mercredi 30 mars 2016


عن استثمار الإرهاب والإرهابيين

بدرالدين عرودكي

منذ الحادي عشر من أيلول 2001 والإرهاب يبدو كما لو كان صناعة عربية/إسلامية حصراً، والعنف خصيصة من خصائص شعوب لا يمكن أن تُحكَم إلا عن طريق نظم استبدادية شديدة المراس، تعقلها عن المسِّ بثمرات الحضارة التي ينعم الغرب بها! هذا ما تعمل على نشره وسائل الإعلام الغربي بلا استثناء تقريباً، وما يكرره لها ومعها معظم السياسيين من اليمين ومن اليسار، دون أن تنطوي تصريحات هؤلاء وأولئك على ما تتيحه اللغات الغربية من إمكانات الدقة أو النسبية أو الإشراط  في التعبير.

كانت نتيجة ذلك أن سلَّط العالم انتباهه حينئذ على أسامة بن لادن وعلى "القاعدة" التي كانت تقاتل في البداية في أفغانستان، واعية وتحت إشراف الولايات المتحدة الأمريكية، ضد الوجود السوفييتي، والتي ما لبثت أن شنت الحرب عليها حين قررت الخروج عن الطوق وأعلنتها حرباً ضد القوة العظمى المهيمنة بفضل سلاح لا قبل لها بمواجهته، أي سلاح الموت.  

كان لابد من إعلان العدو. عدوٌّ تمت تسميته، القاعدة ووصفه "الإسلامي"، والإشارة إليه منذ انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني 1989 مدشناً سقوط المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1991، باعتباره العدوُّ البديل عن هذا الأخير الذي كان يحقق توازن الرعب منذ خمسينيات القرن الماضي. إذ لم تمض سنتان على ذلك حتى نشر صموئيل هاتينغتون، الأستاذ في جامعة هارفارد، في صيف 1993، المقال الذي يعرض فيه عناصر نظريته التي سيفصلها من ثمَّ في كتابه صدام الحضارات الصادر عام 1996 والذي، على تفنيد ورفض الأوساط الجامعية لنظريته جملة وتفصيلاً، أمكن لعنوانه أن ينتشر ويستقر في لاوعي الإعلاميين والسياسيين الغربيين، ولاسيما حين عمدت الصحافة الغربية إلى الإشارة أو الاستناد إليه إثر العملية الإرهابية التي أدت إلى تدمير برجي التجارة بنيويورك باعتبارها برهاناً لاحقاً على أطروحة كتابه المذكور. على أن "المحللين الاستراتيجيين" الجدد و"المختصين بالإسلام في أوقات فراغهم" ونظراءهم من السياسيين ذوي الثقافة "الاستثنائية" في التاريخ والعلوم الإنسانية، ما لبثوا أن تجاوزوا نظرية الكتاب ليعلنوا الإسلام عدواً حضارياً بامتياز والعنف صنوه بقدر ما هو نواة عقيدته، وليقدموا مقترحات خاصة بإصلاحه وتجديده، بما في ذلك إلغاء بعض الآيات من القرآن، كي يتلاءم مع مفاهيم الحداثة والديمقراطية.

وقد جاءت السنوات الخمس الماضية لتعطي هؤلاء أكثر من برهان على صحة "دعواهم" ولاسيما حين أطلق النظام الأسدي الذي أدرك الأمر من سجونه في بدايات الثورة السورية عتاة "الأصوليين الإسلاميين" الذين استخدمهم زمناً في العراق ضد الأمريكيين الذين كان بعض مسؤوليهم  يدعو للسير إلى دمشق بعد بغداد، ثم أودعهم السجن بانتظار فرصة أخرى أتاحتها له بسهولة فرصة قراره محاربة الثورة في كل اتجاه بعد أن صار "الإرهاب الإسلامي" المُعَوْلم رهاباً ترتعد له الديمقراطيات الغربية كافة وتعمل جهدها للحيلولة دون أن ينال منها أو من أنساق ونظم حياتها. فانتعش الإرهاب المنظم داخل سوريا، وخصوصاً لا حصراً في المناطق التي فقد النظام الأسدي السيطرة عليها أولاً، ثمَّ خارج سوريا تالياً، في عدد من البلدان المجاورة، في لبنان وتركيا، أو الأوربية، في فرنسا ثم في بلجيكا.  

في غمرة  ذلك كله بدا وكأن الجميع نسوا أن "الإرهاب" فعلٌ يمكن أن يستخدمَ من يقومُ به كلَّ الوسائل المتاحة كي يحقق أهدافه بما في ذلك الدين، وأن ما يسمى "الجهاد" بالعربية كان يسمى "النضال" باللغات الغربية على اختلافها سواء لدى الفوضويين في القرن التاسع عشر أو لدى اليساريين المتطرفين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وأنهما، كلاهما، لا يختلفان كثيراً لا في رطانة خطاباتهما وأسلوبها الإنشائي، ولا في أهدافهما المُعلَنَة، ولا كذلك في من يضع خطط وأهداف الأفعال التي يقومون بتنفيذها، سواء أكانت أحزاباً ثورية أو سياسية أو مخابرات دولة أو بنىً مستقلة تهيؤها هذه الأخيرة لتبدو كاملة الاستقلال في قرارها وفي فعلها. وكما عرف الغربُ الإرهابَ مع ولادة الحركات القومية ضمن الإمبراطوريات المتعددة القوميات عرف العرب وعانوا في القرن العشرين من الإرهاب الصهيوني في فلسطين قبل إعلان دولة إسرائيل وبعد إعلانها حين باتت ممارسته قصراً عليها.  

تلك أوضاع وسمات تعرفها مراكز القرار الغربية لكن الناطقين باسمها يتجاهلونها جميعاً وكذلك الصحف القريبة منها، مثلما تجاهلوا وصمتوا عن الإرهاب الصهيوني، ثمَّ عن الإرهاب الذي مارسته أنظمة الاستبداد في العالم العربي وخصوصاً في سوريا طوال عشرات السنين، وبصورة ممنهجة فيها منذ خمس سنوات.

وكان الشِركُ الذي استخدمه النظام الأسدي لإقناع الغرب والعالم من ورائه بأهمية المعركة التي يخوضها ضد الثائرين عليه هو البديل الذي اتخذه الغرب عدواً. فقد اعتبر أن الثائرين عليه إرهابيون أياً كان انتماءهم الديني أو المذهبي أو الإثني. وما لبث أن أعلن عن وجود إمارات إسلامية تابعة للقاعدة في الوقت الذي كان فيه شباب سوريا يخرجون في مظاهرات سلمية طوال ستة أشهر قبل  أن تتوقف حين ووجه المتظاهرون بالرصاص الحي.

كان أفضل تجسيد لهذا الشِّرك تنظيم الدولة. لم تقاتل قوات هذا الأخير ميليشيات الأسد أو المرتزقة الذين جاؤوا لنجدته من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، بل واجهت قوات المعارضة التي كانت تجد نفسها في مواقع كثيرة بين فكين: تنظيم الدولة والنظام الأسدي. وكان هدف هذا الأخير حين كان يتخلى عن مواقعه لتنظيم الدولة بسهولة أن يضع العالم أمام خيارين: إما النظام "العلماني" الذي يدعي تمثيله أو  تنظيم الدولة الإرهابي الذي بدأ الغرب يشهد أمثلة صُنِعت خصيصاً له عن ممارساته البربرية المتقنة الإخراج على الطريقة الهوليودية!

جاءت عمليات تنظيم الدولة الإرهابية بباريس في العام الماضي  ثم العمليات الإرهابية ببروكسيل هذا الشهر كي تحمل فرنسا، التي كانت لا تزال تعتبر النظام الأسدي مصدر الإرهاب، وكذلك أوربا، على اعتبار تنظيم الدولة لا النظام الأسدي، عدوها الأول. حدث ذلك كله في غمرة المحاولات الروسية والأمريكية لإعادة تأهيل النظام الأسدي الذي كان لا يزال يمارس فظائعه ضد السوريين في كل مكان كانت نيرانه تصل فيه إليهم.  

وفي السياق نفسه، كان واضحاً للجميع أن الضربات الجوية الروسية التي بدأت في الثلاثين من أيلول الماضي لم تكن تستهدف تنظيم الدولة بقدر ما كانت تعمل على تعزيز مواقع المليليشيات الأسدية وحلفائها من أجل مفاوضات الحل السياسي. ثم توالت الأمثلة على ضروب من التواطؤ بين النظام الأسدي وتنظيم الدولة والتي كان قد تجلى بعضها في الكيفية التي تم بها احتلال هذا الأخير لمدينة تدمر ثم خروجه منها مؤخراً "بعد معارك دامت أسبوعين" بعد القصف الروسي! فاحتلال أيقونة التراث التاريخي والأثري في سوريا من قبل تنظيم الدولة ثم استعادتها كانا ضرورة لابد منها كي يستعيد بها النظام موقعه على الساحة الدولية. هكذا استثمر النظام الأسدي احتلالها، مثلما بدأ يستثمر استعادتها على الصعيد الإعلامي والسياسي معلناً في الوقت نفسه استعداده لـ"الانضمام إلى التحالف ضد الإرهاب" تحت القيادة الأمريكية!

هكذا حين يعود النواب الفرنسيون اليمينيون الذين ذهبوا إلى سوريا بعد أن التقوا بشار الأسد بناء على طلبه كما صرح أحدهم، سيعلنون أن "داعش" التي استعاد منها الأسد تدمر هي الخطر الأكبر. أما مئات ألوف القتلى والجرحى وملايين المهجرين بفعل النظام الأسدي أساساً  قبل نظام الدولة، فلعلهم، في أذهان هؤلاء النواب، مجرد تفصيل ...

هذا ما يحاول النظام الأسدي وحلفاؤه تثبيته!



** نشر في القدس العربي، 31 آذار 2016، ص. 23.



mercredi 23 mars 2016


بانتظار سوريا الجديدة،

ماذا عن الألغام الموقوتة؟

بدرالدين  عرودكي

منذ أقدم العصور وحتى بدايات القرن الماضي، وباستثناء قرن شَغَلَهُ الأمويون لم يكتمل، خلال تاريخها الطويل (661 ـ 750)، لم تكن سوريا، أو بلاد الشام، إلا ممالك عديدة مستقلة  على غرار أوغاريت، وماري، وإيبلا، وأفاميا، كانت تغطي مساحتها أو تتوالى عليها. تقوم بينها الحروب تارة، وتجري بينها المبادلات الاقتصادية تارة أخرى. أو ولاية من ولايات الإمبراطورية الرومانية/البيزنطية حتى الفتح العربي عام 638 ، ثم الإمبراطوريات التي توالت على الأمويين حتى نهاية الإمبراطورية العثمانية. 

ومع ذلك، كان من المفارقات التي عاشتها أجيال عديدة من السوريين طوال السنوات المائة الأخيرة أنهم لم يقبلوا، بوصفهم أبناء بلاد الشام التاريخية، حصْرَ سايكس بيكو لهم ضمن حدود سورية المعروفة اليوم، فحاولوا بشتى الوسائل، عبثاً، انتهاز الفرص لكسرها بصورة أو بأخرى، وأن هذه الأجيال ذاتها، عمدت، منذ أن ثار السوريون ضد نظام غير مسبوق في تاريخ المنطقة، إلى التمسّك بهذه الحدود بوصفها مرجعية تاريخية لا يمكن المسُّ أو العبث بها ولاسيما منذ أن طفقت القوى الإقليمية أو الدولية تتحدث عن التقسيم ثم، أخيراً، عن الفدرالية!

وعلى أن روابط الوطنية السورية نُسِجَت طوال سنوات النضال ضد الانتداب الفرنسي، واستطاع بفضلها السوريون أن يقاوموا خلالها محاولات ممثلي الدولة المنتدّبة تقسيم البلد إلى دويلات يسهل حكمها وأن ينجزوا استقلالاً كامل الأوصاف لا تعتوره ما اعتور استقلال بلدان عربية أخرى في المشرق وفي المغرب من ذيول الوجود الاستعماري في صورة معاهدات ملزمة أو قواعد عسكرية، وعلى أنهم باشروا بفضل هذه الروابط على وجه الدقة بناء "الدولة السورية المستقلة"، إلا أنهم واجهوا، ما إن مضت ثلاث سنوات على الاستقلال وولادة الدولة الغضّة، إعلان دولة إسرائيل ثم أول انقلاب عسكري في العالم العربي يقوم به ضابط سوري ويدشِّن به سلسلة الانقلابات العسكرية التي عرفتها مصر ثم العراق وليبيا واليمن. انقلابات سوف توطد لعشرات السنين استبداداً منتظماً بلغ ذروته القصوى مع الانقلاب الأسدي عام 1970، الذي سيؤسس نظاماً فريداً لا في استبداده أو في شموليته فحسب، بل كذلك وخصوصاً في علاقة غير مسبوقة من العبودية المطلقة أقامها بينه وبين السوريين على اختلاف انتماءاتهم الإثنية والدينية والاجتماعية. وهي عبودية حاول ترسيخ استحالة الخروج منها في لاوعي السوريين زمنياً حين أبَّدَ شخص مؤسس النظام قولاً وتفعيله نظام التوريث "الجمهوري" فعلاً.

لم يُتح الوقت إذن للسوريين كي يقيموا الدولة التي تطلعوا خلال فترة الانتداب إلى بنائها. وكانت السنوات الثلاثون التي تلت الاستقلال، والتي تناوب خلالها العسكر على حكم سوريا، كافية للقضاء لا على هذا الحلم فحسب بل على الطبقة السياسية التي حلمت به كلها. وهو ما أتاح لحافظ الأسد أن يبني ما يُسمى اليوم "دولة" على صورته وللغاية التي نذر نفسه لها: الاستملاك الكامل لبلد وشعب.

تضمنت هذه "الدولة" كل ما واجهته الثورة السورية منذ يومها الأول وما سوف تواجهه عند انتصارها تمهيداً لإعادة بناء دولة أخرى، سوريا الجديدة،  تقوم على عقد اجتماعي جديد ينسف جذور "الدولة" الأسدية شكلاً ومضموناً، وتعيد السياسة إلى مكانها الطبيعي في الحياة العامة وفي مؤسساتها.  

ليست القوانين العامة الناظمة لحياة المواطنين هي أهمُّ ما تجب إعادة النظر فيها فحسب، من القانون المدني الذي هو نسخة مترجمة عن القانون المدني الفرنسي فرضه بين ليلة وضحاها الانقلابي الأول حسني الزعيم، بعد أن حذف منه كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية التي وضع لها قانوناً خاصاً مستمداً من الشريعة الإسلامية، إلى قانون العقوبات، فضلاً عن القوانين الناظمة للمحاكم العادية والاستثنائية. إلا أن هناك أيضاً ما خلفته هذه "الدولة" من خراب وعاهات سياسية وإدارية واجتماعية واقتصادية لا في التنظيم السياسي (في مجال فصل السلطات بوجه خاص) أو في "علمانية" الدولة المزعومة المفترض قيامها على الفصل بين الدين والدولة، أو التنظيمات المؤسساتية ذات الطبيعة الإدارية والاقتصادية والمناطقية، أو مفهوم الأمن ودور الأجهزة الأمنية في جمهورية ديمقراطية  فحسب، بل كذلك على صعيد المفاهيم الأولى التي تقتضيها هذه التنظيمات في الحياة المدنية الطبيعية: المواطنة، والحقوق والواجبات، والخدمات العامة، والتعليم والإدارة حتى في أبسط تجلياتها: العلاقة بين المسؤول والمواطن.

من ذلك كله يبرز مفهوم المواطنة أساساً جوهرياً.

ليست سوريا بلداً استثنائياً بين البلدان في تركيب سكانها الفسيفسائي التاريخي، إثنياً أو دينياً أو طائفياً. لكن الممارسة البعثية ـ الأسدية العمياء عملت على مسح كل هذه الألوان. ولم يكن بوسع سلطة قررت استملاك الأبدية في سوريا أن تعترف بأي واقع غير واقعها وبأي سلطة أخرى غير سلطتها الخاصة.  سُحِقَ الفرد السوري قولاً وفعلاً: فهو لا يملك أياً من حقوق المواطن العادي ولا حتى أن يطالب بأيٍّ حق منها. يمكن له أن يتمتع ببعضها، وتحت رقابة شديدة على كل حال، إذا اختار العبودية الكاملة، وأعلن عنها بصورة أو بأخرى، دون أن يعني ذلك حقاً مكتسباً بل مِنَّة من سادته يمكن أن يُحرَمَ منها في كل لحظة.

ولا يقل واقع الجماعات سوءاً عن واقع الفرد في الحقوق الطبيعية أو المكتسبة. فالأكراد الذين يؤلفون نسبة 10% من سكان سوريا أرغموا اعتباراً من عام 1965، في إطار مشروع الحزام العربي، على الهجرة من قراهم ومساكنهم في منطقة الجزيرة. وكان هناك ما لا يقل ُّعن ثلاثمائة ألف مواطن كردي لا يحملون الجنسية السورية التي حرموا منها طوال عشرات السنين وقرر بشار الأسد في بداية الثورة، فجأة، تجنيسهم في محاولة منه لكسبهم  والحيلولة بينهم وبين الوقوف ضمن صفوف الثورة.

 لكن المشاعر الطائفية الكامنة طوال السنوات الأربعين الماضية والتي عمل النظام الأسدي على تأجيجها ما إن بدأت مواجهته العنيفة  لمطالب الثورة في عام 2011  هي التي كانت وراء طروحات ما أطلق عليه بعد فقدانه السيطرة على ثلثي الأراضي السورية "سوريا المفيدة" وأدت إلى أن تطرح في المداولات تارة فكرة تقسيم سوريا وتارة فكرة النظام الفيدرالي الذي بدأ الإلحاح عليه منذ التدخل الروسي المباشر في نهاية أيلول الماضي ومع اقتراب تنظيم مفاوضات الحل السياسي في جنيف الذي أخذت روسيا والولايات المتحدة على عاتقهما رعايته والإشراف عليه. 

لا يتخذ أيٌّ من الراعيين للمفاوضات موقفاً واضحاً وصريحاً من مسألة وحدة سوريا. ومجرد استدعاء التقسيم أو الفيدرالية على لسان مسؤوليهما كإمكانية يعني أن أحداً منهما لن يقف في وجهها إذا ما تمت ضمن إطار الحل السياسي الذي عملا على صياغة خطوطه العريضة. غير أن ذلك لا يعني أن هاتين الصيغتين لن تستخدما على مائدة المزاودات السياسية من قبل الأطراف ذات المصلحة، لا بل والذهاب بعيداً في استغلال ما يمكن أن يعتبر ظروفاً ملائمة  من أجل إطلاق مبادرات من طرف واحد كما فعلت مجموعات من الأكراد في شمال سوريا، حين أعلنت مؤخراً، يوم الخميس 17 آذار، عن إنشائها نظاماً فدرالياً أطلقت عليه اسم "الاتحاد الفيدرالي الديمقراطي لروج آفا- شمال سوريا".

على هذا النحو، تواجه الثورة اليوم، وقبل أن تنجز أول أهدافها المتمثل في إسقاط النظام الأسدي، عواقب المشكلات التي ثابر هذا النظام، وقد حاول استملاك الأرض والبشر، على رعايتها أو على مواجهتها بما يكفل تحويلها إلى عاهات بل وإلى معضلات سوف يترتب على أية هيئة حكم انتقالي وضع برامج حلول ضرورية عاجلة يوافق عليها من خلال عملية ديمقراطية شفافة كافة السوريين.


** نشر في القدس العربي، 24 آذار 2016، ص.: 23.


samedi 19 mars 2016


فيما وراء صفعة بوتين

بدرالدين عرودكي

بعيداً عن مبالغات وأوهام التفكير الرغبي الذي ساد عدداً من الكتابات العربية التي تناولت القرار "المفاجئ" بسحب جزء من المعدات الحربية الروسية من سوريا، هاهي تنجلي شيئاً فشيئاً مقاصد وأهداف هذا القرار الذي مهَّدت له مجموعة من تصريحات علنية متتالية أدلى بها كبار المسؤولين الروس منذ أن بدأ بشار الأسد، وقد أخذته العزة بالإثم بعد مباشرة الروس القتالَ إلى جانبه منذ 30 أيلول الماضي، إطلاقَ تصريحات، ولا سيما في 15 شباط الماضي، مفادها عدم إمكان "أن يكون وقف إطلاق النار كما يسمونه بلا هدف أو بلا زمن.." ونيته مواصلة القتال حتى "استعادة كامل الأراضي"، فضلاً عن تحديد معنى المرحلة الانتقالية باعتبارها تستهدف إعادة الاستقرار إلى البلاد؛ وإعلانه بعد ذلك الدعوة إلى انتخاب "أعضاء مجلس الشعب" في 13 نيسان القادم، وأخيراً إيعازه إلى وزير خارجيته التصريح قبيل اجتماع جنيف في منتصف شهر آذار برفض أي حديث عن انتخابات رئاسية في نهاية المرحلة الانتقالية التي يجب أن تقتصر في نظره على حكومة وحدة وطنية وانتخابات تشريعية ووضع دستور جديد من دون أن تطال "مقام الرئاسة"!

كان طبيعياً أن يُستخلص من هذه التصريحات أن النظام الأسدي لم يقرأ كما تجب القراءة ما كان يجري على صعيد الاتفاق بين روسيا والولايات المتحدة بصدد إنهاء "الأزمة السورية" أو طبيعة "الحل السياسي"، أو أنه قرأ وأدرك لكنه حاول المناورة ـ كما هو ديدنه ـ من أجل توجيه مسار المفاوضات  بجنيف على نحو يفرغها من كل معنى طالما لم تستجب لما يريد. ولهذا جاء الرد ا الروسي مباشراً رغم لهجته الدبلوماسية من خلال ما صرح به فيتالي تشوركين، مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، لصحيفة "كوميرسانت" الروسية بعد ثلاثة أيام من تصريحات الأسد، بأن هذه الأخيرة "لا تتفق مع جهود موسكو الدبلوماسية" مشيراً إلى أن "روسيا بذلت الكثير من الجهود في هذه الأزمة سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً" وأنه بالتالي يرجو "أن يأخذ الرئيس الأسد ذلك بعين الاعتبار". ثم بوجه خاص: "إذا ما حذت السلطات السورية حذو روسيا على الرغم من التصنيفات السياسية الداخلية وخط الدعاية السياسي التي يجب عليهم العمل بها، فسيكون لديها الفرصة للخروج من الأزمة بكرامة، لكن إذا ما ابتعدت عن هذا الطريق على نحو ما فسيكون الوضع صعباً للغاية بما في ذلك بالنسبة لها". مع التذكير الحثيث بأن "الجيش السوري  لم يكن ليستطيع وحده الدفاع عن دمشق ودحر خصومه لولا العملية الجوية الروسية التي ساعدته في ذلك" وأنه "قد يتمكن هذا الجيش من تحرير حلب، وقد يقولون إنهم لم يعودوا في حاجة إلى الهدنة أو وقف إطلاق النار، وإنه لابد من مواصلة القتال حتى لحظة النصر، وهو ما يعني أن أمد الحرب سيطول كثيراً، وكثيراً جداً" مضيفاً: "إن نصف سورية وربما أكثر من النصف  تحول إلى أطلال، فيما فرَّ ما يزيد عن نصف سكانها إلى الخارج، بينما يبحث النصف الآخر عن ملاذ آمن في الداخل".

لم يكن هناك مجال أن يخفف من دلالات هذه التصريحات والتي سارعت صحف العالم إلى نقلها حرصُ السفير الروسي على وضعها في عداد "التقديرات الشخصية". وعلى أن مختلف الدوائر السياسية قد أدركت أن صدعاً ما عميقاً استدعى مثل هذا "التأنيب" غير المسبوق، فإن النظام الأسدي سار غير عابئ بدلالاتها وأطلق على لسان وزير خارجيته التصريح الخاص بـ"مقام الرئاسة" بوصفه خطاً أحمر، والذي كان كما هو واضح "القشة التي قصمت ظهر البعير"! إذ سرعان ما تم الإعلان بطريقة دراماتيكية عن اجتماع بوتين بوزيري دفاعه وخارجيته من أجل الإعلان عن سحب جزء كبير من القوات الجوية الروسية من سوريا وأنه قد تم "إعلام الأسد بذلك" كما قال الإعلام الروسي،  لا أن ذلك قد جرى "إثر اتفاق تمَّ بين.." كما نشر الإعلام الأسدي.

لم يكن القرار الروسي الذي اتخذ لأسباب عديدة أخرى اقتصادية ولا شك، ولأسباب سياسية أيضاً تتعلق بمشكلة القرم، والذي إريدَ إخراجه على نحو يفاجئ الجميع كما رأينا، إلا صفعة أريدَ منها تنبيه النظام الأسدي إلى ضرورة السير على خطى من ساعده في ترميم بعض صفوفه وأنقذه من سقوط محقق. ويبدو أنها صفعة إن كانت قد أدت وظيفتها فإنها لن تثني من تلقاها عن الاستمرار في عناده واستخدام كل ما يسعه استثماره من أجل عرقلة ثم إفشال فكرة الحل السياسي نهائياً. إذ سرعان ما قام بإرسال مبعوث خاص إلى إيران (فيصل المقداد) لبحث هذا الأمر على عجل، وإعطاء التعليمات لوفده بجنيف كي يستخدم كل ضروب المماطلات الشكلية التي تحول دون الدخول في صلب الموضوع. ترافق ذلك كله من جهة، مع تصريحات تقييم إيجابي لخطوة الانسحاب من ديمستورا الذي أثنى عليها مثلما أكد في الوقت نفسه على أن موضوع الفترة الانتقالية هو الموضوع الأول على جدول أعمال المؤتمر بجنيف، من دون أن يتراجع من ناحية أخرى عما سبق وصرح به بصدد الانتخابات الرئاسية في نهاية الفترة المذكورة التي رفضها وزير خارجية الأسد، ومن جهة أخرى مع تصريحات لافروف التي أثنى فيها على السعودية ودورها في جمع المعارضة السورية.  

لم تكن هذه الصفعة تعني بأي حال إذن أدنى تغيير في مقاصد بوتين وأهداف تدخله أو في عناصر الاتفاق حول الحل الذي تم الاتفاق عليه بينه وبين إدارة أوباما، بل محاولة ضغطٍ تحمل النظام الأسدي على الإذعان لما تفرضه عليه التزاماته قِبَل من سارع إلى إنقاذه. ومن ثم فقد استمر المسؤولون الروس يؤكدون على المفاوضات وعلى ضرورة الوصول إلى حل سياسي، مع إحالة موضوع بقاء الأسد من عدمه إلى "إرادة الشعب السوري"!

وإمعاناً في السير على الطريق ذاته، صدرت عن المسؤولين الروس تصريحات بصدد ما أطلق عليه الفيدرالية مع التأكيد على وحدة الأراضي السورية من جهة، وضرورة وجود تمثيل للأكراد في المفاوضات الجارية من جهة ثانية، يمكن تفسيرها بوصفها بالونات اختبار أو من أجل الزجِّ بمثل هذه الموضوعات على مائدة المفاوضات بما يؤدي إلى تحقيق ما اتفق عليه أمريكياً وروسياً.

وهو اتفاق يحتاج من وقت إلى آخر إلى تأكيد أو إلى تذكير يستدعيه موقف هذا الطرف أو ذاك في المفاوضات إزاء أهمِّ المشكلات الخلافية، أي موضوع الفترة الانتقالية: هل المقصود مرحلة انتقالية بهيئة تتمتع بكافة السلطات دون استثناء كما ينص على ذلك بيان جنيف1 أم حكومة مختلطة من النظام والمعارضة كما يريد النظام الأسدي اختصار الأمر؟  سوف تبقى هذه النقطة العقبة الكأداء نظراً لأنها تمسّ في الواقع الموضوع الأساس الذي لم يتفق عليه راعيا المفاوضات من حيث المبدأ: مصير بشار الأسد. فالإصرار على بقائه يعني أن الحكومة الانتقالية لن تتمتع بالصلاحيات الكاملة، والإصرار على حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة يلغي بالضرورة أي دور للأسد ويجعل من بقائه بلا أيِّ معنى.

 يعلم الجميع أن النظام الأسدي لن يقبل مثل هذا الحل، وأنه سيحاول بكل ما يملكه من وسائل العرقلة والمناورة والمراوغة و"الإغراق في التفاصيل" كما نبه وليد المعلم ذات يوم، لا أن يطيل أمد المفاوضات فحسب بل أن يفرغها من معناها شيئاً فشيئاً بما يؤدي في نهاية الأمر إلى تثبيت ما يطمح إليه سرّاً: سوريا المفيدة. قد يلائم ذلك حليفه الإيراني. ولأن هذا الحليف لن يستطيع الذهاب إلى أبعد مما يمكن أن يقبل به الراعيان، الروسي والأمريكي، على الأقل، فإنه سيكتفي بدعم مسعاه من وراء ستار. ذلك ما يحاول النظام التثبت منه حين التفت فور تلقيه الصفعة الروسية إلى إيران. لا يناور النظام الأسدي من أجل بقاء بشار الأسد خلال الفترة الانتقالية فحسب، بل يناور من أجل استمراره بعدها، إما باستكمال ما يعتبره الفترة الرئاسية الحالية وإما بإمكان ترشيح نفسه في الانتخابات القادمة، أياً كان الموعد الذي يمكن أن يُحَدَّدُ لها.

على أن الضغوط لن تمارَسَ على النظام الأسدي فحسب كي يذعن لضرورات الحل السياسي، بل ستمارس كذلك، وبقوة، على الهيئة العليا للمفاوضات كي تذعن لما يريد الراعيان تحقيقه في هذا الحل والذي يتلخص في الإبقاء على بُنى النظام الأسدي المتمثلة خصوصاً في الجيش وفي الأجهزة الأمنية. ولن تستثني هذه الضغوط، على الأقل من جانب الطرف الروسي بالطبع، مسألة بقاء بشار الأسد كورقة ضغط، أو مسألة الفدرالية التي تعني الأكراد خصوصاً.  لكن الهيئة تملك كل ضروب الشرعية لتقاوم هذه الضغوط جميعاً طالما استمرت دائمة الإصغاء إلى صوت الشارع السوري في الداخل وفي مخيمات اللجوء. من هذا الصوت وحده يمكن لها أن تستمد القوة كي تنجح فيما تصدت للقيام به.



** نشرت في الملحق الأسبوعي لصحيفة القدس العربي، 20 آذار 2016، ص.: 8 و 9.










jeudi 17 mars 2016


جورج طرابيشي

صومعة الفكر المنيعة..

بدرالدين عرودكي



لا أزال أذكر حكاية جورج طرابيشي مع اسمه الأول، تلك التي رواها لي ذات يوم بباريس في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، والتي جرت وقائعها خلال المرة الأولى التي كان يزور فيها المغرب لحضور اجتماع هيئة تحرير مجلة الوحدة، وكان يعمل فيها، في مدينة الرباط. ففي المطار، قدم جواز سفره السوري لموظف الجوازات المغربي، فتأمل هذا الأخير فيه ملياً مقارناً بين الصورة على الجواز وصاحبها أمامه تارة أو محدقاً في الاسم مكتوباً بالعربية وبالأحرف اللاتينية تارة أخرى: جورج طرابيشي. سأله عما إذا كان واثقاً من أن هذا جواز سفره! أكد له جورج ذلك بالطبع. فكان الجواب: هذا غير معقول! كيف يمكن أن تكون من سوريا واسمك جورج!

وعلى أن  جورج حاول أن يشرح أن في سورية يتعايش المسلمون والمسيحيون وأن هنا فيها محمد وجورج والياس وعبد الستار..إلا أنه اضطر إلى أن ينتظر ما ينيف عن ساعات ثلاث جرى التحقيق خلالها في صحة الاسم والجواز وفي جنسية صاحبه. 

روى جورج طرابيشي بعد ذلك في بعض أحاديثه المنشورة قصته الأخرى والأولى مع اسمه الذي لم يتصالح معه إلا حين اكتشف شاباً أصل الاسم اليوناني ثم استخدامه العربي: ابن جريج. لكنه لم يسلم في سنوات حياته كلها من أن يواجه ما كان اسمه يطرحه لدى الجهلة أو المغرضين من مشكلات حول انتمائه العربي خصوصاً.

وقد كان في سن الشباب الأول حين انضم إلى حزب البعث في سوريا عند انطلاقه حزباً قومياً وجماهيرياً، كأنما أراد أن يؤكد لنفسه انتماءه العربي مادام أحد مؤسسي الحزب يحمل هو الآخر اسم ميشيل! وقبل أن يبدأ بالنهل من معين الثقافة الغربية في جوانبها الماركسية والوجودية والتحليل النفسي عن طريق الترجمة التي اتخذها حرفته الأولى والتي قادته إلى حرفة الكتابة عبر مقالات يعرض فيها ما كان يقرؤه من كتب أجنبية خصوصاً، ومنها إلى النقد الأدبي مستفيداً من معطيات التحليل النفسي الذي ترجم عدداً من مؤلفات رواده، فإلى المشروع الكبير الذي شغل ربع قرن من حياته، والذي أعاده إلى التراث العربي، الإسلامي وغير الإسلامي، بعد أن عزم على أن يباشر مشروع نقد شامل لنقد مشروع "العقل العربي" كما وضعه محمد عابر الجابري.

كانت بداية العمل في هذا المشروع إيذاناً بضرب من حياة رهبنة داخل صومعة الفكر ومن أجله حصراً بعد تقلب في المهن وفي المدن العربية أدى به أخيراً إلى مدينة كانت نفسه تهفو إليها: باريس. على أنه ما كان لهذه الصومعة الفكرية إلا أن تكون منيعة ومانعة في آن واحد. منيعة في حمايته من إغراءات الحياة ومتاعها بما يصرفه حصراً إلى التفكير والعمل الفكري، ومانعة في الآن نفسه من سماع الأصوات الأخرى، وقد كانت شديدة القوة ولا سيما منذ خمس سنوات في بلده الأساس، سوريا.

ما كان له مع هذا أن يتأثر مما قيل أو ما سيقال في ذلك وهو الذي لا يمكن أن يوضَع لحياته من عنوان لو شئنا غير كلمة الصدق، مع ذاته، ومع الآخرين.

وهذا الصدق الذي لا ينفي الخطأ أو ينكره يتجلى في مساره الفكري كله: محاولة في الفهم، من خلال الترجمة حيناً على ما يعتري الترجمة من خيانة يقترفها المترجم واعياً أو غير واع ـ كما قال هو نفسه عنها ـ ، ومن خلال التحليل النقدي حيناً آخر لما يمسّ العرب المعاصرين خصوصاً: الإبداع الأدبي الذي يقول حياتهم ، وعُقدَهم، ومشكلاتهم، اليوم ، نساء ورجالاً؛ والتراث الذي لم يخرجوا حتى اليوم من عباءته أو من ظله نصاً ونقلاً.

من المؤكد أن عمل جورج طرابيشي النقدي سيحتاج إلى نقد لا يقل دقة ورصانة وأمانة عن نقده هو نفسه لمشروع نقد العقل الذي قام به محمد عابد الجابري. وهو نقد لن يطال في نظري صحة المراجع أو دقة الاستشهادات بقدر ما يمكن أن يطال سؤالاً أساساً يكون هو البدء: هل يمكن للعقل أن يكون إسلامياً كما قال محمد أركون، أو عربياً كما قال الجابري ولم يخالفه في ذلك طرابيشي، أم أن العقل يستعصي على كل تصنيف، إثنيأ كان أم تاريخياً؟



** نشر في القدس العربي، 18 آذار 2016، ص.: 12







mercredi 16 mars 2016


هذه الثورة

وهي تستهل عامها السادس

بدرالدين عرودكي

ما إن توقف القصف الروسي في المناطق التي لا تسيطر عليها ميليشيات النظام الأسدي وحلفاؤه الإيرانيون وذراعهم اللبنانية، وشعر السوريون لأول مرة منذ خمس سنوات بابتعاد القتل والتدمير ولو إلى حين، حتى خرجوا متظاهرين في نيف ومائة موقع حاملين علم الاستقلال، علم الثورة، ومنادين بمطالبهم أيام الثورة الأولى: الحرية، والكرامة، وإسقاط النظام. 

وكما قمَعَ النظامُ الأسدي المظاهرات الأولى، حاولت "جبهة النصرة" أن تقمع المظاهرات الأخيرة وأن ترفع أعلامها وأن تعتقل المتظاهرين. حاولت، لكنها لم تنجح كل النجاح. فالمظاهرات استمرت، ثم ما لبث أهل معرة النعمان أن هاجموا مقرها وحرروا سجناءهم منه.

دلالتان بليغتان: أولاهما، أنَّ إنكار النظام الأسدي طوال السنوات الماضية وجودَ ثورةٍ ضده مع كل محاولاته كسر وقهر إرادة السوريين لم يتمكن من إخماد جذوة هذه الثورة وهذه الإرادة التي استعادت تعبيرها السلمي الواضح والصريح عما تريد تحقيقه. وثانيتهما،  أن استماتة النظام في استثمار الجماعات المتطرفة واستغلال قدراتها كي يدرج نفسه ضمن معسكر المقاتلين ضد الإرهاب بدا وهو يبوء بالفشل داخلياً حين نبذ السوريون كل الرايات وحملوا علم الثورة، ويواجه العجز خارجياً حين لم يُعَبِّرُ أحدٌ في المجتمع الدولي، بما فيهم حماته أو حلفاءه، عن قناعته بهذا الزعم.

وعلى أن هاتين الدلالتين لم تكونا على موعد مع المراقبين الذين سبق لهم أن اعتبروا الثورة السورية في عداد المنسيات، فإنه لم يكن أيضاً مجرد صدفة بروزهما بقوة عشية بدء المفاوضات بين النظام الأسدي والمعارضة التي حدَّد جدول أعمالها التوافق الروسي الأمريكي وفرضها على الطرفين بمعزل عن أوربا وعن المعنيين أنفسهم. مفاوضات تأتي في نهاية مرحلة عقدت خلالها عدة مؤتمرات في جنيف وفي فيينا تمهيداً لاستصدار القرار 2254 بها عن مجلس الأمن بالإجماع. دخلت روسيا مع موافقة أمريكية تامة بأسطولها الجوي والبحري والصاروخي من أجل تعديل ميزان القوى تمهيداً لهذه المفاوضات وللحل الذي يجب الوصول إليه بنهايتها. ولم تكن الأهداف المعلنة من هذا التدخل إلا لخلط الأوراق تمهيداً لتحقيق هذا الهدف الخفي الذي أخذت معالمه بالظهور مع إعلان الانسحاب الروسي الجزئي (الذي بدا مفاجئاً) من سوريا على النحو المذكور.

ما كان من الممكن الوصول إلى هذه المحطة الأولى والتي لن تكون الأخيرة على درب الآلام السوري لولا تضافر عوامل عديدة، شديدة التداخل، على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، طوال هذه السنوات الخمس. محلياً، انتهى النظام الأسدي رغم كل ما بذله من محاولات وحصل عليه من دعم إلى فقدان كل قدرة على المبادرة العسكرية بعد أن استبعد منذ البداية إمكان أيّ مبادرة سياسية، في حين لم تتوصل مختلف الهيئات والمجالس التي طمحت إلى تمثيل هذه الثورة، السياسية منها والعسكرية، إلى أن تتوحد من حول مشروع سياسي شامل يستجيب لمطالب الثورة وتطلعاتها من ناحية، وتفرضه بوصفه البديل الوحيد عن النظام الأسدي من ناحية أخرى. وعلى الصعيد الإقليمي، انتهت كلٌّ من إيران وذراعها اللبنانية ومرتزقتها من أفغانستان والعراق إلى الفشل في تحقيق أي مكسب حاسم على الأرض يمكن أن تحصد به ما جاءت من أجله، في حين لم تتمكن القوى الإقليمية الأخرى، وخصوصاً التركية والسعودية والقطرية، من الحركة إلا ضمن وفي إطار ما تتيحه لها ارتباطاتها السياسية والاستراتيجية والقانونية على الصعيد الدولي. أما دولياً، فلم تفلح المؤتمرات التي عقدها الكبار في جنيف الأول والثاني، ولا ما حاولته الجامعة العربية بالتعاون مع الأمم المتحدة في أن تثني النظام الأسدي عما عقد العزم عليه منذ اليوم الأول للثورة والذي لخصه هذا الشعار : "الأسد أو لا أحد". ولأسباب لا علاقة لها بشخص الأسد أو بطبيعة نظامه، وقفت روسيا إلى جانب النظام الأسدي وإيران في ظل وبالتوازي مع تواطئها الخفي مع الإدارة الأمريكية الذي سينكشف فيما بعد توافقاً. وهو توافق تجلى للمرة الأولى واضحاً إثر الاستنفار العسكري الذي أعلنته الإدارة الأمريكية بسبب استخدام النظام الأسدي للسلاح الكيمياوي، والذي ألغته ما إن اقترح الروس أن يتمَّ تسليم المخزون السوري من هذا السلاح بلا شروط!

على هذا النحو بدا الوضع وكأنه يستجيب لما تريده القوتان الروسية والأمريكية، على ما بينهما من اختلاف في المصالح والغايات. هكذا، لم يستيقظ ضمير المجتمع الدولي ما دامت مصالحه لم تُمَسَّ من قريب أو بعيد وما دام السوريون يقتلون أو يسجنون أو تدمر بيوتهم أو يهاجرون بالملايين إلى دول الجوار. لكنهم ما إن عبروا البحر بمئات الألوف مغامرين بأرواحهم نحو أوربا وطالت العمليات الإرهابية التي حققها تنظيم الدولة قلب باريس حتى هرعت الدول الأوربية إلى قرع ناقوس الخطر. فهبت حكوماتها تحاول وقف هذا الغزو غير المسبوق وتقاسم أعبائه ثم معالجة أسبابه بصورة أو بأخرى وهو الأمر الذي لم تكن من قبل مجمعة على طريقته لاسيما وأن الولايات المتحدة وروسيا قد احتكرتا الإشراف على القضية السورية وعلى العمل على حلها بما يستجيب أولاً وبقدر الإمكان لمصالحهما ثم لمصالح أوربا، وفي غياب، وبمعزل عن صاحب القضية الأساس:الشعب السوري.

تسارع إيقاع العمل ووتيرته في المجال الدبلوماسي والسياسي والعسكري. تواجد روسي عسكري منذ الثلاثين من أيلول الماضي لتغيير ميزان القوى على الأرض، واجتماعات فيينا المتوالية لإعداد الحل السياسي وتهيئة طرفيه، النظام والمعارضة، ثم قرار مجلس الأمن 2254 الذي وضع خطة العمل بإجماع أعضائه، وأخيراً اجتماعات جنيف.

في ضوء ما تفرضه هذه الوقائع اليوم، وأمام قرار دولي بإنهاء "الأزمة السورية"، لا تبدو إمكانات المناورة أو الخيارات كثيرة بين يدي طرفي المفاوضات التي بدأت. ولن يكون لأي ضرب من التذاكي أو الحماقة يصدر عن أحدهما من دور سوى أن يرتدّ صفعة أو إلغاء. ومن الممكن بهذا الصدد التساؤل عما إذا كان الإعلان المفاجئ عن الانسحاب الروسي (الجزئي) من سوريا صفعة أريد بها تذكير النظام الأسدي بالحدود التي عليه أن يلتزم البقاء ضمنها!

ذلك أن قوتا الطرفين على مائدة المفوضات غير متساويتيْن. فالنظام الأسدي لا يملك إلا "شرعية" رسمية وشكلية أُريدَ لها الاستمرار على الصعيد الدولي بانتظار ما سيأتي؛ بينما تنحصر قوته العسكرية في المرتزقة والميليشيات الخارجية التي تدعمه. كما أنه فقد مع بدء هذه المفاوضات الدعم السياسي الذي كانت تحظى به مواقفه من قبل إيران وروسيا خاصة بما أن الحلَّ السياسي الذي بات قراراً أمريكياً روسياً لن يستجيب بالضرورة لما أراد ولا يزال يريد أن يفرضه على السوريين.  

أما قوى المعارضة التي اتحدت بعد أن جمعت لأول مرة فصائل سياسية وعسكرية فاعلة على الأرض ضمن الهيئة العليا للمفاوضات، فهي تملك شرعية وليدة وغضة لاشك، إلا أنها قابلة للاتساع والرسوخ بمقدار ما ستثبت خلال هذه المفاوضات كفاءتها وقدرتها على حشد الشعب السوري الثائر وراءها لا من خلال تمسكها بالمبادئ التي خرج من أجلها ودفع ولا يزال يدفع الثمن باهظاً من أجل تحقيقها فحسب، بل كذلك بقدرتها على المناورة السياسية مستفيدة من مواضع الضعف العديدة لدى خصمها. لن يكون من السهل التغلب أو القفز على ما قرره راعيا المفاوضات. لكن سيكون من الصعب على هذيْن الأخيريْن أن يفرضا ما يريدانه ولاسيما حين يخرج الشعب السوري مرة أخرى ليعلن تمسكه بما يطالب به ممثلوه بعد أن اكتسبوا الشرعية الحقيقية على مائدة المفاوضات.




** نشر في القدس العربي، 17 آذار 2016، ص. 23.




mercredi 9 mars 2016


ذراع إيران المسلحة
بدر الدين عرودكي
للمرة الأولى منذ سنوات عديدة يغيب في تقرير التقييم الأمني السنوي الأمريكي الذي قدمه مدير جهاز الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر إلى مجلس الشيوخ كلاً من إيران وحزب الله اللبناني من قائمة التهديدات الإرهابية للمصالح الأمريكية، وذلك في الوقت نفسه الذي أعلنت فيه السعودية ومن ورائها دول مجلس التعاون الخليجي حزب الله في لبنان حزباً إرهابياً بامتياز. لكنها ليست المرة الأولى على وجه التحقيق الذي تختلف فيه كل من الولايات المتحدة والسعودية في تقييم عدد من الأوضاع في المنطقة العربية خلال هذه السنوات الأخيرة.   

لم يثر خبر غياب الإشارة إلى إيران وحزب الله في التقرير الأمني الأمريكي المشار إليه كثيراً من النقاش مع دخول العلاقات الأمريكية الإيرانية بعد توقيع الاتفاق النووي مرحلة جديدة تقوم على التفاهم والتنسيق المتبادلين. في حين تتوالى ردود الأفعال التي أثارها قرار السعودية. وبمعزل عن الأسباب الموضوعية أو الخاصة التي حملت هذه الأخيرة على اتخاذ مثل هذا القرار، ثمة سبب رئيس. نعلم أن الفكرة التي استقرت في الوعي الشعبي العربي منذ عقدين من الزمان تقوم على أن من طرد إسرائيل من لبنان ومن استطاع الوقوف في وجه جيشها هو "حزب المقاومة"، أي ما كان حزب الله في لبنان ولا يزال يطلقه على نفسه. وهي فكرة حاول هذا الحزب وأنصاره أن يزيدوها رسوخاً ولاسيما خلال السنوات التي تلت حرب الـ33 يوماً عام 2006. ولابد من الإقرار بأن النجاح الواسع لهذه الجهود غطى الساحة العربية في مشرقها ومغربها، لا على المستوى الشعبي فحسب بل كذلك على مستوى عدد من الحكومات العربية وعلى مستوى شريحة واسعة من الكتاب والمثقفين الذين لم تكن بصيرتهم النقدية شديدة اليقظة خلال تلك السنوات. وحين انفجرت ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، سارع حزب الله إلى الترحيب بهذه الثورات ترحيباً بدا منسجماً مع مواقفه كحزب "ثوري، ومقاوم، وممانع". لكن انفجار هذه الثورة في سورية سرعان ما كشف الغطاء عملياً وبالتدريج، لا عن مجرد حقيقة مواقف حزب الله وأصولها الإيرانية فحسب، بل عن طبيعة الدور الذي أنيط بهذا الحزب أن يؤديه منذ تأسيسه في غمرة الحرب الأهلية اللبنانية في لبنان أولاً، وفي سورية ثانياً، ثم في كل بلد عربي آخر يمكن لإيران أن تقرر التواجد فيه بطريقة أو بأخرى خلال السنوات التالية.

وهو دور فريد في طبيعته وفي وظيفته. فرادة مصدرها دوافع وظروف تأسيسه في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ولاسيما الأيديولوجية التي انطلق منها مؤسسه الأصيل أساساً ومطامحه، إيران.

كان لابد لإيران وقد ترددت أصداء ثورتها في أرجاء العالم العربي كلها وجعلت منها ــ كما رأى بعض الرؤساء العرب آنئذ ومنهم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ــ العمق الاستراتيجي بامتياز للقضايا العربية التحررية وفي القلب منها فلسطين، أن تستثمر هذا الصدى على أوسع نطاق ممكن على الساحة العربية. وجاءت بعض القرارت الرمزية التي اتخذها الخميني مثل قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وتسليم مقرِّ سفارتها إلى منظمة التحرير الفلسطينية آنئذ كي تذكي أوار الحماس الشعبي في العالم العربي بحيث بدت إيران آيات الله أشد حرصاً على قضية فلسطين وأكثر شراسة في عدائها لـ"الإمبريالية الأمريكية" من الحكومات العربية ذاتها. على هذا النحو، كان أي قرارٍ تالٍ يمكن لهذه "القيادة الثورية أن تتخذه في ما يخص القضايا العربية عموماً سيبدو "تقدمياً" أو "ثورياً" مادام يقف في صف "العداء للصهيونية". على أنَّ السلاح الأهم الذي تمثل إلى جانب ذلك في استخدام تراث إسلامي مُنتقى غطاء أيديولوجياً ينتمي في عمومياته إلى تراث المنطقة العربية بحيث يغطي دون حرج كل الاعتبارات التاريخية والقومية التي ألفت المرجعية الأساس في الثقافة الإيرانية قبل الثورة واستمرت بعدها دون أي تغيير في العمق.

لم يكن غريباً والحالة هذه أن تستأنف في الثلث الأخير من عام 1980، أي بعد سنة من قيام الثورة في إيران، حربٌ إيرانية ــ عراقية كانت قد نشبت منذ عام 1969 حين الغى الشاه معاهدة 1937 الخاصة بالحدود الجنوبية بين إيران والعراق، تلاها قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما إثر احتلال إيران الجزر الإماراتية الثلاث.  

في غمرة هذه الحرب بين العراق وإيران إذن، وحرب أخرى، أهلية، كانت قائمة في لبنان، وكذلك في ظل احتلال إسرائيل لجنوب لبنان التي دخل جيشها بيروت في حزيران عام 1982،  إنما تم إنشاء حزب الله الذي بدأ في هذه السنة نفسها مرحلة سرية من النشاط دامت ثلاث سنوات، أعلن بعدها وجوده بوصفه حزباً سياسياً يمثل مكوناً أساسياً من مكونات الشعب اللبناني، ذا طابع إسلامي، يحمل شعار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي قولاً وفعلاً. لكنه بخلاف حركة أمل ذات التي العلاقات الوثيقة مع إيران، أعلن حزب الله الذي ولد من رحمها بصريح العبارة في بيان أصدره بتاريخ 16 فبراير/ شباط 1985 أن الحزب "ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة".

لم يكن النظام الأسدي، الذي كان قد وقف إلى جانب إيران في الحرب مع العراق والذي كان يدير شؤون الحرب الأهلية في لبنان، ضمن هذه الظروف المؤاتية لتطلعات إيران، بعيداً عن ولادة هذه القوة التي سرعان ما تجاوزت صفتها السياسية لتكتسب صفة القوة العسكرية الضاربة لا على صعيد لبنان فحسب بل على صعيد المواجهة الحربية مع القوة الأمريكية والفرنسية المتواجدتين ببيروت من ناحية، والقوة الإسرائيلية من ناحية أخرى في آن واحد، والتي تجلت في عملية  الهجوم على مبنيي القوات الأمريكية والفرنسية ببيروت والتي أودت بحياة 299 جندي أمريكي وفرنسي، لكن حزب الله لم يعترف بها إلا بعد عام 985!

هكذا أمكن لظروف إقليمية وحربية أحسنت إيران انتهازها، ولتواطؤ نظام أسدي كان يعمل على توطيد جدارته في استملاك سوريا بلداً وشعباً ويحاول في ثمانينيات القرن الماضي استثمار كل ما تتيحه له القوى الإقليمية والدولية من فرص لتحقيق مطامحه، ولأيديولوجية استفادت من بيئة حاضنة أن تسمح لإيران تحقيقَ ما لم تستطع قوة عظمى كالاتحاد السوفياتي من قبلها أن تحققه، أي إنشاء قوة محلية، أيديولوجية وسياسية، تتمتع بقوة عسكرية محلية ثم إقليمية ساحقة، لن يكون متاحاً اعتبارها إلا "مكوناً من مكونات البيئة التي نشأت ضمنها وجزءاً لا يتجزأ منها"، بدلاً من اعتبارها قوة أجنبية أو حتى قوة عاملة لحساب قوة أجنبية. ولسوف يناط بهذه القوة، حسب الظروف، القيام بمهام ما كان بوسع أية قوة إيرانية مباشرة القيام بها من دون تغطية رسمية كما هو الأمر اليوم بالنسبة إلى المستشارين العسكريين الإيرانيين العاملين إلى جانب القوات العسكرية التي وضعها حزب الله في خدمة سياسة الولي الفقيه في سوريا.

بهذا المعنى، ليس المهم توصيف حزب الله حزباً إرهابياً. ولعل الأقرب إلى واقع الحال توصيفه ذراعاً عسكرية لقوة أجنبية ذات مطامع في الهيمنة لا في لبنان أو في سوريا أو اليمن  والبحرين فحسب، بل حيث ترى القيادة الإيرانية ضرورة توطيد هيمنتها على الساحة العربية، أي في أي بلد عربي آخر..

من السخرية القول، بهذا المعنى أيضاً، إن حزب الله هو أحد المكونات السياسية اللبنانية والقفز في الوقت نفسه على حقيقة أنه الحزب الوحيد في العالم الذي يسيطر بسلاحه على مقدرات دولة بأكملها..  


** نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، 10 آذار 2016، ص. 23.



mercredi 2 mars 2016








عن الدولة الديمقراطية الصورية
 وأرض الإفلات من العقاب
بدرالدين عرودكي
قبل أكثر من أربعين عاماً، كان الكاتب السوري أنطون المقدسي يتحدث في مجالسه عن "الدولة الديمقراطية الصورية" التي كان الانقلاب العسكري الذي حمل اسم "الحركة التصحيحية" بسوريا في طريقه إلى بنائها. وقبل عشرة أيام نشر المحامي السوري أنور البني دراسة قانونية جديدة حملت عنوان "أرض الإفلات من العقاب"، يستعرض فيها الأسباب العميقة التي تقف وراء جرأة النظام السوري خلال السنوات الخمس الماضية في ارتكاب أبشع المجازر على مرأى من العالم كله والجهد في بث أشد صورها بشاعة في ممارسة العنف المجاني: أسباب قانونية تمَّ وضعها بعناية منذ بداية الحركة التصحيحية، أي منذ اللحظة التي بدأ فيها بناء هذه "الدولة" الصورية.

ذلك ما يحمل كل مَنْ عرف هذا الواقع على الدهشة والسخرية حين يشهد جهد كثير ممن سوّقوا أنفسهم لتأجير خدماتهم خلال الثورة السورية من أجل الظهور على شاشات الفضائيات العربية للدفاع عن النظام الأسدي بوصفه أميناً على دولة كاملة الأوصاف، كي يحاججوا بأنّ من أراد بها شراً لم يكن إلا مأجوراً أو سلفياً أو عميلاً صهيونياً. يتناسون، بل يتجاهلون عمداً وخبثاً، أنَّ الأساس في قيام الثورة كان خروج الناس في مدن وقرى سوريا جميعاً مُنادين بالحرية وبالكرامة اللتين افتقروهما تحت وطأة نظام استأثر بالقوة وبالعنف المنهجي لحرمانهم منهما.

ليس الأساس في حقيقة الأمر إلا ما يتجاهلونه: نظامٌ اغتصب السلطة بانقلاب عسكري كان آخر خطوة في إعداد البلاد لاستملاكها في جميع المجالات، بدءاً بالجيش وانتهاء بالحياة الشخصية لكل فرد من أفراد الشعب. وكأنما بات هذا الاستملاك الذي عاشه كل مواطن سوري بديهية من بداهات الاجتماع والسياسة في عالم اليوم يمكن القفز عليها بسهولة للنقاش فيما هو أجدى: جهل شعب بأكمله بفضائل نظام استطاع خلال أربعين عاماً أن يثبت لما يسمى "المجتمع الدولي" جدارته  وقدرته على الحفاظ على الهدوء خلال أربعين عاماً على الحدود مع إسرائيل وهو ينادي بمقاومتها مثلما ينادي سادته بمحوها من الوجود!

استطاع باني النظام الأسدي، حافظ الأسد، بعد أن شارك منذ عام 1963 في استبعاد كافة الضباط والقيادات العسكرية المناوئة لحكم البعث، أن يعيد، طوال ممارسته لمهام وزير الدفاع بين عامي 1966 و1970، تنظيم الجيش من القاعدة إلى القمة بما يسمح له بسهولة أن يستولي على السلطة استيلاء سمّاه "الحركة التصحيحية"، وأن يستبعد بعد ذلك سجناً أو اغتيالاً أو نفياً كل شركائه من قبل ممن وفروا له الإعداد لحركته الانقلابية. 

حركة تصحيحية بلا مظاهر عسكرية يقودها وزير دفاع سابق وقعت في عهده وتحت مسؤوليته أكبر هزيمة عسكرية عرفتها سوريا في تاريخها الحديث، سوف يرتقي بعدها منصبَ الحاكم بأمره تحت مُسَمّى رئيس الجمهورية!

حركة تصحيحية يُصارُ بعد إعلانها بالتدريج إلى العمل على تنظيم ما يشبه الحياة المدنية في مجتمع يسير وفق ما يشبه النهج الديمقراطي المتمثل فيما يشبه فصل السلطات الثلاث، وفيما يشبه تعددية الأحزاب، وفيما يشبه حرية الصحافة ("لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير"!)، ويقف في الطليعة من البلدان العربية الأخرى في سياسته الخارجية القائمة على الصمود والتصدي ثم المقاومة والممانعة. أوحى ذلك كله بدولة حديثة ديمقراطية تجري فيها انتخابات "حرة"، "لممثلي الشعب" في برلمان "يشرع" و"يراقب" السلطة التنفيذية، ولرئيس جمهورية يرشحه مجلس الشعب كي "ينتخبه" الشعب مباشرة عن طريق الاستفتاء، وقضاء مستقل، ونقابات تمثل مختلف القطاعات الصناعية أو الزراعية، ومسيرات "تشبه" المظاهرات لكنها تخرج للتأييد والتمجيد..

بدا العالم وكأنه يريد لنفسه وللسوريين تصديق هذه المهزلة. ذلك ما أوحى لأنطون مقدسي بالتشبيه المذكور: الديمقراطية الصورية. تلك التي شُبِّهَت للشعب السوري، مثلما شُبِّهَ له وللشعوب العربية الأخرى صمود هذا النظام ومقاومته ثم ممانعته وذلك من دون إطلاق رصاصة واحدة لا هجوماً ولا دفاعاً حتى حين تستباح أجواء سوريا وأراضيها من خلال العمليات الخاصة التي قامت بها قوات إسرائيل بحرية تامة. ذلك أيضاً ما أتاح للنظام إحكام سيطرته على المجتمع في الداخل من خلال تقنين حريته الكاملة وغير المحدودة في استخدام كافة الوسائل التي تتيح لمختلف الأجهزة الأمنية أن تتصرف فيما يُطلب إليها تنفيذه من مهمات غير عابئة بالنتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك آنياً أو مستقبلاً.

يكفي أن نتابع مع المحامي أنور البني تسلسل مواد القوانين التي تقنن هذه الحرية غير المحدودة وهذه الحماية المطلقة من العقاب منذ إقرار دستور عام 1973 حتى اليوم كي ندرك صلابة الإرادة الأسدية في استملاك بلد وشعب، وفي ضمان الحماية من كل مساءلة قانونية لمن يقوم على خدمة هذا الهدف وضمان استمرار آثاره.

ضَمِنَ حافظ الأسد لنفسه حماية مطلقة داخلية وخارجية:

ــ حماية داخلية حين اعتبر دستور 1973 أن رئيس الجمهورية "لا يكون مسؤولاً عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى"، وأنه في حال اتهامه بالخيانة العظمى، تجري محاكمته حصراً أمام المحكمة الدستورية العليا". يبدو ذلك للوهلة الأولى طبيعياً. لكن ما إن نعلم أنه لا وجود لجريمة "الخيانة العظمى" في قانون العقوبات السوري أو سواه، وأن الدستور نفسه ينصُّ على أن "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنصٍّ قانوني" حتى ندرك استحالة محاسبة رئيس الجمهورية حتى لو ارتكب الخيانة العظمى! لكنَّ حماية الرئيس أُحكِمَت أيضاً من خلال الهيئة المنوط بها إجراء المحاكمة، أي المحكمة الدستورية العليا التي يعيّن أعضاءَها ورئيسَها  لمدة أربع سنوات رئيسُ الجمهورية نفسه؛

ــ وحماية خارجية حين رفضت سوريا في عهده الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية بما يجعل مسؤوليها محميين من أية ملاحقة يقوم بها المجتمع الدولي لأي جريمة يرتكبونها!

ومن حماية الرئيس نفسه إلى حماية من يخدم أهدافه من "الموالين والأتباع" كما يقول المحامي أنور البني، أي عناصر الجيش، وإدارة المخابرات العامة، وكذلك العناصر المتعاقدة، وذلك عن طريق حصر مسؤولية الإحالة إلى المحاكمة لخطأ ما بالمدير. بما يعني بقاء الموالين والأتباع تحت رحمة رئيسهم المباشر، مهددين كل لحظة بالعقاب إن لم يمتثلوا لأوامره!

لم تقتصر الحماية على القطاعين المشار إليهما، بل امتدت لتشمل مع بشار الأسد وبموجب مرسوم صدر عام 2011  عناصر الشرطة والجمارك والأمن السياسي، مؤخراً، ثمَّ كل من يدافع عن النظام الأسدي من العناصر التابعة لقوات خارجية كما هو الأمر في الاتفاقية الموقعة مع روسيا التي نصت صراحة على الحصانة الكاملة والشاملة لكل ما يمت للقوات الروسية جواً وأرضاً بصلة.

تلك هي المهزلة الدستورية والقانونية التي حكمت سوريا خلال نيف وأربعين عاماً. على أن المهزلة الكبرى تتجسّد في قانون الطوارئ الذي سبق لأنور البني نفسه أن تعرض له في دراسة سابقة حول "آلية السيطرة والهيمنة على المجتمع في القوانين السورية". فهذا القانون الصادر عام 1962 الذي حدد طريقة وحالات إعلان الطوارئ ومن يُناط به إعلانها، لم يُطبق حين أعلنت عام 1963 حالة الطوارئ  بأمر عسكري، ولم يؤكدها رئيس الجمهورية بعد إقرار الدستور الدائم الصادر عام 1973. أي أن تطبيق النظام الأسدي لقانون الطوارئ طوال هذه السنوات الخمسين كان يفتقر قانوناً إلى الشرعية!

مع هاتيْن المهزلتيْن في النظام  الأسدي، لا يزال بعض معتوهي السياسة أو متذاكيها في العالم يسأل بصدده: ولكن، ما البديل؟



* نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، 3 آذار 2016، ص. 23.