الصقر المصري
عبد الناصر
بدرالدين عرودكي
في الوقت الذي كانت وسائل الإعلام الغربية ترى في جمال
عبد الناصر خلال خمسينيات القرن الماضي عسكرياً مستبداً معادياً للغرب ولثقافته
السياسية والديمقراطية، كان الشعب المصري وسواه من الشعوب العربية يحتفل به ويكرسه
عفوياً وبحماس زعيماً وبطلاً للاستقلال وللحرية وللكرامة. وعلى أن معظم السياسيين
الأوربيين، الفرنسيين والبريطانيين منهم خصوصاً، ظلوا لا يرون فيه إلا العدو
السياسي الأول بامتياز، إلا أن رحيله شهد ضرباً من إعادة التقييم حين رأوا ملايين المصريين
يشيعونه وملايين العرب في كافة أرجاء
العالم العربي يبكونه. صار في نظرهم كما وصفه جان دانييل "عامل توازن"
في العالم العربي، وحاملا لأعباء لا يقدر على حملها أيّ زعيم آخر فيه.
وهاهم الزعماء الذين جاؤوا من بعده في مصر
أو في من حولها يتوازعونها فيما بينهم وينؤون مع ذلك بحملها!
وإذا كان ذلك كله قد أصبح في الغرب جزءاً من الماضي لا
يكاد يذكره فيه خصوصاً إلا من بقي من شيوخ الساسة على قيد الحياة، كما لا يكاد أحدٌ
من عامة الناس يعرف اسمه بعد أن كان طوال سنوات على كل شفة ولسان في إنجلترا كما
في فرنسا، فما الذي يحمل اليوم، بعد خمسة وأربعين عاماً على هذا الرحيل، وثلاثة
وستين عاماً على حركة الضباط الأحرار التي أنشأها وقادها وأنجزها بنجاح ليلة
الثالث والعشرين من يوليو 1952، على أن يؤلف كاتبٌ فرنسي كتاباً عن جمال عبد
الناصر يحاول فيه، مؤرخاً وروائياً، أن يقدم صورة رجل دولة لا يختلف الناس في
نظرتهم إلى أحد مثلما يختلفون اليوم فيه وحوله، ولا سيما في العالم العربي، سواء
في تقييم مسيرته قبولاً غير مشروط أو رفضاً بلا حدود، أو في قبول شخصه حباً أو
كرهاً، أو حول الحكم على منجزاته سلباً أو إيجاباً أو بين بين، ولا يزالون؟
ما كان لكاتب فرنسي السلالة، جيلبير سينويه، لولا أنه مصري
الولادة والتكوين الأساس خلال السنوات التسعة عشر الأولى من عمره التي عاشها فيها، واختص من بعد سنواته الأربعين شخصياتها
التاريخية الكبرى ببعض أعماله الروائية، أن يلتفت اليوم إلى شخصية مصرية بامتياز،
متعددة الوجوه والأبعاد، مأساوية الأقدار والمصير، ولاسيما بعد أن عاصر طفلاً ثم
شاباً صعودها وتألقها ونجاحاتها وإخفاقاتها ثم رحيلها المأساوي.
ولابدّ أن السؤال الملحّ كان قد شغله قبل أن يقدم على وضع
هذا الكتاب: بمّ يبرر عمله هذا أمام جمهور فرنسي أو ناطق بالفرنسية لم يعد موضوعه
شاغلاً له ولا حتى أحد شواغله اليوم؟ ثم، كيف يمكن له أن يتناول إذن هذه الشخصية
التي سيطرت خلال ثمانية عشر عاماً على المشهد السياسي المصري والعربي واحتلت حيزاً
كبيراً في المشهد السياسي العالمي ضمن كتاب يقع في حوالي 400 صفحة؟
لعل ما جرى منذ 25 يناير 2011 ويجري اليوم على الساحة
المصرية مما يمكن أن يهم القارئ الفرنسي المولع تاريخياً بمصر وبتاريخها يمكن أن
يجيب عن السؤال الأول. أما الجواب عن السؤال الثاني فسيجد في كتب المؤلف السابقة الطريقة
أو المنهج.
هكذا، لم يكن كتاب الصقر المصري في النهاية رواية
فيها من التخييل بقدر ما فيها من الواقع، ولا كذلك محض كتاب تاريخي عن عبد الناصر،
ولا سيرة حياة بالمعنى التقليدي للسيرة، بل كان كتاباً يستفيد من تقنيات هذه الأجناس
جميعاً كي يأتي في صورة شهادة جامعة عن شخصية فذة لا تزال حاضرة في وجدان ملايين
المصريين والعرب ولا سيما منهم من سمعوا واستجابوا لجملته الشهيرة: "إرفع
رأسك يا أخي"! لهذا كانت أفضل مقاربة لهذه الشخصية الاستثنائية ما دام
المستهدف بالكتاب القارئ الفرنسي خصوصاً والغربي عموماً هي تلك التي تعنى بما يمكن
لهذا القارئ الذي ما إن يسمع باسم الزعيم المصري حتى يقترن في ذهنه بصفات الديكتاتور
الرهيب، و المستبد، والعدو الشرس للغرب ولثقافته أو لسياساته. ذلك أنَّ الغالبية
العظمى من الكتب التي طفقت ولاسيما بعد تأميم قناة السويس تتوالى بالعشرات في
الخمسينيات من القرن الماضي، فضلاً عن آلاف المقالات في الصحف والمجلات الغربية ، لم
تكن ترى في جمال عبد الناصر إلا هذا العسكري الذي استحوذ على السلطة بقوة السلاح وأخرج
البريطانيين من مصر، وأمم قناة بناها الفرنسيون وهيمنت عليها بريطانيا بفعل
احتلالها لمصر، وطفق يساعد الثوار الجزائريين في حربهم ضد الاحتلال الفرنسي من أجل
الاستقلال، ويحلم بوحدة عربية تمتد من المحيط إلى الخليج، وبقارات ثلاث تخرج بلغة
الخمسينيات عن هيمنة الشرق السوفييتي والغرب الإمبريالي، ولم تر شبيهاً له في
تراثها القريب إلا هتلر أو موسوليني، واقفاً أمام جماهير لا يحصى عددها يقرِّع
الغرب ويهدده، وينذر بالويل والثبور بقايا الاستعمار في آسيا وأفريقيا..
كيف يمكن لكاتب أن يتجاهل، حين يريد الإحاطة بشخصية
استثنائية، تعدُّدّ زوايا الرؤية وبعد الزمان؟
أو أن يختصرها في مرحلة أو في جانب من جوانبها أياً كانت أهمية هذا الجانب؟
أو أن يبنيها على ترَّهات مختلفة من سقط متاع الأيديولوجيات على اختلافها وضعية كانت
أو ميتافيزيقية؟
كثيرة هي الاختصارات السائدة اليوم في قول شخصية عبد
الناصر بفعل وتحت تأثير التغييرات القائمة الآن على معظم مساحة العالم العربي
وقبلها بفعل وتحت تأثير من طمحوا إلى التشبه به بله الفوز بمكانته من صدام حسين
إلى حافظ الأسد إلى معمر القذافي. مثلما كانت كثيرة هي الآخرى محاولات طمس فعله
الأساس إن لم يكن ذكراه.
يعرف جيلبير
سينويه ذلك كله مثلما نعرفه جميعاً، لكنه لا يوليه أي اهتمام. ذلك أنَّ هدفه تركز
في تقديم شخصية يستحيل اختصارها أو حصرها في صيغة أو في صفة، مثلما يصعب في الوقت
نفسه تقديمها كما كانت تتجلى في ذاتها لجمهور لم يسبق له أن تعاطف معها أو في أفضل
الأحوال يجهل عنها كل شيء. سوى أنه وهو الذي تابع نقاط الظل مثلما تابع نقاط الضوء
في حياة بطل كتابه كان يعرف ويقول إن جمال عبد الناصر "كان بين الضوء والظل
آخر قائد عربي عظيم"، والوحيد الذي "حاول أن يذكر إخوانه العرب بأنهم
أقوياء وبأن ضعفهم يكمن في جهلهم قوتهم".
الضوء والظل هما ما يسمان حياة كل إنسان أساساً. وفي
حياة عبد الناصر أكثر ـ ربما ـ من أي إنسان آخر. لا يقتصر اسم عبد الناصر ـ كما
يفعل خصومه ـ على العسكري الذي استحوذ على السلطة بالقوة، أو على المستبد الذي
استأثر بالسلطة وأرسى قواعد الحكم الأمني، أو "الحاكم المتهور" الذي قاد
بلاده إلى هزيمة مريعة على أيدي عدوها الأول. لن يكون قول ذلك إلا بعض الحقيقة لا
كلها، وربما قول وجهٍ واحدٍ منها لا كلَّ وجوهها.
سنرى على مدار فصول الكتاب عبد الناصر شاباً مناضلاً
نهماً إلى المعرفة، ثم طالباً يرشح نفسه للدراسة في الأكاديمية العسكرية كي يكتشف
أن طريق التغيير لابد أن يتم بواسطة الجيش. وسنراه في حصار الفالوجة في فلسطين
أثناء حرب 1948، ثم وهو ينظم مع أصدقائه حركة الضباط الأحرار التي ستستحوذ على
السلطة يوم 23 يونيو 1952، وتبدأ مرحلة الضوء الساطع في صعوده وتكريسه زعيماً
مصرياً وعربياً بادئة بمفاوضته البريطانيين للجلاء عن مصر نهائياً، ثم تأميمه قناة
السويس كي يبني السد العالي بعد شهر من الاستفتاء عليه يوم 23 يونيو 1956 رئيساً
لجمهورية مصر، ثم في عام 1958 رئيساً للجمهورية العربية المتحدة بإرادة جماهيرية
قل نظيرها في كلٍّ من سوريا ومصر؛ فترة عمل خلالها في الداخل على تحقيق الإصلاح
الزراعي، وبناء السد العالي، وتعميم التعليم ومجانيته وبناء المصانع ومحاولة وضع
نواة الصناعة الثقيلة.. لتبدأ بعدها، اعتباراً من 28 سبتمبر، مرحلة الظل ثم
الظلال: الانفصال، وسقوط عبد الكريم قاسم في العراق وأحمد بن بله في الجزائر، ثم مقتل المهدي بن بركة،
وحرب اليمن وأخيراً حرب الخامس من يونيو 1967 التي وضعت على نحو مريع حدّاً فاصلاً
بين مرحلتين: مرحلة صعود المشروع القومي وألق الحلم العربي بالاستقلال وبالحرية،
والهزيمة الصارخة وقد كشفت عري النظام العربي بأكمله بلا رحمة.
لاشك أن عبد الناصر، الذي أعادته الجماهير نفسها التي
سكن وجدانها إلى منصبه رئيساً بعد أن أعلن حَمْلَهُ المسؤولية كاملة عن الهزيمة
واستقالته من منصبه، كان في طريقه إلى أن يصير رجل الدولة الأكبر في العالم العربي
بعد أن كان طوال السنوات السابقة البطل والزعيم. كتب جان لاكوتور الذي حاوره أكثر
من مرة وكان من أوائل من ألفوا كتاباً عنه: ""يُطلب إليّ أن أتعرف في
جمال عبد الناصر على الفضائل التي تصنع رجل دولة عظيماً، وجوابي سلبيّ في البداية،
على المدى البعيد، ويفرض عليَّ أن أضعه بالأحرى ضمن فئة أخرى، هي فئة "الأبطال".
رجل الدولة يبني، والبطل يجذب. رجل الدولة يضبط، والبطل يبقى في فضاء آخر، فضاء
الإلهام والخيال."
خلال السنوات الثلاث التي تلت هزيمة يونيو وسبقت رحيله
عن عالمنا، كان عبد الناصر يبني ويضبط. وكان على وجه الدقة "عامل
التوازن" الذي وصفه به جان دانييل. سوى أن الرجل الذي سعى ونجح في أن يجعل من
مصر مركز العالم العربي والعالم الثالث حمل معه في رحيله الأخير المشروع العربي
بأكمله.
كانت
مأساة جمال عبد الناصر هي مأساة العالم العربي بأجمعه.. تلك التي نشهدها اليوم بأمِّ
أعيننا بعد خمسة وأربعين عاماً على رحيله..
نشر هذا المقال في مجلة "الهلال"، عدد تموز/يوليو 2015، ص 96 ـ 101 **