حول مجزرة شارلي إبدو *
بدرالدين عرودكي
قبل
كل شيء ودفعاً لكل سوء فهم أو تفاهم، يجب توصيف ما حدث صباح السابع من يناير 2015
بباريس وفي مقر مجلة شارلي إبدو الإسبوعية.
بإيجاز
شديد: ما حدث عبارة عن مجزرة تم خلالها قتل مجموعة من الصحفيين الفرنسيين يمثلون
حرية التعبير في أبلغ معانيها بل وكذلك في حدودها القصوى قام بها مجرمان بالمعنى
الجنائي والاجتماعي والثقافي لهذه الكلمة وهما يزعمان الانتقام للنبي بسبب الصور
الكاريكاتيرية التي سبق لهذه المجلة أن نشرتها.
ولابد
فوق ذلك من التوضيح أيضاً أن هذه المجلة لمن لا يعرفها مجلة ساخرة، وقد طالت
سخريتها وبصورة سليطة وغير مسبوقة، السياسيين جميعاً يميناً ووسطاً ويساراً،
والمستبدين جميعاً، وكافة الرموز الدينية، على اختلاف مرجعياتها، في استخداماتها
المعاصرة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتجارة السياسية العاهرة والبعيدة كلّ البعد
عن الإيمان الروحاني. قد نختلف معها في بعض أو كلِّ ما تقوله أو تبثه من رسائل أو
نتفق تمام الاتفاق. لكن الأهم فيما وراء ذلك هو ما تمثله لنا بعد هذا الحادث: حرية
القلم.
من
المؤسف أن هذيْن المجرميْن وشريكهما قُتِلوا قبل القبض عليهم ومن ثم فقد يحول
موتهم دون معرفة من كان وراءهم على وجه التدقيق. لكن ما عرف عنهم ولاسيما انتماءهم
إلى حلقة عرفتها الأجهزة الأمنية الفرنسية كما يبدو منذ عام 2005 باعتبارها تقوم
بتجنيد الشباب لإرسالهم إلى العراق ثم مؤخراً إلى سوريا، يسمح بالتفكير بأن
محرِّكاً خارجيا يقف وراءهم. من هو هذا المحرّك؟ يكفي أن نتساءل عن المستفيد من
هذه الجريمة؟ ربما سنعثر على الإجابات في
ردود فعل أبواق بعض الأنظمة التي تستجدي بأي ثمن إعادة تأهيلها بما في ذلك اللجوء
إلى الإرهاب الذي تزعم محاربته.
كالعادة،
كانت الشماعة التي علق عليها المجرمان جريمتهما هي "الثأر للنبي". ومن
سخرية الأقدار أن بين ضحاياهم مَنْ كان يحمل اسم أحمد وآخر يحمل اسم مصطفى!
سوى أنني أرى أنه يجب ألا يغيب عن بصرنا ولا عن
بصيرتنا المعنى الأعمق لهذا الحدث. فقد سبق أن قتل فنان الكاريكاتير الفلسطيني
ناجي العلي، كما سبق وهشمت أصابع فنان الكاريكاتير السوري علي فرزات. وهاهما شخصان يؤلفان جزءاً من جماعة
ـ قد تكون كما زعما القاعدة في اليمن ـ
تنتمي إلى ضرب من الاستبداد، هو الاستبداد الديني في أشنع وأشدِّ تعبيراته
جهلاً وتجهيلاً، يقومان بقتل مجموعة من كبار فناني الكاريكاتير في فرنسا. هل هي
صدفة؟ نعلم تماماً أنه لا مكان للصدفة في عالمنا الذي بات اليوم أشبه بقرية. ومن
ثم وعلى الرغم من زعمهما الانتقام للنبي بسبب الرسوم الكاريكاتيرية، وهو عذر أقبح
من ذنب، فإني أميل إلى القول إن الاستبداد
لا يتجزأ. إذ بقدر ما كان ناجي العلي وعلي فرزات يندد بالاستبداد وبالمستبدين،
بقدر ما كان فنانو الكاريكاتير في فرنسا، يندِّدون ـ بواسطة رسومهم ـ بالاستبداد
والمستبدين في كل مكان من العالم. الجريمة أياً كان مكان اقترافها تستهدف القلم
الحر بكل ما ينطوي عليه من رموز. أي حرية الرأي وحرية الصحافة التي دفع الشعب
الفرنسي ثمناً غالياً طوال تاريخه كي ينالها.
سيحملنا
ذلك كله على التساؤل عن الكيفية التي ستردُّ بها فرنسا خصوصاً وبلدان أوربا عموماً
على مثل هذا الحدث لحماية شعوبها. مما لا شك فيه أن الردَّ الأول سيكون الرد
الأمني الذي يقوم (وهذا هو الأهم!) على متابعة حلقات هؤلاء الشباب من مواطنيها
الذين دُرِّبوا على القتال وعلى الاغتيال تحت ستار أو بحجة الدفاع عن الدين وعن
رموزه وعلى ملاحقتهم أينما كانوا من أجل الحيلولة دونهم ودون ارتكاب مثل هذه الفظائع.
وفي سبيل ذلك ستتعاون دول أوربا من أجل الوصول إلى هذا الهدف. وهو ردّ طبيعي بلا شك مع الأمل بأن تدرس في
العمق الأسباب الحقيقية التي تدفع بشباب في عمر الورد ولدوا ونشأوا في بلد كفرنسا
إلى اختيار طريق التضحية بأنفسهم في سبيل أهداف لا يعلمون عنها في أغلب الأحيان
شيئاً وإلى أن يكونوا على غير وعي منهم أدوات صماء لتنفيذ أهداف تتجاوز حيواتهم
وعقيدتهم والشعارات التي يظنون أنهم يضحون بأنفسهم في سبيلها.
هناك
ما يقارب من ستة ملايين مسلم فرنسي من أصول عربية
وأفريقية. والذين استنفروا منذ عام 2005 كما يبدو كي يُرسلوا إلى العراق
أولاً ثم، منذ ثلاث سنوات، إلى سوريا من أجل "الجهاد" هم من أبناء هذه الفئة من الشعب الفرنسي.
ما
الذي يحملهم على الاستجابة إلى مثل هذا النفير؟
ذلك
هو السؤال الأهم الذي يبدو لي أنه يجب أن يُطرح اليوم على السياسيين في فرنسا: كيف
يمكن الحيلولة دون هؤلاء الشباب ودون الإصغاء إلى صوت لا يمت إلى العقل بصلة؟ كيف
يمكن تأمين الشروط الاجتماعية والاقتصادية كي يدركوا أن بوسعهم أن يخدموا مثلهم
العليا كلها في مجتمع يحترم هويتهم
وخياراتهم وآرائهم حين يضمن لهم فيما وراء ما ضمنه لهم من مجانية التعليم
وحرية الرأي والكرامة بالقانون وحرية الانتخاب فحسب بل وكذلك اختيار المهنة التي
يريدون وأن يعاملوا على قدم المساواة مع كافة المواطنين دون النظر إلى اسمائهم أو
ودينهم أو أصولهم؟
ذلك
في نظري هو التحدي الأكبر الذي ينتظر أن تواجهه السلطات الفرنسية. ولابدّ من
مواجهته من أجل العثور على حلٍّ لابد منه على المدى المتوسط والبعيد كي لا تستحيل
جموع الشباب إلى قنابل موقوتة تهدد لا المجتمع الفرنسي فحسب بل كل ما يمثله على
صعيد الحرية والديمقراطية.
* نشر في صحيفة
الوفد، القاهرة، الثلاثاء 13 كانون الثاني/يناير 2015
http://www.alwafd.org/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86/797389-%D8%B9%D8%B1%D9%88%D8%AF%D9%83%D9%8A-%D9%85%D8%AC%D8%B2%D8%B1%D8%A9-%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%84%D9%8A-%D8%A5%D8%A8%D8%AF%D9%88-%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%B1
http://www.alwafd.org/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86/797389-%D8%B9%D8%B1%D9%88%D8%AF%D9%83%D9%8A-%D9%85%D8%AC%D8%B2%D8%B1%D8%A9-%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%84%D9%8A-%D8%A5%D8%A8%D8%AF%D9%88-%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%B1
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire