في وجه العدو، مع تغييب آثار هذه المغامرة التي قام بها حزب الله ضد إسرائيل على صعيد الدمار والتهجير وعدد القتلى من المدنيين.
ذلك ما كانت إيران تسعى إليه على وجه الدقة، منجزة المرحلة الأولى من تحقيق غايتها حين أنشأت وموّلت وسلّحت حزب الله بالتواطؤ مع الأسد الأب في سورية تحديدًا. فقد رأت في إرغام إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان فرصة ذهبية لها، كي يتقدم وكيلها حزب الله، ويحل محلها مستهدفًا الوصول إلى تنفيذ سياستها، تحت غطاء وباسم مقاومة إسرائيل. أما المرحلة الثانية، فقد أعقبت اغتيال الحريري (الذي اتضحت فيما بعد مسؤولية حزب الله في تنفيذه)، ثم عدوان إسرائيل عام 2006، وصولًا إلى احتلال بيروت عام 2007، الذي كان ردًا على محاولة الحكومة آنئذ مصادرة شبكة الاتصال التابعة له في مطار بيروت وإقالة قائد جهاز أمن المطار، مما اضطر الحكومة إلى الخضوع لابتزاز حزب الله وسحب القراريْن معًا. كان ذلك إيذانًا بتثبيت هيمنة الحزب على مفاتيح الدولة في لبنان. هيمنة بلغت ذروتها عندما قرر حزب الله، بمعزل عن الحكومة اللبنانية وسياستها المعلنة إزاء الحدث السوري، أن يزج بقواته، إلى جانب الميليشيات المستوردة من أفغانستان والعراق تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني، دعمًا للنظام الأسدي ودفاعًا عنه. بذلك حققت إيران هدفها المنشود، عبر وكيلها الحصري، والمتمثل في هيمنتها على الداخل اللبناني في كل مجال يمكن أن  تُمَسّ فيه مصالحها، وكذلك على سياسة لبنان الخارجية، بصورة كلية، بعد إتمام شق الصف المسيحي وإقامة التحالف مع ميشيل عون، الحالم برئاسة الجمهورية التي وصل إليها من خلال تسوية بدا اليوم واضحًا أنها لا تستجيب إلى مصالحها الإقليمية فحسب، بل تنفذ حرفيًا سياسة إيران الإقليمية وأحلامها الإمبراطورية.
لم تكن إيران على لسان مسؤوليها شديدة الثرثرة حول مطامحها المذكورة طوال السنوات التي سبقت انفجار ثورات الربيع العربي التي سرعان ما أيدتها في البلدان العربية الأخرى ثم كفت بالسرعة ذاتها عن ذلك ما إن انفجرت الثورة في سورية. فقد كانت خلال ذلك الوقت تستكمل هيمنتها على العراق التي بدأتها منذ أن فتحت لها أبوابه إثر غزوه عام 2003. وكانت أيضًا، وخلال الفترة نفسها، عبر وكيلها المحلي، تستمر في إحكام سيطرتها على الأمن الداخلي والسياسة الخارجية اللبنانيين كي يتمكن بمختلف الوسائل من تنفيذ سياساتها التوسعية في اليمن خاصة، وفي دول الخليج العربي عامة. وحين أمكنها بمشاركة وكيلها اللبناني الواسعة من توطيد احتلالها لسورية، بدأ سياسيوها الإفصاح عن موقفها الحقيقي بإعلان هيمنتها على العواصم العربية الأربع.
لا شك أن السطور السابقة لا أو لن تقدم أي جديد لكل من حاول أو يحاول أن يرى مسار الأحداث في المنطقة العربية منذ عام 1982 بعيون لا تغشاها الأيديولوجيات الدينية أو الأفكار المسبقة. ولقد لعبت الثورة السورية دورًا حاسمًا في هذا المجال، حين فضحت حقيقة المقاومة التي تمارسها السلطة الأسدية ومن ورائها إيران ووكيلها: مجرد خرافة صيغت جيدًا في ثياب حقيقة لا يعتورها الشك، صدقتها جماهير واسعة في العالم العربي ولا تزال.
اعتورَ هذا الكشف، مع ذلك،  ضربٌ من عمى البصر والبصيرة لدى البعض حين أرادوا التذاكي، فسارعوا إلى عقد ضرب من المقارنة بين إيران وإسرائيل. ليس المقصود هنا بعض الأحكام التي تحفل بها بين الحين والآخر صفحات التواصل الاجتماعي، ولاسيما عندما تكون رد فعل عفوي على ضروب العنف الوحشية غير المسبوقة التي مارسها النظام الأسدي أو رئيسه الذي انتهى إلى أن يصير موظفًا بدرجة "رئيس جمهورية" لدى إيران، حين تقارن بين إيران وإسرائيل مهنئة الفلسطينيين على "ديمقراطية" إسرائيل واحترامها "حقوق الإنسان". بل المقصود من باتوا يعرفون بمثقفي السلطان، الذين بدأت عقيرتهم ترتفع انطلاقًا من موقفهم العدائي إزاء إيران، مقارنين بينها وبين إسرائيل، منزهين هذه الأخيرة عن كل جرائمها ولاسيما جريمتها الأصلية: وجودها ذاته. ففي الحديث عن عدوانية إيران ومطامحها التوسعية، وعن محاولتها تحقيق أهدافها عبر تسللها في نسيج المجتمعات العربية المشرقية خصوصًا واستخدام أيديولوجية طائفية تتيح لها الحشد والتجنيد بحجة مظلوميات وخرافات تعود إلى أكثر من خمسة عشر قرنًا، رأى مثقفو السلطان هؤلاء أن المقارنة هي في صالح إسرائيل، بحجة أن هذه الأخيرة "دولة مستقلة ذات سيادة" وأنها "محبة للسلام والديمقراطية" وأن "جميع الدول تعترف بها باستثناء دول الاستبداد والقمع". بل إن بعضهم يرتجل نفسه فقيهًا أو مفسِّرًا حين يؤكد أن حق إسرائيل بالوجود على أرض فلسطين ثابت بالآيات القرآنية (الآية 21 من سورة المائدة!)، بما أن الله ــ كما يقول ــ قد كتبها لهم (أي لبني إسرائيل) وهو ما يعني أن إسرائيل ليست دولة مغتصبة؛ ولم يفعل اليهود شيئًا غير عودتهم "إلى أرضهم".
هكذا، تُبَرَّأ إسرائيل ببساطة متناهية، لا من جريمتها الأصلية، ولا من جرائمها التي تقترفها تحت أعيننا كل يوم فحسب، بل كذلك من مطامحها في الهيمنة وفي السيطرة الإقليمية ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا. هكذا تعمى الأبصار والبصائر عن رؤية التنافس القائم اليوم على وجه الدقة، وفي غياب العرب، بين إسرائيل وإيران، من أجل الهيمنة على المنطقة كلها. فلا إيران شديدة الاهتمام بإعادة أصحاب الحق الفلسطينيين إلى أرضهم وإقامة دولتهم، ولا إسرائيل خلعت أنيابها وصارت دولة مسالمة لا هم لها إلا السلام والطمأنينة !
فهل يمكن اعتبار هذه المقارنة التي يقوم بها بعض أبواق السلاطين من الجامعيين أو من الكتبة، والتي بدأت بعض وسائل الإعلام العربية تبثها في الأسابيع الأخيرة بوصفها نقاشات "علمية"، أكثر من مهزلة تتوسل القانون تارة والقرآن تارة أخرى وهم أشد جهلًا بالاثنين معًا؟ أم أن الذاكرة المريضة لدى البعض باتت حجة يستسهلون بها تلفيق الحقائق ولوي أعناق النصوص ومدلولاتها؟ وإذا كانت إيران اليوم تؤدي دورها عدوًا تاريخيًا للعرب، فهل يجب أن تؤدي مواجهتها إلى نسيان جريمة عدوٍّ قائمة منذ أكثر من سبعين عامًا ضد شعب اقتلع من أرضه وأنكرت هويته وتاريخه وثقافته؟ 
أم أن السلطان سيبقى هو الآمر والناهي إذ يفضل التحالف مع الشيطان من أجل مقارعة إبليس؟

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 7 كانون أول/ديسمبر 2017.



jeudi 23 novembre 2017


ويحدثونك عن التنوير! 
بدرالدين عرودكي 
خرجت أوربا مع بدايات القرن الرابع عشر من ظلمات عصورها الوسطى لتعيش عصر نهضة دام حتى القرن السابع عشر، أي حتى بداية الأزمنة الحديثة التي بلغت ذروتها في القرن الذي تلاه: عصر التنوير والثورة الفرنسية. كانت الإنسانيات هي منعطفها الرئيس، لكن النهوض لم يقتصر على الآداب أو على مجرد استعادة التراث اليوناني واللاتيني، بل شمل مختلف جوانب الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية، فضلًا عن ثورات الإصلاح الديني التي ما كان لها أن تستقر من دون الحروب الدينية التي فتكت بعدة دول أوربية طوال النصف الثاني من القرن السادس عشر.
بداية عصر النهضة في أوربا كانت، أيضًا، بداية ما سمي "عصر الانحطاط" في العالم العربي، الذي ظهرت محاولات الخروج منه مع ما سمي اتفاقًا "عصر النهضة العربي"، اعتبارًا من بدايات القرن التاسع عشر. سوى أن هذه التسمية لم تكن تعني في استخدامها سوى هذه النهضة الأدبية التي عرفتها بلاد الشام ومصر، والتي لم تكن ــ رغم طموحها ــ على غرار سابقتها الأوربية، لا في المضمون المعرفي والواقعي، ولا في المنجزات الفعلية المثمرة فكريًا وثقافيًا وعلميًّا، ولا كذلك، خصوصًا، في ظروفها السياسية والاقتصادية. لذلك بقيت في الأدبيات العربية المدرسية مقتصرة على بعض التجديد الأدبي، ولاسيما في تخليص النثر العربي من بلاغته الشكلية، أو في الترجمات السريعة والكثيفة لما سماه الشيخ محمد عبده في ثمانينيات القرن التاسع عشر "الرومانيات"، مُعَرِّبا الكلمة الفرنسية (roman) التي تعني "الرواية".
ذلك أن محاولات النهضة الحقيقية فيما وراء ذلك كانت، في الحقيقة، تستهدف استعادة عصر تنوير حقيقي في كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية. أولاها  هي التي يمكن اعتبارها المحاولة التنويرية الأولى في الفكر وفي التعليم، تلك التي حاول القيام بها، في مصر، في العقد الثالث من القرن التاسع عشر وبعد عودته من باريس، الأزهري السابق، رفاعة رافع الطهطاوي، صاحب كتاب "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز"، ضمن إطار المشروع السياسي الأوسع لمؤسس الدولة المصرية الحديثة، محمد علي. أما الثانية فكانت تلك التي قام بها أزهري آخر، طه حسين، من خلال كتابه "في الشعر الجاهلي"، في منتصف العقد الثالث من القرن الماضي. بين هاتيْن المحاولتين التنويريتيْن ما يقرب من قرن لم يعرف العالم العربي خلاله من ناحية، إلا مشروعات إصلاحية ذات روح عقلانية بقيت حبيسة الإطار العام السائد ولم تكن، بفعل ذلك، قادرة على تحقيق قفزة أو على إحداث تغيير حقيقي، وكان أشهرها مشروع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وفكرة الجامعة الإسلامية؛ ومن ناحية أخرى، وقوعه تدريجيًا تحت السيطرة الاستعمارية الغربية المباشرة أو غير المباشرة، بدءًا بالجزائر عام 1830 وانتهاء بسورية عام 1920.
هاتان المحاولتان، على ما بينهما من فارق زمني شاسع، وعلى اختلاف ظروفهما السياسية، تلتقيان في مضمونهما العام عند نقاط عدة، أولاها، ابتعادهما عن الطرح التقليدي لإشكالية التقدم التي انتشرت في أجواء النخب الثقافية أو الدينية "المستنيرة" ولاسيما اعتبارًا من منتصف القرن التاسع عشر، والماثلة إما في التساؤل الذي طرحه البعض: كيف نتقدم ونبقى أنفسنا، أو كيف نستفيد من التقدم التقني الغربي دون أن نفقد شخصيتنا الثقافية والحضارية؟، أو في صيغة "الأصالة والمعاصرة"؛ وثانيتهما، المسيرة العقلانية لكل منهما في رؤيته لمسألة التقدم، والكيفية التي تبنى بها أية عملية نهضوية وتنويرية حقيقية: الأول في استثمار عناصر التقدم في الغرب، حتى وإن كان أغلب ما في القوانين العقلية والشرائع الوضعية المطبقة فيه "ليس من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسول الله (...) لتعرف كيف حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد"؛ والثاني، في الاستحواذ على حرية إعادة قراءة التراث الثقافي المؤسس، لا من أجل تقديسه أو الوقوف عنده، بل من أجل إخضاعه لمناهج النقد العقلاني تمهيدًا لاستعادته، أي استثماره في مشروع مستقبلي؛ وثالثة نقاط الالتقاء هي الكيفية التي استقبل بها جهد كل منهما، وكيف تكالب عليهما سدنة السلفية أو الجمود أو "الأصالة" في أغبى قراءاتها.
على أن المفارقة في ظروف الرجلين جعلت مصير مبادرتهما التنويرية متشابهًا حتى لا نقول واحدًا. كانت مبادرة الطهطاوي تندرج ضمن مشروع أوسع للنهضة والتنوير والتحديث، أطلقه محمد علي في المجالات العلمية والفكرية والصناعية والحربية، بعد أن أمسك بزمام السلطة في مصر كليًا. أي أنها لم تكن مبادرة فردية كتلك التي قام بها طه حسين. لكنه، مع ذلك، واجه النفي تارة والإقصاء تارة أخرى بفعل تأثير بعض من خصوم مشروعه المعاصرين الذين لم يكونوا مختلفين عن خصومه اليوم. فالطهطاوي الذي كان في فرنسا وأبدى، بعد عودته منها، إعجابه بفكرة الحرية والمساواة ــ وهما إلى جانب الإخاء شعار الثورة الفرنسية ــ اللتين عقد لهما فصلًا في كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين"، يجد من ينتقده بإجحاف، متهمًا إياه بعدم إدراكه "أن نَقْل هذه الآراء إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى النتيجة نفسها: نَبْذِ الدِّين، وتَسْفِيه رجاله، والخروج على حدوده" لأنه "لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البرَّاق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية..". سوى أن رفض مشروع الطهطاوي كان ضمن عملية القضاء على مشروع محمد علي نفسه.
أما مبادرة طه حسين، فقد كانت مبادرة فردية، لا يحميها أو يؤطرها مشروع سياسي أعم. وكانت ــ كما أدرك خصومها ــ إنذارًا بثورة عارمة وعميقة يمكن أن تهز أركان المجتمعات العربية الساردة في سباتها طوال أربعة قرون، على هامش العصر وخارج التاريخ. لم يكن إنكار "جاهلية" الشعر الجاهلي ما أثار حفيظة حتى لا نقول رعب السلفيين والمحافظين، بل المنهج العقلاني الذي كان ينذر بخلخلة اليقينيات ونزع القدسية عنها كي تصير ثيمة من ثيمات التفكير تقبل النقاش وتحتمل القبول أو الرفض على هدي الحجة أو البرهان.
هكذا وئدت هذه المبادرة في مهدها مثلما وئدت إلى جانبها مبادرة معاصرة لها لا تقل دلالة عنها وإن كانت أقل منها جذرية وشمولًا وطموحًا، وهي تلك التي أطلقها علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم".
صحيح أن ذلك حدث في عشرينيات القرن المنصرم، إلا أن الوضع ــ كما نرى ــ لا يزال على حاله في العالم العربي. فمثلما حوكم طه حسين وواجه حكامه منفردًا بعد أن تخلت عنه كافة الأحزاب السياسية الوطنية، ومثلما حوكم كذلك علي عبد الرازق وطرد من وظيفته، ونزعت عنه ألقابه العلمية، كذلك واجه نصر حامد أبو زيد، بعد سبعين عامًا من سلفيْه، الخصومة الشرسة ذاتها ونتيجتها التي أدت إلى نفيه نفسه خارج وطنه.
ومع ذلك، لا يزال الحديث جاريًا، هنا وهناك، عن "التجديد" وعن "ضرورة الإصلاح الديني"، وعن "ضرورة عصر تنوير آخر"، في عالم عربي تنتشر فيه، كالفطر، فضائيات يستغل ممولوها كل تقنيات التنوير كي يبقى الظلام سائدًا فيه وكي يبقى دعاته هم الغالبون.
أما النظم العربية فقد استعادت قدراتها الصحية العدوانية ضد كل محاولة أو مبادرة للتغيير، في تواطؤ صريح أو خفي مع أنصار الظلمات المعاصرين.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2017.



jeudi 16 novembre 2017


الاحتلال الإيراني 
بدرالدين عرودكي 
لم يكن مشهد اللطم في سوق الحميدية بدمشق عفويًا. ولم يكن سوريًّا أيضًا. لا على صعيد انتماء من شاركوا فيه، ولا على صعيد التقاليد السورية المتبعة لدى مختلف الطوائف الدينية. لكنه كان ضربًا من محاولة للبرهان على أن العاصمة السورية باتت محتلة، وعلى أن وجود المحتلِّ لم يعد يقتصر عل المظاهر العسكرية أو السياسية فحسب، بل تمكن من أن يتغلغل في نسيج المدينة الاجتماعي والديني، وعلى أنَّ أية محاولة للخلاص منه لن تنجح، حتى ولو أجليت عن البلد كله الميليشيات العسكرية الإيرانية، الأصيلة منها والوكيلة.  
ليس المشروع الإيراني بهذا المعنى وليد اليوم، ولا كذلك ردّ فعل على حدث الثورة السورية قبل ما يقارب سبع سنوات. بل بدأ في الحقيقة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي ظل وبموافقة مؤسس نظام القتل الأسدي، حين سمح هذا الأخير، بين الكثير مما سمح به خفية، بكسر الطابع المعماري الدمشقي في منطقة الجامع الأموي بالذات وبناء مسجد، إيراني التمويل والمذهب، بدا في شكله ولون جدرانه مثل لطخة في لوحة عريقة أو نشاز صارخ في لحن موسيقي. لم يكن بوسع أحد الاحتجاج بصورة أو بأخرى، لا لأن  المبنى "ديني بحت"،  ولا لأنه صارخ النشاز معماريًا، بل لأن أحدًا لا يستطيع، تحت طائلة فقدان حياته، مجرد الاعتراض على أو انتقاد إرادة رئاسية لم يكن أحدُ أصلًا يدرك آنئذٍ مرامي هذا المبنى البريء ظاهريًّا.
لكننا اليوم، وبعد هذه السنوات من التدخل الإيراني، الصريح والمعلن، في شؤون سورية وصولًا إلى تقزيم كل من يمثل النظام القائم بدءًا برئيسه، ثم وصولًا إلى التغلغل بشتى الطرق والوسائل في نسيج المجتمع السوري، نرى أن الاحتلال الإيراني لم يبدأ حقيقة غداة الثورة، وأن ما كان الجميع يظنه تعاونًا استراتيجيًا  بين بلديْن وقيادتيْن نِدّين ظهر إلى العلن مع بدء الحرب العراقية الإيرانية، كان، في حقيقة الأمر، يخفي وراءه ما يتجاوز التعاون الاستراتيجي، وصولًا إلى وضع اليد على البلد الذي لم يكن ينتظر إلا اللحظة المناسبة. يمكن القول إن إنشاء حزب الله في أوج الحرب الأهلية اللبنانية كان بداية تنفيذ هذه الخطة التي نتابع منذ بداية الثورة السورية آثارها والمآرب المختلفة التي تسعى إيران إلى تحقيقها في تنفيذها.
لاشك أن التدخل الروسي في سورية في اليوم الأخير من أيلول 2015 بحكم كثافة وقدرات القوة الروسية العسكرية الطاغية، قد غطى، إعلاميّا وسياسيًّا، على وجود إيران العسكري المسبق والأقدم على الأرض، عبر مستشاريها العسكريين وميليشياتها متعددة الجنسيات، فضلًا عن وكيلها اللبناني الحصري، حزب الله. وكان هذا، كما بدا، هو ما كان يلائم طبيعة التغلغل الإيراني في العمق الاجتماعي والجغرافي السوري. فالتغطية كاملة، والحديث يجري على الألسنة كلها عن الوجود الروسي، أرضًا وجوًا وقواعد عسكرية، بوصفه وجود قوة دولية لا مجال لمقارنتها بالقوة الإقليمية التي تمثلها إيران مهما بلغ مداها.  ذلك أن التواجد العسكري ماديًا لم يكن هو ما أرادته أو ما اعتمدت عليه إيران، بقدر ما كانت اعتمدت على قوى غير إيرانية، تجندها لحسابها وبأكبر عدد ممكن من أهل البلد أو من البلدان المجاورة، بحيث يقتصر تواجدها العسكري المادي من خلال المستشارين الذين يضمنون لقيادتها السياسية ولحرسها الثوري تنفيذ رغباتهما وتحقيق استراتيجيتهما، تلك الاستراتيجية التي باتت تقال اليوم علنًا على ألسنة كبار مسؤوليها السياسيين أو الأمنيين، والتي تتلخص في إمساك طهران بالقرار السياسي في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، على الأقل.  
فالدرس الذي تعلمته إيران من ماضي صراعها العريق مع العرب كي تنتصر عليهم وتبسط هيمنتها على بلادهم، كان على وجه الدقة هذا: ألا تتواجد على ساحة المعركة بجيوشها كما فعلت طوال تاريخها في المنطقة، وخصوصًا مع العرب الذين لم يعترفوا يومًا، منذ معركة ذي قار معهم عام 592 ميلادية، بخلاف بقية أقوام آسيا كما سجل المؤرخ اليوناني هيرودوس في حديثه عن داريوس، بسلطان فارس عليهم. ولذلك اختارت أن تتواجد من خلال وكلائها الحصريين الذين عملت على إعدادهم وتسليحهم وضمان وجودهم بكل الوسائل، مستفيدة من أيديولوجية دينية وأساطير ومظلوميات تستخدمها ببراعة منقطعة النظير، وتوظفها تحت شعارات براقة وخدّاعة، شأن استثمارها في فلسطين وقضيتها بوجه خاص.
لكنها إذ فشلت في عهد الشاه عن التمدد بقوة السلاح بسبب ميل موازين القوى الإقليمية والدولية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لغير صالحها، فقد أمكنها بعد استيلاء آيات الله على الثورة الشعبية أن تستخدم "الإسلام في صيغته الشيعية" أيديولوجية كاملة الأوصاف توظف من خلالها وفي المقام الأول أبناء الطوائف الشيعية في البلدان التي كانت تتطلع إلى السيطرة عليها: العراق وسورية ولبنان؛ وحققت ذلك، مستغلة الحرب الأهلية في لبنان، حين أنشأت، وبتواطؤ رأس النظام الأسدي آنذاك، أول قوة ضاربة لها تستطيع أن تهيمن بها على مقادير بلد بأكمله؛ ثم بدعم واستغلال الغزو الأمريكي للعراق كي ترث الغازي بعد رحيله، وتحل محله بوسائل مشابهة لتلك التي استخدمتها في لبنان، وأخيرًا، باستغلالها أحداث الربيع العربي في سورية وفي اليمن خصوصًا، ليفخر مسؤولوها، من بعد، بأن طهران باتت مركز أي قرار سياسي يتخذ في هذه الدول جميعًا!
 لم تكن المشكلة في اكتشاف ذلك الآن، ولا كذلك في معرفتها المؤكدة من قبل. بل كانت ولا تزال كامنة في عدم الرغبة في رؤيتها ولا في مواجهتها منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، حين كان حسن نصر الله يعلن على الملأ أن هدف حزبه لا مجرد إقامة جمهورية إسلامية في لبنان فحسب، بل أن تكون هذه الجمهورية جزءًا من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يرأسها ولي الفقيه. وها هو يصرح اليوم بالصراحة (أو بالوقاحة) ذاتها أن من يدفع الرواتب في حزب الله في لبنان، ومن يزوده بالأسلحة وبالمؤن، إنما هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأن من لا يعجبه ذلك، يستطيع "أن يشرب ماء البحر المتوسط". كان يمكن لمثل هذه التصريحات الصفيقة الصادرة عن زعيم سياسي، لا في العالم العربي فحسب بل في العالم كله، أن تسوق قائلها إلى الحكم عليه بالخيانة العظمى. لكن المعايير اختلفت، وكذلك، خصوصًا، موازين القوى بين العرب وإيران.
في هذه الأهداف التي تعمل بصبر ودأب على تحقيقها، لا تلتقي إيران بالضرورة مع تلك التي رسمتها روسيا لنفسها في سوريا، وبالتالي لا مجال لصراع مصالح حقيقي. وربما هذا ما يفسر التعايش القائم الذي نراه اليوم ماثلًا بينهما. إذ أن أي مقارنة بين سلوك كل من القوتيْن المحتلتيْن اليوم يتيح لنا رؤية هذا الاختلاف وعدم التضارب. تعمل إيران، وهي تعمل على استعادة هيمنة إمبراطورية في المنطقة، على أن تتواجد في عمق المجتمع السوري، وتجهد في سبيل تحقيق ذلك بوجه خاص من خلال التغييرات الديموغرافية التي فرضتها وتستمر في فرضها في العديد من المناطق السورية؛ كما تحاول عن طريق شراء الأراضي تثبيت مواطئ قدم لها في العاصمة نفسها وفيما حولها. في حين تعمل روسيا، بوصفها قوة دولية كبرى، على ضمان مصالحها في سورية من ناحية، وتثبيت موقعها كقوة عالمية من ناحية أخرى. ظهر ذلك كله بوضوح شديد في تصريح وزير الخارجية الروسية وهو يبدد أوهام الضغط على إيران استجابة للرغبات الأمريكية حين قال إن إيران وروسيا تتواجدان في سورية بطلب من "الحكومة السورية"، وأنه لا مجال للحديث عن ضغط روسي على إيران!
لسنا أمام احتلال روسي فحسب، بل أمام احتلال إيراني أشد خبثًا ونفاقًا. وسيكون على السوريين أن يعدّوا أنفسهم لنضال طويل الأمد، لابد ــ كما هو مفاد ثوابت التاريخ والجغرافيا ــ أن ينتهي إلى خروجهما معًا..

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 16 تشرين ثاني 2017.


jeudi 9 novembre 2017


المؤلفات الكاملة 
بدرالدين عرودكي 
ربما كانت سلسلة لابلياد، الكواكب، التي تنشرها أعرق وأهم دار نشر في فرنسا، غاليمار، أجمل وأغنى وأهم وأعرق سلسلة كتب في العالم الغربي لنشر المؤلفات الكاملة لكبار الكتاب في العالم. وكانت صدفة محضة ذات يوم من عام 1985 قادتني إلى صاحب الدار ومديرها، أنطوان غاليمار، حين أردت العمل على نشر الترجمة الفرنسية الأكمل التي قام بها باتريك غيوم، الذي كان أستاذ فقه اللغة العربية في السوربون، لرواية الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" ضمن سلسلة "من العالم كله" المخصصة لترجمات روايات أشهر الروائيين في العالم كله.
كنت في بدايات معهد العالم العربي، آنئذ، أتابع باسمه الاتفاق الذي أبرمته رئاسة المعهد مع منشورات لاتيس لنشر اثنتي عشرة رواية لمختلف الروائيين العرب مشرقًا ومغربًا (وكان من ضمنها مثلًا ثلاثية نجيب محفوظ التي اقترحت ترجمتها والتي تناقلت ترجمتها، من بعدُ، دور النشر الأوربية قبل حصول محفوظ على جائزة نوبل). ومن بين الروايات التي اقترحتها كنت أتطلع إلى ترجمة رواية إميل حبيبي المذكورة إلى الفرنسية ونشرها ضمن هذه السلسلة، حين علمتُ من الشاعر والأكاديمي الجزائري جمال الدين بن شيخ، أن باتريك غيوم سبق وأن حقق أفضل ترجمة يمكن أن تنجز لمثل هذه الرواية الصعبة لغويًا. وأعلمني، بالمناسبة، أن غاليمار كان على وشك نشرها إلا أنه أحجم عن ذلك من دون معرفة أسباب ذلك. لكن منشورات لاتيس رفضت الرواية دون بيان الأسباب الحقيقية. الأمر الذي حملني على الذهاب إلى دار غاليمار لمحاولة حثهم على نشرها لقاء إسهام مالي من المعهد معادلٍ لإسهامه في نشر الروايات العربية لدى لاتيس. التقيت يومها جان غيو، المسؤول عن سلسلة "من العالم كله"، وعرفت منه أن سبب الإحجام عن نشر الرواية، كان قيام دار نشر طارئة بنشر ترجمة سيئة لها مما كان سيسيئ لتلك التي بين أيديهم. حين سمع العرض، قبله على الفور، وصحبني إلى مكتب مديره، أنطوان غاليمار، يقدمني إليه ويعلمه بما اتفقنا عليه.
أعترف أنني كنت شديد السعادة أن ألتقي سليل مؤسس هذه الدار الذي قررت الحكومة الفرنسية مؤخرًا تسمية الشارع الذي يتواجد فيه مقرها باسمه: غاستون غاليمار. بعد أن عبَّر عن سعادته لمشروع التعاون مع المعهد بنشر أول رواية عربية في سلسلة "من العالم كله"، لم أقاوم الرغبة في أن أطرح عليه سؤالًا محرجًا، بما أنني من هواة سلسلة لابلياد، وكنت عزمت بعد سنوات من وصولي إلى باريس أن أهدي نفسي ستة مجلدات كل عام منها!، سألته، كيف يمكن لمثل هذه السلسلة الفريدة أن تضم روائع الأدب العالمي شرقًا وغربًا في حوالي أربعمائة مجلد وليس فيها من التراث العربي إلا "القرآن" إلى جانب الإنجيل والتوراة؟ أجاب صراحة: "هذا تقصير منا! الحقيقة أن كل مشروع أعمال كاملة أو حتى أعمال مختارة إذا لم يكن بالوسع نشر الأعمال الكاملة يحتاج منا من سبع إلى عشر سنوات إعدادًا للنشر تحت إشراف فريق عمل يضم ما لا يقل عن خمسة من كبار الاختصاصيين في مؤلفات الكاتب فضلاً عن المترجم عندما يكون النشر متعلقًا بكاتب أجنبي. كان جوابي أنهم في غاليمار لا شك يعرفون جاك بيرك وأندريه ميكيل ومكسيم رودنسون وجمال الدين بن شيخ، على الأقل، بين كبار المختصين بالتراث والآداب العربية..فكان أن نلت ــ على صعيد شخصي محض ــ وعدًا بالتفكير سريعًا بالأمر.. والحقيقة أنه لم تمض سنوات قلائل حتى صدر مجلد "الرحالة العرب"، ثم تلاه مجلدا "مقدمة ابن خلدون وكتاب العبر"، وقبل عدة سنوات، التحفة الأدبية العربية "ألف ليلة وليلة"، التي قضى جمال الدين بن شيخ وأندريه ميكيل في ترجمتها إلى الفرنسية أكثر من خمسة عشر عامًا.
لا تقتصر ميزات هذه السلسلة الفريدة (التي تأسست عام 1923 في إطار الدار التي تحمل اسمها ثم انتقلت إلى ملكية غاليمار عام 1933، كي تصير مؤسسة كاملة ضمنها تحمل عنوان "مكتبة لابلياد")، على نشر كل الأعمال الكاملة أو، على الأقل عند الاستحالة، كل ما هو موجود من أعمال المؤلف المختار. ذلك أنه نشر نقدي كما يقال بالفرنسية، أو محقق كما نقول بالعربية، من كل الجوانب: مقارنة مسار تطور العمل الإبداعي بين مختلف النسخ التي تركها المؤلف، والتغييرات التي أدخلها على عمله قبل الطبعة الأولى ثم من بعدها. كما تتضمن الطبعة دراسة نقدية وتاريخية وافية لكل عمل يضمه مجلد أو أكثر لهذا الكاتب أو ذاك. هكذا يستطيع القارئ العادي أو الباحث، حين يكون بين يديه أعمال الكاتب كلها، أن يدخل فضاءات إبداعه بسهولة يتنقل فيها حيث يشاء: له الحرية في أن يقرأ النصوص الإبداعية وحدها دون أن يلتفت إلى الهوامش التي تسرد خفايا وتفاصيل إعداد العمل وتاريخه، أو، إن كان باحثًا، أن ينظر في مختلف الخطوات التي كان على الكاتب أن يقوم بها حتى يصل إلى النسخة الأخيرة من مبدعه، أو في مختلف التنويعات على هذه الجملة أو تلك، أو على هذا المقطع أو ذاك، والأسباب التي حملت المؤلف على أن يغير هنا مرة أو أكثر، وذلك في دراسات المشرف على الطبعة وفريقه. ذلك كله في طباعة أنيقة على أفخم ضروب الورق (bible) وبأسهل حروف الطباعة على القراءة: هكذا تستطيع أن أن تقرأ مؤلفات ستندال الكاملة، بما في ذلك مشروعاته التي لم تكتمل، ومسودات رواياته التي أمكن الوصول إليها، مع دراسات لا نظير لعمقها عن الكاتب ومبدعاته، أو روايات فلوبير ومراسلاته التي تزيد في حجمها على رواياته، أو بلزاك، الكوميديا الإنسانية ومعها ما كتبه من قصص أخرى قصيرة وطويلة، فضلًا عن رسائله هو الآخر...
هي إذن طبعات نقدية أو محققة، خضعت لأشد شروط العمل البحثي والنشري صرامة ودقة. بهذا المعنى، لن يكون عنوان "الأعمال الكاملة" تعبيرًا عاديًا في هذا المجال. إذ أنه لا يوضع إلا على تلك التي يمكن اعتبارها كذلك نتيجة البحوث والدراسات وبإجماع المختصين. أما في الحالات الأخرى، فيكتفى بوضع "أعمال"، دون أن يعفي ذلك الفريق المسؤول عن إعداد الطبعة، من القيام بكافة التحقيقات الضرورية والدراسات المعمقة على مخطوطات المبدعات وتطورها أثناء تأليفها وتقديم ثماره للقارئ. ولهذا سمحت هذه الصيغة الأخيرة بأن تتخذ دار غاليمار قرارًا بنشر أعمال كتاب أحياء بعد أن اقتصرت في المئات الأربع الأولى من مجلداتها على مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين والراحلين  من المعاصرين.
يمكن القول إن هذه السلسلة بمفهومها وتقنيتها وإنجازاتها فريدة في عالم النشر على صعيد العالم كله، وليس لها مثيل إلا في إيطاليا، حين اختارت فيها دار نشر عريقة، هي الأخرى،  أن تتبنى، بالا تفاق مع غاليمار، السلسلة ذاتها، شكلًا وموضوعًا، باللغة الإيطالية.
أما في العالم العربي فباستثناء بعض السلاسل الكلاسيكية التي عرفها النشر العربي في مصر وفي لبنان خصوصًا، حين طبعت كبرى ثمرات التراث العربي في الشعر وفي الموسوعات الأدبية في طبعات محققة على أيدي كبار الباحثين والاختصاصيين،  فلا وجود لهذه الطبعات التي تعنى بجمع الأعمال الكاملة، بالمعنى الدقيق للكلمة، لكبار المؤلفين العرب، القدماء منهم أو المحدثين. لكننا بدأنا نشهد، قبل حوالي أربعين عامًا، ما سمي بالأعمال الكاملة لهذا الشاعر أو ذاك، في طبعات لا جديد فيها سوى إعادة طبع مجموع الدوواين المنشورة، من دون أي جهد علمي أو بحثي أو تاريخي، كما هو متبع في الغرب على هذا الصعيد. لكن الأسوأ من ذلك، أن تعبير "الأعمال الكاملة" لدى دور النشر العربية لم يقتصر، دون تمحيص  فعليًا،  على الراحلين من الشعراء، بل طال الأحياء منهم ممن كانوا لا يزالون يبدعون وينشرون! هكذا نشرت على سبيل المثال الأعمال الكاملة لمحمود درويش والأعمال الكاملة لنزار قباني قبل اكتمالها، مثلما نشرت بالطريقة ذاتها روايات عدد من الروائيين في مصر، كان آخرهم نجيب محفوظ الذي نشرت رواياته، ضمن الشروط المشار إليها، في مجلدات ضخمة مذهبة تصلح للعرض أكثر مما تغري بالقراءة.
ولولا استثناءات نادرة هنا وهناك في العالم العربي، لكان من الممكن القول إن زمن النشر الرفيع الذي تميزت به، على سبيل المثال، في مصر دار المعارف أو الهيئة المصرية العامة للكتاب (ولا سيما في سلسلة ذخائر العرب) في عصرهما الذهبي قد مضى إلى غير رجعة. فالتجارة باتت هي الدافع والهدف لدى معظم دور النشر الخاصة، كما أنَّ ما يمكن أن يطلق عليه "القيام بواجب الوظيفة" بات ديدن معظم دور النشر الرسمية.  ينطبق ذلك على الكتب المؤلفة مثلما ينطبق على الكتب المترجمة.
أسباب هذا التطور غير الطبيعي للنشر في عالمنا العربي كثيرة. لكن ذلك يحتاج بلا شك إلى حديث آخر.


** نشر على موقع جيرون، الخميس 9 تشرين الثاني 2017.


jeudi 2 novembre 2017



ثمن  الحرية 

 
 بدرالدين  عرودكي 

يقول في مُحْكَمِ مقاله بوصفه رئيسًا للتحرير:

"الدّولة السوريّة رَبِحت الحَرب استراتيجيًّا، والرئيس بشار الأسد باتَ مُتربّعًا بكُل ثِقَة على قمّتها، ولم يَعد أحد يَجرؤ على مُطالبته بالرّحيل، والجيش السوري الذي قادَ معركة الصّمود لما يقرب من السّبع سنوات، يُشكّل طوق الحماية لهذهِ الدّولة وقيادتها وشَعبها.. كل هذه الحقائق التي تَفرض نفسها على الأرض بقوّة...". ويكتب أحد كتبته: "..عائلة كعائلة الأسد في سورية لم تحكم ..فرْدٌ من أفرادها، كأي فرْدٍ من العائلات السورية، صَعَدَ في المناصب الوظيفية حتى موقع الرئاسة. فكان الرئيس الراحل حافظ الأسد، واتفق، بموجب الدستور، والنظام السياسي المعمول بهما على اختيار الدكتور بشار الأسد رئيسا."

حين تقودك الصدفة المحضة إلى أن تقرأ في الصحيفة الإلكترونية ذاتها، مثل هذا اليقين الأعمى في النص الأول، لكن البهلواني أيضًا، في قدرته على القفز فوق كل ما يراه الجميع من حوائل دون الوصول إلى مثل هذه "الحقيقة التي تفرض نفسها"، ومثل هذا التوصيف الأحمق حدَّ السذاجة المرضية في النص الثاني، لابد لك من أن تقرّ بأن العمى ليس بالضرورة آفة طبيعية، ولا البهلوانية أيضًا موهبة فطرية، ومثلهما الحماقة والسذاجة. بل هما، العمى والبهلوانية، أو الحماقة والسذاجة، قدرات مكتسبة تحولت اليوم إلى بعض من أسلحة مماثلة عديدة، ولاسيما منها التخلي عما اختزنته الذاكرة من أحداث ماض قريب، باتت جميعها تستخدم اليوم بكثافة غير مسبوقة، لا لإعادة رسم مشهد قائم أصلًا ومتاح أمام كل ذي عينين سليمتين، بل لتحديد طريقة قراءته في مجمله وفي تفاصيله، بعد حذف الكثير من هذه الأخيرة، أي فرض كيفية رؤيته في النهاية، بعد تغيير كثير من الخطوط والألوان.

سبع سنوات على خروج الجماهير العربية من مغرب العالم العربي حتى مشرقه تطالب بالحرية والكرامة، وبإسقاط نظم الاستبداد والفساد والاحتكار، وبإلغاء مشروعات تحويل ما كان جمهوريات مفترضة إلى جمهوريات وراثية، كانت، أيضًا، سبع سنوات من عمل حثيث من أجل إقناع هذه الجماهير بأن عليها أن تفهم خطأها، وأن تدرك أن استخدامها، هي ومطالبها، جعلها على "غير وعي منها وبغير إرادتها" ألعوبة في أيدٍ شريرة.
لقد جرت محاولات الإقناع هذه بوسائل تختلف من بلد إلى آخر على مساحة العالم العربي، تارة بتبني أهداف الثورة في هذا البلد والعمل على تفريغها بوسائل ديمقراطية، أو بالانقلاب على الشرعية واصطناع شرعية جديدة قوامها حركة الجماهير أو غضبها وتوظيفهما من أجل تحقيق غايات لم تكن تلك التي خرجت من أجلها.. لكن ما  كان أكثرها عنفًا وتدميرًا تلك التي جرت ولا زالت تجري، مُقَدِّمَة في سورية نموذجًا لا مثيل له في الكذب والخداع والنفاق وتشويه الحقائق فضلًا عن التدمير الممنهج ومحاولة إعادة تكييف البلد شعبًا ومناطق وجغرافيا بما يلائم ويتناسب مع تطلعات ومطامح القوى التي وقفت تدعم النظام الحاكم الاستبدادي بكل قواها: روسيا وإيران.
هكذا استحال المشهد في العالم العربي ــ وهو المشهد الذي تعمى عن رؤيته، على حقيقته، أبصار وبصائر أمثال مَنْ كتب هذا النص المذكور في بداية المقال ــ مشهدَ تاريخ سيزيفيّ العبث بكل معنى الكلمة: فبعد عقود من النضال للتحرر من الاستعمار ومن قواعده العسكرية في العالم العربي ومحاولات بناء الدولة الوطنية المتحررة من جديد، ها هي القواعد العسكرية تعود وتتكاثر في معظم البلدان العربية، قواعد مختلفة في جنسية دولها وفي حجمها وفي وأهدافها؛ وبعد سبعين سنة من رفض إسرائيل غرسًا استيطانيًا وعدوانيًّا في قلب العالم العربي، ها هي المشروعات السياسية والاقتصادية الكبرى التي يجري إعدادها بالشراكة معها بينما يجري فتح أبواب البلدان العربية لها واحدًا بعد الآخر؛ وبعد أن أزيحت مطالب الحرية والكرامة والديمقراطية والسيادة من هذا المشهد نهائيًّا، صار الإرهاب بوجوهه المختلفة يحتل مقدمته، وبات القضاء عليه حجة الجميع في حربه ضد الجميع.
على أن ما يجري في سورية التي ربحت الدولة فيها "الحرب استراتيجيًا" وتربع "الأسد على قمتها بكل ثقة" هو أشد وأنكى. فكيف يمكن لعاقل أن ينكر اليوم أنَّ هذه الدولة "التي ربحت" محتلةٌ أرضًا وقرارًا وسياسة على الصعيد الدولي والإقليمي والمحلي من قبل روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا، وكذلك من قبل الميليشيات الطائفية القادمة من لبنان والعراق؛ ومن يسعه أن ينكر أنه لولا وجود روسيا العسكري المباشر والدبلوماسي الداعم منذ البداية بوجه خاص، وتواطؤ الدول "الصديقة لشعب سورية" لما "ربحت الدولة السورية"، ولكان بشار الأسد ماثلًا اليوم أمام محكمة العدل الدولية يجيب عن فظائع جرائمه؟
من المؤكد أن ما يطمئن كتبة مثل هذه الترهات أن دولة قوية كروسيا تبدو الآن ممسكة بخيوط المسألة السورية كلها بعد أن أتاحت لميليشيات النظام الأسدي وحلفائه تحت حماية ودعم قواتها الجوية التقدم على الأرض، وانتهاز كل الفرص كي تضع صيغتها في الحل السياسي موضع التنفيذ. لم يعد الحل السياسي أمميًا إلا في التصريحات الصحفية، بما فيها تصريحات القادة الروس، بل صار حلًا روسيًا يقوم في جوهره على إعادة تأهيل النظام الأسدي تحت مسمى "الدولة السورية"؛ وقد أمكن للمناورات السياسية الروسية أن تقنع الجميع بالتخلي عن شرط استبعاد الأسد في مناقشة أية صيغة للحل بوصفه شرطًا مسبقًا، ولا تزال تعمل على ما يكفل القيام بإعادة النظر في جوهر النظام السياسي السوري، من خلال صوغ دستور يستجيب لمفهومها الذي ظهر واضحًا عند حديث رئيسها عن الكونفدرالية، وعن "الشعوب" السورية، وعن مؤتمرها الذي تدعو له، أي ببساطة تطبيق خطة تعكس رؤيتها وتنتهي بمرحلة تختتمُ بانتخابات رئاسية تجري في عام 2021، أي عام انتهاء "ولاية" رأس النظام الحالية، كي يخرج برضى الجميع كما تأمل، مرفوع الرأس!
ومن المؤكد أيضًا أن ما يحمل هؤلاء الكتبة على الكتابة بيقين مطلق، ما يظنون اكتشافه اليوم، عبر تصريحات أو سرديات بعض المسؤولين العرب، السابقين منهم والحاليين، عن مجريات الأمور في سورية في سنوات الثورة الأولى. إذ تتيح لهم أن يستريحوا إلى اليقين بما يظنون أنهم "سبق ورأوه وفضحوه"، وأن يستكينوا مرة أخرى إلى قناعات موروثة من خمسينيات القرن الماضي عندما كانت روسيا هي "الاتحاد السوفياتي، صديق الشعوب"، فيهرعون فرحين إلى إعلان إعجابهم بـ"دهاء الرئيس بوتين، ومُسارعته لنُصرة حُلفائه، وتضحيته بالكثير من قياداته وجُنوده في ميادين القِتال، وتشكيله التّحالفات السياسيّة والعَسكريّة القويّة الفاعلة" وكيف أنه صار بفعل ذلك "هو الحاكم الفِعلي وعن جَدارةٍ لـ”الشرق الأوسط الجديد” الذي صاغه على أنقاض الولايات المتحدة الأمريكيّة ونُفوذها، الذي استمرّ دون مُنازعٍ لأكثر من أربعين عامًا، مِثلما باتَ هو صانع القرار، ولكن بالتّشاور مع حُلفائه الذين وثَقوا بِه ووثِق بِهم". هكذا لا يُلغى من الحساب وجود الشعب السوري، ولا مئات الألوف من قتلاه، ولا ملايين السوريين  المهاجرين والمبعثرين في أرجاء الأرض كلها، بل كذلك يُلغى الغرب بأكمله بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية. وعلينا أن نصدق، كما صدّق هو، أو هم، هذه الترهات.
هكذا يتجلى ثمن الحرية التي خرج الشعب السوري يطالب بها ولا يزال: فيما وراء القتل والتهجير والتدمير، عليه أن يتلقى ويجفف أنهارًا من النفاق والكذب والهراء والسذاجة في فكر وعلى ألسنة من كان يُفترض أو يُظن أنهم الضمير الناطق بالحق، فإذا بهم ينطقون بما هو أشد كذبًا ونفاقًا ..
من كان يُظنُّ بأنهم..غير أن بعض الظنِّ إثمٌ فعلًا..

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2017



mercredi 1 novembre 2017


حوار مع: بدرالدين عرودكي 
خالد بيومي
·      كاتب ومترجم وناشط سوريٌّ في المجال الثقافي والفكري
·      كتب الكثير من المقالات والدراسات في مجال النقد الأدبي وسوسيولوجيا الثقافة كما ترجم الكثير من الكتب في مجال الأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعية نشر عددٌ منها في مصر.
·      يعيش في باريس منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي حيث أتم دراسته بالحصول على الدكتوراه ثم عمل بين عامي 1983 و2012 في معهد العالم العربي في باريس وشغل فيه عدة مناصب كان آخرها المدير العام المساعد.
1ـ أنت تقيم في باريس منذ فترة طويلة ، لكنك لم تزل (العربي المقيم في باريس ) وظلت علاقتك بعالمك العربي في صلب ترجماتك وكتاباتك .. كيف استطعت المحافظة على خصوصيتك العربية ضمن بيئة غير عربية خلال كل هذه الفترة الزمنية؟

** كنت في الثلاثين من العمر حين وصلت باريس. أعني أنني كنت قد تجاوزت مرحلة التكوين الفكري والنفسي الأساسية التي يعيشها الفرد منذ طفولته وحتى سن رشده. يقال إن هذه المرحلة لا تكتمل إلا في سن الأربعين! لكن البذور كانت قد مدّت جذورها في الأعماق ولاسيما في ما يتعلق بالانتماء إلى أرض وثقافة أمّة ذات جذور ضاربة في أعماق الزمان والتاريخ. ثم إنني حين غادرت دمشق لم يكن يخطر في ذهني على الإطلاق أمر استمرار إقامتي في فرنسا. بمعنى أن سفري لم يكن رغبة في الهجرة. كنتُ تواقاً إلى أن أعيش تجربة غربية على صعيد اللغة والثقافة والحياة بينما أتابع دراساتي العليا لأعود بعد ذلك وفي أسرع وقت ممكن إلى وطني وبيتي: دمشق. ومنذ البداية، كنتُ عازماً على أن تبقى وسائل التواصل مع الأرض العربية مستمرة وفعالة وفاعلة. سرعان ما اتفقت آنئذ مع الدكتور سهيل إدريس لأكون مراسلاً لمجلة الآداب في باريس، وسرعان أيضاً ما شرعت في تعاون فكري على أكثر من صعيد مع الصديق المرحوم أنور عبد الملك الذي قمت بإعداد وترجمة عدد من دراساته التي حررها بالفرنسية والتي صدرت عام 1974 عن دار الآداب تحت عنوان "الفكر العربي في معركة النهضة".. على أن الأمور سارت من بعدُ في اتجاهات لم أكن أتوقعها، فرأيتني أصرف النظر عن العودة إلى دمشق حتى إشعار آخر! لكن الصلات التي بدأتها اعتباراً من باريس استمرت واغتنت من خلال الفعاليات التي مارستها على كل أكثر من صعيد: الترجمة، والعمل الثقافي العربي في فروعه المختلفة حتى وصولي إلى معهد العالم العربي في باريس عام 1983، الذي أتاح العمل لي فيه أن أوسع من تجربتي لتشمل العالم العربي بأكمله. ذلك ما يفسر في ما أرى محافظتي على خصوصيتي العربية كما تقول. لقد كنت على وعي بذلك منذ وصولي إلى باريس، المدينة التي استسلمت لسحرها إذ صارت واقعاً بعد أن كانت حلماً، وكنت لهذا أعتبر أن مسألة اللغة أساس في هذا المجال، ومن ثمَّ فقد وضعت لنفسي حاجزاً عند استخدامي اللغتين: لا أخلط بينهما، ولا أقحم كما يفعل البعض المفردات الفرنسية في سياق الجُمَل العربية التي أستخدمها في الحياة اليومية.. أما الأساس الآخر فهو أني أعيش على وقع عالمي الأصلي، هذا العالم الذي كان شبه منحصر في سورية ثمَّ اتسع ليشمل العالم العربي بأكمله..
  
2- ما مفهومك للترجمة، وحتمية تورط المترجم في ترجماته؟

** الترجمة من حيث المبدأ هي أن تقول بلغة أخرى ما يقوله النص الذي تترجمه في لغته الأصلية. ولكن، هل يمكن أن تحقق ذلك فعلاً وأنتَ تعلم مسبقاً أن لكل لغة خصوصيتها سواء في تكوينها أو في تطورها التاريخي، وأنَّ لكل كلمة، في كل لغة، تاريخها ودلالاتها الكامنة في تركيبها أو في مواضع وفي طرق استخدامها؟ من الواضح أن الترجمة، بدايةً، مسألة إشكالية. وهي ورطة كما تقول بكل ما تعنيه الكلمة من معنى! هناك العديد من وجهات النظر في كيفية حلِّ هذه الإشكالية. أول ما يتبادر إلى ذهننا، في تراثنا العربي الحديث، مصطفى لطفي المنفلوطي. قال من جاء بعده عن ترجماته التي قام بها إنه قام بالتعريب، أي بالخروج عن النص كلما اضطره الأمر ليأتي نصه عربيّ البيان والتبيين! هذا يعني إعادة الكتابة بالعربية ما سبق وأن كتب بالفرنسية أو بأي لغة أخرى. لا يزال العديد ممن يترجمون اليوم في عالمنا العربي يسيرون على هذا النهج بهذا القدر أو ذاك، مما دفع أستاذنا الكبير الدكتور بديع الكسم، وكان من كبار أساتذة الفلسفة في جامعة دمشق، إلى أن يقول يوماً، إنه حين يقوم كتّابنا بالترجمة يؤلفون، وحين يؤلفون يترجمون! على هذا النحو تمت ترجمة العديد من روائع الأدب الفرنسي والإنجليزي والروسي والألماني والأمريكي.. قارن، على سبيل المثال نص الترجمة التي تمت لكتاب "أعمدة الحكمة السبعة"في خمسينيات القرن الماضي مع النص الأصلي، وستجد العجب العجاب..لكني، من ناحيتي، اخترت لنفسي طريقاً في الترجمة ومنهجاً وجدت في ما بعد أنه أقرب إلى طريقة ومنهج الروائي ميلان كونديرا. لم يكن كونديرا مترجماً، لكنه عندما غادر بلده الأصلي، تشيكوسلوفاكيا، عام 1975 إلى فرنسا، اكتشف بالصدفة ومن خلال أسئلة أحد الصحفيين الفرنسيين حول أسلوبه في الكتابة الروائية، وجود خلل ما في الترجمة الفرنسية لرواياته. وحين قرأ الترجمة طلب إلى ناشره وقف بيع رواياته المترجمة وقضى عدداً من السنوات يشرف على إعادة ترجمة رواياته من جديد إلى اللغات الأربع التي كان يتقنها، ومنها الفرنسية بالطبع. اكتشف على سبيل المثال أنه لا يجوز التضحية بأسلوب الكاتب من أجل جمال اللغة المنقول إليها لاسيما وأن الكاتب، في معظم الحالات، ينتهك ما يسمّى "الأسلوب الجميل" في لغته الأصلية وأن في هذا "الانتهاك" إنما يوجد إبداع فنه. هنا على المترجم فهم هذا "الانتهاك"، وعليه أن يعيد إنتاجه في اللغة التي ينقل إليها. لقد تنبهت أيضاً إلى أن من الضروري كذلك أن أتيح لقارئ الترجمة التي أقوم بها أن يتحسس قدر الإمكان خصوصية اللغة التي أنقل منها بما في ذلك الصور البلاغية الخاصة بها التي تستخدمها. أريد أن أقول إن النصَّ المترجم يجب أن يبدو، كما هو في الحقيقة، مترجماً، لا أن يبدو وكأنه كتب باللغة التي نقلَ إليها. أعرف أن ذلك يكسر القواعد المتبعة والتي يتم تعليمها في المدارس والجامعات، وأعرف أيضاً أن البعض يمكن أن يصرخ بالويل وبالثبور لجهل قواعد الترجمة ولقواعد اللغة العربية. ولكن الأمانة في الترجمة (وأعني بها هنا أقل قدر من خيانة النصِّ الأصلي) تقتضي أن ألتصق بنصّ الكاتب، أي بفكر الكاتب، الذي أقوم بترجمته، لا أن أجعله يقول شيئاً لم يقله.  على أن الحديث في هذا المجال لا يمكن له أن يستنفذ كل ما يمكن أن يقال ولاسيما بعد خوض ترجمة أكثر من ثلاثين كتاباً في الأدب أو في العلوم، الإنسانية منها والاجتماعية.

3- ترجمت كتاب (معك) لسوزان طه حسين .. برأيك ما الذي تبقى من تراث وفكر طه حسين بعد مرور أربعين عاما على رحيله ؟

** أتيحت لي الفرصة أكثر من مرة للحديث عن تراث طه حسين بصدد كتاب زوجته الذي ترجمته عام 1974 ونشرته للمرة الأولى في السنة التالية دار المعارف بمصر. كان طه حسين حدثاً في تاريخ الثقافة العربية في النصف الأول من القرن العشرين على الأصعدة كلها: صعيد حرية التعبير، صعيد النقد العميق للتراث وللتاريخ وللمناهج التقليدية، صعيد التزام الكاتب بمشكلات مجتمعه، صعيد الرؤية المستقبلية للثقافة وللتربية في بلده.. والقائمة لا تنتهي. بل من الممكن القول إنه كان يجسِّدُ المثقف العضوي بالمعنى الذي تحدث عنه غرامشي. لقد تمثل التراث العربي الكلاسيكي مثلما تمثل التراث الغربي بدءاً بجذوره اليونانية والرومانية، واستطاع بقدراته الهائلة في التركيب وفي التوليف أن يعيد قراءة التراث العربي قراءة نقدية واعية وشاملة قلّ من قام بمثلها حتى يومنا هذا..
كان أول من هاجم طه حسين، منذ البداية كما نعلم، أؤلئك الذين يحاولون حتى اليوم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ولا يزالون يحاربونه حتى وهو في قبره، شأنه في ذلك شأن الكثرة من كتاب ومفكري مصر التنويريين الكبار.. لكن طه حسين سيعود لاحتلال الساحة من جديد، وسيظل علماً من أعلام حرية الفكر والاجتهاد واستقلال الرأي عن كل سلطان، أياً كانت سلطة هذا السلطان..وإني لأعتبر أن شباب مصر الذين قاموا بثورة 25 يناير هم من حيث لا يدرون أبناء طه حسين بامتياز..

4- ترجمت أكثر من عمل للكاتب التشيكي ميلان كونديرا .. ما سر ولعك بهذا الكاتب وهل له تلاميذ في العالم العربي ؟

** ترجمتُ في الحقيقة كتبه الخاصة التي تضمنت تأملاته في فن الرواية، أعني: فن الرواية؛ الوصايا المغدورة، الستار. وهي كتب مستقلة، ونشرت على هذا النحو، لكنها متكاملة. نُشِرت ترجمة الكتاب الأول منها في المغرب أولاً، ثم نُشِرَت الكتب الثلاثة وفق رغبة كونديرا نفسه في مجلد واحد صدر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في عام 2007 .  أما ولعي بأعمال كونديرا فقد بدأ عام 1983 حين قرأت رواية المزحة. ما إن أنهيت قراءتها حتى ذهبت من فوري إلى مكتبة غاليمار في شارع راسباي بباريس واشتريت رواياته كلها التي نشرت حتى ذلك التاريخ وقرأتها خلال شهر الإجازة. والحقيقة أن هذه القراءة أتاحت لي أن أعيد النظر في ما كنت أعتبره مفهوم فن الرواية وأن أعيد قراءة كبار الروائيين الروس والفرنسيين والإنجليز والأمريكيين من جديد. الحقيقة أنَّ تاريخ الإنسان/الفرد في المجتمعات يكتبه الروائيون. شريطة ألا نرى في كل كتاب يكتب مؤلفه أو ناشره تحت العنوان كلمة "رواية" رواية! أما بالنسبة إلى تلاميذ كونديرا في العالم العربي فمما لاشك فيه أن هناك من يحاول تقليده، أو السير على ما يظنه طريقته في الكتابة الروائية..لكن ذلك، إن وجد فعلاً، لن يخرج عن إطار التدريب على الكتابة.

5- ترجمت وأعددتَ كتاب ( الفكر العربي في مرحلة النهضة ) للدكتور أنور عبد الملك .. وهناك من يرى أن أنور عبد الملك هو رائد الاستشراق في العالم العربي وليس إدوارد سعيد .. ما رأيك؟

** تريد أن تقول رائد نقد الاستشراق؟ لقد كتب أنور عبد الملك ونشر دراسته "الاستشراق في أزمة" عام 1963 في حين كتب إدوار سعيد ونشر كتابه "الاستشراق" عام 1978، أي بعد خمسة عشر عاماً من دراسة عبد الملك. كلاهما ينتقد الاستشراق، أي نقد النظرة العلمية الغربية إلى التراث العربي، الذي هو تراثهما معاً. هناك أسبقية زمنية في تناول هذا الموضوع ومن هذه الزاوية بالذات. ولابدّ من الإشارة إلى أن إدوار سعيد يصرح بدينه إلى أنور عبد الملك. لقد أثارت دراسة هذا الأخير عند نشرها عواصف من النقد ومن السجال طال معظم ميادين البحوث الاستشراقية وشارك فيه المستشرقون في فرنسا خصوصاً وهزّ معظم القناعات الراسخة لدى قطاع عريض من الجمهور آنئذ. وهو ما يفسر الاستقبال الفاتر الذي حظي به في فرنسا كتاب إدوار سعيد عند ظهور ترجمته. لا مجال هنا للمقارنة بين الدراستيْن. ولست ممن يميل إلى الحديث بمفردات المفاضلة بين جهديْن علمييْن حظي كلٌّ منهما بتقدير يليق بالجهد الذي بذل في تحقيقهما. لكلٍّ من الدراستيْن منطلقاتها وحججها على الرغم من إمكان تشابه الاثنتيْن في منطلقاتهما، أي بوصفهما نقداً علمياً للاستشراق. أفضل الحديث بالأحرى عن منهج كلٍّ من الباحثيْن في تناول موضوع الاستشراق، ومنطلقاته الفكرية والأيديولوجية  وانتمائه الأكاديمي عندما كتب كلٌّ منهما دراسته.. إلخ. ذلك أمر قام به بعض الباحثين ولا سيما توماس بريسون الذي كتب دراسة تحمل عنوان "النقد العربي للاستشراق في فرنسا وفي الولايات المتحدة" والتي نشرتها مجلة أنثروبولوجيا المعرفة في عددها الثالث عام 2008.

6- ترجمت كتابا عن الفرنسية يتناول حياة أم كلثوم .ما الجديد الذي كشفته في هذا الكتاب؟

** كان الجديد الذ عكسه هذا الكتاب هو الطريقة التي تم بها تقديم أم كلثوم إلى الجمهور الفرنسي. بالنسبة لمن عرف أم كلثوم في العالم العربي وتابعها منذ نشأتها في بيئة ريفية فقيرة ثم صيرورتها فنانة ومناضلة، لم يكن في هذا الكتاب جديد. إذ كان موجهاً للجمهور الفرنسي ونشر خصيصاً لمرافقة المعرض الذي أقمناه في معهد العالم العربي والذي حمل عنوان: أم كلثوم، الهرم الربع. وقد ترجمته للفرنسية بناء على طلب وزارة الثقافة في مملكة البحرين حين قررت استقبال المعرض في المنامة وكان لابد من أن يكون الكتاب المرافق مترجماً إلى اللغة العربية.

7- يلاحظ انحيازك لترجمة الروايات على حساب الأجناس الادبية الأخرى .. فهل تؤمن بمقولة نحن في زمن الرواية لجابر عصفور ؟

** ليس هناك أي انحياز. في مجال الإبداع الأدبي؛ أول عمل ترجمته في حياتي كان قصيدة طويلة للشاعر الفرنسي رامبو تحمل عنوان "الحدّاد" نشرت عام 1970 في مجلة "الطليعة" الدمشقية، دعاني على إثر نشرها رئيس تحرير المجلة آنئذ، المرحوم محي الدين ناصر، للعمل في المجلة كمحرر فني ثم كمحرر فني وأدبيٍّ معاً.. كما أنه سبق لي وأن ترجمت المسرحية والقصة القصيرة والدراسات المختلفة في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية. لا يتجاوز عدد الروايات التي ترجمتها أربع روايات، وإن لم ينشر منها سوى ثلاث. ولا يمكن اعتبار ذلك انحيازاً بالنسبة لعدد الكتب التي ترجمتها حتى الآن!

8- الملاحظ ان كل ترجماتك عن الفرنسية ، وهناك من يرى ان الادب الفرنسي تراجع كثيرا على المستوى العالمي .. ما رأيك ؟

** ترجمت أيضاً من العربية إلى الفرنسية! أول ما ترجمت على هذا النحو قصائد لشعراء يمنيين كانت مؤلفة كتاب "كنت طبيبة في اليمن"، كلودي فايان، قد نشرت مختارات من الشعر اليمني وطلبت إلي المشاركة في ترجمة بعض القصائد..
          لا أرى أن الأدب الفرنسي قد تراجع كثيراً أو قليلاً. لكل عصر أدباؤه. ومن المؤسف أن ما يترجم عن الفرنسية يخضع لمعايير لا علاقة لها على الإطلاق بالقيمة الأدبية أو بأهمية العمل الأدبي الفنية، رواية أو مسرحية أو قصيدة شعرية. عدد كبير من كبار الكتاب الفرنسيين المعاصرين لا يزالون مجهولين من القارئ العربي غير الناطق بالفرنسية. لقد التفت الناشرون العرب إلى ترجمة الكتب الرائجة ولاسيما منها ما كتبه كتاب عرب بالفرنسية مثل أمين معلوف والطاهر بن جلون وياسمينة خضرا..

9- الملاحظ اشتغالك على ثيمة ( الزمان ) في اكثر من عمل .. هل تعني زمنك أم زمن الآخرين ؟

** خلال عام 2008،  اقترح عليَّ الصديق الطاهر لبيب، وكان آنئذ مدير المنظمة العربية للترجمة، أن أقوم بترجمة كتابين يتناولان ثيمة الزمان هما كتاب الفيلسوف البولوني الذي يعيش في فرنسا كريستوف بوميان "نظام الزمان" وكتاب المؤرخ فرنسوا هارتوغ "تدابير التاريخانية". وذلك لأن الفكر العربي المعاصر لم يتناول هذه الثيمة إلا نادراً أو عابراً بخلاف الفكر العربي الكلاسيكي وخصوصاً، على سبيل المثال لا الحصر، ابن خلدون. وهذا ما دفعني إلى مغامرة ترجمة هذين الكتابيْن اللذين تطلبا الكثير من الجهد الفكري ولا سيما على صعيد المصطلحات والمفاهيم التي لم يسبق أن فكرناها باللغة العربية. كما ترى ما شغلني فهم الزمان، وفهم الزمان يعني بين ما يعني فهم التاريخ أساساً، وما يعنيني بالتأكيد هو فهم زمني الذي أعيش فيه.. لكن هل يستقيم فهم الزمن الحاضر من دون فهم الماضي؟

10- كيف ترى الدور الثقافي لمعهد العالم العربي في باريس في عندما لا يأتي الدعم المادي لا من فرنسا ولا من العالم العربي ؟

** ومن قال لك إن الدعم المادي لمعهد العالم العربي لا يأتي من فرنسا؟ الحقيقة أن المعهد يشكو من غياب الدعم المالي الرسمي والمنتظم من العالم العربي الذي يعتبر من خلال الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية شريكاً مع فرنسا في تأسيس وفي إدارة وفي تسيير هذا المعهد. فباستثناء دولة الكويت التي تبرعت بأربعة ملايين يورو لدعم مشروعي إعادة تأهيل متحف المعهد ومكتبته العامة، لم تقدم أي دولة عربية أخرى أي دعم مالي خلال السنوات العشر الأخيرة. كان يفترض بشريكي المعهد، عند التأسيس، أي فرنسا والدول العربية كلها، أن يتقاسما أعباء ميزانية المعهد بالتساوي. إلا أنه أمام قيام بعض الدول العربية بالوفاء بالتزاماتها المالية بانتظام، وهي أقلية، وإحجام معظم الدول العربية عن القيام بذلك، اقترحت فرنسا أن تقوم الدول العربية بتسديد ما عليها من التزامات متراكمة لتوضع في صندوق خاص، كالوقف، للاستفادة من ثمرات المبلغ المجموع في ميزانية المعهد السنوية التي استمرت فرنسا بدفعها بلا توقف. وكان أن توقفت الدول العربية التي كانت تدفع التزاماتها بانتظام عن الدفع، وانتظرت إدارة المعهد أن تقوم الدول العربية المدينة أن تسدد ديونها واحدة بعد أخرى. ورغم مرور ما لايقل عن عشر سنوات على اقتراح هذا الحل، لم يقم بعض الدول العربية ببدء التسديد أصلاً فضلاً عن أنه لازال البعض الآخر يسدد هذه الديون بالتقسيط. من الواضح أن ذلك يعكس موقف لامبالاة كاملة بالمعهد وبما يعنيه وجود صرح ثقافي عربيٍّ كبير فرض نفسه خلال أقل من ربع قرن على المشهد الثقافي الباريسي. لم أكن شخصياً من أنصار هذا الحل الذي ارتأته فرنسا والذي جاء نتيجة اليأس من إقناع الدول العربية كي تنفذ التزاماتها. لكن الدول العربية كانت في وادٍ آخر.
          هذا القصور في التمويل حمل إدارة المعهد على أن تولي الموارد الخاصة اهتمامها الأكبر، فبدأت في إقامة المعارض الكبرى التي تجذب عشرات الألوف من الزوار، وافتتحت مكتبة البيع، كما طور قسم تأجير القاعات، وأقيم مركز تعليم اللغة والحضارة العربيتين، وعمل على تقديم معارضه خارج جدران المعهد سواء في المدن الفرنسية المختلفة أوفي أوربا أو حتى في بعض المدن العربية..وكان من شأن هذه الجهود أن بلغ إسهام الموارد الخاصة في ميزانية المعهد بعض السنوات نسبة 35% من الميزانية العامة للمعهد، مما سمح له بالاستمرار في نشاطاته الثقافية المختلفة؛ لكن هذه الميزانية بقيت خاسرة، حتى وصل الأمر في عام 2005 إلى أن يبلغ نقص السيولة حوالي خمسة عشر مليون يورو، وهو ما أدى إلى القيام بإعادة النظر في نشاطات المعهد وهيكليته وعدد موظفيه، مما ساعد خلال عدة سنوات في الحد من هذا النقص دون أن يلغي الخلل الدائم في ميزانية المعهد على الرغم من أن فرنسا قد زادت في مبلغ إسهامها السنوي بما يعادل ثلاثة ملايين يورو لقاء قيام إدارة المعهد بترشيد التسيير المالي والإداري ضمن خطة  يتم تجديدها كل ثلاث سنوات.
          ما قام ويقوم المعهد به في نظري من نشاطات ثقافية خلال السنوات العشر الأخيرة يبقى ممثلاً للحد الأدنى مما يمكن له أن يقوم به. كثيرة هي النشاطات التي ألغيت لأنها لا تأتي بالموارد التي تغطيها كمهرجان الشعر وكرسي معهد العالم العربي ومهرجان السينما ومعرض الكتاب العربي الأوربي، كما أن الندوات الدولية التي يخطط المعهد لها وينفذها باتت شبه نادرة،  وما لم تكن هناك مؤسسات أخرى تبحث عن قاعات لاستقبال ندوات صممتها وخططت لها ووضعتها موضع التنفيذ لما كان ثمة أية ندوة دولية تجري في المعهد..مردّ ذلك كله بالطبع هو سياسة التقشف الاضطرارية التي لا يمكن للمعهد أن يستمر بدونها. هذا وضع يحمل على الأسف الشديد. عندما نشهد محاولات الدول غير العربية في منطقة الشرق الأوسط كي تجد طريقاً يسمح لها بالتواجد بصورة أو بأخرى في المعهد، ندرك مدى حجم التقصير العربي تجاه المعهد، بل ومدى غياب الشعور بالمسؤولية من عدد كبير من الدول العربية التي لا ينقصها المال إزاء صرح بهذه الأهمية فرض نفسه على المشهد الثقافي الفرنسي ويستطيع أن يحقق الكثير للثقافة العربية في مختلف مظاهر تجلياتها..

11- كيف ينظر الغرب والفرنسيون الى ثورات الربيع العربي ؟

** فوجئ الغرب على اختلاف دوله بثورات الشباب العربي (ذلك أنه يجب ألا يغيب عن ذهننا أبداً أن هذه الحركات الثورية التي انطلقت مؤخراً كانت حركات شبابية بامتياز) في عدد من الدول العربية. وتعامل معها في البداية بنوع من الخفة، ولاسيما في تونس، معتبراً إياها ضرباً من أعمال الشغب يمكن التغلب عليه بسهولة، وكان ذلك على وجه الخصوص رد فعل بعض المسؤولين الفرنسيين! لكن سرعان ما تجاوزت هذه الدول الصدمة الأولى وانخرطت في محاولة فهم ما يجري ثم في محاولة ركوب الموجات الثورية والعمل على توجيهها بحيث تخدم مصالحها في المقام الأول. ساعدها في ذلك غياب المجتمعات المدنية الحقيقية في الدول العربية التي انتفض فيها الشباب العربي، ووجود حركات إسلامية شديدة التنظيم انخرطت في الثورة متأخرة لكنها استطاعت أن تحتل مقدمة المشهد كما أمكنها بفعل نهمها إلى السلطة أن تناور على المستويات كلها لكي تكسب ثقة الجماهير وسكوت الغرب الذي عرفت ما كان ينتظره منها منها فاستجابت.. هذا ما يفسِّر أن الثورة لا تزال قائمة في تونس وفي مصر..وذلك بلا شك أمر طبيعي بعد أكثر من ثلاثين سنة من الاستبداد ومن التدجين ومن الفساد ومن انعدام الفعل السياسي التعددي على مستوى المجتمع بأكمله..
          لكن ما يجري في سورية يقدم الدليل الأكبر على هذا الصراع من أجل تحقيق مصالح متناقضة على الصعيدين الإقليمي والدولي للقوى المختلفة، الغربية منها وغير الغربية. وليس من قبيل الصدفة أن تستمر الثورة في سورية أكثر من سنتين يقتل فيها السوريون بجرعات منتظمة وبلا توقف. ذلك أن النظام الذي تمرس خلال أربعين عاماً على المتاجرة بسورية على الصعيد الدولي استطاع أن يدوّل ما بدأ واستمر ثورة شعب يطالب بكرامته وبحريته. لم يعد الشعب السوري يثور ضد نظام استبدادي فاسد وفاجر فحسب بل يواجه أيضاً مصالح القوى المتناقضة في ميدان المعركة مثلما هو الأمر في ميدان السياسة. كان سقوط بن علي ومبارك وبن صالح سريعاً نسبياً فلم تتجلّ المصالح الغربية بوضوح في تحقيق أو توجيه أهداف الثورة. لكن ما حدث في ليبيا قرع ناقوس الخطر: لا شيء مجاني. كذلك كانت الأمور ولا تزال كذلك وستستمر على هذا النحو. ثم قامت الثورة في سورية وقدمت المثل الأكثر بياناً ونجوعاً في هذا المجال: فأمام كل هذه المشاهد، وأمام استنكاف الجميع عن أيقاف المجزرة التي يمارسها النظام السوري ضد شعبه، أدرك الشعب السوري أن عليه ألا يعتمد على أحد، ومن هنا الصرخة التي أطلقتها جماهيره: "يا الله مالنا غيرك يا الله".

** جرت هذه المقابلة في شهر آذار/مارس 2013،  ونشرت في عدد تشرين الثاني/نوفمبر 2017 من مجلة "تراث" (ص. 76ــ 79)، باستثناء السؤال والإجابة الأخيرين.