طه حسين
بعد أربعين سنة..*
بدرالدين عرودكي
لا يزال طه حسين يخاطبنا اليوم مثلما كان
يفعل بالأمس، لكن خطابه يبدو اليوم أشدَّ ضرورة وأكثر إلحاحاً مما كان
عليه في أيِّ وقت مضى.
فهذا الشاب القادم من أعماق صعيد مصر، بعد أن
امتلك ناصية الثقافة العربية والتراثية، وقبض على زمام الثقافة الغربية الحديثة
بدءاً من جذورها اليونانية وانتهاء بمفاهيمها في العصر الحديث، استطاع أن يعثر على
موقع الشرخ في رؤيتنا للعالم، وهو الشرخ الذي كان قد أدّى ولا يزال يؤدي إلى تعثر
نهضتنا الفكرية والحضارية في العصر الحديث، فحاول أن يجعلنا نلمسه لمسَ اليد.
لقد فجَّر بكتابه "في الشعر
الجاهلي" المنشور في بداية الربع الثاني من القرن الماضي ثورة جذرية سرعان
ما تمَّ إخمادها حتى لا أقول وأدها قبل أن
يستفحل خطرها وتنتشر آثارها فى مشرق العالم العربي والإسلامي وفي مغربه.
بدا خطر هذا الثورة واضحاً للجميع في إشارتها
إلى هذا الشرخ، وفي استهدافها اليقين المطلق إذ دعت إلى كسره بالشك. كان ذلك يعني
رفع الغشاوة عن الأعين، ونفض الغبار الذي تراكم قروناً عن حقيقة يقينيات وثوابت
عملت على تعطيل العقل وإشاعة الكسل الفكري قروناً عديدة لشق الطريق إلى العودة نحو
بداية البداية من أجل الفهم، ومن أجل التقويم، ومن أجل التعديل، ومن أجل البناء
على ما يقتضيه هذا الانتقال من اليقين إلى الشك ومن المطلق إلى النسبي، ومن الأبدي
إلى التاريخي.
كانت العودة إلى الشعر الجاهلي هي هذه
الثورة، وكانت العودة إلى أبي العلاء المعري لاستعادته هي أيضاً هذه الثورة..
حاول طه حسين أن يلتف على هذا العناد
التاريخي كمثقف ملتزم قبل أن يكتب سارتر عن الالتزام، وكمثقف عضوي قبل أن يقوم
غرامشي بوضع تعريف له. تقدم كتبه كلها بياناً بهذه الحياة الحافلة، وفي مقدمتها،
بصدد ما أشير إليه هنا، كتاب : مستقبل الثقافة في مصر.
وقفت سلطات اليقين مثلما وقف حرّاس المطلق جميعاً
في وجهه. لا في مصر وحدها، بل في أرجاء العالم العربي كله. وصار دأبهم الحدّ من
تأثيره ومقاومته بسلاح مطلقهم الدائم والثابت، معتمدين على جمهور لم تتح له فرصة
العلم والمعرفة ولا يزال في غالبيته العظمى غارقاً ومُغرَقاً في الأمية والفقر بل
والعوز.
أدرك طه حسين مواطن الخلل فحاول. لكن محاولته
لا تزال بحاجة لمن يتابعها وفي كل الميادين، بدءاً بالتعليم، وليس انتهاءاً بالفكر
وبالإبداع..
* بمناسبة الذكرى الأربعين لرحيل طه حسين، نشرت هذه الكلمة في
إطار تحقيق صحفي عن تراثه قام به الشاعر والصحفي سيد محمود ونشر في صحيفة
الأهرام العربي بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2013
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire