ربيع سورية الذبيح*
بدرالدين عرودكي
قبل
ان يُعتقل أطفال درعا الذين تجرّأوا وكتبوا على جدران مدرستهم ما سيعتبر أول ضربة
معول في جدار الخوف السوري كانت سورية سؤالاً: هل ستثور؟ ومتى ستثور؟ وعندما خرج
عشرات ألوف السوريين ثم مئات ألوفهم في شوارع معظم المدن السورية تطالب بالحرية
وبالكرامة محطمة جدران الخوف كلها مستقبلة بصدورها رصاص النظام صار السؤال أشدَّ
دهاء: وهل هي ثورة أم مجرد حراك محدود يعبر عن وضع اجتماعي حرج؟ وعندما رفع
السوريون من جديد مطالبهم للتوضيح: الحرية والكرامة، لا الخبز. صار السؤال أكثر
خبثاً: مَنْ وراء هذا الحراك؟ المندسون؟ السلفيون؟ القاعدة؟ العراعرة؟ أموال
السعودية وقطر؟ ثم انتهى السؤال إلى جواب يردد إعلام النظام السوري وحلفاؤه صيغة
منه: مؤامرة كونية، في حين يردد عقلاء التحليلات الاستراتيجية من اليسار
العربي والأوربي خصوصاً: حرب أهلية!
مئات
المقالات والدراسات والتحليلات كتبت خلال السنوات الثلاث الماضية ولا تزال تكتب.
وعشرات الكتب أيضاً. قليل منها ما عكس فهماً دقيقاً أو بصيراً للبلد وخصوصاً
لنظامه الذي استملك سورية منذ نيف وأربعة عقود استملاكاً عائلياً محضاً، جاعلاً
منها إقطاعية خاصة به.
هذا
الكتاب الجديد الذي يشارك فيه أكثر من ثلاثين باحثاً وكاتباً في مختلف فروع العلوم
الاجتماعية ممن عملوا مع أو بالقرب من المعهد الفرنسي
لدراسات الشرق الأدنى، فرنسيين أو سوريين، يحاول من خلال قسمين، أولاهما عن صناعة
الحرب الأهلية ويقع في ستة عشر فصلاً والثاني عن الأزمة المُصدَّرة
ويقع في عشرة فصول، أن يقدم مفاتيح لما يبدو في فرنسا وفي أوربا عسيراً على الفهم
إن حسنت النوايا. "لا ربيع لسورية" كتاب خطط له وأشرف عليه
فرانسوا بورغا، مدير أبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي الذي كان إلى
نيسان/أبريل 2013 يدير معهد الدراسات العربية في الشرق الأدنى من دمشق ثم من
بيروت، وبرونو باولي، اللغوي ومدير الدائرة العلمية "الدراسات العربية
القروسطية والحديثة" في المعهد الفرنسي المشار إليه أيضاً.
وهي مفاتيح ضروريٌّ تقديمها للقارئ الفرنسي خصوصاً
وللأوربي عموماً قبل أية مقاربة لواقع الحراك الثوري في سورية ومآلاته خلال ما
يقارب اليوم ثلاث سنوات، ومن أهمها: خصوصية الوضع الداخلي السوري أولاً ثم
الإقليمي والدولي بعد ذلك. ومن دون التقليل من أهمية "العدوى" بين ضروب
الحراك الثوري في تونس وفي مصر وفي ليبيا، لابد من التأكيد على الأسباب الداخلية
للثورة السورية التي لا صلة لها بالميليشيا الجهادية الممولة من قبل قطر أو
السعودية أو من كليهما معاً كما صار طبيعياً اعتبار هذه الأخيرة الوجه والأساس في ما يحدث في سورية بأقلام أو
على ألسنة صحافة وإعلام يسعى نحو الإثارة أكثر مما يعمل على بث المعلومات.
سؤال
الكتاب الأساس: كيف حدث أنَّ ستة أشهر من المظاهرات السلمية في طول البلاد وعرضها
ثم ما يقرب من ثلاثين شهراً من نضال مسلح نادر الضراوة لم تؤدِّ إلى النتيجة نفسها
التي أدت إليها الاحتجاجات السلمية التي قام بها ثوار تونس أو مصر أو ليبيا؟ وكيف
استطاع النظام الثبات والبقاء؟
منذ
البداية عمل النظام في الداخل على الترويج لأطروحة عقابٍ يطاله عبر وبواسطة
الجهاديين الأصوليين وينزله به الغربُ الإمبريالي لتحالفه مع إيران وحزب الله من
أجل مقاومة النظام الإقليمي الإسرائيلي الأمريكي. كما لو أن المطلب الديمقراطي
الذي نزل الشعب إلى الشارع من أجله يتعارض مع النضال ضد الإمبريالية وأن برلماناً منتخباً
بحرية سوف يسارع إلى بيع المصالح الوطنية والقومية إلى العدو الصهيوني وإلى رعاته
من الغربيين! وجدت تلك الأطروحة قبولاً لدى رجال االنظام على مختلف مستوياتهم
ولاسيما من كانوا بانتماءاتهم الجغرافية أو الطائفية يؤلفون الأكثرية الساحقة في
الدوائر الأمنية أو في مراكز القيادات المختلفة في الجيش أو في مختلف المؤسّسات
الأخرى.
ومن
هنا كان الردُّ المباشر يتجلى في الحلّ الأمني.
من
العنف غير المسبوق الذي استخدمه النظام في الرد على ثورة الشعب السوري والذي كان
رده مضاعفاً على كلِّ فعل يقوم به الثوار: الرد بالرصاص على المظاهرة السلمية،
وبالدبابات على حاملي الكلاشينكوف وبالمدفعية الثقيلة والطيران الحربي على حاملي
قاذفات القنابل... إلى الأدوات التي لجأ إليها في حربه من أجل البقاء والإبقاء على
مكتسباته والتي كانت أكثر من أن تُحْصى، ولم تكن تقتصر على العنف أو على الانقسام
الواضح والعميق في محيطه الإقليمي والدولي..لم يكن همُّ النظام الأول والأساس إلا
الدفاع عن بقائه.
أربعون
عاماً من تفريغ الداخل كلياً من السياسة ومن السياسيين من ناحية، ومن ممارسة سياسة
الترهيب والتخويف والقمع والبلطجة على الأصعدة جميعاً: الداخلي والإقليمي والدولي
من ناحية أخرى.
تأتي
فصول الكتاب كلها لتتناول بالعرض وبالتحليل وكذلك من خلال الشهادات الحيّة لبعض من
عاشوا أو عاينوا أو عانوا هذا الجانب أو ذاك من جوانب هذه السياسة الفريدة
والنادرة في عالمنا اليوم كي تحاول الإجابة عن هذه الأسئلة أو ما تضمنه عنوان الكتاب
الفرعي: مفاتيح من أجل فهم صانعي الأزمة وتحدياتها بين 2011 و2013. والركيزة في
القسم الأول: كيفية صناعة الحرب الأهلية.
القاعدة
الأساس في هذه السياسة قاعدة استعمارية قديمة أعيدت صياغتها. فبدلاً من فرِّق
تسُد، فرِّق تبقى! وصيغ أخرى أيضاً: حافِظْ على الشكل وافعل ماشئت بالمضمون!. مظهر
دولة ديمقراطية لا غبار عليها من حيث وجود المؤسسات وفصل السلطات ووجود الأحزاب..
إلخ.؛ لكنها دولة علمانية ظاهراً من ناحية وممارسات طائفية تتستر وراءها من ناحية
أخرى.
يشير
فلاديمير غلاسمان في الفصل المخصص لمصادر النظام الأمنية إلى أن أحداث حماه عام
1982 هي التي أدت إلى انقلاب واضح في وظيفة البنى الأساسية في النظام. فبعد أن كان
حزب البعث قائد الدولة والمجتمع، صارت الدوائر الأمنية بفروعها الأساسية تقوم بهذه
الوظيفة على نحو لم تعرفه من قبل إلا الدول ذات النظام الشمولي، بل ربما تجاوزته؛ إذ
بلغ عدد موظفيها الدائمين حوالي 65000 ومئات الألوف من العاملين جزئياً بحيث يمكن
القول إن هناك موظفاً لكل 257 مواطناً بصورة عامة أو موظفاً لكل 153 من المواطنين
الذين تجاوزت أعمارهم خمسة عشر عاماً! وقد تجلى تهميش دور الحزب في غياب انعقاد أي
مؤتمر له بين عامي 1985 و2000 . وفي هذه السنة الأخيرة دعي للاجتماع فقط ليقترح
وليصادق على تسمية وريث مؤسس هذا النظام أميناً عاماً قطرياً للحزب!
طالت
اختصاصات الفروع الأمنية، العامة، والعسكرية، والجوية، والسياسية، مجالات حياة
الناس كافة وبلا استثناء بما في ذلك تغيير محل الإقامة أو اعتناق الدين الإسلامي
لتصير هذه الرقابة اليومية الشاملة مصدر ثراء رجال الأمن على اختلاف مستوياتهم. لم
تكن العلاقات بين فروع الأمن هذه علاقة تعاون أفقية بل علاقة تنافس لا يحكم بينها
سوى ارتباطها كلها بشخص الرئيس، لكن دائرة سلطة أو نفوذ رؤسائها تتسع أو تضيق طرداً
مع علاقة قرابة هذا أو ذاك بعائلة الرئيس. وإذا شمل ميدان تدخلها أبسط أمور
المواطن اليومية فمن باب أولى أن يضم كذلك مستويات أهم وأخطر كالتعيينات في مناصب
الدولة المختلفة في الداخل وفي الخارج أو تقرير الأسماء التي تضمها قوائم المرشحين
لعضوية مجلس الشعب أو أية هيئة أخرى من هيئات المجتمع المدني الصورية.
ومع
تحديد مهمات الدوائر الأمنية اعتباراً من عام 1982، تمت إعادة تركيز مهمة الجيش
على الدور الذي يفترض بالحرس الجمهوري القيام به. صارت المهمة لا الدفاع عن
الأراضي بل عن النظام وحده. ذلك ما سيتجلى اعتباراً من خريف 2011، عندما عهد إلى
الجيش بالعمل جنباً إلى جنب مع الدوائر الأمنية على اختلافها، على قمع الثورة
بالوسائل كلها وبلا استثناء.
ما كان لذلك كله أن يظهر للعيان لولا الثورة. وما كان
كذلك لكل ما حاول النظام قمعه والقضاء عليه من محاولات حثيثة لبناء أسس مجتمع مدني
ونضال سلمي أن يترعرع في ظله وأن يظهر على الملأ لولا الثورة. أكبر مثلٍ على ذلك جماعة
شباب داريا الذين يفرد لهم الكتاب فصلاً كاملاً كتبته كارولين دوناتي. كان
الشاب غياث مطر (وقد قضى شهيداً في سجون النظام إبان بدايات الحراك السلمي في
سورية)، قد تعلم الاستنفار السلمي في بيئتهم، وهي بيئة استوحت في مقاومتها للنظام منهجاً
ضمن إطار تفكير ديني منفتح اعتباراً من
نهاية سنوات 1990 قام على إعادة قراءة المسلمات الدينية في ضوء التجديد من ناحية والنقد من ناحية أخرى.
كان ذلك يتم في مسجد أنس بن مالك بداريا تحت إشراف إمامه عبد الكريم السقا، وبوحي
من معلمه القديم جودت سعيد، رسول اللاعنف والنقد الذاتي، الذي كانت تعاليمه تسود
جلسات الشباب في المسجد طوال سنين..
لن يفوت النظام وقد اختار الحلَّ الأمني أن يبدأ على وجه
الدقة بهؤلاء وأن يعمل للقضاء على أصواتهم بشتى السبل؛ ولم يكن من قبيل الصدفة أن
أوائل الشهداء الذين قتلوا في السجون لم يكونوا قد حملوا سلاحاً أو نادوا إلى
حمله.
وفي ظل هذا الحلِّ الأمني سوف يوجه النظام سياسته بالطبع
ضمن طريقيْن يعتمدان استراتيجية متماسكة في المجاليْن الإعلامي والميداني.
سوف يستفيد في المجال الإعلامي ولا سيما عبر أدواته
الإلكترونية من تجربة الحكومة الإيرانية التي سبق لها وأن قمعت ثورة مماثلة. بل
وسوف تزوده هذه الأخيرة بالمعدات الضرورية للعمل في هذا المجال. سيكون للنظام جيشه
الإلكتروني، وصفحاته عبر مختلف شبكات التواصل الاجتماعي، وستكون كلمات السر هي أول
ما يبحث عنه كلما اعتقل النشطاء وصادر معداتهم؛ وسوف يتابع سياسته القديمة الراسخة
بعدم استقبال الصحفيين العرب والأجانب إلا من المرضيِّ عنهم وعن صحفهم. وحين يقبل
بمجيء هذا الصحفي أو ذاك فلكي ينقل رسالة أو ليستخدم وجودهم من أجل بث رسالة ما..لم
يكن بوسع أيِّ صحفي، عربي أو أجنبي، أن يدخل سورية دون أن يرافقه طوال فترة إقامته
موظف ذو صفة أمنية يشرف على ذهابه ورواحه ويقدم تقريراً بكل ذلك إلى مرؤوسيه كل
يوم.
سوف يستثمر الثوار بدورهم هذا المجال على أوسع نطاق
ممكن. فهواتفهم أو آلات تصويرهم الرقمية ترافقهم في كل مظاهرة. هكذا ولد صحفيو
الثورة يرتجلون ممارسة المهنة ميدانياً. من الصور الثابتة توضع على صفحات التواصل
الاجتماعي إلى الفيديوهات التي سرعان ما تنقل إلى اليوتوب وإلى الفضائيات العربية
على اختلافها. هكذا استحال الفيديو "أداة العمل الجماعي والنضال المسلح"
في آن كما تقول سيسيل بويكس في الفصل الذي كتبته تحت هذا العنوان على وجه
الدقة. لكن النظام لن يعدم فرصة يستخدم
فيها هذه الأداة ليبث الشك في نفوس مستمعي قنواته الرسمية، كالفيديو الذي بثته
قناة الدنيا إثر مجزرة قام بها النظام وألقى بمسؤوليتها على "الجماعات
المسلحة" بداريا، كانت إحدى مذيعاتها وهي في كامل أناقتها تستجوب امرأة تلفظ
أنفاسها الأخيرة كي تحدثها عن المعتدين قبل محاولة إسعافها.
أما ميدانياً فقد كان سلوك النظام من خلال استخدامه العنف
غير المحدود يتطلع إلى قمع الثورة بأسرع وقت ممكن: قتل الناشطين من الشباب الثوار
ولا سيما المشرفين منهم على التنسيقيات أو من الناشطين الإعلاميين سواء بعد
الاعتقال أو بواسطة القنص أثناء المظاهرات؛ والحيلولة دون أن يتمكن الثوار من
تنظيم أنفسهم وذلك عن طريق تقسيم السوريين وبعثرتهم على نحو يستحيل معه عليهم
التواصل في ما بينهم.
لن يفوت المشرفان على الكتاب، فرنسوا بورغا وبرونو
باولي، أن يكرِّسا فصلين في الكتاب يبينان من خلالهما المعنى الأعمق لما حدث ويحدث
في سورية، في ما وراء التوصيف المفضل الذي يعطى له في فصول مختلفة من الكتاب:
أزمة، مأساة، حرب عنيفة.. إلخ. أولهما فصل كتباه مع جمال شحيد ومانويل سارتوري، يستعيد
الشعارات والصيغ التي رفعها المتظاهرون أو هتفوا بها في أرجاء سورية كلها و يسجل منها نيفاً ومائة
تندرج جميعها في ما يمكن اعتباره توصيفاً كاملاً للثورة في سورية بما انطوت عليه
من قوة سياسية تقول مبادئ الثورة ومعانيها وأهدافها، بدءاً من الشعار الذي تبناه
الثوار في مختلف البلدان العربية "الشعب يريد إسقاط النظام"، وليس
انتهاءاً بشعار "الأموات يريدون إسقاط النظام!". وحسناً فعل مؤلفو الفصل
إذ صنفوا مختارات من هذه الشعارات تحت عناوين شديدة الدلالة: سوريون قبل كل شيء
(واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد؛ ضد التقسيم والتطييف (نحنا بدنا حرية،
إسلام ومسيحية/ أو: دروز وعلوية)؛ تضمن المدن الثائرة (من القامشلي لحوران، الشعب
السوري ما بينهان)؛ السلميّة (سلميّة، سلميّة)؛ الجيش معنا (يا جيش يا حبيب/ خلي
سلاحك لتل أبيب)؛ أو للهجوم على الجولان المحتل (أسد في لبنان وأرنب في الجولان)؛
الحرية (الله، سورية، حرية وبس)؛ العدالة (شب وشبة، أنا مع القانون)؛ ضد الطغيان (ما
بيتآمر عالبلاد إلا حكم الاستبداد)؛ ضد الكذبة واللصوص |(فاشل، فاشل، فاشل/
الإعلام السوري فاشل، أو ثار الشعب السوري ثار/ عالحرامي والجزار)؛ إسقاط النظام (ما
منحبك، ما منحبك/ حلّ عنا إنت وحزبك)؛ الله وحده (لن نركع إلا لله)؛ الموت شهداء
من أجل سورية (يا سورية ويا أمي/والله بفديكي بدمّي)؛ السخرية الفكاهة والسخرية
(نطالب بزيادة أعداد الدبابات بكفر نبل للتخفيف عن حمص المنكوبة)...
هذه الشعارات غيضٌ من فيضٍ لم يتح للجمهور الغربي
الاطلاع عليها ولا معرفة المعاني العميقة التي تنطوي عليها ثورة الشعب السوري
والتي تقف على النقيض مما أراد النظام السوري تسويقه في الغرب على أنها مجرد مؤامرة
يقوم بها تكفيريون أو إرهابيون بأوامر غربية وبتمويل خليجي!
أما ثاني الفصليْن فقد كتبه سيمون دوبوا مشيرا منذ
البداية إلى أن "المحتجين السوريين برهنوا منذ المظاهرات الأولى على قدرة
إبداعية ممتازة في مجال أدوات
النضال" ولاسيما الأغنية. مشيراً إلى وجود أكثر من مائتي أغنية بين نهاية نيسان/أبريل2011 ومنتصف آذار 2012، تندرج ضمن التقاليد الفنية
السورية الكلاسيكية بعد أن استعيدت بفعل الثورة ولبست معانيها بصورة أو بأخرى،
ومنها بالطبع أغاني إبراهيم القاشوش الذي دخل حَرَمَ شهداء الثورة وصار اسمه رمز
النضال السلمي، وكذلك أغاني عبد الباسط ساروت، حارس مرمى فريق الكرامه بحمص، والتي
رافقت المتظاهرين مثلما رافقت أؤلئك الذين حملوا السلاح لحمايتهم.
لن يخلو القسم الأول من الكتاب الذي كرس كما قلنا لعرض
الكيفية التي تتم بها صناعة الحرب الأهلية في ستة عشر فصلاً من واحد منها يكرس
للموضوع الاقتصادي. أراد النظام في الأسابيع الأولى من الحراك الثوري أن يعتبر
الأمر مجرد مطالب اقتصادية يمكن حلها بسرعة معترفاً بشرعيتها. لكنَّ أياً من
الشعارات التي رفعها المتظاهرون لم تكن تنطوي على مطالب أخرى غير الحرية والكرامة
ولم تحد عنها طوال ثلاث سنوات من الثورة. لا يعني ذلك أن الأسباب الاقتصادية أو
بالأحرى البيئة الاقتصادية لا يمكن الاعتماد عليها في تفسير انطلاق الثورة من
ضواحي المدن أساساً. يلاحظ سمير عيطة في الفصل المخصص للمتغيرات وللرهانات
الاقتصادية للانتفاضة أنه "كان على انطلاق "الثورة" من مدينة درعا
وضواحيها (..,) أن يسم العقول، مثلما كان على الدخول السريع للعديد من ضواحي المدن
في الحراك الثوري أن يدلَّ المحللين على ضروب فشل أو نسيان السياسة التي سار عليها
بشار الأسد تجاه هذه الفضاءات." وعلى
أن هذه الملاحظة قد جاءت على لسان العديد من المحللين والمراقبين من قبل ولا سيما
في الداخل السوري، إلا أن ثمة شبه إجماع على أن الأسباب الاقتصادية على أهميتها لا
تزن كثيراً أمام الأسباب الأعمق التي حملت شعباً بأكمله على أن يثور بعد أربعين
عاماً من حكم استبدادي واستعبادي غير مسبوق.
الأزمة المُصَدَّرَة" عنوان القسم الثاني من
الكتاب. لقد أدى تطور الأحداث في سورية خلال ثلاث سنوات إلى أن تحمل أسماء تتباين
بتباين الموقع الذي ينظر منه إليها. فهي لا تزال ثورة شعب ضد نظام مستبد في نظر
معظم السوريين، وهي أزمة في لغة الدبلوماسيين على اختلافهم مثلما هي حرب أهلية في
نظر بعض الصحفيين أو صراع في عيون البحاثة والدارسين. سيعالج هذا القسم آثار الحدث
السوري في البلدان المجاورة التي باتت شأنها شأن القوى الكبرى فاعلة بهذا القدر أو
ذاك في سورية. لبنان وما يعانيه من انقسام بين مؤيد للنظام السوري بلا حدود
وخصوصاً حزب الله الذي انخرط مادياً في مواجهة الثوار السوريين، ونصيرٍ للثورة
السورية يتواجد لدى العديد من الأطياف اللبنانية ويزيد من صعوبة الأزمة الحكومية
في لبنان فضلاً عن الأزمة الاقتصادية والأمنية فيه؛ وفلسطين التي تتمزق بين الضفة
الغربية وغزة، وبين الشعب وقادته؛ والعراق وانقسامه كذلك بين شيعة مؤيدة للنظام
وسنة تقف ضده، والأردن الذي يحاول الموازنة حسب موقعه بين متطلبات البقاء ومتطلبات
الضغوط المحلية والإقليمية والدولية. أما إيران فقد صارت جزءاً لا يتجزأ من الأزمة
السورية؛ إذ بعد أن تضامنت مع الثورات العربية في تونس وفي مصر وفي اليمن سرعان ما
قلبت ظهر المجن عند انطلاق الثورة في سورية معلنة بلا لبس أو غموض تضامنها مع
النظام السوري وعاملة على تعزيز قدراته الاقتصادية والعسكرية والتعبوية من أجل قمع
الثورة بشتى الوسائل. أما تركيا التي فوجئت بأوائل تطورات الثورات العربية في تونس
ومصر خصوصاً ثم تبنت موضوعياً خيارات حليفها الأمريكي تجاه هذين البلدين، والتي
تعثرت مواقفها في البداية من الثورة في ليبيا بسبب العلاقات الحميمة التي كانت
قائمة مع نظام القذافي ثم انضمت بصعوبة شديدة إلى التدخل الغربي، فقد كانت سورية
بالنسبة لها همّأً متعدد الأبعاد: الحدود،
والأكراد، وعلويي أنطاكية خصوصاً، ولا سيما بعد أن اضطرت الحكومة التركية إلى
الابتعاد بحسم عن النظام السوري وإدانته بشدة، داعمة أطياف المعارضة بشتى الوسائل،
ومستمرة في استقبال أعدادٍ متزايدةٍ من
المهاجرين السوريين الذين خصصت لرعايتهم ميزانية سنوية قدرت عام 2013 بمائتي مليون
يورو. يبقى أن استمرار الوضع في سورية على
ما هو عليه اليوم وخلافاً للتوقعات الأولى يؤلف كابوساً مخيفاً بالنسبة لحكومة حزب
العدالة والتنمية التركي لاسيما وأنه سيواجه
استحقاقات انتخابية عام 2014.
** ** **
لا تتجلى أهمية هذا الكتاب الذي استعرضنا هنا بعض فصوله
الهامة في كمّ المعلومات أو في الشهادات وعمق التحليلات التي تناولت مختلف جوانب
الحدث السوري على امتداد سنتين ونصف السنة،
ولا في كونه أول وأشمل كتاب من نوعه ظهر منذ أن تتالت الكتب حول الربيع
العربي والحراك الثوري في دوله فحسب، بل كذلك في كونه يجمع حصيلة ما امتلكه
الباحثون الذين شاركوا في تحريره من خبرة عميقة بالمجتمع السوري وبنظامه السياسي
القائم منذ نيف وأربعين عاماً.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire