jeudi 28 novembre 2013


الشرق الأوسط الجديد

 الشعوب في زمن الثورة السورية*

 

بدرالدين عرودكي

 


 
                                                                                                                                                
لم يكن جان بيير فيليو بحاجة إلى المراجع بقدر حاجته إلى الوثائق كي يكتب عن الحراك الثوري الذي بدأ انفجاره  في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه  خلال الأشهر الأخيرة من عام 2010. فقد عرفَ العالم العربي عن كثب أولاً من خلال رحلاته الدراسية التي لم تتوقف عند دراسة اللغة العربية بل تجاوزتها إلى تاريخ المنطقة الاجتماعي والسياسي والثقافي. وعرف بلاد الشام خصوصاً من خلال رحلات عديدة ولاسيما إقامته في الأردن أولاً ثم في سوريا بعد ذلك عدداً من السنوات بوصفه دبلوماسياً في سفارة فرنسا بعمان ثم بدمشق، مثلما عرف من بعد المغرب العربي حين عمل أيضاً في سفارة بلده بتونس. ذلك كله من أجل إغناء تجربته كاتباً ومفكراً سياسياً قبل أن يستقرّ أستاذاً في معهد العلوم السياسية بباريس وأستاذاً زائراً في العديد من جامعات أوربا وأمريكا. على أنَّ ما يقوله أو ما يكتبه في هذه الظروف، وفي الظروف التي تعيشها الثورة السورية، في الندوات أو في البرامج الإذاعية والتلفزيونية حول ما يجري في العالم العربي يكتسب بعداً شديد الأهمية، لا لأنه واحدٌ من ألمع أبناء جيله في مجال اختصاصه فحسب بل لأنه ينتمي إلى تيار سياسيٍّ يساري عجز أغلب المثقفين فيه في فهمهم للحراك الثوري العربي وفي كتاباتهم حوله عن تجاوز قوالب فكرية عفى عليها الزمن أو عن إدراك الدلالات التاريخية العميقة لما يجري تحت أعينهم وعلى حدود قارّتهم الجنوبية تحديداً.

هل ما يحدث في العالم العربي ثورة؟ أم هي طفرات احتجاج؟ أم حركات تمرد؟ لم يتردد جان بيير فيليو، منذ البداية، في أن يسمي الأشياء بأسمائها بدلاً من التلاعب بالألفاظ الذي كان ديدن سواه ممن يتقدمون الصفوف دوماً بوصفهم مختصين بالعالم العربي.

ما يحدث هو ثورة. وهي، على وجه الدقة، ثورة من أجل  الديمقراطية.

وكان كتابه الأول الذي صدر بباريس بعد أقل من تسعة أشهر على بدء الحراك الثوري في تونس يحمل عنوان: الثورة العربية: عشرة دروس حول الانتفاضة الديمقراطية الذي أهداه، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، إلى كلٍّ من سمير قصير وعمر أميرالاي اللذين كانا، على غياب الأول اغتيالاً ببيروت يوم 2 حزيران عام 2005 ورحيل الثاني بدمشق في 5 شباط عام 2011، من أوائل المبشرين بهذه الثورة العربية القائمة الآن في أرجاء العالم العربي وفي سورية خصوصاً.

وعلى أن جان بيير فيليو وضع يده في هذا الكتاب على المعالم الرئيسة لهذه الثورة الجديدة في العالم العربي، إلا أن معظم التعليقات على الكتاب تلافت الحديث عن هذه المميزات أو المعالم لتشير إلى خطر الجماعات الإرهابية وإلى المتشددين الإسلاميين سواء في تونس أو في مصر قبل أن ترفع بوضوح عندما احتلت الثورة السورية مقدمة المشهد، أصابع الاتهام إلى الجماعات الإسلامية، معتبرة أن ما يحدث ليس أكثر من حرب أهلية رغم كل الوقائع التي كانت ولا تزال تكذب هذه التسمية الزائفة.

ولأن ما آلت إليه الحركة الثورية في سورية من تعقيد بدا عسير الفهم والتحليل على الجمهور في الغرب لا بل على معظم من امتهنوا حرفة التحليل السياسي، كان لابد من جهد علمي ومعرفة ميدانية يضعان الوقائع الجارية على الأرض  ضمن بعدها التاريخي والاجتماعي، البعيد والحديث في آن واحد. ذلك على وجه الخصوص منطلق ومآل كتاب جان بيير فيليو الأخير الذي صدر قبل عدة أشهر حاملاً عنوان: الشرق الأوسط الجديد، الشعوب في زمن الثورة السورية.

يعود المؤلف بنا إلى اللحظة التي ابتكرَ فيها أميرالٌ أمريكي مغمور، ألفريد ماهان، مصطلحَ الشرق الأوسط في السنة الثانية من القرن الماضي، لكي يبيّن أهمية الموقع الجغرافي فضلاً عن الدور التاريخي لما يسمّى اليوم بسورية. وسيشير إلى عدد من العلامات التاريخية طبعت هذا البلد بطابعها. مائتا عام من الحروب الصليبية لم تؤديا إلى أيِّ خلط بين المسيحية المحلية والمعتدين الفرنجة. واستمرّت سوريا حرَماً لطوائف مختلفة سواء من مسيحيي الشرق الذين كانوا فيها قبل حكم الأمويين أو تلك التي تفرعت عن الإسلام ولجأت إليها تحت حكم العباسيين. لكن بعض الجروح تركت بعض الأثر أيضاً مثل "اضطهاد المماليك للعلويين فيها والذي بلغ أوجه في مذبحة 1317".

سيبدأ صراع القوى الكبرى على سورية منذ وصول إبراهيم باشا إلى الأناضول وسيطرته على بلاد الشام بأكملها وذلك باستنفار البريطانيين والفرنسيين والروس أنفسهم لتقاسم نفوذٍ أجّله اتفاق بين العثمانيين والمصريين عام 1833 يجلو بموجبه إبراهيم باشا عن الأناضول مقابل الاعتراف به حاكماً لسورية والحجاز وليمهد له من جديد استعادة الباب العالي عام 1840 بموجب اتفاقية لندن هذه المرة السيطرة على ىسورية وارتباط المسيحيين الأرثوذكس بالروس والكاثوليك بالفرنسيين والدروز بالبريطانيين، لابل حتى ارتباط البروتستانت على قلتهم وضعفهم بولاية نيويورك التي رعت افتتاح"الكلية السورية البروتستانتية" التي استحالت فيما بعد "الجامعة الأمريكية في بيروت"!

كان مآل هذا الصراع سورية الحالية، أي هذا البناء الذي صنعته هذه القوى الاستعمارية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى في قلب هذا الشرق الأوسط.  كيان حاول طوال الخمسين عاماً الأولى أن يبحث عن مكانه وعن الدور الذي يمكن أن يكون دوره فيه، سواء خلال نضاله للتحرر من الاستعمار الفرنسي أو عبر سلسلة الانقلابات العسكرية التي تلت الاستقلال ومحاولات الوحدة المتعددة مع العراق أو مع مصر وصولاً إلى الانقلاب الأكبر الذي اتخذ اسماً له: الحركة التصحيحية، قام به ضابط عسكري كان وزيراً للدفاع عندما حدثت هزيمة حزيران عام 1967!

في هذا الانقلاب نما جذر الثورة السورية الحالية. لقد أدرك هذا المتآمر العنيد أن بوسعه من أجل توطيد سلطته المطلقة أن يعمل على أن تتواجد سورية في قلب هذا الشرق الأوسط، من خلال الحيلولة دون أن تظل "لعبة تنافس بين الدول العربية"  والعمل على "تعديل قواعد اللعبة لصالحها".

كان ذلك يتطلب من صاحب الانقلاب، كما يرى ج. ب.  فيليو، استراتيجية محكمة لتثبيت حكمه أولاً ثم العمل على بناء نسق من الحكم حجراً وراء حجر. قامت استراتيجيته على أربع قواعد: التخلص من كافة منافسيه؛ دستور وجبهة وطنية تقدمية؛ حربٌ يمحو بها ذلَّ حرب حزيران؛ السيطرة على لبنان بموافقة عربية علنية (وأمريكية ضمنية!). أما بناءُ عمارة نسق الحكم فقد احتاج إلى سبع سنوات اعتباراً من عام 1974. بناءٌ من خمسة طوابق: تجميد جبهة الجولان؛ إخضاع لبنان؛ دعم الخليج المالي؛ دعم روسيا العسكري؛ التحالف مع إيران. أما الجدران الحاملة فهي: تعدّد المراكز الأمنية (بين 12 و 16) والحيلولة دون نموّ قطب جوهري في السلطة باستثناء رأسها؛ تفريغ السياسة في الداخل السوري أو ما أطلق عليه ميشيل سورا عام 1984: درجة الصفر في السياسة؛ التوافق في المصالح بين إسرائيل والنظام السوري كما تجلى في الخلاص من "الدولة في الدولة" الفلسطينية في لبنان؛ قطع دابر أي معارضة لاتقبل بأولوية حزب البعث وهيمنته، وأخيراً ضمان شرعيته في الداخل اعتماداً على نظرة الخارج(بسمارك العرب "كيسنجر؛ صلاح الدين الجديد "كارتر"؛ إلخ). مع بداية التسعينات أضيفَ طابق آخر: ضمان الولايات المتحدة لنظام الأسد مقابل السلام مع إسرائيل، ذلك لضمان التوريث الذي كان قد انتهى من تثبيت أركانه.

مع وصول بشار الأسد إلى الحكم، بدأ عهد الجمهورية الوراثية، على غرار كوريا الشمالية. ومعه سيتلاشى دور الحزب بالتدريج ليحل الأمن، اعتباراً من عام 2005 ، بأقسامه جميعاً.  

سيقوم الوريث بإدخال لمسة شخصية على المعمار الذي وضعه المورِّث للنظام، تمثلت في إدخاله تركيا منذ تدخله في قضية أوجلان من ناحية وفي تقديم مصلحة النظام على مصلحة الدولة عبر مماهاتهما كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وقد ألقت السرعة التي تم بها القضاء على ربيع دمشق والزج بالمعارضين في السجون من جديد الضوء على التكامل بين البعدين الداخلي والخارجي من أجل إنكار تطلعات الشعب السوري. ذلك ما يفسِّرُ كما يقول المؤلف أن الثورة السورية اندلعت أخيراً من الأسفل لا من النخب المثقفة أو الطلائع السياسية المناضلة وأنها وضعت هدفاً لها لا سقوط النظام فحسب بل تحطيم الوسائل الدولية في الأمن التي أقفلت نسق الأسد وعمارته التي كفلت استمرار نظامه.

سوى أن هذا النسق وهذا المعمار على نجاحهما في اجتياز أشد الأزمات خلال أعوام 1979/1982 ثم 1983/1984 بما في ذلك عام  الخروج من لبنان (2005) سيواجه، اعتباراً من 15 آذار 2011، المشكلة التي سهرَعلى تلافيها، استعادة الداخل للسياسة!

استعيدت السياسة من خلال المواسم التي عاشتها الثورة السورية بدءأً من آذار 2011. وستؤلف هذه المواسم إيقاع كتاب جان بيير فيليو.

حين بدأت الجماهير تتحرك هنا وهناك في العالم العربي، لم يكن الردّ كما يسجل المؤلف موجهاً إلى الداخل بل إلى الخارج: ففي مقابلته الشهيرة مع وول ستريت جورنال قبل شهر ونصف من اندلاع الثورة السورية أمعن الأسد في نفي الواقع عندما عبر عن أن  همَّه ينصبُّ لا على ما إذا كان يمكن لوضع مشابه لما حدث في تونس أوفي مصر ان يحدث في سورية بل إلى أيّ درجة يمكن لهذه "الاضطرابات" أن تؤثر على بلده بطريقة مباشرة أو غير مباشرة! ثم جاء تصريح رامي مخلوف إلى صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 10 أيار 2011 الذي يماهي فيه بين استقرار سورية في استقرار إسرائيل!

يذكر هذان الموقفان بتعليق كارل ماركس وهو يفسر شخصية نابليون الثالث في ضوء نابليون الأول: "تتكرر الشخصيات التاريخية الكبرى مرتين إن جاز القول (...): المرة الأولى بوصفها مأساوية، والثانية بوصفها هزلية!" على أن هذا الهزل كان يصنع المآسي ثم جاء عنف النظام وقسوته غير المسبوقين ليجعلا من الثورة خياراً لارجعة عنه.

ويلاحظ المؤلف أنه على الرغم من أنه بدا واضحاً للجميع أن القاعدة الاجتماعية التي قام عليها حزب البعث كانت في سبيلها إلى أن تحقق انعطافها التاريخي بدءاً من درعا، إلا أن المدن سرعان ما استجابت وبقوة اعتباراً من بداية صيف 2011، صيف المدن كما يسميه المؤلف: فقد ملأت المظاهرات شوارع وساحات حمص، وحماه، ودير الزور، والحسكة، والرقة، واللاذقية. مظاهرات سلمية، تنادي بالكرامة والحرية ورحيل النظام. لكنّ القمع العنيف كان في انتظارها، مثلما كانت عداوة حليفي النظام، روسيا وإيران، دبلوماسياً في البداية ثم بالوسائل كلها، أي بالسلاح وبالرجال. ذلك ما يفسر معنى ما أسرّ به بشار الأسد لمقربيه من أن النظام لا يمكنه الصمود مالم يجعل كل جيل يعيش إرهاب المقتلة التي عاشتها حماه عام 1982.

لن يهمل المؤلف شيئاً من دقائق مسار الثورة. ولاسيما التنسيقيات التي انبثقت عنها أو ظهورالصحافيين غير المحترفين الذين برزت فعاليتهم أمام إغلاق حدود سورية أمام الصحافة العالمية، ثم تأسيس المجلس الوطني الذي سيثير ضروب النزاعات والحروب كلها، من النظام وإعلامه، ثم من تيارات المعارضة ذاتها بمختلف شخصياتها أو تكويناتها. وسيؤرخ لأول استخدام لتعبير "الاحتلال الأسدي" الذي عممته اللجنة العامة للثورة السورية اعتباراً من 12 تشرين أول 2011 أو لاستخدام قناة الجزيرة تعبيري الجيش النظامي والجيش الحر بعد ذلك.  ولن يهمل المؤلف كذلك الإشارة في الوقت نفسه إلى المفارقة التي كان يعمل الأسد على بقائها. صار مثل أبيه زعيم حرب، ولن يهمه أن يكون رئيس عصابة يقودها إلى الثأر الطائفي بقدر ما كان يهمه أن يُعامَل كرئيس دولة.  أكد الواقع المرير نجاحه في ذلك: يمارس ممثلوه في مختلف دول العالم مهامهم والنظام قائمٌ وهو رئيسه.  ذلك ما يجعله يشعر بنفسه حراً تماماً في ممارسة إرهابه دون خوف من أي عقاب.

سيشهد خريف 2011 التحول الأساس في ثورة الشعب السوري بعد أن بدأت الثورة تطالب بالإصلاح (الحرية والكرامة) ها هي تطالب بإسقاط النظام. وأمام العنف الذي مارسته الأجهزة الأمنية وانفضاض أصدقاء النظام المقربين من حوله ولا سيما تركيا وقطر انتقلت المشكلة بين النظام وشعبه إلى الجامعة العربية. لكن الجامعة ومهمة مبعوثيها ستفشل وستنتقل المهمة إلى الأمم المتحدة..

في الوقت نفسه كان المجلس الوطني يتعثر بين متطلبات الداخل الملحة وحاجاته وبين حاجته للحصول على الشرعية الدولية التي تسمح له بمواجهة عنف النظام. سوى أن من أطلقوا على أنفسهم أصدقاء سورية كانوا "أكثر اهتماماً بمناقشة تمثيلية المجلس للقوى المعارضة من مواجهة التحدي الخاص بالتدويل.

أما النظام فسيسعى بكل قواه مستفيداً من تجاربه السابقة في لبنان وفي العراق لكي يجعل مما نشره إعلامه عن الإمارات السلفية في سورية  التي كانت محض خيال واقعاً حياً. فكان دخول القاعدة مع نداء الظواهري وظهور جبهة النصرة وتحرير أبي مصعب السوري الذي اعتقله الأمريكان وسلموه للنظام السوري دافعاً كما يقول المؤلف إلى تراجع "أصدقاء" سورية عن الانخراط في النزاع السوري، مؤكداً بصورة غير مباشرة ما زعمه النظام من أن الحراك الثوري ليس إلا مجرد مؤامرة إرهابية.

ذلك سيدفع رأس النظام وقد عجز عن إسكات الثورة كما فعل أبوه من قبل في حماه  إلى أن يستخلص  أن النزاع سيطول. فكان عليه أن يعيد النظر في استراتيجيته التي ستتبنى مفهوم التوريط، توريط روسيا وإيران، بحيث يتبنيا رؤية الأسد ونظامه للصراع لاسيما وأن كلاً منهما قد واجه ثورة في بلده تشبه الثورة التي يواجهها الأسد ونظامه.

وإذا كان للمجلس الوطني ولمهمة الجامعة العربية وللمجازر خريفها فسيكون للأمم المتحدة ربيعها. لكنه ربيع كالخريف أو أشد وطأة ورعباً. كان شأن النظام كما لاحظ المؤلف مع مهمة كوفي عنان شأنه مع مهمة الفريق الدابي: تحويل المهمة إلى غاية في حد ذاتها دون امتلاكها أية وسيلة تمكنها من تحقيق الغاية التي قُرِّرَت من أجلها. تماماً كما كان شأنه في إنكار الواقع بمناسبة الانتخابات التي دعا الأسد إليها وشأن سلطة الانتداب الفرنسية عام 1926 حين فعلت الأمر نفسه: ففي كلا المناسبتين دارت الانتخابات على جزء من الأراضي ولم تكن مهمتها في حقيقة الأمر إلا تمشيطات مضادة للثورة. كلا السلطتين أدركتا استحالة العودة إلى الوضع السابق على الثورة وكلاهما أعاد الأسباب إلى تدخل القوى الخارجية. ذلك كله جعل من مهمة عنان مثل مهمة الدابي من قبلها ترخيصاً بالقتل امتد شهوراً عديدة ثم تنتهي إلى فشل بلا تحديد للمسؤول!

أما صيف 2012 فسيكون صيف الانعطاف. يسجل المؤلف ما كانت وسائل الإعلام العربية والغربية تسكت عنه وهو غياب التكافؤ في القوى بين النظام وقوى الثورة والمعارضة على الصعيدين العسكري والسياسي معاً. كان النظام يتلقى دعماً غير محدود من روسيا وإيران ينعكس في كل الساحات في الوقت الذي كان فيه أصدقاء سورية ينفخون الحار والبارد على المجلس الوطني محتمين وراء زعم انقسام المعارضة. كان عدد المقاتلين في الجيش الحر صيف 2012 حوالي أربعين ألفاً مقابل 200 ألف مقاتل نظامي بمعداتهم وأسلحتهم الكاملة. وفي حين تلقى النظام خلال سنة كاملة ما قيمته مليار دولار من الأسلحة، لم يتلق الثوار خلال عشرين شهراً أكثر من أربعين مليون دولار.  لم يكن ميزان القوى في صالح الثوار إذن، وربما لهذا السبب كان الروس يتوقعون نجاح الجيش النظامي في القضاء على الثورة.  لكن فزاعة الجهاديين سترفع من الآن فصاعداً من قبل أصدقاء سورية قبل النظام، في حين لم يكن من جاء منهم من الخارج يُعَدّون إلا بالعشرات. وبالمقابل، سيعاني النظام من انقسامات في صفوفه تجلت في الحرب التي دارت بين آل الأسد وآل الخير وكان من نتيجتها اعتقال المعارض عبد العزيز الخير  في 20 أيلول 2012 الذي اتهمت به، كالعادة، الجماعات المسلحة. هذه الانقسامات ستزيد النظام تغولاً وتوحشاً بقصفه مدينة حلب والمدن المحيطة بها بلا حدود.

لقد نجح النظام في عسكرة الثورة السورية التي بقيت سلمية حتى خريف 2011، وفي الاحتفاظ بتمثيل سورية على الصعيد الدولي والدبلوماسي ولا سيما في الأمم المتحدة وفي إغراق سورية كلها في عنف غير مسبوق. لكنه بالمقابل فشل تحقيق كل ما هدد به جيرانه أو من كانوا عوناً في بقائه من دول الخليج مثلما فشل في إخماد الثورة. يدرك النظام تمام الإدراك اليوم استحالة العودة إلى ماقبل آذار 2011. 

يستعيد جان بيير فيليو في نهاية كتابه الدروس العشرة التي تضمنها كتابه السابق عن الانتفاضة الديمقراطية في العالم العربي. سيطالب من يتصدون للحديث عنها بكثير من التواضع نظراً إلى حجم هذه الموجة القادمة من الأعماق. وهي استعادة تتم في ضوء سنة ونصف من عمر الثورة السورية، لن تغيِّرَ من جوهرها شيئاً، لكنها تسجل مصاعب الفهم، ومصاعب التحليل، ومصاعب الولادة.
لكن الشرق الأوسط الجديد سيولد في سوريا وفي سوريا سترتسم ملامحه الجديدة.
 
* نشر هذا المقال في مجلة تواصل، العدد 3 ، تشرين الثاني 2013، ص. : 58 ـ 60.
http://www.syria-nass.com/tawasol/Tawasol3.pdf




 

samedi 2 novembre 2013



طه حسين  
بعد أربعين سنة..*
 

بدرالدين عرودكي





لا يزال طه حسين يخاطبنا اليوم مثلما كان يفعل بالأمس، لكن خطابه  يبدو اليوم أشدَّ ضرورة وأكثر إلحاحاً مما كان عليه في أيِّ وقت مضى.

فهذا الشاب القادم من أعماق صعيد مصر، بعد أن امتلك ناصية الثقافة العربية والتراثية، وقبض على زمام الثقافة الغربية الحديثة بدءاً من جذورها اليونانية وانتهاء بمفاهيمها في العصر الحديث، استطاع أن يعثر على موقع الشرخ في رؤيتنا للعالم، وهو الشرخ الذي كان قد أدّى ولا يزال يؤدي إلى تعثر نهضتنا الفكرية والحضارية في العصر الحديث، فحاول أن يجعلنا نلمسه لمسَ اليد.

لقد فجَّر بكتابه "في الشعر الجاهلي" المنشور في بداية الربع الثاني من القرن الماضي ثورة جذرية سرعان ما  تمَّ إخمادها حتى لا أقول وأدها قبل أن يستفحل خطرها وتنتشر آثارها فى مشرق العالم العربي والإسلامي وفي مغربه.

بدا خطر هذا الثورة واضحاً للجميع في إشارتها إلى هذا الشرخ، وفي استهدافها اليقين المطلق إذ دعت إلى كسره بالشك. كان ذلك يعني رفع الغشاوة عن الأعين، ونفض الغبار الذي تراكم قروناً عن حقيقة يقينيات وثوابت عملت على تعطيل العقل وإشاعة الكسل الفكري قروناً عديدة لشق الطريق إلى العودة نحو بداية البداية من أجل الفهم، ومن أجل التقويم، ومن أجل التعديل، ومن أجل البناء على ما يقتضيه هذا الانتقال من اليقين إلى الشك ومن المطلق إلى النسبي، ومن الأبدي إلى التاريخي.

كانت العودة إلى الشعر الجاهلي هي هذه الثورة، وكانت العودة إلى أبي العلاء المعري لاستعادته هي أيضاً هذه الثورة..

حاول طه حسين أن يلتف على هذا العناد التاريخي كمثقف ملتزم قبل أن يكتب سارتر عن الالتزام، وكمثقف عضوي قبل أن يقوم غرامشي بوضع تعريف له. تقدم كتبه كلها بياناً بهذه الحياة الحافلة، وفي مقدمتها، بصدد ما أشير إليه هنا، كتاب : مستقبل الثقافة في مصر.

وقفت سلطات اليقين مثلما وقف حرّاس المطلق جميعاً في وجهه. لا في مصر وحدها، بل في أرجاء العالم العربي كله. وصار دأبهم الحدّ من تأثيره ومقاومته بسلاح مطلقهم الدائم والثابت، معتمدين على جمهور لم تتح له فرصة العلم والمعرفة ولا يزال في غالبيته العظمى غارقاً ومُغرَقاً في الأمية والفقر بل والعوز.  

أدرك طه حسين مواطن الخلل فحاول. لكن محاولته لا تزال بحاجة لمن يتابعها وفي كل الميادين، بدءاً بالتعليم، وليس انتهاءاً بالفكر وبالإبداع..

 

* بمناسبة الذكرى الأربعين لرحيل طه حسين، نشرت هذه الكلمة في إطار تحقيق صحفي عن تراثه قام به الشاعر والصحفي سيد محمود ونشر في صحيفة الأهرام العربي بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2013


 

 
 
 

 

lundi 30 septembre 2013



ثلاث نوافذ تطلُّ على حمص

 نبلاء فرنسيون يشهدون المأساة السورية

 


بدرالدين عرودكي




ثلاثة كتب، أولهما لصحفي أمريكي / فرنسي، جوناثان ليتيل، دفاتر حمص؛ وثانيهما لصحفية فرنسية، إديث بوفييه، غرفة مع إطلالة على الحرب، صدرا على غير ميعاد في شهر أيار/مايو 2012، وثالثهما لصحفية فرنسية، كارولين بوارون: اغتيال عاجل، كتبته بالتعاون مع الصحفييْن سيد أحمد حموش وباتريك فاليليان، عن زوجها المصور والصحفي الفرنسي جيل جاكييه الذي قتل في حمص يوم 11 كانون الثاني 2012، وصدر في أيار 2013، أي بعد سنة من الكتابيْن الأولييْن. ثلاثة كتب اتخذت على غير اتفاق مسبق موضوعاً واحداً: الحرب التي يشنها النظام السوري على شعبه، ومكاناً واحداً: مدينة حمص، أيقونة مدن الثورة السورية.

وفي الوقت الذي وصل مؤلفا الكتابين الأوليين مع زملائهما من الصحفيين الآخرين إلى حمص سرّاً بمساعدة الثوار الذين أشرفوا على نقلهم وإقامتهم ومعاونتهم على القيام بما أتوا من أجله وسهروا على راحتهم وبذلوا المستحيل بما في ذلك التضحية بأنفسهم كي يغادروا سورية سالمين، كان حضور جيل جاكيه بصحبة زوجته وصحفيين آخرين قد تمَّ بمعرفة حكومة النظام السوري وموافقتها المسبقة.

**  **  **

تهدي إديث بوفييه كتابها  إلى عددٍ مِمَّن تحب. ومن بينهم: "إلى السوريين الذين حملوني على ظهورهم، أو بين أذرعهم، أو الذين  بأياديهم الموضوعة على جبيني، أعادوا لي القوة كي أؤمن به وأن أناضل".

الإيمان بعملها كصحفية بالطبع:

"لم يضع أحد البندقية على صدغي كي يرغمني على الذهاب إلى سورية. ولم يمنحني أحدٌ حقائب ملأى بالأوراق النقدية. إنه خيارٌ واع، نضج خلال زمن طويل. لا شيء من الجنون فيه، لا شيء من الغرابة".

لم تكن وحدها في هذا الوعي الناضج بما تفعل. وبما أنها لم تكن وحدها في سورية، تنتقل من ضمير المفرد إلى ضمير الجمع: "نعرف أين نضع أقدامنا. لكننا نفعل كما لو أنه لم يكن ثمة شيء، كما لو أننا لا نسمع القنابل التي كانت تدوّي. نمزح، نلعب، كي نتجنب القدر. كان لابد من الذهاب إلى هناك. لأن الصراع قليل التغطية في الصحافة. لأنه يجب الحديث عما يجري فيها. لأن تلك هي مهنتنا.

"طبيعي أننا نخاف، وأننا على وعي بالمخاطر، لكن الرغبة في الفهم، في رؤية الحرب عن كثب، في أشدِّ مظاهرها رعباً، كانت أقوى."

لم تكن وحدها إذن. حضرت مع المصور وليام دانييل الفرنسي، والصحافيين البريطاني بول كورنوا والإسباني خافييه إسبينوزا. كانوا على موعد مع الصحفي الفرنسي ريمي أوشليك في بيروت قبل أن ينطلق هذا الأخير قبلهم بيوم إلى حمص، وإلى بابا عمرو تحديداً، ثم يلحقوا به في اليوم التالي إلى المكان نفسه. كانوا جميعاً على موعد مع شبابٍ من الجيش الحر يتكفلون بنقلهم ذهاباً وإياباً ومرافقتهم خلال إقامتهم. أمرٌ لابد منه. فالنظام يحول بكل الوسائل دون حضور رجال الصحافة والإعلام إلى سورية إلا بشروطه وتحت رقابته. وليس الأمر كذلك مع الجيش الحر.

ثلاثة أيام مضت على وصولهم كانوا خلالها يزورون المدينة والحيّ على إيقاع القصف المتواصل، وتحت الحصار الذي فرضه جيش النظام على حيِّ بابا عمرو. كان عليهم كي يصلوا إل قلب الحيّ أن يعبروا نفقاً يمتد على ثلاث كيلومترات عرضه متر واحد وارتفاعه 60 ر1 متر. لكن الأمر لم يجر كما كان الجميع يتوقعون. ثلاثة أيام قبل أن يحدث ما كانوا يحسبون حسابه ويتلافون التفكير فيه. اليوم 22 شباط/فبراير. الساعة الثامنة صباحاً. انفجارٌ عاصف يمسّ المركز الإعلامي حيث كانوا جميعاً فينقلب المكان والفضاء غباراً كثيفاً كان يكشف مع تلاشيه عن هول الكارثة: جسدان لامرأة ورجل: ماري كولفان الصحفية الأمريكية، وريمي اوشليك، الصحفي الفرنسي. تراهما إديث وهي محمولة على ذراعي صديقها وليام دانييل لإسعافها بعد اكتشافهما أن الدم كان يفور من ساقها المنتفخة بغزارة. ثوانٍ من التردد قبل خروجها حالت دون سقوطها إلى جانبهما، مثلهما.

في المستشفى الميداني الذي نقلت إليه عرفت الأمر: كسرٌ في ساقها بفعل الانفجار تستحيل معالجته محلياً. لا بد من نقلها إلى بيروت وبأسرع وقت ممكن. هكذا تكتب القصة من جديد. لا قصة الشعب الذي يستميت في الدفاع عن حريته فحسب، بل قصة هؤلاء الشباب الذي يستميتون من أجل تأمين عودة الصحفيين إلى لبنان قبل الانقضاض المنتظر على حي بابا عمرو حيث كانوا.

وهي تطل يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، خلال عشرة أيام، من نافذة الغرفة التي تنتظر فيها بحيِّ بابا عمرو المُحاصر على الحرب الدائرة ليل نهار، كانت تراقب وتنتظر وتخاف وتأمل مستعيدة أياماً أخرى في بلاد أخرى قريبة، تعيش مآس شبيهة، راوية في الوقت نفسه محاولات الشباب الساهر عليها كي يخرجوها ورفاقها آمنين وبأسرع وقت ممكن، بينما يقومون بتأمين نقل التموين والأدوية والجرحى من الحي وإليه، تزيد قناعتها رسوخاً  بجدارة ما تعمله، لا بل بضرورته المطلقة. تلك هي مهنتها وهكذا تكون.

سيُضَحّي عددٌ من الشباب السوري في الجيش الحرّ بحياته كي ينقذها ورفاقها،  وستصل إلى برّ الأمان وستعود إلى باريس لتحتفل وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية بها  وحدها دون الاهتمام بالمكان الذي أصيبت فيه، لكنها في كل مرة كانت ترفض الحديث عن نفسها لتقول بصراحة: إنما جئت هنا لأتحدث عن سورية وعن نضال شعبها من أجل الحرية..لتجعل من الثوار الشباب ونضالهم فحوى كلِّ حديث أو حوار.

كأنما جاءت إديث بوفييه، من حيث لا تدري، لكي تبرئ، من دون أن تقصد أيضاً، الثوار من دم جيل جاكييه. فقبل مجيئها ورفاقها بنيّف وشهر، أي في مطلع شهر كانون الثاني/يناير2012، وصل جيل جاكيه،  الصحفي الفرنسي، بصحبة زوجته كارولين بوارون، الصحفية أيضاً، وعدد من الصحفيين الآخرين، بصورة رسمية إلى دمشق. أي بموافقة السلطات الرسمية في النظام السوري. أي الأمن السياسي. كان جيل جاكيه يتطلع إلى لقاء بشار الأسد، ورامي مخلوف، بل وكذلك مناف طلاس، مثلما كان يروم زيارة المدينة التي انطلقت منها شرارة الثورة، درعا. ظنَّ، وقد زينت له مَنْ سهّلت له مهمته، أن بوسعه تحقيق ذلك. لكنه يُفاجأ وقد وصل دمشق، أن عليه الذهاب إلى حمص، وأنه لا خيار له في القبول أو الرفض. يُقال له: "إما حمص أو الرحيل!". يُرسَلُ إلى قدره. يُرسل لكي يُحال بينه وبين أن يكتب شيئاً عما كان قد رآه أو سيراه، هو الصحفي المتمرس في مناطق الأزمات والحروب والمآسي. سيلقى حتفه جراء قصف شبه منتظر، شبه مُخطط له في الزمان وفي المكان. سيُتهم الثوار بقتله، على الرغم من أنه قتل في منطقة محمية من جيش النظام. لكن زوجته كانت هنا، شاهدة على مقتله وعلى كيفية مقتله. لكن زملاءه كانوا هنا أيضاً شهوداً على مقتله وعلى كيفية مقتله. ومن حيث لا يحتسب من قتلوه تحوّل الكتاب إلى مهمة تحقيق يقوم بها صحفيون حرفيون يستوون مع المحققين القضائيين إن لم يكونوا أشد بلاء في هذا المجال منهم. ككتاب إديث بوفييه، استحال الموضوع إلى تسليط الأضواء كلها على النظام، وعلى ممارساته، وعلى تكتيكاته، وعلى جرائمه خصوصاً.

هكذا يقودنا الكتاب إلى الإجابة عن تساؤلات كانت تبدو للوهلة الأولى بلا جواب أو تكاد.  كيف حدث أن قبل النظام استقبال صحفيين غربيين ينتمون إلى دول غير صديقة فجأة؟ كيف زيّنَ لهم قبل وصولهم أن بوسعهم أن يتحركوا كيف يشاؤون كما يشاؤون ليكتشفوا إبان وصولهم أن ثمة برنامج مُعَدٌّ لهم طوال فترة إقامتهم؟

نكتشف شيئاً فشيئاً عناصر الإجابة كما لو كانت عناصر لغز تتكشف أمام أعيننا. كان المراقبون الذين أرسلتهم جامعة الدول العربية بقيادة الفريق الدابي هناك. وكان النظام يريد أن يبرهن على ضلال ما يقال عنه حول رفضه تواجد الصحافة الحرة في سورية. ها هو يبرهن لمن يريد أن يرى أن صحفيين أوربيين، بل ومن دول معادية كفرنسا، يتواجدون في سورية ويعملون بمعرفة وموافقة حكومة النظام. بعض بنود البرنامج المعدِّ سلفاً لجيل جاكيه ورفاقه تكشف الأمر. إذ فجأة يجد نفسه ورفاقه بلا سبب أو مبرر في فندق شيراتون حيث يتواجد المراقبون العرب، بل كما لو أن الأمر محض صدفة، في اللحظة التي يخرج فيها الفريق الدابي من غرفته مغادراً الفندق بطريقة لا يستطيع معها تلافي رؤية الصحافيين الغربيين أو تجاهل وجودهم. في تلك اللحظة، أدى جيل جاكيه ورفاقه من دون أن يدروا ما كان منتظراً من وجودهم في دمشق وعليهم الآن أن يتوجهوا إلى حمص مثلما قُرِّرَ لهم، شاؤوا أم أبوا، ولم يكن جيل جاكيه يشاء ذلك.

سيصير الكتاب تحقيقاً بوليسياً حول مقتل جيل جاكيه يوم 11 كانون الثاني 2012 لدى وصوله إلى حمص سيستمر سنة كاملة قبل أن يُنشر. وسيستخدم كل الوسائل المتاحة أمام الصحفيين الغربيين وخبرتهم في مثل هذا المجال. وسيكشف التحقيق عن عناصر لا تمت للتحقيق بصلة بقدر ماتمتُّ إلى لبّ الموضوع: زعْم النظام قتاله جماعات إرهابية مسلحة تعيث في البلاد فساداً. يكتشف أن هذه الجماعات المسلحة التي يحاربها النظام لا تهاجم إلا المظاهرات المناهضة للنظام في حين تعفُّ عن مهاجمة المسيرات الموالية! يكتشف أنه يقابل على الدوام في السجون التي يزورها سجناء جاهزين من كل فئات الجماعات الإرهابية، وأن تلفزيون الدنيا يتواجد على الدوام قبيل الحدث (جرائم الجماعات المسلحة) بدقائق معدودات، مثله في ذلك مثل رجال الإطفاء! وأن كل الوسائل تبرر الغاية، بما في ذلك مثلاً الحيلولة بين مراقبي الجامعة العربية وبين القيام بوظيفتهم من خلال دسِّ العقاقير في طعامهم الصباحي كي يصابوا بإسهال يحول دونهم والخروج من غرفهم ما داموا لم يستسلموا في العشية لإغراءات الفتيات اللواتي يمتهنَّ الصحافة نهاراً ومحاولة السهر على راحة المراقبين ليلاً!

كان جيل جاكيه يعرف أنه سيكون حبيس شبكات الأمن التي بناها النظام السوري وهي أشدّ قوة وأكثر صلابة من تلك التي بناها القذافي أو بن علي، وأنه لن يفلت منها. ولا بدّ أنه قد استسلم بقدر من السذاجة إلى شعوره بأن مهنته وجنسيته تحميه من اعتداء مباشر على شخصه. لكنه كان بلا أي شك على وعي كامل بمخاطر مهنة اختارها ولم يكن يفكر حتى في اتخاذ الحيطة من خطر كان يتجسّد أمام عينيه حين قيل له: "إما حمص أو الرحيل!". فكر بالأحرى بما يمكن أن يثري المهمة التي جاء من أجلها والتي كانت تصطدم بكل العثرات التي لم يكن ينتظرها..ولاسيما تلك التي لم يكن قادراً على التغلب عليها، تلك التي أودت بحياته بكل صفاقة..

"ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة".

يستوون في ذلك جميعاً، نساءً ورجالاً، حين تتماهى أنفسهم في مهنتهم، في ما يعتبرونه رسالتهم. صارت خصاصتهم أن يؤدوا الأمانة كما رأوها، كما شهدوها، كما عاينوها، كما تألموها، كما بكوها، كما يليق بهم أن يحملوها وأن يؤثرونها على أنفسهم.

تلك، كذلك، حال الروائي والصحفي الأمريكي الفرنسي جوناثان ليتيل. يصل هو الآخر بلا إذن من السلطات الأمنية السورية (ولكن بمعونة الثوار الذين استقبلوا من قبل صديقه مانون لوازو الذي حقق فيلماً وثائقياً عن حمص خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني 2011) إلى حمص يقيم فيها بين 16 كانون الثاني/يناير و 2 شباط/فبراير 2012 ويعيش يوماً بعد يوم حياة شعب ثائر في مدينة ثائرة، بكل ما تنطوي عليه من بطولات وما تواجهه من فظائع ترتكبها قوات النظام وشبيحته.

لن يكتب جوناثان رواية ولم يأت إلى حمص كي يفعل.  كانت حصيلة ما نشره خمسة تحقيقات مثيرة بصدقها وبواقعيتها في صحيفة اللوموند التي رعت مهمته. لكنه سينشر كتابه الأساس، دفاتر حمص، بعد ثلاثة أشهر من عودته. كتابٌ كتبه لحظة بعد لحظة، ويوماً بعد يوم. يُسجِّل اللحظات اللاهثة على إيقاع القصف وفي زحمة الحوادث وتحت وطأة أشباح الموت. لن يكون جوناثان روائياً في طريقة كتابته لكنه سيكون ماهراً في تصوير الوجوه والشخصيات بخطوط سريعة لا ترسم ملامحها الخارجية فحسب بل تسبر في الوقت نفسه خصوصيتها الخفية. سيضع أقنعة على أسماء من التقاهم، كي يحميهم. لكنه سيسَمّي في ما وراء ذلك الأشياء بأسمائها بلا محاباة أو مراعاة أو خوف.

لأنه شاهد. شاهدٌ رأى بأمِّ عينيه كيف يتم تلوين بعض البيوت حماية لها من قصف الطائرات أو الحوامات أو مدافع الهاون، بيوت يسكنها الموالون أو العملاء أو الشبيحة.. شاهدٌ لا يصادق على ما يسمعه إلا بعد أن يعاينه بنفسه: كيف يقتل شابٌّ أثناء وجوده ضمن مظاهرة سلمية على أيدي قناصة الجيش النظامي وكيف نقل التلفزيون الرسمي مقتله على أيدي "العصابات المسلحة"! شاهدٌ على قطع الرؤوس واغتصاب الفتيات وقتل الناس من طوائف مختلفة في محاولة من أجل تسعير الحرب الطائفية. شاهدٌ على قتل الأطباء والممرضين وعلى تدمير كل مستوصف أو مستشفى يمكن أن يستقبل جريحاً أو قتيلاً. شاهدٌ على نظام يستدرج الأطفال كي يعلم منهم كيف يعيش آباؤهم وعن ماذا يتحدثون ومن يستقبلون وأي قنوات تلفزيونية يشاهدون! شاهدٌ على إخلاء البيوت بالتهديد وبالقتل عندما لا ينفع التهديد..شاهدٌ أيضاً وأيضاً على صحفي بلجيكي جاء برعاية النظام وتحت رقابته وهو يعيد إنتاج رواية النظام عن "الجماعات المسلحة" و"الإرهابيين" الذين "يروعون الآمنين"!

ولأنه يستمع فيصغي، أمكنه أن يفهم ما لم يفهمه كثيرون. في مدينة تكاد تجتمع فيها طوائف سورية كلها يتظاهر فيها الناس جميعاً، ويشكلون حلقات كحلقات الذكر بلا أي مضمون دينيّ، فيها المسلمون والمسيحيون، يغنون ويرقصون ويهتفون، نساءً ورجالاً، في انسجام وحيوية، "...محتدين، متوترين، مستوى من طاقة فرح ويأس لم يسبق لي أن رأيت مثله من قبل أبداً" كما يقول. يشهد جوناثان في مدينة/بلد على واقع اعتقال شاب فيها وتعذيبه لأنه رأى نفسه في حلم يقود فيه موكب الرئيس.

عندما كتب زكريا تامر عن حلم مماثل قبل أكثر من ثلاثين سنة حسبه الناس خيالاً!

سيقابل عبد الرزاق طلاس. وسيشهد الخصومات العابرة لكن الكاشفة بين الثوار أنفسهم مسجلاً تعليقاً شديد البلاغة على إحداها: "يجب أن تفهمهم يا سيدي. أربعون عاماً من الخوف". ليعلق بدوره: "قبل أن يقتلوا بشار الحقيقي لابد من أن يقتلوا البشار الموجود في رؤوسهم"! سيقابل ضباطاً علويين انشقوا عن الجيش، خمسة منهم يتواجدون في الجيش الحر بحمص، وسيسمع أحدهم يقول له: "لم أسمع أبداً: نريد أن نقتل العلويين. فقط  أشخاصاً محددين قاموا بارتكاب الجرائم".

يرى جوناثان ليتيل ويعاين يوماً بعد يوم كيف يحيطه الثوار بعنايتهم، هم الذين اتهمهم جورج مالبرونو بقتلهم جيل جاكيه اعتماداً على قول مصدره في حمص. يحاول أن يحصل من مالبرونو على اسم هذا المصدر كي يناقشه مباشرة حول المسؤول عن مقتل جاكيه، مادام موجوداً في حمص، بخلاف مالبرونو، لكن هذا الأخير يرفض الكشف عنه لأسباب لا يعلمها إلا هو.

يستيقظ يوم 26 كانون الثاني على القصف. طفل في الثانية عشرة من عمره يقتل. "إنهم يطلقون النار على الأطفال. من أجل لاشيء. لاشيء على الإطلاق. إلا من أجل معاقبة هذا الشعب الجموح، اللعين. الذي يرفض أن يحني رأسه بصمت لسيده ومعلمه. يعاقبونه على نار هادئة".  سيرى جثامين الأطفال وقد ثقبتها ضروب الرصاص، وقوافل الجرحى لا يجدون من يسعفهم إلا ممرض وحيد بعد مقتل الأطباء أو اعتقالهم أو هرب من بقي منهم خوفاً من شبيحة النظام وجنوده.

**  **  **

ثلاثة كتب كالمأساة الإغريقية في وحدة شخوصها وزمانها ومكانها. لكنها هنا المأساة السورية، كتابها هم أبطالها، هؤلاء "الشباب المبتسمون، الذين يفيضون حيوية وشجاعة، الذين لا يمثل لهم الموت أو الجراح الفظيعة أو الدمار أو الانحطاط أو التعذيب شيئاً بالمقارنة مع السعادة المذهلة التي يشعرون بها جراء رفض ما أثقل كواهل آبائهم طوال أربعين عاماً". ومكانها حمص أيقونة مدن الثورة، وزمانها هو زمان هذه الثورة الفريدة.

أما شهودها فهم بعض نبلاء هذه المهنة، مهنة الكتابة في الميدان، مهنة الصحافة.

 

 نشر هذا المقال في مجلة الدوحة، العدد 72، ص. 115ـ 117 
 
 
http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=467E705F-EE70-45FD-8EA6-8A5747AC9D92&d=20131001#.UkpLe51OLIU


 
 

vendredi 23 août 2013


لماذا يوسف  عبدلكي؟ 

بدرالدين   عرودكي

 

كان أول ردِّ فعلٍ لي على خبر اعتقال يوسف عبدلكي: كيف يعتقل فولتير السوري؟ من هو النظام الذي يمكن أن يعتقل فولتير..ورحت أستشهد بمن لم يسمح لنفسه على أنه عسكري اعتقال سارتر ذات يوم حتى لامني صديق: لو قارنت النظام السوري بموسوليني وستالين لظلمتهما، فما هذه المقارنة مع ديغول؟ كان ذلك تذكيراً لي بضرورة العودة إلى الواقع من جديد: واقع هذا النظام، واقع فرادته في تاريخ سورية والعالم الذي تنتمي إليه، واقع أن يعتقل فناناً مثل يوسف عبدلكي، واقع أن يعتقل إنساناً مثل يوسف عبدلكي..

ردود أفعال الأصدقاء كانت شبيهة. كأنما على كلِّ ما نراه ونشهده كلَّ يوم نريد باستمرار ألا نصدق ما يحدث. كأنما نريد الاستمرار في الظن أن ثمة خطأ ما في مكان ما في زاوية ما. كأنما نسينا أو تناسينا أو نريد ألا نصدق على الدوام أن هذا النظام نفسه هو من قتل غياث مطر، الشاب الذي كان يوزع الزهور والماء في داريا على الجنود؛ وأنه من اقتلع حنجرة إبراهيم القاشوش، وأنه من كسر أصابع الفنان علي فرزات؛ وأنه، خصوصاً، ومنذ البداية، كسر كل جدران المحرمات واللامعقول عندما اقتلع في درعا أظافر أطفال في عمر الزهور، وأنه منذئذ قد أمعن وهو يقتل ويدمِّر في خرق كلِّ ما حاولت الإنسانية وضعه من قواعد للحرب أو للصراع أو للخصومة، سائراً على آثار غزاة سورية الأقدمين من الشرق ومن الغرب، من تيمورلنك إلى الصليبيين، لا يروم شيئاً سوى استمراره على ما كان عليه منذ أكثر من أربعين عاماً. 

ولن يكف عن تقديم الأمثلة. بل وأكثرها فصاحة. فقد ارتقى منذ البداية أيضاً بفعل الكلام أو الكتابة أو الرسم إلى مستوى الجريمة. نعرف جميعاً أن في أقبية أمن النظام ما لا يحصى عددهم من المواطنين المغمورين ممن كسروا جدار الخوف ونطق لسانهم بما كانوا يخفونه في قلوبهم. لا يعرف بوجودهم إلا الأهل والأصدقاء. ليسوا كتاباً أو صحافيين أو رسامين بالضرورة. ولم يحملوا سلاحاً بالضرورة. ذنبهم واحد في الحالات كلها: نطقوا ذات يوم أو ذات ساعة بكلمات لا وجود لها في قاموس النظام؛ أو أنهم آووا ذات يوم من نطق بمثل هذه الكلمات أو كانوا من أهله أو من أقربائه.

وفي ذلك على وجه الدقة إنما تكمن "جريمة" يوسف عبدلكي. جريمة تمثيله لكل هؤلاء المغمورين من السوريين الذين ملأوا ولا يزالون يملأون زنزانات السجون وأقبية المخابرات في أرجاء سورية كلها. ليس يوسف عبدلكي مجرد فنان استثنائي في مشهد التشكيل السوري أو العربي فحسب، بل كان أخطر من ذلك في نظر النظام: فهو الذي وقد عرف من قبل السجن والمنفى سنوات طويلة، اختار العودة الطوعية إلى وطنه مستمراً في ما بات يؤلف سبب وجوده بالذات: أن يجسد في مبدعاته الفنية وفي سلوكه اليومي وفي مواقفه العامة صورة المواطن والوطن الجريح الذي ينتمي إليه.

لا يكفي أن تتأمل في مبدعات يوسف عبدلكي لكي تستغرق في عالمه. لابد من التأمل أيضاً في وجهه، هذا الوجه الذي يمتزج فيه الألم بالأمل. ولا بدّ أيضاً من التأمل في حياته، تلك التي لم ينسلخ فيها الخاص عن العام في كل ما يمسُّ شؤون البلد الذي ينتمي إليه والذي يحمله حيثما كان إلى أن عاد إليه ليمتزج فيه وليصير بعضه. ولابد من الإصغاء إلى صوته: صوت يفيض خشوعاً أمام عذاب وآلام أبناء وطنه، آلامه..ذلكم هو يوسف.

ندر بين فنانينا من صار العام خاصّته لا واحداً من خصوصياته.

ويوسف عبدلكي أحد هؤلاء النادرين.

ذلك أنه لم يكفّ عن الشعور بنفسه معتقلاً حتى حين كان يعيش طليقاً في منفاه بباريس على ما كان يمكن أن يتمتع به من حرية، مادام شعبه في سورية يعيش ضمن سجنه الكبير. تلك هي جريمته، الجريمة التي لا يمكن لنظام كالنظام السوري أن يحتملها أو أن يسكت عنها أو أن يغفرها. لكنه في هذه الخصوصية بالذات إنما يمثِّلُ يوسف عبدلكي وهو معتقلٌ من جديد المعتقلين السوريين المغمورين جميعاً ويذكِّرُ بهم. ومن ثمَّ يصير الحديث عن هذا الاعتقال بالضرورة حديثاً عن الآلاف المؤلفة منهم،  أؤلئك الذين كنا نراهم دوماً في عينيه، وفي ضربات ريشته، وفي صوته الخافت خشوعاً أمام عذاباتهم، عذاباته.
          ذلك أنه ينتمي إلى النخبة الحقيقية، تلك التي رفضت الصمت، ورفضت الخنوع،  ورفضت المذلة، رافعة رأسها، دافعة الثمن. غالياً. ولا تزال.
 
 
* كتبت هذه المقالة  يوم 8 آب/أغسطس 2013.