vendredi 27 février 2015


آسيا جبار:

بين إشكالية الانتماء واستنطاق الأصوات المخنوقة*


بدرالدين عرودكي


حين اعتلت آسيا جبار (واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء إيمالايان) يوم 22 يونيو 2006 منبر الأكاديمة الفرنسية لتلقي خطاب اعتمادها عضواً في مجمع الخالدين، لجأت إلى ديدرو الذي اختارت في خطابها الافتتاحي أن تكون على غراره حين كتب في نهاية رسالته "حول الصم والبكم" عام 1751:  "بدا لي أنه كان يجب أن يكون المرء في الخارج وفي الداخل في الآن نفسه".  لكن آسيا جبار التي رحلت عن عالمنا في السادس من فبراير الماضي كانت، والحق يقال، قد أرادت أن تكون أو كانت، ولعلَّ هذا هو الأصحّ، مرغمة  على أن تكون، بفعل مكان مولدها وزمانه، وقبل أن تصير في عداد حماة الفرنسية لغة وثقافة، على غرار ما وصف الفيلسوف الفرنسي به نفسه. وربما هذا ما يفسر الصمت الذي التزمته طوال حضورها لقاء الروائيين العرب والفرنسيين الذي قبلت قبل سبعة وعشرين عاما الدعوة إلى أن تشارك فيه والذي أعترف أنني غضبت منها بسببه ولم أفهمه في حينه. ففي حضور الروائيين الفرنسيين الذين كانت في عدادهم بما أنها تكتب بالفرنسية، وفي حضور الروائيين العرب الذين كانت مخيلتها تنتمي إلى عالمهم، لم يكن بوسعها أن تقول شيئاً. هذا ما يحملني على أن أتساءل اليوم، يوم رحيلها: ما الذي كان يمكن أن تقوله لو أنها فعلت في حضور هؤلاء وأؤلئك؟ ربما كان الصمت هو اللغة الوحيدة الممكنة في موقع من هو في الخارج وفي الداخل في الآن نفسه!
تلك أولى وربما أهم الإشكاليات التي واجهتها الروائية والسينمائية الجزائرية الأصل والفرنسية التعبير في حياتها ككاتبة على وجه الخصوص: أن تبدع بلغة المُستعمِر وهي تتغذى من ينابيع العربية أو البربرية بالقرب من أخواتها الفلاحات الجزائريات. أهي محاولة توازن؟ ربما. لكنها عاشت ذلك بكل المعاني إلى أن حسم البلد الذي استعمر بلدها أمره ذات يوم من عام 2005، فاستقبلها بوصفها واحدة من "الخالدين"، أي واحدة من أعضاء مجمع لغته: الأكاديمية الفرنسية، وإلى أن حسمته هي أيضاً حين قبلت أن تحتل المقعد الخامس في  هذا المجمع الذي هو عصارة الثقافة التي تلقتها ونشأت في أحضانها على غير إرادة حرة منها.
كان هذا الوضع سمة جيل من الكتاب الجزائريين الذين لم يكن بوسعهم التعبير إلا بالفرنسية. بعضهم قبل الأمر دون أن يماري فيه. وبعضهم الآخر اعتبر الأمر نفياً لغوياً تراجيدياً لا مناص منه، وبعض ثالث انتقل بكل بساطة إلى الكتابة بالعربية..وتلك مشكلة بقي المعنيون بها يناقشونها بلا هوادة وببعض العنف اللفظي أحياناً كثيرة. فحين كتب جاك بيرك كتابه "أساليب تعبير العرب في الحاضر" أو كما أراد هو نفسه أن يعنون كتابه بالعربية "كلمة العرب إلى العالم الجديد" لم يتناول من الكتاب العرب مشرقاً ومغرباً إلا الذين كانوا يكتبون بالعربية. وكان أول نقد وُجِّه إليه من قبل الكتاب الفرنسيين ذي الأصل العربي، ومنهم جزائريون ومغاربة ومصريون ولبنانيون..أنه لم يتطرق إلى أعمالهم التي لم يتناولوا فيها إلا الواقع العربي المعاصر. وكان جوابه أن الكتابة تنتمي إلى اللغة التي تكتب بها..وإلا ما معنى أن يعتبر العرب عشرات بل مئات الكتاب ذوي الأصول الفارسية أو التركية أو سواها عرباً؟ أليس لأنهم كتبوا بالعربية بصرف النظر عن أصولهم؟ لا بل إنه أضاف في أحاديثه (وكان كتابه المشار إليه قد صدر عام 1975، أي بعد قرابة خمسة عشر عاماً على استقلال الجزائر) إنه لو أراد الكتاب الجزائريون الكتابة بالعربية لحصلوا على الدكتوراه بها بعد عقد ونصف من استقلال بلدهم! وعلى أن زوايا النظر إلى مشكلة اللغة قد اختلفت في عصر العولمة ، إلا أنَّ شرعية السؤال لا تزال  قائمة رغم كل شيء ولاسيما حين يختار كاتب جزائري اليوم مثلاً لم يكن مضطراً إلى الكتابة بلغة غير العربية أن يكتب بالفرنسية.
سوى أن آسيا جبار كانت أيضاً قد حسمت أمرها حين انصرفت إلى الكتابة مستخدمة مختلف ضروب التعبير: النصوص النظرية في مختلف الميادين والشعر والمسرح وخصوصاً الرواية، فضلاً عن اللغة السينمائية من خلال عدد من الأفلام التي أخرجتها كي تقول ذاكرتها كفتاة جزائرية ولدت في الجزائر التي كانت لا تزال تحت الاستعمار الفرنسي في إشكاليتها. كان يُقال عنها "الفرنسية المسلمة" في الوقت الذي كانت تتلقى فيه في المدرسة ما يفيد أنها حفيدة " أجدادنا الغاليين"! وستكتشف منذ ريعان شبابها بوصفها امرأة هذه المرة، أنَّ استخدام جسد المرأة رهاناً في التعاليم وفي المحرمات أو المحظورات لم يكن إسلامياً بل شهد قبل مجيء الإسلام بأربعة قرون مَنْ كان يستخدمه على نحو أشدً صرامة، وكانت تعني ترتوليان المولود في قرطاج عام 155 ميلادية والذي كان منذ ذلك الحين يعتبر أنه "منذ أن كشف الغطاء عن رأس هذه الفتاة لم تعد عذراء في نظره"، أو "كل عذراء تكشف عن نفسها تتعرض لضربٍ من العهر!" .لقد أدركت إذن، ومنذ البداية، أن مسألة المرأة وجسدها التي شغلتها كامن إذن في طبقات عميقة من الأرض التي نشأت عليها  وقبل أن يصل الإسلام واللغة العربية إليها بقرون. 
ذلك ما سيجعل من آسيا جبار  صوتَ من لا يعرفن الأبجدية، وقلمَ تراثٍ نقلته الفتيات عن أمهاتهن في كل مجال، ووجْهاً يحمل ملامح ثقافة ذاكرة جسد وقلب، لأناس طواهم الوجود ولم يبق منهم سوى الكلمات تتناقلها الألسنة شفاهاً من جيل إلى جيل.
هي راوية التاريخ إذن. لنقل راوية ما لا يرويه التاريخ كما نعرفه في المدارس والجامعات. لأنَّ ما قامت به كان استنطاق الأصوات المخنوقة وبعث ما كانت تريد أن تقوله هذه الأصوات عبر الكتابة. وما كنا لنعرف آلام هاتيك الفتيات وعذاباتهن لولا أن أخذت أسيا جبار على عاتقها أن تكون صوتهن، وأن تبعثهن، وأن تقف سدّاً منيعاً في وجه رجال الماضي والحاضر الذين حاولوا من قبل ولا يزالون يحاولون اليوم استعبادهن بمختلف الوسائل.
وهي باحثة أيضاً عن الهوية النسائية بينما تقيم حواراً بين أجيال النساء المختلفة كي تفتح أبواب المستقبل. سنرى ذلك منذ أول رواية لها "العطش" (1953) مثلما سنراه في رواياتها الأخرى ، ولاسيما روايتها "ولا في أي مكان في بيت أبي" التي افتتحتها باقتباس للشاعرة البريطانية كاتلين راين:
"من بعيد جئتُ وإلى البعيد عليَّ أن أذهب..."
ولقد ذهبت بالفعل بعيداً معتمدة على كل ما يسعها استخدامه من وسائل التعبير: الكلمة والصور اللغوية والصور المتحركة وخشبة المسرح..في غضب مضطرم لا يجد تعبيره في العنف بقدر ما يعثر عليه في كتابة تاريخ مَنْ لا تاريخَ لهنّ.
ويبقى أن على القارئ العربي الذي لم يعرف عنها إلا اسمها الأدبي أن ينتظر قبل أن يتمكن من التعرف عليها من خلال ما حمل مجمع الخالدين في فرنسا على أن يجعلها في عدادهم.

 
* نشر في مجلة "الهلال"، الصادر في أول آذار/مارس 2015  ص. 16 ـ 19. 


 
 

 

samedi 21 février 2015

 
 
 
حوار مع زياد ماجد حول كتابه: سوريا، الثورة اليتيمة:
للأصدقاء الذين يمكن أن يهتموا بالحوار الذي جرى مع زياد ماجد على موجات إذاعة حوارالجمهورية حول كتاب "سوريا، الثورة اليتيمة "، وكذلك مع الأصدقاء الذين استمعوا إلى الحوار وطرحوا عدداً من الأسئلة الهامة حول موضوعات الكتاب وسواها مما يتعلق بالثورة السورية
 
 
 
 

vendredi 13 février 2015


حين يغتني الجهل  بسوء النية!*

بدرالدين  عرودكي 

نشر السيد سليم البيك في عدد 12 شباط/فبراير 2015 من صحيفة القدس العربي مقالاً حمل عنوان "ميلان كونديرا وإسرائيل" يبدو لي أنه اعتمد فيه على مقال سابق لزميل له يُدعى حسن حميد كان قد كتبه ونشره في صحيفة "العروبة"السورية عام 2007 ثم أعاد نشره ثانية في صحيفة "الوطن" العمانية عام 2010. ذلك أنه يكرر في مقاله ما جاء في المقال الأصلي مع تغيير العنوان واختلاف الذائقة (فحسن حميد لا يعتبر كونديرا كاتباً كبيراً في حين أن سليم البيك يعتبره روائياً كبيراً)  رغم أن الهدف واحد: اتهامي بصفتي مترجم كتاب "فن الرواية" لميلان كونديرا بحذف مقطع من أحد فصول الكتاب بقرار ذاتي. يكتب سليم البيك حرفياً أن المترجم:
"تفضل على القارئ العربي وقرّر في ترجمته حذف ما بدأت به كلمة كونديرا، (...)17 سطراً في النص الفرنسي، محذوفة تماماً من الترجمة المذكورة، بمبادرة ذاتيّة من المترجم (لا الدار) حرصاً منه على سلامة آراء وقناعات القارئ كما يبدو."
لن أدخل في نقاش يبدو لي عقيما منذ البداية  حول علاقة كونديرا بإسرائيل. ما يهمني هو أن أبيّن للسيد سليم البيك أنه تسرع كثيراً في الاعتماد على مقال حسن حميد وأنه كان عليه أن يبذل بعض الجهد الشخصي كي يكتب مقالاً لا يُعرِّض كاتبه إلى الاتهام بالجهل أو بالكسل أو بسوء النية أو بكل ذلك معاً.
يعتبر السيد سليم البيك أنني حذفت بقرار ذاتي (كيف عرف أنه قرار ذاتي لو لم يكن قرأ مقال حسن حميد الذي يكرر الاتهام نفسه) مقطعاً من بداية الفصل السابع من كتاب "فن الرواية". لكنه يبدو، مثل حسن حميد، أنه لم يكلف نفسه عناء قراءة الكتاب المترجم أصلاً. إذ لو كان قد قرأه لاكتشف مثلاً أنني ترجمت المقطع الأخير من مقدمة كونديرا لكتابه الذي يقول فيه:
"في ربيع عام 1985 تلقيت جائزة القدس. وقد قرأ الأب مارسيل دوبوا من طائفة الدومينكان، والأستاذ في جامعة القدس، الثناء عليّ بالإنجليزية مع لكنة فرنسية قوية؛ وقرأت بالفرنسية مع لكنة تشيكية قوية خطاب الشكر عالماً أنه سيؤلف الجزء الأخير من هذا الكتاب والنقطة الأخيرة لتأملاتي حول الرواية وأوربا. لم يكن يسعني قراءته في جوٍّ أكثر أوربية، وأكثر حرارة، وأكثر حميمية. "
وهو المقطع الذي يشير إلى المقال ذي المقطع "المحذوف"!
لم ينتبه الرقيب السوري إلى هذا المقطع في بداية كتاب "فن الرواية" لأنه لم يجد فيه  اسم "إسرائيل". لكن بوسع أي قارئ لترجمة الكتاب (ولو قرأه سليم البيك بالفعل لكان بوسعه هو الآخر) أن ينتبه إلى أن شيئاً ما قد حذف في المقال المشار إليه في نهاية المقدمة المذكورة. وأنه لو كان الحذف قراراً ذاتياً كما زعم اعتماداً على زعم حسن حميد لكنتُ قمت بحذف هذا المقطع أيضاً من مقدمة الكتاب. من الذي حذف إذن؟ من الواضح أن سليم البيك شأنه في ذلك شأن حسن حميد يعتبر لأسباب أجهلها تماماً أن الرقيب السوري بريء من ذلك تماماً (فقد قرأ في مقال هذا الأخير ما يفيد أن الرقابة لم تكن مسؤولة عن الحذف!) ومن ثم فمن الأسلم لهما اتهامي بما قام به هذا الرقيب.
لكنَّ الأدهى من ذلك أن سليم البيك يصر على إبراز جهله أو سوء نيته أو كلاهما معاً حين يتحدث عن طبعة أخرى للكتاب مؤكداً اتهامه بحذفي للمقطع الذي قام (بعد اطلاعه على النص الفرنسي طبعاً!) بترجمته في مقاله. سوى أن السيد سليم البيك يتسرّع كثيراً مثل زميله الذي ينقل عنه دون أن يبذل أي جهد، حتى في تغطية جهله: فالمقطع الذي حذفه الرقيب السوري في الطبعة السورية عام 1999 موجود بكامله في كلٍّ من الطبعة الثانية لترجمتي التي صدرت في الدار البيضاء عام 2001 عن دار أفريقيا الشرق، والطبعة الثالثة التي صدرت في السنة ذاتها عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة هذه المرة، ثم في تلك التي صدرت مع الطبعة الرابعة ضمن كتاب اشتمل على كتب كونديرا الثلاثة في فن الرواية (فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار) وحمل عنوان "ثلاثية حول الرواية" عن المركز القومي للترجمة عام 2007 . لا بل إن جهل سليم البيك بما يكتب عنه يصل به إلى أن يتحدث عن هذه الطبعة الأخيرة للكتب الثلاثة دون أن يكلف نفسه عناء التحقيق ولا التمحيص أو حتى الاطلاع على محتواها. فهو يكتب أن كتاب "فن الرواية الصادر عن «دار الأهالي» في دمشق بترجمة من بدر الدين عرودكي، ثمّ، مُزيداً عليه نصوصاً أخرى من كتابين منفصلين ونقديين آخرين لكونديرا، صدر للمترجم نفسه «ثلاثية حول الرواية» عن «المشروع القومي للترجمة». من الملاحظ أن أن السيد سليم البيك لم يطلع على محتوى الكتاب المشار إليه لأنه لا يتضمن كتاب فن الرواية وقد زدتُ عليه "نصوصاً أخرى من كتابيْن منفصليْن ونقديين آخرين لكونديرا" كما يزعم، بل يتضمن ثلاثة كتب منفصلة ذات عناوين مختلفة ترجمتها بكاملها ونشرتها ضمن كتاب واحد باقتراح من كونديرا نفسه كما أشرت في مقدمتي للترجمة.
يترجم السيد سليم البيك المقطع "المحذوف" على النحو التالي:
«إن كانت الجائزة الأهم التي تمنحها إسرائيل مكرّسة للأدب العالمي، فلا يُعدّ ذلك صدفة، إنّما يعود لتراث طويل. إنّها الشخصيات اليهودية الرفيعة التي، بإبعادها عن أرضها الأصليّة وتعاليها على المشاعر القوميّة، أبدت دائماً حساسيّة استثنائية تجاه أوروبا ما فوق القوميّات، أوروبا المعرَّفة ليس كأراضٍ بل كثقافة. إن كان اليهود، حتى بعدما أُحبطوا بشكل تراجيدي من قبل أوروبا، قد بقوا مخلصين رغم ذلك لهذه العالميّة (الكوزموبوليتية) الأوروبية، فإنّ إسرائيل، مكانهم الصغير الذي وجدوه أخيراً، تبرز أمام عينيّ كالقلب الحقيقي لأوروبا، قلب غريب موضوع في ما بعد الأجساد. أستقبل اليوم بمشاعر جياشة هذه الجائزة التي تحمل اسم جيروسالم ودمغةَ هذه الروح الكبيرة العالميّة اليهودية".
وها هي ترجمتي التي تضمنتها طبعات فن الرواية كلها باستثناء الطبعة السورية:
"إذا كانت أهمّ جائزة تمنحها إسرائيل مخصصة للأدب العالمي فليس ذلك فيما يبدو لي وليد الصدفة بل نتيجة سنّة راسخة. إذ الواقع أن الشخصيّات اليهودية الكبرى التي نشأت بعيدة عن موطنها الأصلي في بيئة تتعالى على الأهواء القومية عبّرت دوماً عن حساسية استثنائية من أجل أوربا تتعالى على القوميات. أوربا يتمُّ تصوّرها لا كأرض بل كثقافة. وإذا كان اليهود قد ظلوا حتى بعد خيبتهم المأساوية من أوربا مخلصين لهذه الكوسموبوليتية الأوربية، فإنَّ إسرائيل، وطنهم الصغير الذي عثروا عليه أخيراً، تنبثق في نظري بوصفها قلب أوربا الحقيقي، قلبٌ غريبٌ وُضِعَ في ما وراء الجسد."
لا أرى حاجة إلى أن أناقش سليم البيك في الطريقة التي اعتمدها لكتابة المقال كي يسوِّقه للقارئ: التعلق بالشماعة الإسرائيلية.. ولن أناقشه في حبه أو كرهه لكونديرا، ولا في رضاه أو عدم رضاه عن احتفال الصحافة بكونديرا وكتاباته.. ولا كذلك في حبه أو عدم حبه لرواية كونديرا الأخيرة.. لكني، بمعزل عن ذلك كله، أرى ضرورة تذكيره بضرورة القراءة قبل الكتابة، وبضرورة التمحيص والتدقيق قبل الحكم، وبأهمية العناء في البحث والتوثيق قبل إصدار الأحكام على عواهنها. ولا بأس من أن يقرأ جيداً ما يُكتب قبل أن يسارع إلى التفسير أو التأويل. سيكفيه لو فعل عناء حمل وزر أخطاء الآخرين، وسيحميه من الاتهام بالجهل أو بسوء النية أو بكليهما معاً.. لو أنه فعل..
ذلك أنه لو فعل لما كتب ما كتبه، ولما أصدر الأحكام التي لم يملك بعد حتى المعارف التي كانت ستردّه عن إطلاقها كما فعل.. لو فعل!

* نشر في صحيفة القدس العربي،  13 شباط/فبراير 2015


http://www.alquds.co.uk/?p=295359

يجد القارئ فيما يلي رابط مقال السيد سليم البيك  بتاريخ 2015/02/12  ورابط تعقيبه  المنشور بتاريخ  2015/02/18 (وقد نشرت هنا على التتالي نص السيد سليم البيك والتعقيب وكذلك نص السيد حسن حميد الذي يستند إليه أدناه  مع ردّي على هذا الأخير):

http://www.alquds.co.uk/?p=294832

http://www.alquds.co.uk/?p=297953

ورابط مقال السيد حسن حميد:
أما ردّي عل مقال حسن حميد فهو منشور في هذه المدونة. انظر:

http://badreddinearodaky.blogspot.fr/2013/05/25-2007-26-2010_20.html

حسين العودات:
نشرت (دار الأهالي) بدمشق عام 1999 كتاب (فن الرواية) من تأليف (ميلان كونديرا) وترجمة الدكتور بدر الدين عرودكي، وقد حذف الرقيب في وزارة الإعلام المقطع الأول من الفصل السابع، وذهبنا، الدكتور عرودكي وأنا، وقابلنا الرقيب، وحاولنا إقناعه بعدم جدوى حذف هذا المقطع ، خاصة في زمن تفجر الاتصال، لكنه لم يقتنع وأعاد الكتاب بعد يومين مع الحذف المشار إليه، وأود أن أؤكد أن دار الأهالي لم تحذف شيئاً من المخطوط، كما أن الدكتور عرودكي ترجمه وقدمه بلا حذف، وأن الحذف من عمل الرقيب. وفي الحالات كلها لايتجاوز الحذف مقطعاً واحداً، دون أن ينتبه الرقيب إلى الإشارة لما حذفه في المقدمة.

(كتب الأستاذ حسين العودات هذه الشهادة تعليقاً على رابط هذا المقال على صفحتي في الفيسبوك تأكيداً لما تضمنه الردّ أعلاه وتكذيباً لمزاعم حسن حميد وسليم البيك حول قيامي بحذف المقطع الأول من الفصل السابع "بقرار ذاتي"!)

وجدير بالذكر أن حسن حميد كان قد اتهم في مقاله (المشار إليه والمنشور هنا) المترجمَ بحذف الفصل السابع من كتاب "فن الرواية" بأكمله. لكن سليم البيك لم يكن أول من اعتمد على هذا المقال في اتهام المترجم نفسه بالحذف، بل سبقه إلى ذلك صحفية عمانية (السيدة نوف السعيدي) نشرت بتاريخ 19 حزيران/يونيو 2014 مقالاً تحت عنوان "حِيَل المترجم" وجهت للمترجم التهمة نفسها معتمدة صراحة هذه المرة على مقال حسن حميد. لكنها خلافاً  لسليم البيك قامت في الأسبوع التالي وبعد أن تلقت ملاحظاتي التي طلبت نشرها بالاعتذار وبتصحيح ما جاء في مقالها من خلال نشرها للملاحظات كلها ضمن مقالتها التي حملت عنوان "عودة إلى حيَل المترجم" المنشور في الصحيفة نفسها بتاريخ 25 حزيران/يونيو 2014. ويجد القارئ نصّ كلٍّ من هذيْن المقاليْن بعد مقال حسن حميد وردي عليه مع رابط كلٍّ من المقالين أدناه:


 


 
 
 

ميلان كونديرا وإسرائيل

سليم البيك


هنالك أكثر من باعث لموضوع هذه الأسطر الآن، أوّلها صدور الترجمة العربية لروايته الأخيرة «حفلة التفاهة» (دار المركز الثقافي العربي) أواخر العام الماضي، أي في العام ذاته الذي صدرت فيه الرواية بالفرنسية (دار غاليمار)، اللغة التي كُتبت بها، في احتفاء استثنائي بالكاتب التشيكي يندر أن يحظى بمثله كاتب أجنبيّ آخر. ثانيهما هو أنّ الجائزة الإسرائيلية التي مُنحت لكونديرا عام 1985، جائزة جيروسالم، وألقى بمناسبتها كلمة هي موضوع هذه الأسطر، إنّها تُمنح هذه الأيام لكاتب آخر هو إسماعيل كاداريه، وقد كتبتُ في ذلك قبل أسبوعين. ثالثهما هو الاحتفاء الصحافي الدائم بكونديرا، وتحديداً مؤخّراً في أخبار ومقالات تتناول الترجمة الصادرة قبل أشهر قليلة، احتفاء يُضاف إلى احتفاء دور النشر بكل جديد له فيتسابقون لنشره ويتنازعون في ما بينهم بأسبقيّة حقوق الترجمة والنشر. أما آخر البواعث فهو ما وجدته مؤخّراً في كتاب «فن الرواية» بالفرنسية، في آخر محتوياته، وهي الكلمة التي ألقاها أثناء استلامه للجائزة.
يتكوّن الكتاب من نصوص نقدية وحوارين وهذه الكلمة، أمّا سبب احتواء الكتاب على كلمة هذه الجائزة دون غيرها من الجوائز، وقد حاز كونديرا العديد منها وتفوق في أهميّتها، فلا إجابة لدي. الغاية هنا هي توضيح رأي ميلان كونديرا بدولة إسرائيل، وهو ما يجهله العديد من العرب لسبب يُلام عليه المترجمون إلى العربية، مترجمون يعتمد على ما يترجمونه لا القرّاء فحسب، بل الفاعلون في المجال الثقافي، كتّابا وصحافيّين، يثقون بالمترجمين ثقة المرضى بالأطبّاء، تلك الثقة التسليميّة.
في عام 1985، قبل انتفاضة الحجارة بعامين، في وقت كان لمنظمة التحرير الفلسطينية حضور قويّ في أوروبا كممثل للقضية الفلسطينية، قبِل الكاتب التشيكي الجائزة وألقى كلمة في القدس، قلت «قبِل» وليس «مُنح» لأنّها المفردة التي تتعامل بها «حتى» الصحافة الإسرائيلية في ما يخص الجائزة، وكأنّ احتمال رفضها حاضر دائماً.
تبدأ الكلمة كالتالي: «إن كانت الجائزة الأهم التي تمنحها إسرائيل مكرّسة للأدب العالمي، فلا يُعدّ ذلك صدفة، إنّما يعود لتراث طويل. إنّها الشخصيات اليهودية الرفيعة التي، بإبعادها عن أرضها الأصليّة وتعاليها على المشاعر القوميّة، أبدت دائماً حساسيّة استثنائية تجاه أوروبا ما فوق القوميّات، أوروبا المعرَّفة ليس كأراضٍ بل كثقافة. إن كان اليهود، حتى بعدما أُحبطوا بشكل تراجيدي من قبل أوروبا، قد بقوا مخلصين رغم ذلك لهذه العالميّة (الكوزموبوليتية) الأوروبية، فإنّ إسرائيل، مكانهم الصغير الذي وجدوه أخيراً، تبرز أمام عينيّ كالقلب الحقيقي لأوروبا، قلب غريب موضوع في ما بعد الأجساد. أستقبل اليوم بمشاعر جياشة هذه الجائزة التي تحمل اسم جيروسالم ودمغةَ هذه الروح الكبيرة العالميّة اليهوديّة».
يلي ذلك سرد جيّد عن الرواية وأوروبا، عن أهميّة الرواية في طبع معالم الأزمنة مقابل الفلسفة، عن تحديّات الرواية التي يقول بأنّها صدى ضحكات الرب، مقابل الروايات المبتذلة التي تسعى لإضحاك الجميع وطوال الوقت. سرد نقدي يستكمل به باقي محتويات الكتاب، لكن من دون أن يخلو من فكرة الربط بين إسرائيل وأوروبا من جهة، وبين الرواية التي يقول إنها خلق أوروبي بامتياز (كما إسرائيل تماماً)، وأوروبا من جهة ثانية. فكلاهما في قلب الروح الأوروبية، ودائماً ثقافياً.
هذه الكلمات القليلة التي كتبها كونديرا في إسرائيل، «المكان الذي وجدوه أخيراً»، و «الأرض الأصليّة التي أُبعدوا عنها»، تفي في تبيان رؤية الكاتب لدولة الاحتلال، وهي رؤية لا تنم عن «الجهل»، فلا مجال لذلك، بل عن تواطؤ مع أدبيّات الاحتلال الصهيونية التي جاء على أساسها إلى فلسطين. وهي، فوق ذلك، «حفلة تفاهة» من «كائن لا تُحتمل خفّته» (بالإذن من كونديرا نفسه) حين يصف إسرائيل بأنها «تتعإلى على المشاعر القوميّة»، وهي التي ما تزال تقاتل بعد سبعة وستين عاماً على قيامها من أجل دولة يهوديّة محدّدة الديانة والقوميّة.
ما يزال صاحب «الهوية» الاسمَ المفضّل لدى كل من الصحافة ودور النشر العربية، في وقت لا تمرّ فيه جائزة نوبل إلا ونقرأ ونسمع كثيراً عن الجهل بصاحب الجائزة (ما يدعو لاستنكار منحه إياها: من هو أصلاً؟)، وعن عدم توفّر ترجمات عربيّة لكتبه أو، إن توفّرت، قد لا تزيد عن الثلاثة مقابل ما يزيد عن ثلاثين عملا له (باتريك موديانو مثلاً – نوبل 2014)، وتمتلئ الصحافة العربية بمقالات تشي بغرابة الإحساس بأن الاسم (وتالياً أعماله) جديد ولا بدّ، على الأقل، أن يُطبع بشكله الصحيح في المقالة، وغيرها من التخبّطات التي تُلام عليها أوّلاً المؤسسات والدور الراعية للترجمات، أمّا المترجمون أنفسهم، فحكاية أخرى.
ترجم الكتاب إلى العربية، «فن الرواية» الصادر عن «دار الأهالي» في دمشق بترجمة من بدر الدين عرودكي، ثمّ، مُزيداً عليه نصوصاً أخرى من كتابين منفصلين ونقديين آخرين لكونديرا، صدر للمترجم نفسه «ثلاثية حول الرواية» عن «المشروع القومي للترجمة» في القاهرة. لكن المترجم تفضّل على القارئ العربي وقرّر في ترجمته حذف ما بدأت به كلمة كونديرا، وكانت المقدّمة التي ترجمتُها أعلاه، 17 سطراً في النص الفرنسي، محذوفة تماماً من الترجمة المذكورة، بمبادرة ذاتيّة من المترجم (لا الدار) حرصاً منه على سلامة آراء وقناعات القارئ كما يبدو.
عرفت أن ترجمة أخرى للكتاب صدرت عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت، من دون أن أتمكّن من التأكّد تماماً إن اتُّخذ قرار الحجب «الأخلاقي» كذلك أم أنّ النص نُقل بأمانة، لكن عموماً، الاحتفاء العربي الدائم والمبالغ فيه بكونديرا، مقابل جهل شبه تام بآخرين كثر، لا يشي بإدراك قارئ العربية لرأي كونديرا بإسرائيل كما طُرح في المقدّمة.
ليست المسألة هنا في ما يكتبه كونديرا. فشخصياً، يعجبني ما يكتبه وأقرأ له بين فترة وأخرى، وللكاتب قرّاء عرب كثر، أو قل «نادي معجبين»، قد يغلب بهم مجايليه من الكتّاب العالميّين، معجبون لا يتركون مناسبة سنويّة لجائزة نوبل للأدب تمرّ من دون إكرام الكاتب بتمنيّاتهم له بنيلها، مستكملين مواسم الاحتفاء الصحافي به. ظاهرة تكوُّم ثقافية لا يكون الرد عليها بأن اذهبوا واقرأوا بغير العربية. مشكلتنا ليست مع روائي كبير ككونديرا، كبير بأدبه أقصد، بل مع مترجمين صغار، صغار بترجماتهم طبعاً، يطبعون بترجماتٍ مريضة وقاصرة صوراً وقناعات وأذواق واهتمامات لمتلقّين ولفاعلين في المجال الثقافي، مريضة وقاصرة كالترجمات.

كاتب فلسطيني ـ باريس

نشر في صحيفة القدس العربي، 12 شباط/فبراير 2015

 

 
بعد نشر مقالتي "حين يغتني الجهل بسوء النية" كتب السيد سليم البيك تعقيباً على مقاله السابق لا مصححاً ما جاء فيه بل ردّاً على ماكتبته. ولو أنه أراد أن يفند وأن يثبت خطأ ما أوردته من معلومات لاختلف الأمر. لكنه يصر على أن الجهل الذي وصفته به مجرد افتراض متجاهلاً، هذه المرة،  أن استخدام صفة الجهل في مقالتي كان مرفقاً دوماً بسندٍ/برهان من مقالته. تجاهل كل هذا، مثلما تجاهل أيضاً ترجمته التقريبية للمقطع الذي أورده في مقاله الأول  والذي وضعت ترجمتي له الموجودة في طبعات الكتاب المختلفة.
لهذا لم أرَ في هذا التعقيب الذي أثبته فيما يلي ما يستحق ردّاً، تاركاً للقارئ أن يحكم بنفسه.
 
تعقيب بخصوص مقالتي «ميلان كونديرا وإسرائيل
سليم البيك
18 شباط/فبراير 2015
 
كيف لأحد أن يجد الثقة في كتابة مقالة تُلخَّص في أنّ آخَر لم يقرأ كتاباً بعينه قبل الإشارة إليه في مقالة أو أنّه كتب مقالة في اتكاء على غيرها حصراً! يمكن للسيد بدر الدين عرودكي في ردّه المتوتّر على مقالتي، التخفّف من الثقة في ما قرأته وما لم أقرأه، كي يجمع قدراً أكبر من المصداقية في ما كتبه. لستُ هنا لأردّ على أحد، لكن لأعقّب باقتضاب على بعض الافتراضات الخاطئة للسيد عرودكي، بدون الإشارة بطبيعة الحال للإساءات اللفظية في مقالته، فهي تحوي ردودَها في ذاتها. أتى ردّه على مقالة لي بعنوان «ميلان كونديرا وإسرائيل» المنشورة على هذه الصفحات في الثاني عشر من هذا الشهر.
لم تكن مقالتي عن ترجمة السيد عرودكي لكتاب كونديرا، بل عن الرأي العربي السائد في كونديرا، منتقلاً من ذلك إلى مسؤوليات الترجمات والمترجمين في ذلك، وهو ما سميته بتزييف الإدراك في ترجمات ناقصة. لكن رداً كهذا من المترجم اضطرني لهذا التعقيب، متجنّباً فيه الغايات التفريغية والتصارخ الثقافوي. وهنيئاً للمترجم إشارتي له في المقالة السابقة وفي هذه، وأنا مدرك تماماً بأني ها هنا، أساهم معه في حرف مقالتي تلك عن موضوعها وتثبيت اللقطة على المترجم.
يبدأ السيد عرودكي مقالته بانتقاد ما كتبه حسن حميد ومحمَّلاً بانتقاداته تلك يُقارب مقالتي مستسهلاً، بالربط القسري بينهما، إعادة تدويرها ملقياً إياها على ما كتبتُه، فيما يظنّه توفيقاً، بانياً انتقاداته على مسلّمة أني قرأت مقالة حميد واتكأت عليها، قابضاً بشدّة على هذا الربط.
في مقالته التي نعتتني (أنا وليس ما كتبت) بـ «الجهل» ستّ مرّات مبتدئاً بالعنوان (نعم، تكلّفتُ بعدّها)، يقول بأنّي «لم يكلف نفسه عناء قراءة الكتاب المترجم أصلاً»، ثمّ مكرّراً بأني لم أقرأها مضيفاً على «جهلي» «سوءَ نيّتي». الخبر السيئ السريع هو أنّني قرأتها، أمّا الأسوأ فهو أنّها متاحة على الإنترنت، وفي «غوغل» روابط عدّة لتحميل الكتاب وقراءته، ثمّ يؤكّد السيد عرودكي بأنّ الرقيب السوري هو من حذف المقدّمة التي انتقدتُ حذفها في مقالتي، مبرئاً نفسه.
لكنه يشير كذلك إلى أنّ المقدّمة حضرت في ترجمة أخرى ظهرت بعد طبعة «دار الأهالي» السورية بسنتين (2001). سؤالي هو إن كان بالإمكان نشر الترجمة مع المقدّمة خارج سورية لمَ يتم نشرها ناقصة في سورية؟ لكنني سأتجاوز ذلك وأقبل افتراض المترجم بأن الرقيب السوري من حذفها، لا هو كمترجم.
قلتُ سأقبل افتراضه في أن الحذف أتى من الرقيب، لا بمبادرة من المترجم يعرف بحكم الخبرة ما يمكن تقديمه وما يجب حذفه في حياة يحكمها نظام الأسد. هنا أنتقل إلى مسؤولية المترجم الذي تجاوب مع حذف الرقابة السورية للمقدمة، والذي لم يسحب ترجمته ليبحث عن ناشر آخر، المترجم هنا لم يصرّ على أمانة ما يقدّمه للقارئ العربي، وهو يدرك مسؤولية ذلك في تزييف إدراك القارئ واهتماماته، فيخرج الكتاب أخيراً حسب اقتراح الرقيب (اقتراح بمعنى الإلزام) بحذف مقدّمته، ويصل الكتاب للقارئ ناقصاً، وهذا نتاج ثقافي يتحمّل مسؤوليته المترجم أولاً كونه صاحب النتاج الصادر باسمه، المترجم الذي يتراوح تجاوبه مع الرقيب (أيّ رقيب) بين الخضوع والتواطؤ في أسوأ الحالات. هذا وما زلت متوافقاً مع المترجم في قوله بأنّ الرقيب كان خارجياً وليس ذاتياً.
أمّا الإشارة إلى أنّني، «لأسباب أجهلها تماماً» يقول، ودائماً متّكئاً في انتقاده لي على انتقاده لحسن حميد، أوحي بأن «الرقيب السوري بريء من ذلك تماماً.. ومن ثم فمن الأسلم لهما اتهامي (أي اتهام المترجم) بما قام به هذا الرقيب»، فلست بوارد التعقيب عليه، وهو تحوير للموضوع ليس في صالح السيد عرودكي، أولاً للتسييس التسطيحي لموضوع ثقافي جاد، وثانياً لموقفي الواضح من النظام والمعبَّر عنه في مقالات عديدة.
كان للسيد عرودكي ما أراد وصار المقال المكتوب عن رأي كونديرا بإسرائيل وجهل كثير من العرب بذلك وبالتالي مسؤولية الترجمات العربية القاصرة ومنها ما ترجمه، صار مقالاً عن ترجمته حصراً، وصار له أن عقّبت على بعض ما كتبه في ردّه، هنيئاً. وليسمح لي تجاوزي لإساءاته اللفظية.
كان النقاش أفيدَ لو أنه خلا من ألفاظ ليس هذا مكانها، ولو أنه خلا من افتراضات وتخمينات خاطئة تُبنى عليها مقالة كاملة (ما قرأت وما لم أقرأ)، ولو أنه خلا من ربط مجحف بين كاتبيْن يتم توسّل أحدهما للهجوم على آخر، ولا يخفي الآخر (الذي هو أنا) مقته للأوّل، ليس هذا رداً بل تعقيباً يردّ عن مقالتي «ميلان كونديرا وإسرائيل» ما أُلقي عليها من براميل غير موجّهة، تُرمى كيفما اتّفق.
 نشر في صحيفة القدس العربي بتاريخ 18 شباط/فبراير 2015
\
 
 
 

 

الرد على مقال حسن حميد المثبت تالياً
 

"مغامرة الشرّ" والأشرار

بدرالدين عرودكي


وقعت خلال الأيام الأخيرة بطريق الصدفة المحضة وبفضل النت على مقال كان الكاتب الفلسطيني حسن حميد قد نشره في 25 أيلول/سبتمبر 2007 في صحيفة العروبة التي تصدر عن مؤسسة الوحدة السورية، ثم أعاد نشره في صحيفة الوطن العمانية بعد ثلاث سنوات وشهرين من نشره للمرة الأولى، أي في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2010. ولست أدري إن كان قد سبق نشر المقال من قبل. فبين سنة نشر الكتاب الذي يتحدث عنه 1999 و نشر المقال موضوع الحديث هنا 2007 ثماني سنوات كاملةّ. لهذا التفصيل دلالة ستتم العودة إلها فيما بعد.
يحمل المقال عنوان ميلان كونديرا ومغامرة الشر. دفعني وجود اسم ميلان كونديرا في العنوان إلى قراءته، لكني فوجئت أن ترجمتي لكتاب فن الرواية هي موضوع المقال. على أن المفاجأة الأكبر تمثلت فيما انطوى عليه من مغالطات واعية لا ريب في قصديتها ولا كذلك في سذاجتها.  
يحدثنا حسن حميد بقدر ملحوظ من "الأستذة" عن الآراء التي أبداها في روايات كونديرا المترجمة إلى العربية بعد أن أثاره الاهتمام "غير العادي بأدبه وحياته من قبل دور النشر العربية، والمترجمين العرب.. وأخيراً لقراء العرب". وهي آراء يملك والحق يقال كأي قارئ الحرية في أن يبديها (لكننا كنا نود أن يقولها ببساطة بوصفها آراءً شخصية لا أحكاماً مطلقة وقاطعة لا تقبل الاستئناف). خلاصة هذه الآراء قناعة وصل إليها مفادها أن "كتابته ـ أي كونديرا ـ  متوسطة الشأن، وأن موهبته لا تقارن بمواهب فحول الأدب الكبار".. صحيح أنني لم أقرأ ما يشبه هذا الرأي لا من قريب ولا من بعيد في كلِّ ما كتب بصددها في البلدان أو الثقافات التي ترجمت إليها كتب كونديرا، ومن ثمَّ فلن أستفيض فيما فصله الكاتب لتبرير قناعته. كل ما يمكن الإشارة إليه في ما يخصها، إن كان لابد من ذلك، أنها تكشف مستوى معارفه شديد السطحية عن فن الرواية الغربي عموماً وعن تجلياته الحقيقية لاسيما حين يسمح لنفسه أن يتحدث عن "الإملال" "بسبب الاستغراق في التفصيلات التي لا تقود المرء إلى انقياد نضوج العمل" أو عن "الالتصاق بالأفكار التي تعيق تقدم السرد من جهة وتقضي على جمالية الأدب من جهة ثانية". ليخلص إلى القول إن "الأدب شيء والفلسفة شيء آخر"..
كل ذلك ليعبر عن دهشته من تسابق الناشرين والمترجمين إلى ترجمة ونشر أعمال كونديرا حتى وصل بهم الأمر، كما يقول، إلى "ترجمة مقالاته ومحاضراته ومواقفه وآرائه" وكان "أن صدر مؤخراً كتاب لكونديرا عنوانه فن الرواية" معتبراً أن العنوان "مغر"، وأنه "بمنزلة (المصيدة) للقارئ والكاتب معاً".
من الواضح أن حسن حميد لم يقع "في المصيدة"! لاسيما وأن مناقشة الموضوعات التي يتناولها كونديرا في كتابه حول فن الرواية ليست همّه،  كما أنَّ قول رأيه في الترجمة أو في أهمية الكتاب أو عدم أهميته ليس مما يستثير قريحته؛ همّه أمرٌ آخر تماماً. لذلك من الضروري تجاوز ما جاء به من هذر لا طائل من ورائه في مقدمة مقالته من أجل الدخول في صلب ما يريد أن يجرّم المترجم به، أي ما يريد أن يجرّمني به في الحقيقة.
يجهل حسن حميد، بادئ ذي بدء، كما يبدو تماماً أن خمسة من فصول كتاب فن الرواية سبق أن نشرت في الثمانينيات وفي التسعينيات في دوريات ثقافية بدمشق وبيروت (مجلة المعرفة ومجلة الفكر العربي المعاصر). كما يتضح سوء نيته وتجاهله لوضع الرقابة على الكتب في سورية من زعمه أن "فصلاً كاملاً حُذِفَ من الكتاب في الترجمة التي أصدرتها دار الأهالي بدمشق"، وأنه سأل الناشر فأكد له أنه لم يحذف شيئاً.
كيف اكتشف ذلك؟
 يعتمد حسن حميد على ترجمة أخرى للكتاب نشرتها منشورات شرقيات بالقاهرة وجد فيها ما بدا له وجود فصل ناقص في الترجمة المنشورة بدمشق. من الواضح أنه لم يقرأ الترجمة الأخيرة برمتها ولا سيما مقدمة الكتاب التي ترجمتها بكاملها والمنشورة فيه والتي يتحدث فيها كونديرا عن فصول الكتاب السبعة بما فيها الفصل الأخير الذي يحمل عنوان خطاب القدس: الرواية وأوربا. يقول كونديرا في هذا المقطع الأخير ما يلي:
" في ربيع عام 1985 تلقيت جائزة القدس. وقد قرأ الأب مارسيل دوبوا من طائفة الدومينكان، والأستاذ في جامعة القدس، الثناء عليّ بالإنجليزية مع لكنة فرنسية قوية؛ وقرأت بالفرنسية مع لكنة تشيكية قوية خطاب الشكر[1] عالماً أنه سيؤلف الجزء الأخير من هذا الكتاب والنقطة الأخيرة لتأملاتي حول الرواية وأوربا. لم يكن يسعني قراءته في جوٍّ أكثر أوربية، وأكثر حرارة، وأكثر حميمية."
لم يقرأ حسن حميد هذه المقدمة التي يقول فيها كونديرا بصراحة ووضوح تلقيه جائزة القدس وأنه جعل من خطاب الشكر حول الرواية وأوربا خاتمة فصول كتابه. وبما أنه لم ينتبه إلى معنى قول الناشر له إنه نشر الكتاب الذي قدمه المترجم، وذلك صحيح تمام الصحة، فقد كان عليه أن يستنتج على الأقل (وكان بوسعه أن يستفهم عن الأمر لو أنه قرأ مقدمة الكتاب المشار إليها) أن الرقابة في وزارة الإعلام السورية هي التي حذفت، وليس الناشر بالطبع، حذفت لا الفصل كله بل المقطع الأول من العنوان، أي خطاب القدس، والمقطع الأول من الفصل، الذي يجرّمه حسن حميد. للتوضيح إذن: الفصل موجود، وهو الفصل السابع من الكتاب، لكنه مشوّه بفعل مقص الرقيب الذي طال العنوان والمقطع الأول، ومن حسن الحظ أنه لم ينتبه للإشارة إلى هذا الفصل في المقدمة بعنوانه الكامل والذي بقي على حاله. (ولقد قمت برفقة الناشر الصديق حسين العودات بزيارة الرقيب في وزارة الإعلام لأحاول إقناعه السماح بنشر نصِّ الترجمة كما هو، وأذكر أنني حدثته عن عقم الرقابة في عصر الأنترنت ولم تكن بعد معروفة في سورية آنئذ، والفاكس، .. إلخ.) لكن ذلك، كما هو واضح، لم يؤدِّ إلى شيء..
الأسوأ من كل هذا على ما فيه من قصور وتسرع وسذاجة، هو الكذب. ذلك أن السيد حسن حميد يستعين بترجمة أخرى للكتاب صدرت في مصر (وهي ترجمة عن اللغة الإنجليزية لا عن الفرنسية التي كتب بها الكتاب) ليزعم أن الفصل موجود في الكتاب ويتخذ مما يزعم وجوده في النص ليقول لنا بالحرف الواحد ما يلي:
"تقول المقالة التي جاءت في إصدار دار شرقيات (ترجمة أحمد عمر شاهين) إن اليهود تعرضوا للعدوان في بلدهم الأصلي (إسرائيل) ولذلك نفوا مرغمين إلى خارج وطنهم، وأنهم تعالوا على جروحهم وهم في منافيهم في أوربا، فأبدوا حضارة الشخصية اليهودية التي فاضت على الشخصية الأوروبية فولّدت فيها شرارة الحضارة التي نمت وترعرعت في أوربا بفضل العبقرية اليهودية، وقد عمل اليهود من أجل أوروبا بعيداً عن المشاعر القومية التي جمعتهم، أي أنهم لم يعملوا من أجل أنفسهم هم وإنما عملوا من أجل أوروبا؛ من أجل تحضيرها، ومع ذلك خذلتهم أوربا مرات ومرات على نحو مأساوي وعدواني وعنصري، فما كان أمامهم إلا أن جمعوا أنفسهم وعادوا إلى وطنهم الصغير (إسرائيل) الذي استعيد بالقوةِ، والروحِ الحضارية وعلى دفعات بشرية وزمنية في آن معاً. ومنذ الخروج اليهودي من أوربا وهذه القارة الكبيرة تعيش جسداً بلا قلب لأن قلبها هو (إسرائيل) والشعب اليهودي الذي يسكنها، ويقول كونديرا، الذي يبدو كما لو أنه زار الكيان الصهيوني، بالحرف الواحد: إنه فوجئ بأن (إسرائيل) تشكل قلب أوروبا الحقيقي، قلب خاص مزروع خارج الجسد!"
أما النص الذي يزعم حسن حميد تلخيصه "بلغته هو لا بلغة الكاتب" والذي حذفه الرقيب السوري فهو التالي:
"إذا كانت أهم جائزة تمنحها إسرائيل مخصصة للأدب العالمي فليس ذلك فيما يبدو لي وليد الصدفة بل نتيجة سنة راسخة. إذ الواقع أن الشخصيات اليهودية الكبرى التي نشأت بعيدة عن موطنها الأصلي في بيئة تتعالى على الأهواء القومية عبرت دائماً عن حساسية استثنائية من أجل أوربا تتعالى على القوميات. أوربا يتم تصورها لا كأرض بل كثقافة. وإذا كان اليهود قد ظلوا حتى بعد خيبتهم المأساوية من أوربا مخلصين لهذه الكوسموبوليتية الأوربية، فإن إسرائيل، وطنهم الصغير الذي عثروا عليه أخيراً ينبثق في نظري بوصفه قلب أوربا الحقيقي، قلب غريب وُضِعَ فيما وراء الجسد"
ولقد تمَّ نشرُ هذا المقطع الذي حذفته الرقابة السورية في طبعات ترجمتي المتتالية، بالدار البيضاء (دار أفريقيا الشرق) ثم بالقاهرة أولاً (المجلس الأعلى للثقافة) ثم  في الطبعة الجامعة لكتب كونديرا الثلاثة (المركز القومي للترجمة).
من الواضح أن السيد حسن حميد لا يقرأ. ويبدو إذا قرأ أنه لا يفهم. لكنه عندما لا يقرأ ولا يفهم يلجأ إلى الكتابة التي ترضي من لا يريد ردّ المشكلة إليه، أعني الرقيب. يطلب إلينا في خاتمة مقاله وهو يشكو لنا حيرته في أمره بسبب "التباين والاختلاف والرضا عن كل مايسوقه الغرب"، أن "من الواجب علينا نحن العرب في حقل الترجمة أن ننقل ما يتوافق وأهدافنا وغاياتنا النبيلة" وأنه إن "كان المكتوب لا يتوافق معها أن نبين أسباب هذا النقل وتوجهاته"...
من حسن حظ الثقافة العربية الكلاسيكية أنها لم تحظ بمترجمين يطبقون ما يدعو إليه حسن حميد. ولا كذلك الثقافة العربية الراهنة.
لا أدري إن كان حسن حميد قد نشر هذا المقال قبل عام 2007 كما أشرت في البداية. ذلك أنه خلال زيارته باريس عام 2005  سألني عن الموضوع نفسه وأوضحت له الأمر كما شرحته في السطور السابقة. لكنه مع ذلك بادر إلى نشر المقال ثانية وثالثة. من الواضح أن همه لا ينصرف إلى تجريم الرقابة السورية. وكيف يفعل وهو جزء من منظومتها؟


[1]  وقد قام جان دانييل بنشره في اليوم ذاته في النوفيل أوبزرفاتور.




ميلان كونديرا ومغامرة في الشر!

حسن حميد

ـ 1 ـ
كنتُ قبل حين من الزمان، قد كتبتُ عن الكاتب ميلان كونديرا بعد أن لاحظت اهتماماً غير عادي بأدبه، وحياته من قبل دور النشر العربية، والمترجمين العرب، وأخيراً.. القراء العرب، قلت آنذاك لابدّ أن وراء هذا الرجل إبداعاً بحجم إبداع سارتر أوكامو باعتبار أن كونديرا يتمتع بكل الحقوق الفرنسية لأنه يحمل الجنسية الفرنسية!! قرأت الرجل في (البطء، والمزحة، وغراميات الضحك والنسيان، وخفة الكائن التي لا تحتمل أو غير المحتملة، والحياة في مكان آخر)، وقلت رأيي، آنذاك، بكل عمل من هذه الأعمال على حدة، وقد توصلت إلى قناعة أن كتابته متوسطة الشأن، وأن موهبته لا تقارن بمواهب فحول الأدب الكبار، بل إن كتابته عموماً تميل إلى أمرين أساسيين هما: الإملال، بسبب الاستغراق في التفصيلات التي لا تقود المرء إلى انقياد نضوج العمل، والأمر الثاني: الالتصاق بالأفكار التي تعيق تقدم السرد من جهة، وتقضي على جمالية الأدب من جهة ثانية خصوصاً في عمله (الحياة في مكان آخر) الذي هو أشبه بمقالات فكرية ـ فلسفية ليس إلا! وأنا هنا لا أقلل من شأن الفلسفة، وإنما أقول الأدب شيء، والفلسفة شيء آخر. لقد رأيتُ، ورأى القراء، أن الصحافة الأدبية العربية أفردت لكونديرا صفحات عديدة، ودورية، إلى درجة أن جميع أعمال كونديرا الأدبية المطبوعة ترجمت، بل إن السؤال الملحاح لأصحاب دور النشر العربية ما يزال يرن كجرس فقد توازنه والذي فحواه أين باقي أعمال كونديرا؟ إلى أن وصلت الأمور بهم إلى التسابق على ترجمة مقالاته ومحاضراته ومواقفه وآرائه التي صرّح بها للصحافة، فكان أن صدر مؤخراً كتاب لكونديرا عنوانه (فن الرواية)، وهو عنوان مغرٍ، لاسيما وأن الرواية في أيامنا الراهنة مرغوبة، ويبحث عنها القراء والروائيون العرب معاً، وعنوان كهذا (فن الرواية) هو بمنزلة (المصيدة) للقارئ والكاتب معاً؛ الكتاب صدر في إصدارين الأول: عن دار الأهالي بدمشق تحت العنوان نفسه (فن الرواية) هو من ترجمة الدكتور بدر الدين عرودكي، والثاني: عن دار شرقيات بالقاهرة من ترجمة الكاتب أحمد عمر شاهين، والكتاب في الإصدارين يشتمل على مقالات وحوارات لكونديرا، لكن المفارقة أن فصلاً كاملاً حذف من الكتاب في الترجمة التي أصدرتها دار الأهالي بدمشق، وقد سألت الصديق الكاتب حسين العودات إن كان تمَّ حذف أي فصل من الفصول التي قدّمها الدكتور عرودكي فقال لم نحذف شيئاً، ونحذف لماذا؟! لقد طبعنا الكتاب ونشرناه كما قدّمه مترجمه الدكتور عرودكي، والفصل المحذوف عنوانه (خطاب القدس) وهو مقالة كتبها ميلان كونديرا بمناسبة فوزه بجائزة القدس التي يمنحها الكيان الصهيوني لكتّاب وأدباء يرى فيهم المناصرة لقضاياه وأهدافه، والمقالة لا تقول في أية سنة حاز كونديرا على الجائزة، وما إذا كان زار الكيان الصهيوني، أو أنه أرسل كلمته للقائمين على أمور الجائزة، وعندي أن كل هذا ليس مهماً، المهم حقيقةً هو ما جاء في هذا الخطاب من أفكار وآراء تجاه اليهود والكيان الصهيوني والدور الحضاري الفاعل لليهود في العالم.

ـ 2 ـ
تقول المقالة التي جاءت في إصدار دار شرقيات (ترجمة أحمد عمر شاهين) إن اليهود تعرضوا للعدوان في بلدهم الأصلي (إسرائيل) ولذلك نفوا مرغمين إلى خارج وطنهم، وأنهم تعالوا على جروحهم وهم في منافيهم في أوربا، فأبدوا حضارة الشخصية اليهودية التي فاضت على الشخصية الأوروبية فولّدت فيها شرارة الحضارة التي نمت وترعرعت في أوربا بفضل العبقرية اليهودية، وقد عمل اليهود من أجل أوروبا بعيداً عن المشاعر القومية التي جمعتهم، أي أنهم لم يعملوا من أجل أنفسهم هم وإنما عملوا من أجل أوروبا؛ من أجل تحضيرها، ومع ذلك خذلتهم أوربا مرات ومرات على نحو مأساوي وعدواني وعنصري، فما كان أمامهم إلا أن جمعوا أنفسهم وعادوا إلى وطنهم الصغير (إسرائيل) الذي استعيد بالقوةِ، والروحِ الحضارية وعلى دفعات بشرية وزمنية في آن معاً. ومنذ الخروج اليهودي من أوربا وهذه القارة الكبيرة تعيش جسداً بلا قلب لأن قلبها هو (إسرائيل) والشعب اليهودي الذي يسكنها، ويقول كونديرا، الذي يبدو كما لو أنه زار الكيان الصهيوني، بالحرف الواحد: إنه فوجئ بأن (إسرائيل) تشكل قلب أوروبا الحقيقي، قلب خاص مزروع خارج الجسد!
هذا جزء من المقالة أو الخطاب الذي جاء تحت عنوان (خطاب القدس) الذي لم يترجم أو يشتمل عليه الإصدار الذي جاء تحت عنوان (فن الرواية) من ترجمة الدكتور بدر الدين عرودكي الذي صدر بدمشق عن دار الأهالي، بينما إصدار القاهرة اشتمل عليه، وإنني هنا أتساءل لماذا لم نقف على كلية الكتاب؟! وهل قام الدكتور عرودكي بالتخفف من هذا الفصل لما فيه من أذى لمشاعرنا، أم أن الكتاب الأصلي لم يحتو على هذا الفصل؟! وإذا كان الأمر كذلك فمن أين ترى جاء أحمد عمر شاهين بهذا الفصل وجعله في صلب الكتاب المترجم في القاهرة؟! ترى، بعد هذا، سنظل أسرى لأهواء ورغائب المترجمين العرب؟! وهل سنظل إلى ما شاء الله من أزمان نأخذ الحقائق كجرعات الدواء قطرة قطرة؟! لماذا لا نتصارح، ولماذا لا نوّصف المصاعب والعوائق، والتوجهات التي حكمت مثل هذه الترجمة إن وجدت؟! ولماذا لا يقولون إنهم أسقطوا كذا وكذا من الحساب لأن غاياته كذا وكذا، وإنهم أضافوا ما أضافوا لأسباب هي أولاً، وثانياً.. الخ؟! ترى ألا يمارس بعض المترجمين العرب، بمثل هذا الفعل، نوعاً جديداً مركباً من التجهيل الذي ما عاد مقبولاً في أزماننا هذه؟!
ترى، لو سمعنا ميلان كونديرا، نحن العرب، نقول عن كتابه هذا توصيفاً: إنه جيد، فماذا سيقول عنا؟! ألا يعيد قولة (دايان): إننا شعب لا يقرأ!!
ـ 3 ـ
إنني حقاً، في حيرتي من أمري، وانا أرى حال الترجمة العربية على هذا النحو من التباين والاختلاف، والرضا عن كل ما يسوقه الغرب. والمثال الذي بين أيدينا هو كونديرا، الذي من حقه أن يقول عن بني جنسه اليهود ما يشاء مدحاً وإطناباً في المديح، ومن حقه أن يذم الاشتراكية والشيوعية لأنه انشق عنها، ومن حقه أن يلوم (تشيكا) الوطن الذي رباه وعاش فيه لأسباب هو أدرى بها، ولكن الواجب علينا نحن العرب، في حقل الترجمة أن ننقل ما يتوافق وأهدافنا، وغاياتنا النبيلة، وإن كان المكتوب لا يتوافق معها أي نبين أسباب هذا النقل وتوجهاته، لا أن نترك الأمور على (حل شعرها)، ومدعاة لكل خبط عشواء أو تأويل خاطئ.
ولا أريد أن أقول إن بعض المترجمين العرب ذاقوا (رمانة إيروس) فأصيبوا بحب أوربا، وللحب شؤونه وعوالمه، ما أريد قوله حقيقةً هو أن الحب، في أكثر الأحيان، مغامرة في الشر!


hasan hamid50@ yahoo.com


حيل المترجم***

نوف السعيدي


"العلم كله نور، ومثله مثل الشمس، لا وطن لها ولا جنسية". هذا ما قاله الناقد السعودي عبدالله الغذامي في أحد لقاءاته حين سُئل سؤالًا مستفزا بشأن الدور العربي في الحركة النقدية، وأضاف: "التاريخ كله يثبت أن من يقول بهذه العقد (يعني النظر إلى الفكر من منظور قومي أو عرقي) لا يتقدم أبدا"؛ فالتقدم الحضاري يحدد بمدى انفتاح حضارة ما على الحضارات الأخرى، وأخذها بما قدمه السابقون، وإكمال عملية البناء للوصول إلى "ما لم يستطعه الأوائلُ". لقد ظلَّت الحضارة العربية الإسلامية مُشعَّة بما أشعلت به من حطب حضارات الشرق والغرب، لكنها ما إن قررت الانغلاق. ماتت!
لقد شكلت الترجمة رعبا للخلفاء والسلاطين، فمن بعد مرحلة ازدهارها في عهد المأمون -كما هو معلوم- أقيمتْ لها في عهود من خلفوه المحارق (بالمعنى المادي والمجازي)، فهي إما أحرقت حقيقة، أو أنه تم تكفير المعلم لها والمتعلم بها، وبالأخص علوم الفلسفة والمنطق. وليس أدل على ذلك مما جاء على لسان ابن تيمية: "ما أظن الله يغفل عن المأمون، ولابد له أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال هذه العلوم الفلسفية بين أهلها"، وبالفعل فقد توقفت بعد ذلك مشاريع الترجمة حتى إنه -والكلام لطرابيشي- لم يترجم كتاب واحد جديد إلى العربية، نقلا عن أي لغة حضارية متداولة في ذلك العصر على امتداد الحقبة الممتدة ما بين القرن الخامس والقرن الثاني عشر للهجرة.
ويأتي هذا الخوف من الانفتاح على علوم الآخر من بابين:
1- الخوف من المعرفة نفسها، وما يشكله العقل المدرك -العارف- الواعي من تهديد لسلطة المتسلط. فكان لابد للسلطة السياسية أن تعزز العزلة والإنغلاق ليسهل عليها السيطرة على الشعب. وهو أمر لا يزال يمارس بشكل أو بآخر في أرجاء الوطن العربي.
2- الخوف من أن يدخل على قيم الدولة العربية، ما ليس منها، وما لا يتوافق دينيا واجتماعيا مع سيرة أهلها. في الواقع ليس السبب الثاني إلا وجها آخر للسبب الأول؛ إذا كنا نعد السلطة الدينية وسيلة في يد الساسة، لكن -وحتى لا ندخل في متاهات تخرجنا عن موضوعنا الأساسي- سنتناول البعدين بشكل مستقل.
ويبدو أن المترجم العربي قد ورث هذه المخاوف -الاجتماعي منها على الأقل- فتعزَّزت لديه رقابة ذاتية تعطيه الصلاحيات بأن يقرر ما يترجمه، وما لا يترجمه، دون أن ينوه لموضع (القص)، أو يبين أسبابه، متجاوزا بذلك دوره في أن يكون وسيطا محايدا لنقل المعرفة، ويتخذ دور الموجه، مُعطيا لنفسه الصلاحيات ليقرر -عن القارئ نفسه- الغث من السمين، وما علينا كقراء إلا أن نرضى مستسلمين بما يقدمه من أطباق لموائدنا الجائعة.
ويبدو أن مشكلة الثقة بين السلطة والشعب، تسربت (من خلال الحفر غير المباشر لسنوات في العقلية العربية) لتصبح في ضمير كل صاحب سلطة (مهما كانت حدودها ضيقة). فمن قطع القنوات المعرفية بجميع أشكالها (إغلاق المواقع، منع الكتب...إلخ) على الصعيد الرسمي، وعلى الصعيد غير الرسمي كذلك!
ونسوق هنا مثالين فاجعين لحيل المترجم، التي يُمارسها تكرما منه حفاظا على الهوية، ومنعا لأي تشويه يمسها! ويتمثل الأول بإخفاء بعض الحقائق المرة حفاظا على مشاعر القارئ العربي! ففي ترجمة لأحد الكتب وهو كتاب "فن الرواية" للروائي ميلان كونديرا خرجت دارا نشر بترجمتين مختلفتين، ففيما ظهر الكتاب كاملا في ترجمة أمل منصور عن دار الآداب، سقط بفعل الترجمة (وهي ترجمة الدكتور بدر الدين عرودكي الذي صدر بدمشق عن دار الأهالي)، ولا يبدو أنه سقط سهوا فصل كامل كان عبارة عن مقال كتبه كونديرا بمناسبة فوزه بجائزة القدس، وهي جائزة اسرائيلية تمنح للكتاب الذين يبدون مناصرة لقضايا اليهود.
والسؤال: لماذا أقدم المترجم على ذلك؟ سنفترض جدلا أننا نوافق (ولا أظن أن معظمنا يفعل، أو يهمه الأمر حتى) المترجم في الشعور بالاستياء من اكتشافنا أن كاتبنا المحبوب يقف في الطرف الآخر، والذي شاءت الصدفة الجغرافية (وربما أكثر من مجرد الصدفة الجغرافية بقليل) ألا نكون على وفاق معه. أقول حتى لو كان الأمر كذلك، وكنا نصر على ألا نفتح أي ثغرة (فنية أو رياضية) للسلام، أليس من المفترض أن نكون على اطلاع بتوجهاته؟
المثال الآخر بخصوص الترجمة؛ هو: ترجمة الرسوم المتحركة؛ فلأسباب أخلاقية -ولنضع تحت أخلاقية خطا أحمر- يتم تحريف محتوى المادة بما يتناسب وقيم المجتمع، فيصبح الحبيب (مثلا) أخا! وتبدو مهمة الإصلاح (التحريف) صعبة أمام كم الأحداث التي يجب إما حذفها -ونحن هنا لا نعني ذلك النوع من الحذف/القطع الذي لا يؤثر في سياق العمل، ولا يغير رسالته الأصلية إذ لا ضرر من ذلك- أو إعادة صياغتها بما يتلاءم ومبتغى المترجمين، وأمام الشخوص الذين يجب إعادة ترتيب علاقاتهم بما لا يشكل تهديدا لقيم الأطفال، أو بما لا يلفت انتباههم لأمور لم تكن بالبال -كما يرى المترجم- لكن للأسف فالمتابع لنتيجة هذه الجهود يجد أن المتبقي مجموعة من العلاقات الإنسانية المشوهة، والحقائق المغلوطة التي تنتقل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى المتابعين من الفئات العمرية الدنيا، ما لم يكونوا من الذكاء بما يمكنهم من اكتشاف حيلة المترجم.

------------------------

هوامش:
* جورج طرابيشي: "هرطقات عن الديمقراطية والعولمة والحداثة والممانعة العربية"، دار الساقي، الطبعة الأولى 2006، ص52.
* المصدر السابق: ص 57.
* كل ما يرد هنا بشأن خبر الترجمة مصدره مقال لحسن حميد، نُشر في ملحق "أشرعة"، التابع لجريدة "الوطن"، بتاريخ 9 سبتمبر 2010م.


 ***  نشر في صحيفة "الرؤية" العمانية بتاريخ 19 حزيران/يونيو 2014.
 

عودة إلى "حيل المترجم"*

نوف السعيدي


كتبت في الأسبوع الماضي مقالاً بعنوان "حيل المترجم" يمكن لمن يهمه الأمر العودة إلى المقال في موقع جريدة الرؤية الإلكتروني. كان من ضمن الأمثلة التي ضربها المقال حول تطاول المترجمين في بعض الحالات على النص الأصلي، وتنصيب أنفسهم كأوصياء عوضاً عن القيام بدورهم كوسطاء لنقل المعرفة - أقول إنّه كان من بين الأمثلة حذف المترجم بدر الدين عرودكي، حيث كان هذا نص المقال:
"في ترجمة لأحد الكتب وهو كتاب "فن الرواية"([1])* للروائي ميلان كونديرا خرجت دارا نشر بترجمتين ختلفتين، ففيما ظهر الكتاب كاملاً في ترجمة أمل منصور عن دار الآداب، سقط بفعل الترجمة (وهي ترجمة الدكتور بدر الدين عرودكي الذي صدر بدمشق عن دار الأهالي) ولا يبدو أنّه سقط سهوًا - فصل كامل كان عبارة عن مقال كتبه كونديرا بمناسبة فوزه بجائزة القدس، وهي جائزة إسرائيلية تمنح للكتاب الذين يبدون مناصرة لقضايا اليهود".
وكان حديثي مبنياً على مقال نشره الكاتب الفلسطيني حسن حميد في أشرعة، وقد تمّت الإشارة إلى المصدر في هامش المقال. عمومًا فقد تواصل المترجم معي بعد نشر المقال، وأوضح أنّه يحوي بعض المغالطات. لذلك أجدني ملزمة بالاعتذار لبدر الدين عرودكي، وسأستعرض في السطور القليلة القادمة ملاحظاته التي أنقلها نصًا من رسالته:
1. ترجمت كتاب "فن الرواية" خلال ثمانينيات القرن الماضي ونشرت عدداً من فصوله في مجلة "المعرفة" السورية وفي مجلة "الفكر العربي المعاصر" اللبنانية.
2. نشرت الترجمة كاملة لأوّل مرة لدى دار الأهالي مع الفصل الذي يزعم المقال أنّه قد حذف! إذ إنّ هذا الفصل الذي يذكره المقال مذكور في فهرس الكتاب الذي ترجمته وكذلك في مقدمته كما إنّه منشور في آخر الكتاب تحت عنوان "الرواية وأوربا" مثلما هو منشور في الطبعة الفرنسية. كل ما في الأمر أن الرقيب السوري هو الذي حذف المقطع الأول من المقال ووضع مكانه علامة: (...) لا المترجم!
3. إذ بعد هذه الطبعة التي نشرتها دار الأهالي، صدرت طبعة كاملة عن دار أفريقيا الشرق بالدار البيضاء في المغرب عام 2001، ثم صدرت طبعة ثالثة عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عام 2001 وأخيرًا صدر الكتاب في طبعة رابعة ضمن مجلد بـ 561 صفحة تحت عنوان "ثلاثية حول الرواية" احتوى ترجمتي لكتب كونديرا الثلاثة: فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار، عن المشروع القومي للترجمة عام 2007. أما الفصل الذي نسب إليّ حذفه زوراً وبهتاناً في الطبعة الأولى السورية فهو منشور بكامله في هذه الطبعات جميعاً وكان بوسع حسن حميد عندما كتب مقاله عام 2010، والكاتبة في مقالها المنشور مؤخراً الاطلاع على كل هذه الطبعات التي نشر آخرها عام 2007، أي قبل سبع سنوات وذلك للتثبت من أن شيئاً لم يحذف من الكتاب وأن المقطع الذي حذفه الرقيب السوري موجود كما هو بترجمته الكاملة!.
وبرسالة المترجم السابقة يتّضح أنّ المشكلة الأساسية قد لا تكون مع المترجمين بقدر ما هي مع الرقيب الذي يأبى إلا أن يكون له القرار فيما نتناوله من معارف.
وهنا لا يمكننا إلا أن نستعيد السؤال الأزلي حول علاقة الفنون بالسياسة. وهل عليها أن تكون وسيلة إنسانية لتقريب الشعوب بغض النظر عن الخلفية السياسية؟ أم على الفن والأدب والرياضة أن تكون وسيلة تعبير سياسي؟ وتسجيل موقف علني حين لا يكون باليد حيلة للتعبير سوى هذه الطريقة؟.
كلها أسئلة لا يتسع لها هذا المقال، الذي كتب على عجل كتنويه لمقال الأسبوع الماضي.

[1]كل ما يرد هنا بشأن خبر الترجمة مصدره مقال لحسن حميد نشر في ملحق أشرعة التابع لجريدة الوطن بتاريخ 9 سبتمبر 2010م.


 * نشر في صحيفة "الرؤية" العمانية  بتاريخ 25 حزيران/يونيو 2014.