mardi 4 juin 2024

في النهضة والترجمة

 



في النهضة والترجمة

بدر الدين عرودكي


قلما تعثرت نهضة ثقافة مثلما تعثرت ولا تزال تتعثر نهضة الثقافة العربية منذ أكثر من قرن ونصف. وقلما شعرت أمة بثقل دونيتها نحو ثقافة أخرى، مثلما شعرت ولا تزال تشعر به الأمة العربية إزاءالثقافة الغربية. ولأنّ خط التقدّم انتقلَ، كما لاحظ ابن خلدون في زمنه منذ نيّف وستة قرون، إلى شمال البحر المتوسط فمن الطبيعي إذن، كما يقول البعض، أن تحمل ترجمة مبدعات هذه الثقافة، على رغم الحاجة الماسّة إليها، على مفاقمة الشعور بالدونية وبضروب من الانصياع أدّت إلى ضروب شتى من القيود سواء على صعيد خيارات الترجمة أو في مجالات احترام قوانين حقوق النشر الدولية أو تمويل الترجمة أو في مجال السهر على مستوى الترجمات وأمانتها.

سوى أنه إذا كانت الترجمة وسيلة اتصال فهي أيضاً قراءة. بالمعنى الأصولي للكلمة. ومن ثمَّ، فقد وسمت الترجمة / القراءة التاريخ في ميادينه على اختلافها: تاريخ الأمم مثل تاريخ ثقافاتها جميعاً، على الأقل، نظراً لامتلاكنا الوثائق حول ذلك، منذ أن عرف الإنسان الكتابة. ذلك أن الترجمة أساساً ليست إلا وسيلة ربط بين طرفين يقوم بينهما حاجز اختلاف لغتيهما. ومن ثمَّ تقوم وظيفة الترجمة على إنشاء صلة الوصل بين هذين الطرفين بفعل إتقان لغتيهما معاً. ويتيح لمن يؤدي الترجمة وقيامه بهذه المهمة الوصل، والربط، وإنشاء العلاقة بين الطرفين اللذين كانا سيبقيان لولاه منفصلين، يجهل كلٌّ منهما الآخر، وربما بقيا عدوّيْن بسبب جهل أحدهما الآخر على وجه الدقة. ومن البدهيّ أيضاً أنّه إن كان عمل الترجمة يتيح تسهيل التعارف والتبادل فإنه يمكن أيضاً أن يسبِّبَ سوء تفاهم قد يؤدي إلى نتائج تزداد أهميتها أو خطورتها بقدر أهمّية أو خطورة موضوع العمل المترجم، وكذلك مقدار كفاءة المترجم ونجاحه بهذا القدر أو ذاك في أداء عمله.

وربما يحسن في هذا المجال القيام بتشخيص سريع لوضع تاريخي يخصّ العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية. من المهم من أجل ذلك الانطلاق من بعض الجذور وأهمّها في القرن الثامن الميلادي، ولا سيما الجذر المتمثل في ترجمة الفكر الفلسفي اليوناني إلى العربية. كان المشروع الحضاري العربي آنئذ في مرحلة البناء. وما كان لأصحابه، كأيّ مشروع طموح، أن يتجاهلوا مَنْ حولهم من الأمم التي سبقتهم. هكذا فعل النبيّ العربيّ عندما استعاد ثقافة العرب وحضاراتهم السابقة كلها وحضارات من حولهم من الشعوب والقبائل ليحقق التجاوز التاريخي المتمثل في حضارة الإسلام. وهكذا سيفعل الخلفاء من بعده، ولاسيما العباسيون منهم، حينما أطلقوا العنان لعلمائهم ولمفكريهم كي يترجموا آداب الأمم الأخرى وفلسفاتها. عرف بيت الحكمة البغدادي آنئذ حملة منظمة تحت رعاية سلطة الدولة لترجمة كتب فلاسفة اليونان وعلمائهم. ولم يخلُ ذلك من سوء تفاهم أو فهم. إذ على إطلاقِ هذه الترجمات حركةً فكرية وإبداعية في مجالات اللغة والعلوم المحضة والفلسفة، وهي حركة استمرّت شديدة الحيوية حتى القرن الخامس عشر، فإنّ استبعاد المأساة والملهاة من هذه الترجمات من قبل المترجمين (لا لعدم فهمهم لمعاني المأساة والملهاة، بل نظرًا   ـ كما أرى ـ لوجود الطابع الوثني الذي يسم المآسي بوجه خاص ولما ينطوي عليه المسرح اليوناني من تواجد الآلهة (بالجمع) على خشبة المسرح بصورة أو بأخرى) أدّى، على سبيل المثال، إلى تأخر ظهور المسرح في الثقافة العربية أكثر من أحد عشر قرناً.

لكن الغرب وقد انتقلت حركة البناء إليه من الجنوب، طفق، هو الآخر، يهتمّ بثقافة العرب فبدأ أول ما بدأ في ترجمة القرآن التي نعرف اليوم أنها تمّت للمرة الأولى في القرن الثاني عشر وإن لم تنشر إلا في القرن السادس عشر. وبخلاف ما كان العرب يتطلعون إليه من إطلاق حركة الترجمة التي قاموا بها في القرن الثامن، فإن الغرب، ومن خلال ممثلي الكنيسة التي كانت سلطة الحكم الأولى آنئذ، كان يتطلع إلى تعليل وتأسيس استنكاره وإنكاره للعقيدة التي كان أصحابها قد عادوا أو يعودون إلى أوربا من شرقها بعد وصولهم إليها واستقرارهم ثمانية قرون في أقصى غربها. لكنّ جهود الفهم والاستيعاب التي قامت بها حركة الترجمة العربية قد بدأت تجد صداها، على الطرف المقابل وفي حركة عكسية، في الغرب اعتباراً من القرن السابع عشر. هكذا ترجمت أعمال كبار الفلاسفة (وخصوصًا ابن رشد) والموسوعيين العرب انطلاقاً من الأندلس إلى اللغة اللاتينية. وكان بيت الحكمة البغدادي يُستعاد بيوتاً عديدة في ليدن وموسكو، وفي برلين وباريس ولندن.  من أجل الفهم قطعاً. ومن أجل الاستيعاب بلا شك. ذلك أنَّ إشكالية الفتوحات العربية الصاعقة شرقاً وغرباً اعتباراً من القرن السابع قد شغلت الغرب قروناً وربما لا تزال. مثلما أن إشكالية تقدم الغرب شغلت ولا تزال تشغل العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، وتدعوهم إلى الفهم وإلى الاستيعاب. ذلك ما يفسّر الإقبال على الترجمة كلما همَّ مشروع نهضوي بالبدء، منذ دولة محمد علي في مصر وانتهاء بالمشروع القومي العربي في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وإلى محاولات النهوض المتعثرة اليوم التي تأخذ أشكالاً وصيغاً مختلف ألوانها.

هكذا، على تشابه أو تنافر التجربتين العربية والغربية في الظروف التاريخية والسياسية التي أحاطت مشروعات الترجمة فيهما على امتداد القرون، لم يكن الهمّ فيها إلا همّ معرفة الآخر. ولا يمكن بالطبع أن نستبعد من هذا الهمّ هدفاً أو أهدافاً تتعلق بالسيطرة أو الهيمنة. كان العرب في القرن الثامن يترجمون ليستوعبوا الثقافات التي سيطروا على شعوبها أو يهمون بالسيطرة عليها. وكان الغربيون يترجمون ليفهموا أولاً ثم ليستوعبوا من بعدُ قبل أن يتجهوا للهيمنة.

بعد ما يقارب القرن ونصف القرن من محاولات ترجمة المعارف الغربية إلى اللغة العربية هل نجح العرب في بدء نهضتهم الحديثة التي كانوا ولا يزالوا يتطلعون إليها؟

 

 

** نشر المقال في مجلة "القافلة"العدد 704، أيار ـ مايو/حزيران ـ يونيو 2024.