jeudi 28 novembre 2019

بين بغداد وبيروت، جديدُ الثورتيْن



بين بغداد وبيروت، جديدُ الثورتيْن 
بدرالدين عرودكي
استكانت أنظمة الاستبداد العربية إلى ما حققته الثورات المضادة من نتائج باهرة حين أنهت ثورات عدد من الشعوب العربية مشرقًا ومغربًا، إما بنظم أشدّ استبدادًا وعنتًا، أو بحروب ونزاعات لا تنتهي، أو بوضع بلادها مرتعًا لقوى إقليمية ودولية تزرع في أرجائها القواعد العسكرية أو تحتل أجزاء منها وتحيل ما يزعم أنه حكم وطني إلى حكم أجير لا يملك من أمره شيئًا. هكذا خُيِّلَ لها أنَّ رغبة أو همّة الشعوب في الثورة قد خبت، وأن ما كان ربيعًا عربيًا قد استحال شتاء لا ينتهي، وأن أحدًا منها لن يغامر مرة أخرى ويدفع الثمن الباهظ الذي دفعته الشعوب العربية الثائرة منذ عام2011 وحتى الآن.
سوى أن العمى الذي يصيب المتعطشين إلى السلطة، ما إن يمسكوا بمقاليدها، يحول على الدوام بينهم وبين رؤية ما حولهم. فالسابع من أيار/مايو عام 2008 ، حين احتلت ميليشيا حزب الله وحركة أمل بيروت وكان ذلك بمثابة إعلان صريح لهيمنة القرار الإيراني عبر وكيليْها المحلييْن على القرار اللبناني السيادي، بقي حاضرًا في ذاكرة اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومناطقهم. لا لأنه كاد أن يكون منطلقًا لحرب أهلية جديدة، ولا لأنه عنى للبنانيين أن قوة السلاح بأيدي حفنة موتورة طائفيًّا منهم باتت هي الحَكَم الوحيد في إدارة شؤون الدولة اللبنانية فحسب، بل لأنه عنى خصوصًا أن مصيرهم صار بين أيدي هذه الحفنة بوصفها وكيلة دولة أجنبية تحكمها دكتاتورية ولي الفقيه، يأتمرون بأوامره وينفذون سياساته في بلدهم. وخلال السنوات التي توالت من بعد، تعدّدت الحكومات التي كانت ترعى أوامر المهمات التي كان الوكيل الإيراني المحلي يسمح أو يأمر بها، ولم يكن عنوان رفضها الكبير إلا ما حملته الشعارات التي رفعها اللبنانيون جميعًا يوم قرروا النزول إلى الشارع منذ 17 تشرين أول/اكتوبر الماضي، مطالبين الجميع (كلهن يعني كلهن) بالرحيل من أجل القضاء على الفساد والنظام الطائفي الذي يحول دونهم ودون استعادة بلدهم/وطنهم بعد أن فقدوه وافتقدوه. 
كذلك كان حكام العراق الذين توالوا على الحكم بعد أن جاء أوائلهم صحبة القوات الأميركية لحكم بلدهم وهم يشهدون احتلاله من قبل قوة عظمى شتت جيشه وفككت دولته وقتلت مئات الألوف من أبنائه وانتهت إلى وضع البلد تحت تصرف دولة مجاورة، ذات مطامع توسعية إقليمية معلَنَة، كان في حرب معها طوال نيِّفٍ وثمانية عشر عامًا (1980 ـ 1988). وحلَّ محلهم، من بعد، حكام لم يكونوا يخفون نزعتهم الطائفية والانتقامية بعد أن قبلوا وضع أنفسهم تحت أوامر ولي الفقيه ومعاونيه في بلدهم، بغية الاستيلاء على السلطة، "بالطرق الديمقراطية"، كي يعيثوا فيها فسادًا ونهبًا، ويجعلوا من شعب بلدٍ شديد الثراء مرتعًا للفقر وللمرض وللقتل بلا حساب. شعبٌ نزل هو الآخر بكل مكوناته إلى الشوارع في بداية تشرين الأول/أكتوبر الماضي، يندِّد بالفساد والفاسدين ويطالب برحيل الجميع من أجل نظام وعقد اجتماعي جديديْن.
لا يمكن أن نرى في حراك الشعبيين، العراقي واللبناني، إلا برهانًا على أنَّ حركة الشعوب العربية الأخرى من أجل استعادة حقوقها المسلوبة في الحرية وفي الكرامة وفي وطن حرّ لم ينته بعد. يعرف الشعبان الثائران اليوم أن الثمن غال. وعلى أن هناك قواسم مشتركة عديدة بين حراكي الشعبين في العراق وفي لبنان، وهذا على الرغم من خصوصية كل منهما، أهمها هيمنة إيران على مركز القرار في الدولة، ووجود قوة مسلحة محلية تضمن بسلاحها ما تستطيع ضمانته والاستفادة منه في كل ما تقرره مؤسسات دولة ديمقراطية أو شبه ديمقراطية تهيمن على مقدراتها طبقة من السياسيين الفاسدين أو المأجورين، فإن طريقة مواجهة النظام السياسي ككل تتطلب التكيّف مع الوضع السياسي والتعبوي في كل من البلديْن. لن يكون بوسع حزب الله وحركة أمل في لبنان التصرف على سبيل المثال في مواجهة الحراك كما يمكن للحشد الشعبي في العراق أن يتصرف في مواجهته، هذا دون المقارنه بطيبيعة الحال مع نظام يهيمن على كل شيء في حياة شعبه كالنظام الأسدي في سورية أو كنظام ولاية الفقيه في إيران. كلا الحراكين في العراق وفي لبنان اختار الاحتجاج السلمي بصورة مطلقة. لكن النظام السياسي القائم هنا وهناك لا يمكن أن يتحمل أعباء مثل هذا الحراك، ولذلك يعمل منذ الأيام الأولى على احتوائه بطرق تتفاوت بين الاعتراف بشرعية مطالبه، مع العمل عبر مندسيه على تشويه سلمية الحراك من خلال ممارسات عنيفة تتيح للسلطة الاعتماد عليها في مواجهة الحراك للتشكيك في أهدافه، أو التشكيك في أغراض الدافعين إليه وبانتماءاتهم، في الوقت الذي تعترف فيه بأحقية المطالب المعلنة من ناحية، وبين ممارسة القمع بقوة السلاح دون أي تمييز إزاء المتظاهرين السلميين، من ناحية أخرى.
كان سلوك الحكومة العراقية يتجلى عبر صوتين متناقضين: صوت الحكومة التي تزعم حماية المتظاهرين والاعتراف بحقهم في التظاهر السلمي، وصوت الرصاص الذي يقتل يوميًا عشرات المتظاهرين السلميين على أيدي القوات العراقية الأمنية. فمن يعطي الأوامر بالقتل إذن؟ ومن هو المسؤول؟ إما أن هناك من القوى من يتجاوز أوامر أو إرادة الحكومة الشرعية، أو أن هذه الأخيرة هي التي تعطي الأوامر بالمواجهة العنيفة دون أن تجرؤ على الاعتراف بذلك. سوى أن كل المتابعين للوضع العراقي الداخلي  لا يمكن إلا أن يعترفوا بأن ثمة مصادر عدة للأوامر ومنها بطبيعة الحال الحشد الشعبي الذي يعمل تحت إمرة الإيراني، قاسم سليماني، قبل أن يستجيب لأوامر قائد الجيش العراقي.
لكن المتظاهرين يعرفون أن الثمن غال. وهاهم يقدمون كل يوم ضحاياهم من أجل تحقيق  ما يطالبون به: استعادة عراقهم.
يختلف الوضع في لبنان. إذ أن هناك ثلاث سلطات فعلية يمكن أن تواجه الحراك الشعبي: الحكومة، والجيش، وميليشيا حزب الله وحركة أمل. هناك الحكومة التي لا تستطيع مواجهة الحراك بالقوة بعد أن أعلن رئيسها دعمه لمطالب المتظاهرين مؤكدًا هذا الدعم بتقديم استقالة حكومته من ناحية، ورفضه تشكيل حكومة لا تستجيب حرفيًا لمطالب المتظاهرين من ناحية أخرى؛ وهناك الجيش الذي يعمل على ضمان استمرار سلميّة الحراك؛ وأخيرًا حزب الله وحركة أمل، أي من يمسك بالقرار الفعلي في الدولة اللبنانية، والذي لا يزال يحاول تنويع طرق المواجه بالتهديد تارة أو بالترهيب تارة أخرى بواسطة عناصره الأمنية التي، وهي تحل محل قوات الأمن، تمارس أقصى درجات العنف إزاء المتظاهرين مستهدفة إرهابهم وزرع الخوف في أنفسهم لعلهم يتراجعون.
تحاول السلطة في كلا البلدين أن تتعرف على ممثلي الحراك بزعم رغبتها في الحوار معهم من أجل ضمان الاستجابة لمطالبهم. لكن أحدًا من الحراكين في بيروت أو في بغداد لم يقدم ممثليه. وأكبر الظن أن أحدًا منهما لن يفعل. فقد تعلموا الدرس من سورية ومصر وليبيا: القتل أو السجن، كي تضمن السلطة بقاء الحراك الشعبي بلا رأس.
ومن ثمَّ، كان جوابُ المشاركين في الحراك هنا وهناك، رجالًا ونساءً، شبابًا وكهولًا، جوابٌ واحدٌ، يُقال بلا قناع على الوجوه، ولا يبدو على الوجوه أثناء نطقه أدنى ملمح من ملامح الخوف أو الرهبة. جواب يتمثل في هذه الكلمات يردِّدها عددٌ كبير منهم أمام مختلف مراسلي الصحافة العربية والعالمية: "نحن نراهن على تصميمنا وصمودنا".
وقد يكون هذا هو الجديد حقًا في هذا الامتداد اللبناني والعراقي لربيع عربي ظن بعض الواهمين أنه قد انتهى..

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.


jeudi 14 novembre 2019



إيران: هل اقتربت الساعة؟ 
بدرالدين عرودكي 
في أوج أزماتها الاقتصادية والسياسية ضمن حمّى صراعها للبقاء مع إدارة البيت الأبيض اليوم، كان آخر ما تتوقعه سلطة ولاية الفقيه الحاكمة بإيران أن تثور عاصمتان جوهريتان، بيروت وبغداد، من مجموع العواصم الأربع في مشروعها لتحقيق حلمها الإمبراطوري، والتي سبق أن اعتبر كبار مسؤوليها أنّ القرارات الخاصة بها باتت بين يديْ الولي الفقيه بطهران، وأن ترى هذه السلطة في ثورتيْهما تحدّيًا لها وتهديدًا ينذر مصيرها بالأسوأ إن لم تقم بوضع نهاية لهما بصورة أو بأخرى، وفي أسرع وقت ممكن، قبل أن تستفحل الأمور وتنقلب إلى حرب لا نهاية لها إلا في قلب طهران ذاتها.
كان التحدي صريحًا في العراق، لا لأن الشعب العراقي بطوائفه كلها أعلن ثورته على الفساد الشامل الذي طبع الحكم والحكام على اختلاف مستوياتهم منذ الغزو الأمريكي للعراق وتسهيل انزلاق إيران إلى الهيمنة على مراكز القرار السياسي فيه فحسب، بل لأن المرجعية الشيعية العليا نفسها في العراق أعلنت، إضافة إلى ذلك أيضًا، دعمها لثورة الشعب العراقي وندّدت، في الوقت نفسه، بالتدخلات الإقليمية والدولية التي تريد الإساءة إلى ثورة على الفساد والفاسدين ومن وراءهم.
ولم يكن هذا التحدي أقل صراحة في لبنان حين تجسَّدَ ملخَّصًا في كلمات ثلاث (كلهن يعني كلهن) على ألسنة الشعب اللبناني الذي نزل نصفه إلى الشوارع في كل أرجاء لبنان، في وحدة مواطنية غير مسبوقة، يطالب بالتغيير الجذري والخروج من نظام الطوائف والمحاصصات والسرقة الموصوفة تحت حماية السلاح أو في ظله.  
لم يكن تزامن هاتين الثورتيْن الجذريتيْن في تطلعاتهما ومطالبهما مجرد صدفة، لاسيما وأنه كان يقول المشكلة الأساس في ما وراء مطالب القضاء على الفساد، وتغيير النظام القائم برجاله ورموزه والقانون الذي سمح له بالوجود، من أجل استعادة بلد هيمنت ولا تزال تهيمن على مقدراته حفنة من السياسيين الانتهازيين الذين قبلوا ممارسة مختلف ضروب العمالة لبلد وجد فيهم ضالته لتحقيق مآربه وأحلامه بإمبراطورية جديدة، إشباعًا لجشعهم. أي، بعبارة أخرى،  استعادة البلد عن طريق الخلاص من إيران وعملائها ووكلائها الذين عاثوا في أرض البلدين فسادًا وإفسادًا جاعلين من العراق بلد الثروات موطن الفقراء، ومن لبنان، الذي كان بلد الإشعاع الثقافي في العالم العربي وواحة واعدة للحرية وللديمقراطية، بلدًا تحكمه ميليشيا يموِّلها بلدٌ أجنبي باعتراف رئيسها وحاكمها الفعلي الذي لا يخاطب جمهوره إلا من وراء حجاب الشاشة.
جاء الرد في العراق سريعًا وصفيقًا وبلا قفازات. فقد كان قمع المتظاهرين بقوة الرصاص الذي تنصلت الحكومة القائمة من المسؤولية عنه، هو، في واقع الأمر، الحلّ الذي اختارته إيران على أن يقوم بتنفيذه العاملون لحسابها علنًا في الحشد الشعبي، أو خفاء داخل الدوائر الأمنية خصوصًا. سقط القتلى بالعشرات في البداية ثم بالمئات، ولن يتوقف، كما يبدو، العمل بهذا الخيار، لأن تحقيق مطالب المتظاهرين يعني كف يد إيران عن العراق أو إخراجها من دوائر القرار فيها كلها، وهو أمر لا يمكن لإيران قبوله مادامت، وهي تناور في معركتها مع البيت الأبيض بواشنطن التي تأمل الانتصار فيها، بصورة أو بأخرى، ولاسيما مع خروج الرئيس الحالي منه، كما ترجو، في الانتخابات الرئاسية القريبة القادمة، ومن ثم أن تحتفظ بما تعتبره مكتسباتها التي حصلت عليها في مفاوضاتها مع الدول الست حول برنامجها النووي.
أما في لبنان، وبعد محاولات في الترويع عن طريق استخدام القوة من قبل ممثلي إيران والعاملين لحسابها، أي رجال حركة أمل وحزب الله، والتي سرعان ما تم التراجع عنها والتبرؤ منها، فقد بدأت محاولات الالتفاف على ثورة الشعب اللبناني بمختلف الطرق: اتهام السفارات بتمويل المتظاهرين، أو تبني مطالب الحراك الشعبي مع اتهام القائمين به بأنهم مجرد أقلية، أو التهديد بمظاهرات موازية كتلك التي قام بها أنصار التيار الوطني الحر أمام قصر الرئاسة في بعبدا، أو التظاهر بالانصياع لمطالب الحراك في تأليف حكومة من الخبراء شريطة أن تطعَّمَ بالسياسيين.. وصولًا إلى التصريح العجيب على لسان رئيس الجمهورية: "إذا ما في عندهم أوادم بالدولة يروحوا يهجّوا (أي يهاجروا أو يغادروا)، ما رح يوصلوا للسلطة"!
من الواضح أن الحراكين، كالعادة دومًا، كانا قد أعميا بصر وبصيرة كلِّ من يحتل موقعًا في السلطة، سواء في العراق أو في لبنان. وكان قوام هذا العمى ما كانت خطاباتهم تعكسه، إضافة إلى الكذب والغباء وركاكة اللغة وتفاهة المضمون، من استغباءٍ للناس ولقدراتهم في الفهم والإدراك. حتى أن إطلالاتهم لمخاطبة الثائرين التي كانت تثير مشاعر الغضب والرفض لديهم تبدو وكأنها أكثر فائدة في تأجيج الثورة ورفع سقف مطالبها بدلًا من الحدِّ منها!
 أرادت إيران أن تروج حول الحراكين العراقي واللبناني، وقد أدركت أنها المستهدفة، أنهما صناعة أمريكية/إسرائيلية  محضة.  وجاءت أحاديث وكلائها في لبنان خصوصًا عن السفارات والتمويل الخارجي للحراك استغباء لكل من خرجوا بإرادتهم وحدها يعلنون رفضهم للنظام الطائفي وللفساد ولحماة الفساد الذي يعانون آثاره، صغارًا وكبارًا، في حياتهم اليومية . 
سوى أن الجميع يدركون، في العراق كما في لبنان، وكما في العالم العربي أو في كل مكان في العالم، أن أحدًا لا يستطيع أن يحرك شعبًا بأكمله لحساب مصالحه مهما بلغ من القوة والجبروت، سوى حكم الاستبداد أو الفساد أو كلاهما معًا. مثلما يدركون أيضًا أن القوى الإقليمية أو الدولية ذات المصالح في كلا البلدين يمكن أن تنتهز الفرصة لاستثمار ما في هذا الحراك الشعبي أو ذاك. ولا شك أن أحدًا لن يستغرب أن تنتهز الولايات المتحدة الفرصة لاستغلال ومحاولة توظيف الحراكين في العراق وفي لبنان من أجل دعم معركتها في تحجيم إيران ووضع حدود لدورها في المنطقة بدءًا بالموضوع النووي وانتهاء باستراتيجية تحقيق حلمها الإمبراطوري المرفوض إقليميًا ودوليًا.
قد يكون من المبكر الحديث عن عدٍّ عكسي لدور إيران الجاري أداؤه اليوم في المنطقة العربية. سوى أن ناقوس الخطر يقرع اليوم وبشدّة. وهو يقرع للأطراف جميعها: لأرباب الثورات المضادة التي انقلبت على ثورات الربيع العربي، وللاستعماريين الجدد، وكذلك خصوصًا للطامحين من الدول الإقليمية في إعادة بناء إمبراطوريات  بات مجرد ذكر إمكانها اليوم يثير السخرية في العالم أجمع،. وليس ذلك كله إلا إعلانًا صريحًا وواضحًا بأن اليوم لن يكون على وجه اليقين كالأمس.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.