vendredi 24 juin 2016


حول أمين معلوف والكتبة "الممانعين"

بدرالدين عرودكي

لم أقرأ لأحد ممن تناول حوار أمين معلوف على القناة الإسرائيلية الخاصة مهاجماً ما قاله، أو ما صرح به أو ما عبر عنه خلال الحوار من موقف.. تركز كل ما كتب على مجرد ظهوره على شاشة قناة إسرائيلية، فصرخ "الممانعون" و"المقاومون" و"أنصار المقاطعة" كما سنت قواعدها وشرعتها نظم الاستبداد العربي منذ أكثر من خمسين عاماً..

بدا أن أمين معلوف بظهوره على شاشة قناة تلفزيونية إسرائيلية قد منحهم ورقة التوت كي يستروا بها سوأتهم القذرة، تلك التي تتجلى كل يوم في دفاعهم المستميت عن نظام، هو النظام الأسدي، يعتقل ويقتل الأطفال والنساء والرجال بالوسائل كلها: البراميل والكيمياوي وكذلك بالتدمير وبالتهجير؛ تلك التي تتجلى في استزلامهم وعبوديتهم لإيران، هذه الدولة الفاجرة التي تريد بسط هيمنتها العسكرية والاقتصادية على العالم العربي بدءاً من العراق وسورية ولبنان، تلك التي تتجلى في دفاعهم عن الاستبداد أياً كان الشكل الذي يتخذه: في نظام الملالي وولاية الفقيه، أو في نظام العائلة الأسدية، أو في هيمنة حزب طائفي بقوة السلاح على مصير شعب كامل في لبنان.

هكذا، صار أمين معلوف طريقهم إلى تبرير كذبهم، وإلى تعليل صفاقتهم، بما أنهم يهاجمونه باسم مقاومة إسرائيل التي قام معبودهم اليوم، بوتين روسيا، بتقديم الدبابة التي غنمها الجنود السوريون خلال حرب 1982 هدية لإسرائيل التي يقاومونها بينما ينسق معها وجود طائراتها وطائراته في السماء السورية.

وفي غمرة ذلك كله، نسي هؤلاء جميعاً بعض التفاصيل ذات الدلالة. نسي هؤلاء أن أمين معلوف اليوم كاتب فرنسي (أعني يكتب ويعبر عن نفسه باللغة الفرنسية)، وأنه بهذه الصفة حصل على جائزة الغونكور ثم انتخب عضواً في أكاديمية الخالدين، الأكاديمية الفرنسية، في مقعد كلود ليفي ستروس، وأن ما يقرأونه له بالعربية من كتب هي ترجمة عن الفرنسية أولاً وأنه ليس مضطراً أن يتبع تعاليم نظم الاستبداد التي فرضت قواعد اللعبة منذ خمسين عاماً على كل الأصعدة.

لاشك أنه يحق للجميع مناقشة أمين معلوف حول ما يكتبه أو يصرح به. لكن آخر من يحق له مناقشته هو ذلك الذي لا يستحي من الظهور على شاشات دولة الملالي التي تقتل الشعب السوري كل يوم أو على شاشات نظام الممانعة أو التي تلوذ به؛ وآخر من يحق له مهاجمته هو من يتغاضى عما قال ليطعن في موقف لا يتجلى إلا في ظهوره على شاشة تلفزيون إسرائيلية ليعرض كتابه الأخير. من الواضح أن أنذل هجوم هو ذلك الذي يحاول صاحبه ستر سوأته على حساب من يهاجمه..

أن يتحدث كاتب على شاشة إسرائيلية مسألة لا تغتفر، أما أن يقوم النظام الأسدي بكل ما قام به من جرائم فضلاً عن التطبيع الصريح مع إسرائيل حفاظاً على موقعه فمسألة فيها نظر..

**








lundi 13 juin 2016



مطاع صفدي:
استشراف النهضة المغدورة

بدرالدين عرودكي

كان مشروع مطاع صفدي الروائي يقوم على كتابة متتالية روائية دمشقية تحكي جيله وتحمل عنواناً عاماً يقول معاني دمشق: "مدينة الأنهر السبعة". لكنه كتب ما اعتبره جزءها الأول، جيل القدر، ثم جزءها الثاني، ثائر محترف، ورغم أنه ملأ صفحات لا تحصى من الجزء الثالث الذي كان سيحمل عنوان المجموعة العام والذي أعلن عنه إلا أنه توقف بعد ذلك عن الاستمرار في الكتابة الروائية، مكرساً نفسه للكتابة الفكرية السياسية أو الفلسفية.

ما الذي حال دون مطاع صفدي ومتابعة الكتابة الروائية جنباً إلى جنب مع الكتابات الفكرية؟ سؤال يحيل بالضرورة إلى حالة مشابهة في التاريخ الأدبي، على اختلاف كبير في الظروف والأسباب، هي حالة جان بول سارتر الذي كتب روايته الأولى "الغثيان" ثم باشر الرواية الثانية "دروب الحرية" فكتب أجزاءها الثلاثة الأولى "سن الرشد"، و"وقف التنفيذ"، و"الحزن العميق"، ولم يكتب جزءها الرابع المعلن "الفرصة الأخيرة"، متوقفاً بعد ذلك نهائياً عن الكتابة الروائية.

سوى أن الشبه بين الحالتين شكلي محض، إذ يتوقف عند ظاهر الأمور دون أن يتعداها.

صحيح أن سارتر اكتسب صفة الروائي ما إن نشر روايته الأولى، "الغثيان"، لكن هناك أكثر من سبب يدعو إلى الربط بين وقوف مشروعه الروائي وتعثر مشروعه الفلسفي خصوصاً عند المسألة الأخلاقية التي تجاوزها إلى "نقد العقل الجدلي" إذ لم ينشر شيئاً مما كتبه حولها في حياته بل نشرت مسودات ما كتبه في كتاب نشر بعد وفاته عام 1983 وحمل عنوان: "دفاتر من أجل أخلاق ما".

لم يكن ذلك حال مطاع صفدي الذي لم يُعترف له بهذه الصفة، فكان أن سارت شهرته أستاذاً ومثقفاً وفيلسوفاً في الوقت الذي أهملت فيه صفته روائياً مثلما أهملت كذلك رواياته أو أسيء اعتبارها في معظم الدراسات النقدية أو تلك التي تؤرخ للرواية السورية.

ربما تتيح لنا إعادة قراءة الروايتيْن اللتين كتبهما ونشرهما في مطلع ستينيات القرن الماضي العثور على ما يمكن افتراضه سببَ هذا الوقوف أو سببَ انقطاع هذا الحلم/المشروع، النهضة، الذي يؤلف في حقيقة الأمر قوام مسيرته الكتابية مع الأخذ بعين الاعتبار الكيفية التي قرئتا بها عند صدورهما.

مشهدان يؤلفان دليلاً ناطقاً. أولهما مفصَّلٌ في جيل القدر وثانيهما مختصرٌ في ثائر محترف:

"... ولدنا في الجحيم، وينبغي أن تستمر حياتنا فيه. كل جنة نلقى إليها إنما هي جنة كاذبة"!(...) "إننا نتحدث كما لو كنا مشوّهين، كأنَّ عجزاً أو تشويهاً يقع في عضو منا.. في جهة ما من وجودنا"

بدت هذه الصرخات التي أطلقها بطل روائي قبل ستة وخمسين عاماً لكثير ممن قرأها مبالغة صارخة أقحمت على مجتمع لا تعتريه أية عوارض من تلك التي توحي بها في الوقت الذي كان هناك "مشروع قومي" قيد التحقيق، و"مستقبل" أكثر من واعد رغم المصاعب والعقبات.

لكنها مع ذلك كانت تتلو وصفاً لصورة كاريكاتيرية رسمها بطل آخر في الرواية كان بوسع قارئها أن لا يرى فيها تلك المبالغة: "كانت الصورة تمثل عدداً كبيراً من الوجوه المضخمة ملامحها، بينما تضاءلت أجسادها دون أن تفقد حركتها، وكانت حركتها عبارة عن زوبعة يطلقها من زاوية اللوحة وجه ساخر، أشبه شيء بوجه الشيطان. وتأملت هذه الوجوه العجيبة ذات الخطوط المعبرة عن نماذج وجودها، فعرفت منها وجه حسان القديم ووجهي أنا، وهاني وهيفاء، وليلى وطائفة كبرى من الأشخاص الذين أعرفهم ولا أعرفهم.. كانوا جميعاً تلفهم زوبعة تنطلق من نَفَسِ ذلك الشيطان. "وقال حسان: أرأيت.. إنهم أنت وأنا.. والكل.. إنهم الجيل، تعبث بهم زوبعة من نفخة شيطان.. شيطان لا يمكن تحديد هويته بعد؛ إنه يحمل أغمض اسم في سفر الإنسانية: القدر. وقلت بخفوت: تعني أنهم.. جيل القدر.."

وعلى أن هذه الصورة شبه الناطقة، كانت، وهي تحاول اقتراح أكثر من دلالة لها، قد دفعت أحد ساكنيها إلى تجسيد بعض هذه الدلالات في كلمات، إلا أنها مع ذلك، وكما يبدو، بقيت غائبة كلياً عن أنظار قراء الرواية الذين كانوا يقرؤونها لا على هدي دلالاتها الكامنة في نصّها بقدر ما كانوا يفعلون على هدي ما أراد نقاد الرواية آنئذ أن يفهموه ولاسيما منهم ممن حفظوا عن ظهر قلب كتباً كانت رائجة في تلك الحقبة من نوع: كيف تكتب الرواية؟ أو الذين قرأوا شذرات صحفية عن الفلسفة الوجودية في الصحف ولا سيما تلك التي كانت تلاحق ما كانت تكتبه صحف اليمين الفرنسي عن سارتر وسيمون دو بوفوار مما تعتبره فضائح الوجوديين! عبّر الأوائل عن رفضهم لهذه الرواية ما دامت لم تتبع القواعد المنصوص عليها في كتب فن كتابة الرواية كما فهموه، رافضين بالتالي إضفاء صفة الرواية عليها، في حين ذهب آخرون ممن كانوا يرطنون بالمفاهيم الماركسية في أسوأ ترجماتها العربية إلى اعتبارها رواية "فلسفية" ــ على أن تفهم هذه الصفة هنا كتقييم سلبي ــ تريد "إثراء الأيديولوجية القومية بمفاهيم الوجودية السارترية"(!)؛ وذهب أحدهم إلى درجة اتهام الكاتب بسرقة فكرة مسرحية "الأيدي القذرة" لسارتر، ومن ثم أجاز لنفسه نزع صفة الرواية عنها.

يكاد هذا المشهد في "جيل القدر" أن يكون تمهيداً أولياً للمشهد الآخير الذي تختتم به رواية "ثائر محترف" التي تجري أحداثها خلال الأزمة السياسية بين تموز وتشرين أول عام  1958 والتي كادت تؤدي إلى حرب أهليه، أي مشهد الكسوف العام الذي يخيم على فضاء المدينة كلها كما لو أنه يؤكد الجحيم الذي ولد وعاش ولا يزال يعيش فيه أبطال الروايتين.

ذلك أن جيل القدر الذي بدا في عيون البعض وكأنه جيل المعجزات لم يكن إلا جيل ما هو مقدر سلفاً ومحدد سلفاً أي الجيل المكبل بالشروط الاجتماعية والتاريخية التي ولد فيها وعاش. جيل يُسْرَقُ منه الفعل كلما حاوله، ويسرق منه مشروعه كلما باشره.

كان هذان المشهدان تشخيصاً دقيقاً لوضع لم تكن مظاهره تنبئ عن حقيقته الأعمق: الجيل العاجز عن إنجاز الفعل. هذا التشخيص الذي قد يفسر سبب التوقف عن الكتابة الروائية في فضاء بلغ حدوده القصوى وكان لابد من تغيير الوسيلة، يكاد يكون استشرافاً لما سيستمر في الحياة العربية ولما سيبلغ الذروة مع فعل الثورة التي حاولتها الأجيال الجديدة في البلدان العربية وآلت إلى ما آلت إليه ولاسيما في سورية. استشرافاً لسرقة الفعل في تجلياته المختلفة: مشروع اغتيال الديكتاتور في الرواية  وثورة الحرية والكرامة في الواقع اليوم.

صرخة نبيل في رواية جيل القدر عام 1960 هي صرخة مطاع صفدي في فضاء الثورة السورية مع نهاية عام 2014  حين تحدث طويلاً عن النهضة المغدورة ...



** نشر هذا المقال في الملحق الثقافي ـ العربي الجديد، 14 حزيران 2016، ص. 6


lundi 6 juin 2016


رحيل مطاع صفدي



بدرالدين عرودكي

مثلما شهد الأستاذ والمثقف والكاتب والروائي والفيلسوف والمناضل مطاع صفدي ــ وبهذه الصفات كلها ــ قبل أن يرحل نهاية حزب البعث التي سبق له أن استخلصها إثر تجربة حية وتحليل نظري صارم منذ عام 1966، شهد كذلك الثورة السورية التي حلم بها منذ ذلك الحين وكان فيها ومعها منذ انطلاقها من درعا ودمشق على سنواته التي أربت على الثمانين..لكنه أيضاً رأى بأم عينيه كل ما كان سبق  ورآه بعين التحليل الصارم من البقع والبثور ومواقع القيح التي استمر الاستبداد في استثمارها ضد السوريين كما كان وكما هو ديدنه منذ خمسين عاماً. 

شاباً كان لم يغادر فكره فضاء الشباب ونضارته وتفاؤله وكذلك ثوراته البركانية .. وككل فيلسوف حقيقي، لم يكن هذا الفكر يعرف الشيخوخة، وما كان له أن يعرفها وهو الذي أدركته التجربة نظراُ وفعلاً ولم يكن قد غادر بعدُ العشرين من سنوات عمره.

كان من أوائل الشباب الذين انضووا تحت راية البعث في بداية خمسينيات القرن الماضي، لكنه كان أيضاً أول من ثار على هذا الانضواء حين لمست أصابع حساسيته الفكرية مواضع الخلل العضوي في هذا الجسم الذي تمكن العسكر من اتخاذه ظلاً لمطامحهم ومبرراً لحماقاتهم ثم جرائمهم. فغامر في الكتابة الروائية والقصصية والمسرحية، ومارس الفلسفة والكتابة الفلسفية التي لم يتخل عنها يوماً، سواء في مشكلاتها الكبرى أو في تجلياتها على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية.

لكنه كان إلى ذلك كله صاحب أحلام ثقافية لا حدود لها..فمن الموسوعات التي حلم بإنجازها وأنجزها (موسوعة الشعر العربي) إلى مراكز الأبحاث، والمجلات الثقافية في صيغها المتوالية: الفكر العربي، ثم الفكر العربي المعاصر وربيبتها العرب والفكر العالمي.. إلى آلاف المقالات وعشرات الكتب التي كانت تحاول على الدوام طرح الأسئلة التي تمليها عليه هموم المجتمع الذي ينتمي إليه والثقافة التي لم يتوقف عن المشاركة في بنائها إبداعاً ونقداً وتحليلاً.

يرحل مطاع صفدي في غمرة المأساة التي يعيشها وطنه وثقافته وأهوال المستقبل التي تلوح في الأفق لهما..

وما أشدّ حاجتهما إليه وإلى أمثاله في غمرة هذه المحنة الكبرى..

** نشر في صحيفة العرب، 7 حزيران/يونيو 2016، ص. 14 


http://www.alarab.co.uk/pdf/2016/06/07-06/p14.pdf