dimanche 19 janvier 2014


الفضاء الموازي

وأرباب الحقيقة المطلقة*


بدرالدين عرودكي


عندما عمد النظام السوري في مستهل القرن الحالي وبعد تكريس الجمهورية الوراثية  إلى إغلاق منتديات ربيع دمشق مُصادراً حق التعبير، قامعاً ممارسيه بالسجن أو بالتهجير أو بالقتل، لم يكن يحسب أن هذه المنتديات ستعود إلى الظهور بعد عشر سنوات في صورة أخرى وعلى نحو أشدّ اتساعاً مما كانت عليه في دمشق آنئذ، وأن مؤسسيها أو مرتاديها سيتكاثرون بطريقة لم يكن يتوقعها على الإطلاق، وأن حق التعبير الحرِّ المتحرِّر من كل قيد سيحتل وخصوصاً في سورية اعتباراً من بداية عام 2011 المكان الأول بعد أن هدمت جدران الخوف جميعاً على أيدي أطفال درعا وشباب سورية في مدنها وقراها كلها..

هذه المنتديات الجديدة التي أتاحتها شبكات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها بالطبع الفيسبوك استحالت مع انفجار الحراك الثوري في العالم العربي أداة ثورية بامتياز. لقد جرى الحديث كثيراً حول الدور الذي لعبته في الثورة التونسية وفي الثورة المصرية ولاسيما في تنظيم المظاهرات وطرق مواجهة السلطة الحاكمة وقمعها التقليدي. وبلغ الأمر بالبعض أن جعل منها سبب انفجار هذه الثورات أو، على النقيض من ذلك،  سبب استيعابها والسيطرة عليها من قبل القوى الخارجية. لكن أحداً لا يمكنه إنكار وجودها المؤثر والفاعل في كثير من الأحيان في هذا الحراك الثوري على امتداد رقعة العالم العربي..

بات من المستحيل اليوم متابعة أحداث عالمنا العربي، دون الأخذ بعين الاعتبار صداها على ساحة الشبكات الاجتماعية.  لم يعد من الممكن الاكتفاء اليوم بما تكتبه الصحف أو تتناقله الفضائيات عما يحدث في هذا البلد أو ذاك، ولاسيما في سورية اليوم، دون الرجوع إلى هذه الشبكات، لابل إن وسائل الإعلام المكتوب والمرئي تجد نفسها في كثير من الأحيان مضطرة لا إلى الاعتماد على ما تقدمه هذه الشبكات اليوم من معلومات وصور ثابتة أو متحركة فحسب بل وإلى أن تتخذ منها امتداداً لها سواء باستخدامها مباشرة أو باستخدام أداتها، الأداة الإلكترونية، لتزيد من ميادين استقبالها ومن عدد قرائها.

أدى ذلك إلى أن يتحول الكثير من نشطاء الثورة في سورية خصوصاً إلى صحفيين بامتياز بعد أن وضع النظام السوري أمام الصحافة العربية والدولية غير الممالئة قيودا جعل من المستحيل معها تواجد ممثليها على الأراضي السورية دون مواجهة وقبول خطر الموت أو السجن أو الخطف، الأمر الذي جعل الصحافة الكلاسيكية تعتمد على من ارتجلوا أنفسهم صحفيين ومصورين ومعلقين على ما يجري. ولذلك كان هؤلاء ولاسيما الأخيرين منهم أوائل أهداف قناصة النظام السوري وزبانيته من رجال الأمن أثناء المظاهرات: إما القتل مباشرة أو القتل تعذيباً.

وعلى أن الهواية ليست كالحرفة. فقد فرضت الشبكات الاجتماعية نفسها مصدراً أساسياً من مصادر المعلومات، وصار الفضاء الافتراضي فضاءً موازياً للفضاء الواقعي وامتداداً له في الوقت نفسه.. ينفصل عنه بقدر ما يندمج فيه. فيه تدور معارك، وسجالات، ومبارزات من نوع آخر، افتراضي بالطبع هو الآخر، وفيه يجري تبادل المعلومات وتمحيصها وتصحيحها وإغناؤها، مثلما يتم فيه كذلك إنزال العقاب بالإلغاء أو بالحجب أو بالكسر المعنوي (الافتراضي طبعاً). وفي هذا الفضاء كذلك أبطال ومشاهير فضلاً عن جماهير المعجبين. وبقدر ما فيه من ضروب النقاش الغني والمتحرر من كلِّ قيد بقدر ما تتكاثر فيه ضروب الغباء والردح والسفاهة والبذاءة..

لكن هذا الفضاء الموازي من ناحية أخرى ألغى المسافات، وحرر الألسنة. أفسح المجال لمن لا صوت لهم، وأخرج إلى السطح كل ما كان خافياً في الداخل: داخل الإنسان وداخل القوى الاجتماعية على اختلافها، سواء بسواء.

فما رأيناه ولا زلنا نراه اليوم واقعاً على الساحة السورية مثلاً من بطولات وضروب من التفاني والتعاون في النضال وفي مقاومة نظام الاستبداد أو من عنف غير مسبوق ومن فجور واستباحة لكل القيم الإنسانية يجد انعكاسه، بل امتداده أيضاً في هذا الفضاء الموازي. وبعض ما أطلق عليه  الحرب الإلكترونية يجري كذلك في هذا الفضاء الأخير الذي يكاد يستحيل بديلاً في أذهان البعض لولا الدماء التي تسيل والبيوت التي تدمَّرُ كل ساعة من ساعات الليل والنهار.

ذلك أنه إلى استيعابه المبدعين ومُبدعاتهم وأعمال الناشطين السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، استوعب أيضاً كثيراً من الأدعياء والمزيفين بكل ما يحملونه من أوهام، وفي كل الميادين: أوهام الأدب والشعر مثل أوهام الفكر والحكمة؛ أوهام النضال مثل  أوهام الزعامة والشعبية والجماهيرية. أدت هذه الأوهام إلى أن يصير بوسع من يقاتل على أرض الفيسبوك أن يشعر أنَّ من حقه تلقين الدروس في النضال أو في الصبر بل وفي القتال لمن بقي مرابطاً في قريته أو مدينته، وأن يرى بعض هؤلاء نفسه لا يقل شجاعة ولا امتيازاً عنه! ألا يتألم مثل ألمه؟ ألا تتقطع أوصاله مثله كلما قتل طفل أو اغتصبت امرأة أو استبيح شرف؟  بل أن يبلغ الأمر بساكن الفضاء الافتراضي أن يعطي لنفسه الحق في أن ينظر بقلق وريبة إلى ساكن الفضاء الواقعي. يسأله أن يفصح عن اسمه وهو يعلم تمام العلم أن ذلك يُعَرِّضه أيضاً للسجن أو للقتل المجاني ولاسيما إن كان من الناشطين.

ومع هذا، يبقى ـ وهذا هو الأساس ـ أن كل ذلك يجري في ظل حرّية جديدة وعامّة تتيح القول والتعليل والردّ والتفنيد مثلما تتيح الكشف والفضح بالكلمة أو بالصورة أو بهما معاً. وهي حرية تصفع كل لحظة وجوه المستبدين وأرباب الحقيقة المطلقة أياً كانوا وفي أي ميدان وجدوا. ومهما حاول هؤلاء العثور على وسائل الكبح أو التعمية للحيلولة دون امتداد هذا الفضاء الجديد الذي بات يهدد وجودهم فقد بات على الرغم منهم وفي وجودهم وفي مواجهتهم فضاء يكاد يكون على افتراضيته أشد واقعية من الفضاء الواقعي نفسه.   


* نشر في صحيفة العرب، العدد 9455 الصادر بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير 2014، ص. 9
 http://www.alarabonline.org/?id=14190

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire