lundi 18 septembre 2023

مع ميلان كونديرا

 

مع ميلان كونديرا

سنوات من الثراء المعرفي


حزيران/يونيو 1987. "المزحة" هي التي كانت البداية. لكنها صدفة محضة. والصدف كما نعلم ألوان شتى. إلا أنني لم أنتبه إلى أنني سأكون أسير صدفة ما، ولم أفكر ثانية واحدة إلى أين ستقودني هذه "المزحة" التي كانت يومئذ بالنسبة لي عنوان رواية كتبها كاتب تشيكي اسمه ميلان كونديرا (ولم أكن أعرف حينها أنها أول رواية يكتبها)، وأول رواية أقرؤها له. في أيام معدودات قرأتها، أستكمل كتبه الأخرى: مجموعة قصص والروايات المتاحة بالفرنسية كلها: غراميات مضحكة، الحياة في مكان آخر، فالس الوداعات، كتاب الضحك والنسيان، خفة الكينونة التي لا تطاق، بالإضافة إلى كتاب جديد، غير مترجم إلى الفرنسية هذه المرة، كان قد صدر قبل عام يحمل عنوان فن الرواية، كي أقضي إجازتي الصيفية كلها في قراءة هذه المبدعات التي لم تكن تقتصر على ما كانت تغمرني به خلال أشهر من متعة معرفة واسعة تتجسد أفكارًا أو شخصيات أو أفعال أو ضروب سلوك فحسب، بل تجاوزت ذلك كله حين اكتشفت مع الأيام كيف أنها رسخت لدي مفهومًا عن الرواية لا بوصفها شكلًا من الأشكال الأدبية، بل فنًّا أدبيًا لم يكن معروفًا، بهذا المعنى، في ثقافتنا العربية الحديثة ولا يزال بعيدًا،  كما ألاحظ، عن إدراك الغالبية من قرائها في كل مكان، أعني المفهوم الذي كان ميلان كونديرا بعد قراءته رابليه الفرنسي وسرفانتس الإسباني وصولًا إلى كافكا، واعتناقه فنَّ الرواية بوصفها أداة تعبير بامتياز،  يعمل على تعميقه وتجسيده في رواياته المتوالية، بدءًا من المزحة، وانتهاء بروايته الأخيرة عيد اللامعنى، وفي الوقت نفسه على تحديد إطار ضرب من تاريخ للرواية الأوربية، كما يراه، تجلى في ثلاثيته حول الرواية: فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار، التي صارت رباعية بعد نشر الجزء الأخير تحت عنوان لقاء.

في البدء كانت "المزحة" إذن. لكنها سرعان ما أدت، عبر قراءة روايات كونديرا التي سبق ذكرها إلى تأملاته في فن الرواية نفسه، لنقل فن الرواية الحديثة والأوربية خصوصًا، كما اعتنقها بوصفها فنًا أدبيًا، لا شكلًا أو جنسًا، قائمًا بذاته، فضاؤه الإنسان، والوجود، بلا حدود لهذا ولا لذاك.

حملني إعجابي اللامتناهي بما قرأت من رواياته، بعد أن قرأت روايات ستندال ولا سيما روايته المذهلة الأحمر والأسود، وبلزاك، ودوستويفسكي، وتولستوي، وفوكنر، وبروست، وكافكا، على أن أدرك أنني أمام روائي حيٍّ من عيار هؤلاء جميعًا. لكنني وجدتني أنساق لا إلى ترجمة رواياته التي أخذت خلال تلك السنوات تُنشر بالعربية دون علم مؤلفها، بل إلى ترجمة فصول كتاب فن الرواية السبعة، بادئَا فصله الخامس الذي أثار انتباهي بوجه خاص والذي حمل عنوان في مكان ما هناك. استشهد كونديرا في بداية مقاله بمقطع من قصيدة للشاعر التشيكي جان سكاسيل:

لا يخترع الشعراء القصائد

فالقصيدة موجودة في مكان ما، هناك

منذ زمن طويل جدًّا، هي هناك

ولا يفعل الشاعر سوى أن يكشف عنها.

كما لو أنه يقول بصيغة أخرى، بعد الجاحظ بألف عام، وربما للغاية ذاتها، "الأفكار ملقاة على قارعة الطريق"، كي يشير بقوة إلى أن جوهر الإبداع يكمن في تظهير الفكرة عبر الكتابة، لا كما التقطها، بل للكشف عما تنطوي عليه من مفارقات وتناقضات، أو من تماسك وتناغم. وسيتجلى هذا الجوهر، في مقدمة المقال التي بنى عليها كونديرا مفهومه عن هذا الفن:

"يروي صديقي جوزيف سكفورسكي في واحدٍ من كتبه هذه القصة الحقيقية:

دُعِيَ مهندس براجي للاشتراك في ندوة علمية تعقد في لندن. وقد ذهب وشارك في الجلسات ثمَّ عاد إلى براج. وبعد ساعات من عودته، تناول في مكتبه صحيفة رود برافو ـ وهي صحيفة الحزب الرسمية ـ وقرأ فيها: قرر مهندس تشيكي ـ كان قد نُدِبَ للمشاركة في ندوة لندن ـ بعد أن أطلق تصريحاً أمام الصحافة الغربية شتم فيه وطنه الاشتراكي، أن يبقى في الغرب.

ليست الهجرة غير المشروعة التي يرافقها مثل هذا التصريح أمراً تافهاً. إذ أنها تعني عشرين سنة في السجن. لم يكن بوسع مهندسنا أن يصدق عينيه. وحين دخلت سكرتيرته مكتبه، ذهلت لدى رؤيتها له قائلة: يا إلهي، كيف عدت! غير معقول؛ ألم تقرأ ما كتب عنك؟

رأى المهندس الخوف في عينيْ سكرتيرته. ماذا يسعه أن يفعل؟ هرع إلى إدارة تحرير رود برافو. وهناك عثر على المحرّر المسؤول عن نشر الخبر. وقد اعتذر له هذا الأخير فعلاً، إذ المسألة مزعجة حقاً، لكنه، هو المحرّر، لا دخل له في الموضوع. فقد تلقى نصّ الخبر مباشرة من وزارة الشؤون الداخلية.

ذهب المهندس إلى الوزارة إذن. وهناك قيل له: نعم، صحيح. إنه ولا شك خطأ قد وقع. لكنهم، في الوزارة، لا دخل لهم في الأمر. فقد تلقوا التقرير عن المهندس من إدارة الاستعلامات في السفارة بلندن. طلب المهندس نشر تكذيب للخبر، فقيل له: التكذيب غير ممكن. لكنهم أكدوا له أنه لن يتعرض لشيء، وأنّ بوسعه الاطمئنان.

لكن المهندس لم يطمئن. إذ سرعان ما انتبه، على العكس، إلى أنه يخضع لرقابة صارمة، وإلى أن محادثاته الهاتفية قيد التسجيل، وإلى أنه ملاحق في الشوارع. لم يعد يسعه النوم، ثم صار نومه حافلاً بالكوابيس إلى أن جاء يوم لم يعد يحتمل فيه هذا الضغط؛ فغامر، معرضاً نفسه لأشدِّ المخاطر، كي ما يترك البلد بطريقة غير مشروعة. لقد صار بذلك مهاجراً فعلاً."

يعلق كونديرا: "هذه القصة التي سردتها واحدة من القصص التي ستوصف من دون تردد باعتبارها قصة كافكاوية. وتبدو هذه الكلمة المستخلصة من مبدع فني، والتي تنطوي على صور استخدمها روائي فقط، كما لو أنها القاسم المشترك الأعظم لأوضاع (أدبية وحقيقية معاً) لا تسمح أية كلمة أخرى بإدراكها ولا تقدم علوم السياسة أو الاجتماع أو النفس مفتاحاً لفهمها."

هذا الربط بين فضاءين مختلفين: قصة حقيقية وقصة تخييلية بانتمائهما إلى "الكافكاوية" كما يشير كونديرا، يشير عمليًا إلى التغيير الجديد الذي أدخله كافكا على مفهوم الرواية: رعب الكوميدي، جوهر السخرية المستعادة من رابليه ومن سرفانتس. في قصة المهندس الذي خسر وطنه، وفي حكاية جوزيف ك. عندما فوجئ برجلين في غرفة نومه يعلنان له أنه موقوف ويأكلان فطوره، فيشرع في الدفاع عن نفسه مطولًا أمامهما وهو في ثياب نومه. حين قرأ كافكا على أصدقائه هذا الفصل الأول في رواية القضية على أصدقائه ضحكوا جميعها ومعهم المؤلف، مثلما ضحك كل من استمع إلى حكاية المهندس ومغادرة بلده. بعبارة أخرى وكما كتب كونديرا نفسه: "ثمة مراحل في التاريخ تشبه فيها الحياة روايات كافكا"!

سوى أن الذين قرأوا روايات كافكا مترجمة إلى لغات أخرى ولاسيما الفرنسية التي قرأ بواسطتها أوائل الكتاب العرب روايات كافكا وكتبوا عنه، مثل طه حسين، لم يضحكوا كما ضحك أو لم يلمسوا السخرية المرعبة كما لمسها من قرأها بلغتها الأصلية، سواء من أصدقاء كافكا أو من قرائه التشيكيين الناطقين على غراره باللغة الألمانية التي كتبت بها.

لم يكن كونديرا قد اطلع على رواياته التي ترجمت إلى الفرنسية قبل هجرته إلى فرنسا واستقراره فيها عام 1975. لكنه خلال السنوات العشر التي قضاها في فرنسا، اكتشف بفعل لقاءاته العديدة مع الصحافيين، سواء في فرنسا أو في سواها من البلدان الأوربية، أمران سوف يكون لهما أثر كبير في حياته، أولهما يتعلق بسلامة ترجمات رواياته، وثانيهما الطريقة التي كان بها من يقوم بإجراء مقابلة معه يترجم أقواله.

فقد نبهته الأسئلة التي كانوا يطرحونها حول رواياته المُترجمة إلى أنها شديدة البعد عما كتبه أو عن عالمه الروائي. وحين قرأ رواياته المترجمة إلى الفرنسية، ثم تلك المترجمة إلى الإنجليزية، وجد فيها العجب العجاب: ففي فرنسا، كما كتب، أعاد المترجم كتابة رواياته مزخرفًا أسلوبه. وفي إنجلترا، حذف الناشر كل المقاطع التأملية واستبعد الفصول الموسيقية وغيَّر نظام الأجزاء وأعاد تأليف الرواية! وفي بلدان أخرى، ترجمت كتبه التي كتبها باللغة التشيكية عن الفرنسية. وحين كانت كتبه تترجم عن اللغة التشيكية في بلد آخر، يكتشف أن الجمل الطويلة في رواية المزحة مثلًا قسمت إلى جمل بسيطة وقصيرة. كانت الصدمة التي سببتها ترجمات رواية المزحة مثلًا قد تركت في نفسه أثرًا لا يمّحي لاسيما وأنه التراجم كانت تمثل له، منذ أن حيل بين جمهوره التشيكي وأن يقرأه، كل شيء. وهو ما دفعه إلى إعادة النظر في الطبعات الأجنبية لكتبه القديمة والجديدة باللغات الأربع التي يعرف القراءة فيها حقبة كاملة من حياته.

كان هذا القلق من تشويه مُبدعاته حين تترجم إلى اللغات الأخرى وراء حرصه الشديد، كلما طلب إليه الحصول على حقوق ترجمة كتبه إلى لغة أجنبية ما، على أن يتعرف على المترجم. كانت زوجته فيرا هي التي تدير شؤون حقوقه الأدبية مع ناشريه في العالم أجمع قبل أن تعهد بها إلى وكالة إنجليزية مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي. هكذا، عندما تلقت فيرا لأول مرة من ناشر عربي، هو الصديق كميل حب الله، مؤسس ومدير دار إفريقيا الشرق في الدار البيضاء بالمغرب، رسالة يطلب فيها الحصول على حقوق نشر الترجمة العربية لكتاب فن الرية، تلقى طلبًا من كونديرا يتناول كل ما يتعلق بالمترجم. فكان جوابه أن المترجم يعيش في باريس وأن من الممكن لقاءه والتعرف عليه، مضيفًا أنه سيطلب إليه الاتصال به للتعارف. وهو ما سارعت إلى القيام به: دعوت ميلان كونديرا وزوجته فيرا إلى الغذاء.

كنت قد عزمت، منذ لقائي بمبدع كونديرا كما أشرت، على ترجمة هذا الكتاب النادر الذي يضم تأملات روائي في الفن الذي اعتنقه وسيلة للتعبير عما يريد أن يقول، عن رؤيته للعالم، ويكتب في الوقت نفسه مسار/تاريخ هذا الفن القائم بذاته، فن الرواية، عبر الروايات الجديرة بتمثيله وقوامها الجوهري، السخرية، بوصفه فنًا أوربيًا خالصًا. وقد قمت بالفعل بترجمة ستة من فصوله حين وجدتني أصطدم بمصاعب ترجمة الفصل السادس منه والذي كانت كتابته نتيجة إعادة كونديرا النظر في ترجمات رواياته واعتماد طبعتها الجديدة صيغة نهائية بالفرنسية لرواياته. كان كونديرا يرى نفسه خلال هذه المغامرة في السهر على ترجمات رواياته كمن "يركض وراء عدد من الكلمات لا يحصى كالراعي وراء قطيع من الغنم المتوحشة، إنسان حزين في نظره، مضحك في نظر الآخرين". اقترح عليه بيير نورا، مدير تحرير مجلة لوديبا، وقد لاحظ آثار معاناته تلك، أن يكتب قاموسه الشخصي، قاموس رواياته، كلماته الجوهرية، كلماته الإشكالية، كلماته المفضلة، كي ينشرها في مجلته، لو ديبا (Le Débat). فاعتمده كونديرا في كتابه هذا فصلًا حمل عنوانًا حسب عدد هذه الكلمات التي يحتويها، والذي تغير من طبعة إلى أخرى من "تسعة وثمانون كلمة" عندما نشر في المجلة لأول مرة، إلى "واحد وسبعون كلمة" ثمَّ إلى "ثلاث وسبعون كلمة" ثم إلى "سبع وسبعون كلمة" وانتهاء بـ"تسعة وستون كلمة" حسب الطبعة النهائية لمؤلفاته الكاملة التي أشرفَ عليها شخصيًا.

كنت أتلمّسُ عبر هذه الكلمات الجوهرية، الإشكالية، المفضلة لدى كونديرا لا عالمه الروائي فحسب، بل أجرؤ على القول، عالمه الشخصي، شعورًا وإحساسًا وقيمًا، وبإيجاز رؤيته للعالم التي أعادتني ثانية إلى مبدعاته الروائية كلها في رحلة لا تكاد تنتهي؛ لكن هذه الكلمات، وقد حاولت مقاربتها بهدف وضعها تحت تصرف القارئ العربي، طرحتْ عليَّ مشكلة شديدة الحساسية عند محاولة ترجمتها نظرًا لاستحالة العثور على نظير عربي وليد قواعد الاشتقاق لكل كلمة من الكلمات الفرنسية وليدة التركيب، والتي تتألف في غالب الأحيان من عناصر ذات مصادر مختلفة تعكس تاريخها وتركيبها أو توحي رنات مقاطعها الصوتية بمعان مختلفة تضفي على معناها العام ما لا يمكن لأي لغة أخرى أن تعكسه أو أن تقوله. أحد الأمثلة البليغة على ذلك، الكلمة الفرنسية (ensevelir) التي تترجم عادة بالكلمة العربية "كفّن". يكتب كونديرا حول هذه الكلمة:

"لا يكمن جمال كلمة ما في انسجام مقاطعها الصوتي، بل في تداعيات المعاني التي يوقظها رنينها. وكما نرافق النوته التي تُعزف على البيانو بأصوات توافقية وإن كنا لا ننتبه إليها لكنها ترنّ فيها، كذلك فإن كل كلمة محاطة بموكب غير مرئي من كلمات أخرى لا تكاد ترى لكنها ترنُّ معها. فلأضرب مثلاً على ذلك. يبدو لي دوماً أن كلمةensevelir  تنزع بصورة رحمانية عن أكثر الأفعال إثارة للرعب جانبه المادي المرعب. ذلك أن جذر الفعل (sevel) لا يستثير فيّ شيئاً، في حين أن رنين الكلمة يحملني على الحلم: نسغ (sève) ـ حرير (soie) ـ حواء (Eve) ـ إيفلين (Eveline) ـ مخمل (velour)؛ حجب بالحرير وبالمخمل. (ويُشار إليّ: ذلك إدراك غير فرنسي بصورة كلية لكلمة فرنسية. نعم. لقد كنت أتوقع ذلك.)

كلمة أخرى، لا تقل صعوبة عن الكلمة السابقة أو عن سواها في هذا الفصل، هي كلمة: (Sempiternel) التي وضعت مقابلها العربي كلمة: سرمدي. يكتب كونديرا حولها: "ليست هناك أيّ لغة تعرف كلمة كهذه الكلمة، على هذا القدر من الطلاقة بالنسبة للأبدية. الروابط في العلاقات الرنينية: أشفقs’apitoyer  ـ مهرّجpitre  ـ يرثى لهpiteux  ـ كامدterne  ـ أبديéternel ؛ "المهرّج الذي يشفق على أبديّ  كامد على هذا النحو" (le pitre s’apitoyant sur le si terne éternel.)

تساءلت يومئذ: هل يمكن لكلمة "كَفَّنَ" أو لكلمة "سرمدي" ان تترجم فضلًا على معنى الكلمة الفرنسية التي وضعتها مقابلًا لها ما تنطوي عليه من إيقاعات؟ كان الحلُّ الوحيد الممكن في نظري أن أضع الكلمة الفرنسية المترجمة جنبًا إلى جنب الكلمة العربية المختارة، وأن أحيل القارئ كلما دعت الضرورة إلى هامش أشرح فيه ما أراه ضروريًا عند الحاجة. وهو ما حملني أخيرًا، وبعد ما يقارب نيف وعقد من السنوات، على أن أعقد العزم على نشر الكتاب كاملًا.

بعد طبعة دمشقية لدى دار الأهالي بفضل مؤسسها ومديرها الصديق المرحوم حسين العودات التي صدرت مشوهة بعد أن قام الرقيب بحذف مقطع من الفصل السابع يحمل عنوان: خطاب القدس: الرواية وأوربا، حاولت بفضل صداقتي مع مدير منشورات أفريقيا الشرق، بالدار البيضاء، كميل حب الله، نشر ترجمتي ثانية دون تشويه.

وقد رحب كميل بنشر الكتاب وسارع إلى الحصول على حقوق نشره بالعربية من الناشر الفرنسي، دار غاليمار، التي أحالته إلى زوجة كونديرا التي كانت مديرة أعماله وتدير بالتالي شؤون حقوقه الخاصة بالترجمة إلى اللغات الأجنبية. عندما علم كونديرا برغبة ناشر عربي في نشر الترجمة العربية لكتاب فن الرواية، سأله عن المترجم، فأجابه أنه يقيم بباريس وأن بوسعه لقاءه إن أراد.

عندما أعلمني كميل بذلك ناقلًا إليَّ رقم هاتف ميلان كونديرا، قمت على الفور بالاتصال به ورجوته أن يقبل مع زوجته دعوتي لهما إلى تناول الغذاء في مطعم معهد العالم العربي المطل على باريس وكاتدرائية نوتر دام.

كان هذا هو لقائي الأول مع الروائي بعد نيف وأربع عشر عامًا مضت على لقائي مع رواياته والذي صار صحبة شبه يومية معها منذ قراءة "المزحة". منذ لحظة وصولهما لاحظت حذره الشديد في نظراته وفي ملامح وجهه. في حين كنت من ناحيتي أحاول، عبثًا بطبيعة الحال، أن أتناسى كل ما قرأت حول شخصه أو طباعه بقلمه أو بقلم الآخرين الذين التقوا به. لكن الترحيب به وبزوجته أنساني الأمرين معًا ولاسيما وأنه كان عليَّ شرح قائمة الطعام والشراب الذي كان من الواضح أنه لم يسبق له أن تذوقه. حين وصل الطعام، أخرجت فيرا من محفظتها بندولًا فضيّ اللون مربوطًا بخيط وجعلته ينوس فوق صحنها ثم فوق صحن ميلان حتى سكنت حركته. ويبدو أن سكون حركته قد منحها أو منحهما الطمأنينة إلى طبيعة الطعام الذي سيتناولانه للمرة الأولى! أبادر كونديرا بالحديث عن تجربة ترجمتي لكتابه الذي أراد قبل موافقته على منح حقوق ترجمته للناشر أن يعرف المترجم. قصصت عليه ما كنت أراه من صعوبة في اختيار المقابل العربي للكثير من مفرداته، ولاسيما تلك التي كان يعتبرها كلماته المفتاحية أو الجوهرية لإدراك عالمه الروائي، والتي كانت في الفصل الذي خصصه لها المعضلة التي لابد من حلها بصورة أو بأخرى كي أدفع بالكتاب إلى الناشر، والتي استقرت أخيرًا على الحلِّ الذي سبقت الإشارة إليه هنا.

بدا لي أن الحلّ الذي توصلت إليه قد راقه إذ سرعان ما أعلن قبوله وضع الهوامش الضرورية التي تفرضها بعض المفردات في ترجمتي، بل وترك لي حرية حذف المقاطع الموسيقية أو حول الموسيقى التي سرعان ما عبرت عن رفضي شخصيًا لأي حذف من الكتاب أيًا كانت طبيعته، لاسيما وأن الموسيقى، فضلًا على ذلك، عنصر أساس في رواياته كلها، سواء على صعيد البناء الروائي، أو على صعيد الأسلوب، هو الذي بدأ حياته موسيقيًا وملحّنًا قبل أن يعتنق الرواية أداة وحيد للتعبير. لاحظت ارتياحه وموافقته على نشر الترجمة العربية

صدر كتاب فن الرواية عن دار أفريقيا الشرق في عام 2001 مع غلاف كان الناشر قد أرسله إلى كونديرا قبل الطبع ونال إعجابه. وكان صدوره المناسبة التي أتاحت لي لقاء كونديرا وزوجته حين دعاني إلى بيتهما أولًا لتناول الغذاء في مطعم يقع على مسافة خطوات من مكان سكنهما: مطعم لو ريكامييه. كان اللقاء يومها حارًا ومرحًا، أفاضت علي فيرا روحها المرحة محاولة صرفي عن الرصانة المبالغ فيها كما يبدو وهي تناديني: سيدي المدير! أدركت ــ  لحسن الحظ ــ غرضها فتخليت عن رصانة كنت أظن أنها ضرورية في حضرة أحد كبار الروائيين في القرن العشرين.

كان يومها منطلق مشروعي لترجمة الكتاب الثاني حول الرواية: الوصايا المغدورة، الذي صدر بالعربية من دون ترخيص رسمي مترجمًا عن الإنجليزية (مع أنه كتب بالفرنسية) تحت عنوان "خيانة الوصايا" (كذا). حين أعلنت لكونديرا خلال غذائنا هذا عن رغبتي في ترجمة هذا الجزء، عبر عن سعادته وأعلمني أنه ينوي نشر جزء ثالث كان قد بدأ بإعداده منذ نشره الجزء الثاني في عام 1993. كنا يومئذ في نهاية عام 2001. كان عليَّ إذن أن أنتظر صدور هذا الجزء في عام 2005 حتى أستكمل ترجمة الكتاب الثالث. سارعت إلى الانكباب على ترجمته وأعلمت كونديرا أنني سأرسل ترجمتي لكتاب الوصايا المغدورة كي ينشر بينما أقوم بترجمة الجزء الثالث. حين علم أن النشر سيتم بالقاهرة بالاتفاق مع مدير المشروع القومي للترجمة في المجلس الأعلى للثقافة، الصديق جابر عصفور، اقترح علي أن أنشر في هذه الحالة الكتب الثلاثة معًا حول الرواية كما ستفعل خلال عام دار غاليمار بإصدارها معًا ضمن علبة خاصة.

في منتصف عام 2006 أعلمت كونديرا أنني أنهيت الترجمة وأنني أقوم بإعداد النصوص الثلاثة التي ترجمتها لمراجعة شاملة، طالبًا منه موعدًا كي أستعين به على كتابة الأسماء التشيكية كما تلفظ كي لا أكتبها بالعربية كما تلفظ بالفرنسية. رحّب بذلك لكنه أعلمني أنه سيرسل لي كتابيه، فن الرواية والوصايا المغدورة في طبعتهما الأخيرة التي أجرى فيها عددًا من التعديلات في نصوص الكتابين كي آخذ بها. واتفقنا على موعد نلتقي فيها نهارًا في بيته كي نراجع الأسماء التشيكية معًا.

***   ***   ***

يوم الموعد، أصعد إلى بيته. أقضي خمس ساعات بصحبته، متقابليْن. لم نتوقف ثانية واحدة عن الحديث بعد أن أنهينا لفظ الأسماء التشيكية في أقل من ربع ساعة. خمس ساعات بدت لي فضاء زمنيًا كنت أتمنى أن يمتد إلى ما لانهاية.

بدأت الحديث بسؤال حول كلمة استشهد بها في خطبة القدس عن الرواية وأوربا، نقلًا عن رابليه هي كلمة (Agélastes) "آجيلاست" كما تلفظ بالفرنسية وترجمتها "أجلاف" أي الإنسان الذي لا يضحك. قلت له يبدو لي أن أصل الكلمة ليس إغريقيًا كما ذكرت، بل يبدو لي عربيًا نظرًا للتشابه بين الكلمتين شأن الكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي. لم يتوقف كونديرا عند ملاحظتي هذه، لذلك قلت له مباشرة أنني كنت أتطلع إلى إجراء محادثة طويلة معه، لكنني أعرف أنه توقف عن إجراء أي محادثة نظرًا لخيبة أمله من أن أعيش المقابلات التي كانت تجرى معه.

كي لا أخون فهمي له، لن أسرد هنا من الذاكرة ما دار بيننا خلال هذه الساعات. كنت أعرف أن كل ما كان يحدثني به سبق أن كتبه خصوصًا في ثلاثيته التي صارت فيما بعد رباعيته حول الرواية. وأعرف أن آخرين من الروائيين السابقين عليه، فلوبير، أو المعاصرين، نابوكوف أو إيتالو كالفينو أو فوكنر، كانوا مثله لا يطيقون أن يعرف جمهورهم حياته الخاصة. 

              لقاء، عنوان الكتاب الرابع من الثلاثية، مع إهداء كونديرا

ما يسعني قوله دون خيانة أحد أنني عندما عدت من هذا اللقاء إلى بيتي وسجلت على المخطوط التعديلات الضرورية تمهيدًا لإرسال الثلاثية إلى القاهرة بكيت بمرارة لأنني لن أعيش ثانية هذه الصحبة طوال سنوات، مثلما بكيت بمرارة لحظة رحيله عن عالمنا. 


** نشر في مجلة القافلة، العدد 699، تموز/يوليو ــ آب/أغسطس 2023.

https://qafilah.com