jeudi 29 août 2019



"عطب الذات" وعطب القراءة 
بدرالدين عرودكي 
ستة أشهر مرّت على صدور كتاب برهان غليون "عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل، سورية 2011 ـ 2012" دون أن يستدعي ردود أفعال علنية، سلبية أو إيجابية، من معظم مَنْ يعنيهم الأمر في المقام الأول، أي ممن تصدّوا لمهمات تمثيل الثورة والمعارضة خلال سنتي 2011 و2012، على ما تضمنه في صفحاته التي تجاوز عددها خمسمائة صفحة! أما المقالات التي كتبت حوله فقد كان أكثرها تنويهًا بصدوره أو إشارات وجيزة إلى مضمونه، وأقلها كان نقدًا لما جاء فيه. سوى أن هذا القليل من المقالات النقدية وقع كما يبدو في فخ ربما كان العنوان مسؤولًا عنه: عطب الذات، انطلاقًا من أن الذات الجمعية لا تستثني الذات الفردية، أي ذات المؤلف نفسه. فراح كتابها يصبون جام غضبهم على المؤلف لأنه تحدث عن أخطاء الآخرين ولم يتحدث عن أخطائه هو، الأمر الذي دفعهم إلى اعتبار ذلك "عطبًا رئيسًا" في الكتاب ينزع عنه لدى البعض مصداقيته، أو يسيئ لدى البعض الآخر إلى قيمته وأهميته.
ولو أخذنا بعين الاعتبار عددًا كبيرًا من التعليقات السريعة التي حفلت بها صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، والتي كانت في صياغاتها الجادة أو المستهزئة أو المستخفة تعكس مشاعر حب أو كراهية أو لامبالاة  نحو المؤلف، ولاسيما من قبل الذين لا يعرفونه إلا بوصفه شخصية عامة، أو الذين لم يقرأوا الكتاب أساسًا، ربما كان مصدرها قناعات أصحابها الأيديولوجية أو مواقفهم الفكرية، لأمكننا التساؤل بحق عما إذا لم يكن هناك سوء تفاهم ــ أو، ربما، سوء قراءة ــ للعنوان أولًا، ولمرامي الكتاب ثانيًا، ولما احتواه الكتاب بالفعل في متنه ثالثًا.
لابد قبل كل شيء من التذكير بأن العنوان عادة (إن لم يكن من اختيار الناشر لأسباب تجارية محضة) هو دليل الكتاب. وبوصفه كذلك، لم يكن عنوان كتاب برهان غليون يتضمن ما يشير إلى أنه وقائع سيرة ذاتية أو مذكرات شخصية يستعيد بها المؤلف سنوات حياته أو بعضًا منها. ذلك أن الجملة التالية من العنوان: "وقائع ثورة لم تكتمل ــ سورية 2011 ـ 2012" توضح، بما لا يترك أي مجالٍ لللبس أو لسوء الفهم، أن المؤلف سعى إلى تقديم سردية تاريخية لهاتين السنتيْن التي شهد خلالهما وعاش الحدث الاستثنائي في تاريخ سورية المعاصر وشارك فيه مفكرًا وناقدًا، من ناحية، ثم منخرطًا كليًا في الفعل السياسي الذي سرعان ما دفع به إلى موقع المسؤولية السياسيّة بوجه خاص، من ناحية أخرى. وربما كان من المفيد تذكير الشباب الذين اتَّقدَ وعيهم مع انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، أن برهان غليون كان قد بدأ حياته كاتبًا ومفكرًا ملتزمًا ولاسيما في حقل الاجتماع السياسي قبل عقود أربعة من ذلك العام، وأن الإيماءة الموجزة في بداية الكتاب إلى مساره الفكري والنضالي على صعيد الكتابة أو، خصوصًا، إلى المشاركة النضالية المباشرة في سورية مع بداية الألفية الثالثة كانت تستهدف الإشارة إلى أنه لم يكن طارئًا لا على النضال، ولا على الالتزام بقضايا وطنه الملحة، رغم مغادرته سورية في نهاية ستينيات القرن الماضي. لكن السوريين، ومنهم بعض أصدقائه القريبين الذين عرفوه كاتبًا ومفكرًا طوال العقود الماضية، فوجئوا والحق يقال بانتقاله إلى حقل الممارسة السياسية المباشرة حين قبِلَ توافقَ مؤسسي المجلس الوطني السوري عام 2011 على شخصه كأول رئيس له. ها هو مثقف وأكاديمي يضيف إلى صفتيه هاتين صفة الرجل السياسي بكل ما تعنيه هذه الصفة من معان متباينة تنطوي عليها مختلف اللغات ومن ثمَّ مختلف المجتمعات شرقًا وغربًا. لم يكن هذا الأمر أيضًا موضوع الكتاب، وإن وجبت الإشارة وربما العودة إليه في مناسبة أخرى.
تقود قراءة كتاب عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل إلى أن المؤلف عمد، بصفته مفكرًا سياسيًّا وناقدًا، إلى أن يختصَّ السنتين الأوليتين من الثورة السورية ــ التي لم تكتمل ــ بسرد تحليلي ونقدي لوقائعها بما أنه كان، بخلاف معظم من كتبوا حتى الآن عن هذه الثورة، شاهدًا وفاعلًا، يملك من المعلومات وتفاصيل الأحداث التي عاشها أو المصاعب التي واجهها أو الخيبات التي عاناها ما لا يستطيع أن يقوم بمثله سوى أمثاله ممن تصدّوا لقيادة الهيئات التي طمحت إلى تمثيل الثورة والحديث باسم السوريين، ولاسيما الشباب منهم، الذين كسروا جدران الخوف والرهبة وخرجوا يواجهون بصدورهم أعتى نظام استبدادي عرفته المنطقة العربية خلال الأعوام المائة الأخيرة. 
لاشك أن من أولى واجبات من عاشوا هذه الفترة أفرادًا ضمن مؤسسات وهيئات الثورة مناقشة موضوعات هذا الكتاب جميعها ولاسيما منها سردية الأحداث التي كان من بعض نتائجها تدهور الثورة ودخول الفاعلين فيها شأن الذين تصدوا لقيادتها أو لتوجيهها في متاهات أدت إلى ما عمل النظام الأسدي منذ البداية على تحقيقه، أي على إجهاض هذه الحركة النبيلة، بدعم ومساعدة حلفائه الإيرانيين ووكلائهم على الصعيد الإقليمي، والروس على الصعيد الدبلوماسي، خلال الفترة التي اختصها الكتاب. ذلك أنهم يملكون، هم أيضًا، من المعلومات ومن التفاصيل الخاصة بهاتيْن السنتيْن ما يمكن أن يسهم ربما في تصحيح أو على وجه اليقين إثراء سردية هذا الكتاب.
لقد تناولت هذه الأخيرة بالتفصيل انطلاقة الانتفاضة السورية  ومخاض ثم ولادة المجلس الوطني السوري وتشرذم المعارضة في هيئات مستقلة وما جرى من تسويق لظاهرة العرعور الذي ما إن أدى الدور المرسوم له حتى اختفى من الساحة ومن الشاشة في آن واحد، مثلما عرض صراع "الأيديولوجيات المأزومة" بين الإسلاميين والعلمانيين. لكن من بعض أهم ما انطوت عليه هذه السردية الاستثنائية كان تفاصيل الحوار/الصراع مع العسكر ممثلًا في قيادة الجيش الحر، أو ما جرى على أرض الواقع من تحييد للعسكر وعسكرة للمدنيين. تلك أمور كان أوْلى بالذين تعرضوا للكتاب مسجلين مأخذهم الأساس على مؤلفه (غياب النقد الذاتي) أن يناقشوها، وخصوصًا منهم من كان في هيئات المعارضة موظفًا أو ناشطًا أو مسؤولًا، لا لدورها التخريبي في أثناء السنتين المذكورتين في العمل الثوري فحسب، بل بوصفها الآفة التي واجهت وتواجه وستواجه كل من يتصدّى للعمل من أجل دولة مدنية ديمقراطية لا هيمنة فيها إلا للشعب عبر المؤسسات التمثيلية التي تعمل تحت إرادته.   
كان من الممكن على الأقل مناقشة ما يمكن أن يُطلق عليه آنئذ وبلا تردد "الغباء السياسي" في فهم هذا الضرب من إدارة مثل هذه الهيئات، أو إن شئنا "استعجال الوصول إلى السلطة والولاية" في وعلى ثورة لم يكن لهم يد في إطلاقها على كل حال، وذلك حين اشترط ممثلو بعض مؤسسي المجلس الوطني السوري أن تكون مدة ولاية رئيس المجلس ثلاثة أشهر ثم تنازلوا (بعد استشارة قادتهم) فمددوها إلى ستة أشهر! لم يكن بوسع برهان غليون أن يحاجج في الأمر تحت طائلة الاتهام بمرض السلطة، ولم تكن ثمة وراءه قوة سياسية تحاجج في الأمر موضوعيًّا وتعفيه من السير في طريق كان منذ البداية محفوفًا بالعقبات والمزالق. كانت حجة القائلين بقصر مدة الرئاسة على ثلاثة أشهر تعكس هي الأخرى وبوضوح هذا الغباء السياسي أو هذا الجشع: فالتناوب على الرئاسة لابد أن يكون قصيرًا نظرًا لأن انهيار النظام لن يتأخر! والأنكى من كل ذلك، أنَّ أحدًا يومئذ لم يتعرض لمثل هذا السلوك بالنقد أو بالرفض، مادام "لا صوت يعلو فوق صوت الثورة".
هناك أيضًا ما كان من الأولى أن يناقش من وقفوا عند غياب النقد الذاتي في الكتاب ما جاء فيه من تفصيل يخص طبيعة العلاقات التي كانت وجوه ومؤسسات المعارضة السورية ترتبط بها مع القوى الإقليمية والدولية. يروي برهان غليون في كتابه حادثة رفضه طلب المراقب العام للإخوان المسلمين رياض الشقفة حضور ممثل لوزارة الخارجية التركية بصفة مراقب أول اجتماع للأمانة العامة للمجلس الوطني. ذلك ما حمله على أن يبين في كتابه أمريْن: "ضعف روح السيادة الوطنية عند النخب السورية" وأن "الانزلاق نحو التبعية لا ينجم دائمًا عن إرادة الهيمنة الخارجية ولكن عن القابلية للتبعية وغياب روح السيادة والاستقلال".
ألم يكن الأجدى التوقف عند هذه الثيمات وسواها مما حفلت به وقائع هذه الثورة التي لم تكتمل بدلًا من انتظار أن يقوم المؤلف بالاعتراف بأخطائه التي لابد من أن يكون قد ارتكبها مادام يحصي على الآخرين أخطاءهم؟
على أنه لابد من الإشارة إلى أن قراءة الذين توقفوا عند غياب النقد الذاتي في الكتاب كانت، مع ذلك، قراءة عجلى لم تنتبه إلى المرات العديدة التي كان المؤلف يشير فيها إلى الأخطاء الجماعية بضمير المتكلم، وإلى أنه كان الأوْلى بهم، بدلًا من مطالبته القيام بهذا "الاعتراف"، أن يسجلوا له إن استطاعوا أخطاءه مثلما سجل من ناحيته أخطاء الآخرين، بعد أن يثبتوا على الأقل أنهم قرأوا الكتاب قراءة لا عطب فيها!

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 29 آب/أغسطس 2019



jeudi 1 août 2019



المسرح، والسياسة، والتأريخ
 أبو خليل القباني، الدمشقي
بدرالدين عرودكي
إذا كانت صدفة على غير ميعاد هي التي قادت الباحث والروائي تيسير خلف إلى أحمد أبي خليل القباني، وحملته على اكتشاف كنز من من المعلومات والمعطيات الخاصة بالمسرح السوري، تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر لم يكن هو أو غيره يعلم بوجودها من قبل، ومن ثم على وضع كتابه/الرواية التوثيقيين: من دمشق إلى شيكاغو، رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا عام 1893، فإن الإرادة والقصد هما من حملاه على أن يمضي بعيدًا في الكشف عما لم يكن معروفًا، منذ قرن ونصف، حول أحد كبار الرواد المؤسسين للمسرح العربي الذي عرفته دمشق وبيروت والإسكندرية والقاهرة وشيكاغو، وبقي مع ذلك شبه مجهول في بلده الأم، كي يحقق في جهود القباني المسرحية التي كانت أساس ومنطلق جهوده التالية ببيروت وبالقاهرة وبشيكاغو، أي بمدينته دمشق، ويخصص لها كتابه لبذي صدر مؤخرًا: وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق 1872 ـ 1883.
كان الدكتور سيد علي إسماعيل، أستاذ المسرح العربي بجامعة حلوان قد نشر في عام 2008 بمناسبتيْ مهرجان دمشق المسرحي الرابع عشر والاحتفال بدمشق عاصمة للثقافة العربية كتابًا حول "جهود القباني المسرحية في مصر"، ونبّهَ في مقدمته للكتاب: "إذا كان كتابي هذا قد تطرق إلى جهود القباني المسرحية في مصر، فإن جهوداً مسرحية للقباني في سورية ما زالت مجهولة، والمعروف عن هذه الجهود حتى الآن يحتاج إلى تدقيق توثيقي، وتحليل نقدي ... "  وضرب أمثلة عديدة على اختلافات الباحثين حول نشاط القباني المسرحي في سورية، مشيرًا إلى أنَّ "هذه الاختلافات الجوهرية في حياة القباني ونشاطه المسرحي في سورية، لا تليق بهذا الرائد المسرحي السوري الأول، وتفرض على الباحثين - في سورية الشقيقة أولاً - واجبا قوميا وأدبيا وفنيا،ً حتى يستقيم تاريخ هذا الرائد، لا سيما أن مفاتيح بحثية ظهرت في هذا الكتاب، يُمكن الاسترشاد بها، وعدّها بداية للبحث والتنقيب." وهذا ما حمل تيسير خلف، بعد وضع كتابه عن رحلة القباني إلى شيكاغو، على أن يستجيب لهذه الدعوة التي رأى فيها، كما هو واضح من هذا الكتاب الأخير، دعوة إلى استعادة القباني من بداياته الأساس في سورية كما يليق به وبمشروعه الرائد في مجاليْ المسرح والموسيقى، وما انطوى عليه من إبداع وابتكار ولا سيما في مجال الإخراج المسرحي، والعلاقة بين خشبة المسرح والجمهور، أي كسر الجدار الرابع، وكانت تفاصيل معظم ذلك مجهولة كليًا لا من قبل أكثرية المهتمين بالمسرح في العالم العربي، بل حتى من قبل الذين تناولوا تجربة القباني أو أرخوا لهذه التجربة بهذا القدر أو ذاك.
لقد تمكن تيسير خلف، بفضل جهد استثنائي بذله، من أجل الحصول على مصادر، بقيت مجهولة طوال قرن ونصف، سمحت له بالقطع في كل ما بقي حبيس الظن أو موضع خلاف وأخذ وردٍّ بين من كتبوا عن القباني من قبل. لقد كتب الدكتور سيد علي إسماعيل بحق في مقدمته الوافية، أن هذا الكتاب "سينحي جانباً كل ما كُتب من قبل عن نشاط القباني المسرحي في سورية قبل قدومه إلى مصر"، ضاربًا أمثلة على ذلك، منها أن مؤلفه استطاع "أن يحدد نشاط القباني المسرحي داخل سورية، ابتداءً من يونية 1875 وانتهاءً في سبتمبر 1883. وهذا التحديد الدقيق، كان مجهولاً"، كما أمكنه أن يؤكد وبشكل قاطع "حقيقة سفر القباني وفرقته إلى معرض شيكاغو عام 1893، وهي الرحلة التي اختلفنا جميعنا حولها بين مصدق ومكذب لحدوثها"، ونجح "من خلال استخدامه لأدواته البحثية المعتمدة على الوثائق وأقوال الصحف، التي لم يستخدمها أحد من قبل – في تفسير أسباب غلق مسرح القباني في سورية، فجاء تفسيره جديداً ومقنعاً"، هذا إضافة إلى اكتشافه "مرسح الاتحاد"، وهو مسرح معاصر لمسرح القباني، لم يكتشفه أحد من قبل، ولم يكتب عنه أي باحث من قبل في تأريخه للمسرح في سورية"، ونجاحه في "تفسير لغز العريضة التي كتبها بعض شيوخ دمشق ضد القباني ومسرحه، وكنّا نظن خطأ أنها كانت السبب في إغلاق مسرح القباني واضطهاده في سورية، مما أدى إلى انتقاله بمسرحه إلى القاهرة! ولكن المؤلف خالف كل من سبقوه في هذا التفسير، وجاء بحقائق غير متوقعه، نجح في تفسيرها وتوضيحها، وخرج بنتائج تاريخية جديدة".
ذلك كله يشير إلى حقيقة مؤسفة في الكتابات التأريخية في هذا المجال التي تبدو  في معظمها أقرب إلى "الشرح والتعليق على شوارد الروايات الشفهية"، وعزوف عدد كبير منها عن اعتماد المناهج الصارمة في التدقيق والتقرير والحكم. فكان علينا أن نتتظر مائة عام بعد على رحيل مؤسس المسرح السوري وأحد كبار روّاد ومؤسسي المسرح العربي كي نعلم بصورة أقرب إلى الدقة ما كنا نجهله كل الجهل أو ما كان من تصدوا للتأريخ له يسلكون في محاولات تقريره طرق الظن والتخمين، وذلك بفضل باحث مدقق بذل جهدًا مذهلًا يكشف عنه كتابه نفسه موضوع هذا المقال مثلما كشف عنه كتابه السابق الذي كتبتُ عنه هنا قبل عام[1].
على أنَّ التدقيق والبحث المنهجي الجاد ليسا وحدهما ما سيكتشفه القارئ في هذا الكتاب. ذلك أننا إزاء رواية مثيرة، تقدم بدايات شاب دمشقي، متعدد المواهب، اكتشف المسرح فكرس له حياته ومواهبه العديدة ولاسيما الموسيقية منها. شابٌّ سوف يصير مع الأيام شخصية ثقافية نادرة في تاريخ الثقافة الفنية والمسرحية في سورية وفي العالم العربي. وهي رواية استطاع تيسير خلف، اعتمادًا على وثائق محققة، أن يصوغها عبر وضعها ضمن سياق التاريخ الاجتماعي/ السياسي لدمشق في نهايات القرن التاسع عشر، وأن يتابع، بأقصى قدر من التدقيق، كيفية ولادة وتحقيق مشروع مسرح بكل ما ينطوي عليه من مغامرات وعقبات ومصاعب، بدءًا من الأول من حزيران/يونيو 1875، وما واجهه من تشجيع ومن مقاومة في آن معًا، حتى إغلاقه في الثلاثين من أيلول/سبتمبر 1883. لن يكتفي مؤلف الكتاب بذلك، بل سيتناول "المرحلة البيروتية" المقتطعة من المرحلة المصرية التي لم تكن معروفة من قبل، فضلًا على استعراض مختلف الكتابات التي تناولت سيرة القباني الدمشقية، والعمل على تدقيقها أو استكمالها بقدر ما أتاحته له المصادر التي وصل إليها واعتمدها في كتابه.
كان أحمد أبو خليل القباني قد بدأ نشاطه المسرحي في بيوت أثرياء الشام، وسارت شهرته مع بداية سبعينيات القرن التاسع عشر حتى بلغت ــ كما روى محمد كامل الخلعي في ترجمته لأستاذه ــ مسامع والي دمشق خلال عامي 1872/1873، صبحي باشا، الذي "حضر بنفسه  تمثيل رواية من الروايات في حفلة أقيمت على شرفه بصورة خاصة في بيت ثري من أثرياء الشام، وهم كثر في ذلك العهد، فدهش مما سمع ورأى، وهام بحب أحمد كل الهيام وأدناه من مجالسه، وجعله موضع عنايته.. رأى الباشا في هذا النابغ الدمشقي الشروط المتوفرة للقضاء على الجمود الفكري في الشام وتهذيب النفوس الجامحة بواسطة التمثيل والموسيقى، فأوعز إليه أن يؤلف جوقة وأن يقيم مسرحاً في المكان الذي يختاره". وكان المكان الذي اختاره هو خان أسعد باشا، أحد خانات البزورية. على أن الوالي الذي جاء بعد صبحي باشا، وهو محمد حالت باشا، كان هو من أعطاه الترخيص بإقامة دار للمسرح العربي. وكانت هذه البداية المؤقتة لانتقال القباني بنشاطه المسرحي إلى الفضاء العام هي التي أتاحت له تقديم رؤيته الفنية مكتملة في ذلك الوقت، أي تلك التي تجلت في مسرحيات كانت "تضم جميع عناصر الفرجة "القبانية"، كالديكور والمناظر المبهجة، والأغاني والموشحات والألحان، والكوميديا اللطيفة، والحكم والمواعظ المفيدة." ولئن اضطر القباني إلى وقف نشاطه في دار المسرح العربي بعد سنة ونصف لأسباب كثيرة كان بعضها يرتبط باعتراض ذي طابع ديني عبر عنه يومئذ الشيخ بكري العطار مباشرة للقباني، إلا أن والي دمشق مدحت باشا (كانون الأول/ديسمبر 1878) هو الذي أعاده إلى التمثيل ووعده بالدعم والمساعدة، فطلب منه القباني آنئذ "دار البلطجية" التي صارت مقر نشاط القباني المسرحي حتى عام 1881 وربما، كما يقول تيسير خلف، حتى عام 1883، جنبًا إلى جنب العروض التي كان يقدمها في الحدائق العامة.
يشير تيسير خلف بحق إلى الفائدة التي كان الوالي مدحت باشا يجنيها من دعمه لأبي خليل القباني ونشاطه المسرحي ضمن مشروعه لاستعادة السلطة ثانية في الآستانة، وهو ما سمح للقباني بأن يحقق قفزة ذات دلالة في مشروعه المسرحي النهضوي. إلا أنه يصعب على أي مؤرخ أن يتصور لحظة أن القباني كان يدرك الأسباب الخفية وراء دعم مدحت باشا له. فقد كان مستغرقًا كليًّا في مشروعه، لاسيما وأنه كان يواجه رفض مشايخ دمشق لهذا الذي "أحدث خروقًا في الدين بترقيصه الفتيان المرد على المسارح، وتهريجه وتمثيل مما لم تطق الشام على مثله صبرًا.." كما جاء في سردية حسني كنعان لقصة العريضة التي قدمها الشيخ سعيد الغبرة إلى السلطان، والتي أدت حسب بعض الروايات إلى إغلاق مسرح القباني ووقف نشاطاته.
فنَّدَ تيسير خلف هذه السردية ووصل إلى نتيجة أقرب إلى الدقة حسب كل المعطيات التي قدمها تقول خلاصتها غيابَ أيِّ قرار (أو إرادة سنية) صادر عن السلطان العثماني، وأن المنع الذي كان قرار أبي الهدى الصيادي، مستشار السلطان، أو الصدر الأعظم، هو الذي حمل الوالي يومئذ، أحمد حمدي باشا، على إغلاق مسرح القباني.
هكذا لعبت السياسة دورها في انطلاق مشروع القباني المؤسس للمسرح العربي، مثلما لعب حماة التقاليد الدينية دورهم في محاولة وقف هذا المشروع الذي سيجد مع ذلك طريقه إلى الاستمرار بالقاهرة وبالإسكندرية ثم ذروته بشيكاغو.
سنعلم ذلك كله بفضل هذا الكتاب المذهل في دقته وفي أمانته للبحث التاريخي والتوثيقي المكرّس لوجه من وجوه تاريخ سورية الثقافي خصوصًا والنهضة الأدبية العربية عمومًا، أعني ذلك الذي جسَّده أحمد أبو خليل القباني. والحق أن محمد كرد علي الذي يستشهد به تيسير خلف كان قد وضع النقاط على الحروف، في تقييمه لهذه الشخصية الثقافية الاستثنائية في التاريخ الثقافي السوري الحديث، حين كتب عنها في كتابه خطط الشام: "وجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه، بل قيل له: إن في الغرب فناً هذه صورته فقلده، وقيل: إنه شهد رواية واحدة مثلت أمامه في إحدى المدارس الأجنبية، ولما كانت عنده أهم أدوات التمثيل وهو الشعر والموسيقى والغناء، ورأى أنه لا ينقصه إلا المظاهر والقوالب، أوجدها وأجاد في إيجادها، ولذلك كان أبو خليل مؤسس التمثيل العربي، ونابغة العرب في الموسيقى والتمثيل، ورواياته التي ألفها ما زالت منذ زهاء ستين سنة وإلى يوم الناس هذا (1925م)، موضع إعجاب الأمة...".
 من الواضح أنه لن يكون من الممكن، من الآن فصاعدًا، قبول أي حديث عن بدايات المسرح العربي من دون العودة إلى هذا الكتاب الفصل، الذي وضع النقاط على الحروف في كل ما يخص جهود، لا أحد رواد النهضة العربية الحديثة فحسب، بل أحد كبار رواد الحداثة الثقافية العربية: أحمد أبو خليل القباني، الدمشقي.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 1 آب/أغسطس 2019.




[1]   انظر مقال "الذي كسر الجدار الرابع!"، المنشور على موقع جيرون يوم الخميس 10 أيار/مايو 2018.