جورج طرابيشي
صومعة
الفكر المنيعة..
لا أزال أذكر حكاية جورج طرابيشي مع اسمه الأول، تلك التي رواها لي
ذات يوم بباريس في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، والتي جرت وقائعها خلال المرة
الأولى التي كان يزور فيها المغرب لحضور اجتماع هيئة تحرير مجلة الوحدة، وكان يعمل
فيها، في مدينة الرباط. ففي المطار، قدم جواز سفره السوري لموظف الجوازات المغربي،
فتأمل هذا الأخير فيه ملياً مقارناً بين الصورة على الجواز وصاحبها أمامه تارة أو
محدقاً في الاسم مكتوباً بالعربية وبالأحرف اللاتينية تارة أخرى: جورج طرابيشي. سأله
عما إذا كان واثقاً من أن هذا جواز سفره! أكد له جورج ذلك بالطبع. فكان الجواب:
هذا غير معقول! كيف يمكن أن تكون من سوريا واسمك جورج!
وعلى أن جورج حاول أن يشرح أن
في سورية يتعايش المسلمون والمسيحيون وأن هنا فيها محمد وجورج والياس وعبد
الستار..إلا أنه اضطر إلى أن ينتظر ما ينيف عن ساعات ثلاث جرى التحقيق خلالها في
صحة الاسم والجواز وفي جنسية صاحبه.
روى جورج طرابيشي بعد ذلك في بعض أحاديثه المنشورة قصته الأخرى
والأولى مع اسمه الذي لم يتصالح معه إلا حين اكتشف شاباً أصل الاسم اليوناني ثم
استخدامه العربي: ابن جريج. لكنه لم يسلم في سنوات حياته كلها من أن يواجه ما كان
اسمه يطرحه لدى الجهلة أو المغرضين من مشكلات حول انتمائه العربي خصوصاً.
وقد كان في سن الشباب الأول حين انضم إلى حزب البعث في سوريا عند
انطلاقه حزباً قومياً وجماهيرياً، كأنما أراد أن يؤكد لنفسه انتماءه العربي مادام
أحد مؤسسي الحزب يحمل هو الآخر اسم ميشيل! وقبل أن يبدأ بالنهل من معين الثقافة
الغربية في جوانبها الماركسية والوجودية والتحليل النفسي عن طريق الترجمة التي
اتخذها حرفته الأولى والتي قادته إلى حرفة الكتابة عبر مقالات يعرض فيها ما كان يقرؤه
من كتب أجنبية خصوصاً، ومنها إلى النقد الأدبي مستفيداً من معطيات التحليل النفسي
الذي ترجم عدداً من مؤلفات رواده، فإلى المشروع الكبير الذي شغل ربع قرن من حياته،
والذي أعاده إلى التراث العربي، الإسلامي وغير الإسلامي، بعد أن عزم على أن يباشر مشروع
نقد شامل لنقد مشروع "العقل العربي" كما وضعه محمد عابر الجابري.
كانت بداية العمل في هذا المشروع إيذاناً بضرب من حياة رهبنة داخل
صومعة الفكر ومن أجله حصراً بعد تقلب في المهن وفي المدن العربية أدى به أخيراً
إلى مدينة كانت نفسه تهفو إليها: باريس. على أنه ما كان لهذه الصومعة الفكرية إلا
أن تكون منيعة ومانعة في آن واحد. منيعة في حمايته من إغراءات الحياة ومتاعها بما
يصرفه حصراً إلى التفكير والعمل الفكري، ومانعة في الآن نفسه من سماع الأصوات
الأخرى، وقد كانت شديدة القوة ولا سيما منذ خمس سنوات في بلده الأساس، سوريا.
ما كان له مع هذا أن يتأثر مما قيل أو ما سيقال في ذلك وهو الذي لا
يمكن أن يوضَع لحياته من عنوان لو شئنا غير كلمة الصدق، مع ذاته، ومع الآخرين.
وهذا الصدق الذي لا ينفي الخطأ أو ينكره يتجلى في مساره الفكري كله:
محاولة في الفهم، من خلال الترجمة حيناً على ما يعتري الترجمة من خيانة يقترفها
المترجم واعياً أو غير واع ـ كما قال هو نفسه عنها ـ ، ومن خلال التحليل النقدي
حيناً آخر لما يمسّ العرب المعاصرين خصوصاً: الإبداع الأدبي الذي يقول حياتهم ،
وعُقدَهم، ومشكلاتهم، اليوم ، نساء ورجالاً؛ والتراث الذي لم يخرجوا حتى اليوم من
عباءته أو من ظله نصاً ونقلاً.
من المؤكد أن عمل جورج طرابيشي النقدي سيحتاج إلى نقد لا يقل دقة
ورصانة وأمانة عن نقده هو نفسه لمشروع نقد العقل الذي قام به محمد عابد الجابري. وهو
نقد لن يطال في نظري صحة المراجع أو دقة الاستشهادات بقدر ما يمكن أن يطال سؤالاً
أساساً يكون هو البدء: هل يمكن للعقل أن يكون إسلامياً كما قال محمد أركون، أو
عربياً كما قال الجابري ولم يخالفه في ذلك طرابيشي، أم أن العقل يستعصي على كل تصنيف،
إثنيأ كان أم تاريخياً؟
** نشر في القدس العربي، 18 آذار 2016، ص.: 12
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire