jeudi 28 novembre 2013


الشرق الأوسط الجديد

 الشعوب في زمن الثورة السورية*

 

بدرالدين عرودكي

 


 
                                                                                                                                                
لم يكن جان بيير فيليو بحاجة إلى المراجع بقدر حاجته إلى الوثائق كي يكتب عن الحراك الثوري الذي بدأ انفجاره  في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه  خلال الأشهر الأخيرة من عام 2010. فقد عرفَ العالم العربي عن كثب أولاً من خلال رحلاته الدراسية التي لم تتوقف عند دراسة اللغة العربية بل تجاوزتها إلى تاريخ المنطقة الاجتماعي والسياسي والثقافي. وعرف بلاد الشام خصوصاً من خلال رحلات عديدة ولاسيما إقامته في الأردن أولاً ثم في سوريا بعد ذلك عدداً من السنوات بوصفه دبلوماسياً في سفارة فرنسا بعمان ثم بدمشق، مثلما عرف من بعد المغرب العربي حين عمل أيضاً في سفارة بلده بتونس. ذلك كله من أجل إغناء تجربته كاتباً ومفكراً سياسياً قبل أن يستقرّ أستاذاً في معهد العلوم السياسية بباريس وأستاذاً زائراً في العديد من جامعات أوربا وأمريكا. على أنَّ ما يقوله أو ما يكتبه في هذه الظروف، وفي الظروف التي تعيشها الثورة السورية، في الندوات أو في البرامج الإذاعية والتلفزيونية حول ما يجري في العالم العربي يكتسب بعداً شديد الأهمية، لا لأنه واحدٌ من ألمع أبناء جيله في مجال اختصاصه فحسب بل لأنه ينتمي إلى تيار سياسيٍّ يساري عجز أغلب المثقفين فيه في فهمهم للحراك الثوري العربي وفي كتاباتهم حوله عن تجاوز قوالب فكرية عفى عليها الزمن أو عن إدراك الدلالات التاريخية العميقة لما يجري تحت أعينهم وعلى حدود قارّتهم الجنوبية تحديداً.

هل ما يحدث في العالم العربي ثورة؟ أم هي طفرات احتجاج؟ أم حركات تمرد؟ لم يتردد جان بيير فيليو، منذ البداية، في أن يسمي الأشياء بأسمائها بدلاً من التلاعب بالألفاظ الذي كان ديدن سواه ممن يتقدمون الصفوف دوماً بوصفهم مختصين بالعالم العربي.

ما يحدث هو ثورة. وهي، على وجه الدقة، ثورة من أجل  الديمقراطية.

وكان كتابه الأول الذي صدر بباريس بعد أقل من تسعة أشهر على بدء الحراك الثوري في تونس يحمل عنوان: الثورة العربية: عشرة دروس حول الانتفاضة الديمقراطية الذي أهداه، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، إلى كلٍّ من سمير قصير وعمر أميرالاي اللذين كانا، على غياب الأول اغتيالاً ببيروت يوم 2 حزيران عام 2005 ورحيل الثاني بدمشق في 5 شباط عام 2011، من أوائل المبشرين بهذه الثورة العربية القائمة الآن في أرجاء العالم العربي وفي سورية خصوصاً.

وعلى أن جان بيير فيليو وضع يده في هذا الكتاب على المعالم الرئيسة لهذه الثورة الجديدة في العالم العربي، إلا أن معظم التعليقات على الكتاب تلافت الحديث عن هذه المميزات أو المعالم لتشير إلى خطر الجماعات الإرهابية وإلى المتشددين الإسلاميين سواء في تونس أو في مصر قبل أن ترفع بوضوح عندما احتلت الثورة السورية مقدمة المشهد، أصابع الاتهام إلى الجماعات الإسلامية، معتبرة أن ما يحدث ليس أكثر من حرب أهلية رغم كل الوقائع التي كانت ولا تزال تكذب هذه التسمية الزائفة.

ولأن ما آلت إليه الحركة الثورية في سورية من تعقيد بدا عسير الفهم والتحليل على الجمهور في الغرب لا بل على معظم من امتهنوا حرفة التحليل السياسي، كان لابد من جهد علمي ومعرفة ميدانية يضعان الوقائع الجارية على الأرض  ضمن بعدها التاريخي والاجتماعي، البعيد والحديث في آن واحد. ذلك على وجه الخصوص منطلق ومآل كتاب جان بيير فيليو الأخير الذي صدر قبل عدة أشهر حاملاً عنوان: الشرق الأوسط الجديد، الشعوب في زمن الثورة السورية.

يعود المؤلف بنا إلى اللحظة التي ابتكرَ فيها أميرالٌ أمريكي مغمور، ألفريد ماهان، مصطلحَ الشرق الأوسط في السنة الثانية من القرن الماضي، لكي يبيّن أهمية الموقع الجغرافي فضلاً عن الدور التاريخي لما يسمّى اليوم بسورية. وسيشير إلى عدد من العلامات التاريخية طبعت هذا البلد بطابعها. مائتا عام من الحروب الصليبية لم تؤديا إلى أيِّ خلط بين المسيحية المحلية والمعتدين الفرنجة. واستمرّت سوريا حرَماً لطوائف مختلفة سواء من مسيحيي الشرق الذين كانوا فيها قبل حكم الأمويين أو تلك التي تفرعت عن الإسلام ولجأت إليها تحت حكم العباسيين. لكن بعض الجروح تركت بعض الأثر أيضاً مثل "اضطهاد المماليك للعلويين فيها والذي بلغ أوجه في مذبحة 1317".

سيبدأ صراع القوى الكبرى على سورية منذ وصول إبراهيم باشا إلى الأناضول وسيطرته على بلاد الشام بأكملها وذلك باستنفار البريطانيين والفرنسيين والروس أنفسهم لتقاسم نفوذٍ أجّله اتفاق بين العثمانيين والمصريين عام 1833 يجلو بموجبه إبراهيم باشا عن الأناضول مقابل الاعتراف به حاكماً لسورية والحجاز وليمهد له من جديد استعادة الباب العالي عام 1840 بموجب اتفاقية لندن هذه المرة السيطرة على ىسورية وارتباط المسيحيين الأرثوذكس بالروس والكاثوليك بالفرنسيين والدروز بالبريطانيين، لابل حتى ارتباط البروتستانت على قلتهم وضعفهم بولاية نيويورك التي رعت افتتاح"الكلية السورية البروتستانتية" التي استحالت فيما بعد "الجامعة الأمريكية في بيروت"!

كان مآل هذا الصراع سورية الحالية، أي هذا البناء الذي صنعته هذه القوى الاستعمارية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى في قلب هذا الشرق الأوسط.  كيان حاول طوال الخمسين عاماً الأولى أن يبحث عن مكانه وعن الدور الذي يمكن أن يكون دوره فيه، سواء خلال نضاله للتحرر من الاستعمار الفرنسي أو عبر سلسلة الانقلابات العسكرية التي تلت الاستقلال ومحاولات الوحدة المتعددة مع العراق أو مع مصر وصولاً إلى الانقلاب الأكبر الذي اتخذ اسماً له: الحركة التصحيحية، قام به ضابط عسكري كان وزيراً للدفاع عندما حدثت هزيمة حزيران عام 1967!

في هذا الانقلاب نما جذر الثورة السورية الحالية. لقد أدرك هذا المتآمر العنيد أن بوسعه من أجل توطيد سلطته المطلقة أن يعمل على أن تتواجد سورية في قلب هذا الشرق الأوسط، من خلال الحيلولة دون أن تظل "لعبة تنافس بين الدول العربية"  والعمل على "تعديل قواعد اللعبة لصالحها".

كان ذلك يتطلب من صاحب الانقلاب، كما يرى ج. ب.  فيليو، استراتيجية محكمة لتثبيت حكمه أولاً ثم العمل على بناء نسق من الحكم حجراً وراء حجر. قامت استراتيجيته على أربع قواعد: التخلص من كافة منافسيه؛ دستور وجبهة وطنية تقدمية؛ حربٌ يمحو بها ذلَّ حرب حزيران؛ السيطرة على لبنان بموافقة عربية علنية (وأمريكية ضمنية!). أما بناءُ عمارة نسق الحكم فقد احتاج إلى سبع سنوات اعتباراً من عام 1974. بناءٌ من خمسة طوابق: تجميد جبهة الجولان؛ إخضاع لبنان؛ دعم الخليج المالي؛ دعم روسيا العسكري؛ التحالف مع إيران. أما الجدران الحاملة فهي: تعدّد المراكز الأمنية (بين 12 و 16) والحيلولة دون نموّ قطب جوهري في السلطة باستثناء رأسها؛ تفريغ السياسة في الداخل السوري أو ما أطلق عليه ميشيل سورا عام 1984: درجة الصفر في السياسة؛ التوافق في المصالح بين إسرائيل والنظام السوري كما تجلى في الخلاص من "الدولة في الدولة" الفلسطينية في لبنان؛ قطع دابر أي معارضة لاتقبل بأولوية حزب البعث وهيمنته، وأخيراً ضمان شرعيته في الداخل اعتماداً على نظرة الخارج(بسمارك العرب "كيسنجر؛ صلاح الدين الجديد "كارتر"؛ إلخ). مع بداية التسعينات أضيفَ طابق آخر: ضمان الولايات المتحدة لنظام الأسد مقابل السلام مع إسرائيل، ذلك لضمان التوريث الذي كان قد انتهى من تثبيت أركانه.

مع وصول بشار الأسد إلى الحكم، بدأ عهد الجمهورية الوراثية، على غرار كوريا الشمالية. ومعه سيتلاشى دور الحزب بالتدريج ليحل الأمن، اعتباراً من عام 2005 ، بأقسامه جميعاً.  

سيقوم الوريث بإدخال لمسة شخصية على المعمار الذي وضعه المورِّث للنظام، تمثلت في إدخاله تركيا منذ تدخله في قضية أوجلان من ناحية وفي تقديم مصلحة النظام على مصلحة الدولة عبر مماهاتهما كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وقد ألقت السرعة التي تم بها القضاء على ربيع دمشق والزج بالمعارضين في السجون من جديد الضوء على التكامل بين البعدين الداخلي والخارجي من أجل إنكار تطلعات الشعب السوري. ذلك ما يفسِّرُ كما يقول المؤلف أن الثورة السورية اندلعت أخيراً من الأسفل لا من النخب المثقفة أو الطلائع السياسية المناضلة وأنها وضعت هدفاً لها لا سقوط النظام فحسب بل تحطيم الوسائل الدولية في الأمن التي أقفلت نسق الأسد وعمارته التي كفلت استمرار نظامه.

سوى أن هذا النسق وهذا المعمار على نجاحهما في اجتياز أشد الأزمات خلال أعوام 1979/1982 ثم 1983/1984 بما في ذلك عام  الخروج من لبنان (2005) سيواجه، اعتباراً من 15 آذار 2011، المشكلة التي سهرَعلى تلافيها، استعادة الداخل للسياسة!

استعيدت السياسة من خلال المواسم التي عاشتها الثورة السورية بدءأً من آذار 2011. وستؤلف هذه المواسم إيقاع كتاب جان بيير فيليو.

حين بدأت الجماهير تتحرك هنا وهناك في العالم العربي، لم يكن الردّ كما يسجل المؤلف موجهاً إلى الداخل بل إلى الخارج: ففي مقابلته الشهيرة مع وول ستريت جورنال قبل شهر ونصف من اندلاع الثورة السورية أمعن الأسد في نفي الواقع عندما عبر عن أن  همَّه ينصبُّ لا على ما إذا كان يمكن لوضع مشابه لما حدث في تونس أوفي مصر ان يحدث في سورية بل إلى أيّ درجة يمكن لهذه "الاضطرابات" أن تؤثر على بلده بطريقة مباشرة أو غير مباشرة! ثم جاء تصريح رامي مخلوف إلى صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 10 أيار 2011 الذي يماهي فيه بين استقرار سورية في استقرار إسرائيل!

يذكر هذان الموقفان بتعليق كارل ماركس وهو يفسر شخصية نابليون الثالث في ضوء نابليون الأول: "تتكرر الشخصيات التاريخية الكبرى مرتين إن جاز القول (...): المرة الأولى بوصفها مأساوية، والثانية بوصفها هزلية!" على أن هذا الهزل كان يصنع المآسي ثم جاء عنف النظام وقسوته غير المسبوقين ليجعلا من الثورة خياراً لارجعة عنه.

ويلاحظ المؤلف أنه على الرغم من أنه بدا واضحاً للجميع أن القاعدة الاجتماعية التي قام عليها حزب البعث كانت في سبيلها إلى أن تحقق انعطافها التاريخي بدءاً من درعا، إلا أن المدن سرعان ما استجابت وبقوة اعتباراً من بداية صيف 2011، صيف المدن كما يسميه المؤلف: فقد ملأت المظاهرات شوارع وساحات حمص، وحماه، ودير الزور، والحسكة، والرقة، واللاذقية. مظاهرات سلمية، تنادي بالكرامة والحرية ورحيل النظام. لكنّ القمع العنيف كان في انتظارها، مثلما كانت عداوة حليفي النظام، روسيا وإيران، دبلوماسياً في البداية ثم بالوسائل كلها، أي بالسلاح وبالرجال. ذلك ما يفسر معنى ما أسرّ به بشار الأسد لمقربيه من أن النظام لا يمكنه الصمود مالم يجعل كل جيل يعيش إرهاب المقتلة التي عاشتها حماه عام 1982.

لن يهمل المؤلف شيئاً من دقائق مسار الثورة. ولاسيما التنسيقيات التي انبثقت عنها أو ظهورالصحافيين غير المحترفين الذين برزت فعاليتهم أمام إغلاق حدود سورية أمام الصحافة العالمية، ثم تأسيس المجلس الوطني الذي سيثير ضروب النزاعات والحروب كلها، من النظام وإعلامه، ثم من تيارات المعارضة ذاتها بمختلف شخصياتها أو تكويناتها. وسيؤرخ لأول استخدام لتعبير "الاحتلال الأسدي" الذي عممته اللجنة العامة للثورة السورية اعتباراً من 12 تشرين أول 2011 أو لاستخدام قناة الجزيرة تعبيري الجيش النظامي والجيش الحر بعد ذلك.  ولن يهمل المؤلف كذلك الإشارة في الوقت نفسه إلى المفارقة التي كان يعمل الأسد على بقائها. صار مثل أبيه زعيم حرب، ولن يهمه أن يكون رئيس عصابة يقودها إلى الثأر الطائفي بقدر ما كان يهمه أن يُعامَل كرئيس دولة.  أكد الواقع المرير نجاحه في ذلك: يمارس ممثلوه في مختلف دول العالم مهامهم والنظام قائمٌ وهو رئيسه.  ذلك ما يجعله يشعر بنفسه حراً تماماً في ممارسة إرهابه دون خوف من أي عقاب.

سيشهد خريف 2011 التحول الأساس في ثورة الشعب السوري بعد أن بدأت الثورة تطالب بالإصلاح (الحرية والكرامة) ها هي تطالب بإسقاط النظام. وأمام العنف الذي مارسته الأجهزة الأمنية وانفضاض أصدقاء النظام المقربين من حوله ولا سيما تركيا وقطر انتقلت المشكلة بين النظام وشعبه إلى الجامعة العربية. لكن الجامعة ومهمة مبعوثيها ستفشل وستنتقل المهمة إلى الأمم المتحدة..

في الوقت نفسه كان المجلس الوطني يتعثر بين متطلبات الداخل الملحة وحاجاته وبين حاجته للحصول على الشرعية الدولية التي تسمح له بمواجهة عنف النظام. سوى أن من أطلقوا على أنفسهم أصدقاء سورية كانوا "أكثر اهتماماً بمناقشة تمثيلية المجلس للقوى المعارضة من مواجهة التحدي الخاص بالتدويل.

أما النظام فسيسعى بكل قواه مستفيداً من تجاربه السابقة في لبنان وفي العراق لكي يجعل مما نشره إعلامه عن الإمارات السلفية في سورية  التي كانت محض خيال واقعاً حياً. فكان دخول القاعدة مع نداء الظواهري وظهور جبهة النصرة وتحرير أبي مصعب السوري الذي اعتقله الأمريكان وسلموه للنظام السوري دافعاً كما يقول المؤلف إلى تراجع "أصدقاء" سورية عن الانخراط في النزاع السوري، مؤكداً بصورة غير مباشرة ما زعمه النظام من أن الحراك الثوري ليس إلا مجرد مؤامرة إرهابية.

ذلك سيدفع رأس النظام وقد عجز عن إسكات الثورة كما فعل أبوه من قبل في حماه  إلى أن يستخلص  أن النزاع سيطول. فكان عليه أن يعيد النظر في استراتيجيته التي ستتبنى مفهوم التوريط، توريط روسيا وإيران، بحيث يتبنيا رؤية الأسد ونظامه للصراع لاسيما وأن كلاً منهما قد واجه ثورة في بلده تشبه الثورة التي يواجهها الأسد ونظامه.

وإذا كان للمجلس الوطني ولمهمة الجامعة العربية وللمجازر خريفها فسيكون للأمم المتحدة ربيعها. لكنه ربيع كالخريف أو أشد وطأة ورعباً. كان شأن النظام كما لاحظ المؤلف مع مهمة كوفي عنان شأنه مع مهمة الفريق الدابي: تحويل المهمة إلى غاية في حد ذاتها دون امتلاكها أية وسيلة تمكنها من تحقيق الغاية التي قُرِّرَت من أجلها. تماماً كما كان شأنه في إنكار الواقع بمناسبة الانتخابات التي دعا الأسد إليها وشأن سلطة الانتداب الفرنسية عام 1926 حين فعلت الأمر نفسه: ففي كلا المناسبتين دارت الانتخابات على جزء من الأراضي ولم تكن مهمتها في حقيقة الأمر إلا تمشيطات مضادة للثورة. كلا السلطتين أدركتا استحالة العودة إلى الوضع السابق على الثورة وكلاهما أعاد الأسباب إلى تدخل القوى الخارجية. ذلك كله جعل من مهمة عنان مثل مهمة الدابي من قبلها ترخيصاً بالقتل امتد شهوراً عديدة ثم تنتهي إلى فشل بلا تحديد للمسؤول!

أما صيف 2012 فسيكون صيف الانعطاف. يسجل المؤلف ما كانت وسائل الإعلام العربية والغربية تسكت عنه وهو غياب التكافؤ في القوى بين النظام وقوى الثورة والمعارضة على الصعيدين العسكري والسياسي معاً. كان النظام يتلقى دعماً غير محدود من روسيا وإيران ينعكس في كل الساحات في الوقت الذي كان فيه أصدقاء سورية ينفخون الحار والبارد على المجلس الوطني محتمين وراء زعم انقسام المعارضة. كان عدد المقاتلين في الجيش الحر صيف 2012 حوالي أربعين ألفاً مقابل 200 ألف مقاتل نظامي بمعداتهم وأسلحتهم الكاملة. وفي حين تلقى النظام خلال سنة كاملة ما قيمته مليار دولار من الأسلحة، لم يتلق الثوار خلال عشرين شهراً أكثر من أربعين مليون دولار.  لم يكن ميزان القوى في صالح الثوار إذن، وربما لهذا السبب كان الروس يتوقعون نجاح الجيش النظامي في القضاء على الثورة.  لكن فزاعة الجهاديين سترفع من الآن فصاعداً من قبل أصدقاء سورية قبل النظام، في حين لم يكن من جاء منهم من الخارج يُعَدّون إلا بالعشرات. وبالمقابل، سيعاني النظام من انقسامات في صفوفه تجلت في الحرب التي دارت بين آل الأسد وآل الخير وكان من نتيجتها اعتقال المعارض عبد العزيز الخير  في 20 أيلول 2012 الذي اتهمت به، كالعادة، الجماعات المسلحة. هذه الانقسامات ستزيد النظام تغولاً وتوحشاً بقصفه مدينة حلب والمدن المحيطة بها بلا حدود.

لقد نجح النظام في عسكرة الثورة السورية التي بقيت سلمية حتى خريف 2011، وفي الاحتفاظ بتمثيل سورية على الصعيد الدولي والدبلوماسي ولا سيما في الأمم المتحدة وفي إغراق سورية كلها في عنف غير مسبوق. لكنه بالمقابل فشل تحقيق كل ما هدد به جيرانه أو من كانوا عوناً في بقائه من دول الخليج مثلما فشل في إخماد الثورة. يدرك النظام تمام الإدراك اليوم استحالة العودة إلى ماقبل آذار 2011. 

يستعيد جان بيير فيليو في نهاية كتابه الدروس العشرة التي تضمنها كتابه السابق عن الانتفاضة الديمقراطية في العالم العربي. سيطالب من يتصدون للحديث عنها بكثير من التواضع نظراً إلى حجم هذه الموجة القادمة من الأعماق. وهي استعادة تتم في ضوء سنة ونصف من عمر الثورة السورية، لن تغيِّرَ من جوهرها شيئاً، لكنها تسجل مصاعب الفهم، ومصاعب التحليل، ومصاعب الولادة.
لكن الشرق الأوسط الجديد سيولد في سوريا وفي سوريا سترتسم ملامحه الجديدة.
 
* نشر هذا المقال في مجلة تواصل، العدد 3 ، تشرين الثاني 2013، ص. : 58 ـ 60.
http://www.syria-nass.com/tawasol/Tawasol3.pdf




 

samedi 2 novembre 2013



طه حسين  
بعد أربعين سنة..*
 

بدرالدين عرودكي





لا يزال طه حسين يخاطبنا اليوم مثلما كان يفعل بالأمس، لكن خطابه  يبدو اليوم أشدَّ ضرورة وأكثر إلحاحاً مما كان عليه في أيِّ وقت مضى.

فهذا الشاب القادم من أعماق صعيد مصر، بعد أن امتلك ناصية الثقافة العربية والتراثية، وقبض على زمام الثقافة الغربية الحديثة بدءاً من جذورها اليونانية وانتهاء بمفاهيمها في العصر الحديث، استطاع أن يعثر على موقع الشرخ في رؤيتنا للعالم، وهو الشرخ الذي كان قد أدّى ولا يزال يؤدي إلى تعثر نهضتنا الفكرية والحضارية في العصر الحديث، فحاول أن يجعلنا نلمسه لمسَ اليد.

لقد فجَّر بكتابه "في الشعر الجاهلي" المنشور في بداية الربع الثاني من القرن الماضي ثورة جذرية سرعان ما  تمَّ إخمادها حتى لا أقول وأدها قبل أن يستفحل خطرها وتنتشر آثارها فى مشرق العالم العربي والإسلامي وفي مغربه.

بدا خطر هذا الثورة واضحاً للجميع في إشارتها إلى هذا الشرخ، وفي استهدافها اليقين المطلق إذ دعت إلى كسره بالشك. كان ذلك يعني رفع الغشاوة عن الأعين، ونفض الغبار الذي تراكم قروناً عن حقيقة يقينيات وثوابت عملت على تعطيل العقل وإشاعة الكسل الفكري قروناً عديدة لشق الطريق إلى العودة نحو بداية البداية من أجل الفهم، ومن أجل التقويم، ومن أجل التعديل، ومن أجل البناء على ما يقتضيه هذا الانتقال من اليقين إلى الشك ومن المطلق إلى النسبي، ومن الأبدي إلى التاريخي.

كانت العودة إلى الشعر الجاهلي هي هذه الثورة، وكانت العودة إلى أبي العلاء المعري لاستعادته هي أيضاً هذه الثورة..

حاول طه حسين أن يلتف على هذا العناد التاريخي كمثقف ملتزم قبل أن يكتب سارتر عن الالتزام، وكمثقف عضوي قبل أن يقوم غرامشي بوضع تعريف له. تقدم كتبه كلها بياناً بهذه الحياة الحافلة، وفي مقدمتها، بصدد ما أشير إليه هنا، كتاب : مستقبل الثقافة في مصر.

وقفت سلطات اليقين مثلما وقف حرّاس المطلق جميعاً في وجهه. لا في مصر وحدها، بل في أرجاء العالم العربي كله. وصار دأبهم الحدّ من تأثيره ومقاومته بسلاح مطلقهم الدائم والثابت، معتمدين على جمهور لم تتح له فرصة العلم والمعرفة ولا يزال في غالبيته العظمى غارقاً ومُغرَقاً في الأمية والفقر بل والعوز.  

أدرك طه حسين مواطن الخلل فحاول. لكن محاولته لا تزال بحاجة لمن يتابعها وفي كل الميادين، بدءاً بالتعليم، وليس انتهاءاً بالفكر وبالإبداع..

 

* بمناسبة الذكرى الأربعين لرحيل طه حسين، نشرت هذه الكلمة في إطار تحقيق صحفي عن تراثه قام به الشاعر والصحفي سيد محمود ونشر في صحيفة الأهرام العربي بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2013