jeudi 20 juin 2019



من أجل قتل الرمز 
 بدرالدين عرودكي 
مشهد أم عبد الباسط الساروت، حارس مرمى نادي الكرامة أو كما سماه السوريون "حارس الثورة السورية" منذ انطلاقها في ربيع عام 2011، وهي تنعم النظر في وجه فلذة كبدها الذي فارق الحياة، يجسِّدُ فجيعة السوريين الذين خرجوا قبل نيف وثمانية أعوام لإسقاط نظام الاستبداد. وهاهم، يوم رحيل من بات ضميرهم، يشيعونه حاضرًا وغائبًا في كل مكانٍ يتواجدون فيه ويستحضرون مسيرته، مسيرتهم، منذ أيامها الأولى التي كانت حبلى بالآمال وعمل نظام البراميل الكيمياوي محاولًا سحقها إذ وجَّهَ رصاصَهُ منذ البداية نحو من كان يحملها بكفاءة منقطعة النظير، فقتل منهم أو اعتقل (وكلاهما سيّان)  من استطاع، وحمل من لم يستطع النيل منهم إما على القتال لمن استطاع إليه منهم سبيلًا أو على الهجرة والانتشار في أرجاء المعمورة.
هكذا جسّدت لحظة الفجيعة برحيل واحد منهم، عبر بساطته وصدقه ومسيرته، لا كلَّ ما كانوا ولا زالوا يصبون إليه فحسب بل كذلك كل ما واجهوه عند ثورتهم من أفعال الإنكار والتشويه والعبث والاستهتار عَمِلَ النظام الاستبدادي بكل الوسائل المتاحة لديه وبدعم دبلوماسي ومادي من قبل روسيا وإيران مباشرة أو/ وعبر وكيل أعمالها في المنطقة على تعميمها بالقول وبالفعل. لكن هذا النظام نفسه الذي حاول بشتى الوسائل، ومنذ الأيام الأولى لظهور عبد الباسط الساروت بين صفوف المتظاهرين يغني ثورتهم ومطلبهم في الحرية وفي الكرامة، أن يعتقل أو أن يغتال هذا الشاب كما اغتال أمثاله ورفاقه واحدًا بعد الآخر، حاول مرة أخرى، ومنذ إعلان مقتله في المواجهة ضده، أن يقتله ثانية إذ أخذ ينكر صفته كثائر ويشوه سمعته واصمًا إياه بالإرهاب، ويعبث بها كما يشاء، مثلما حاول من لم يتخلصوا بعدُ من هذه البيئة التي أنشأهم النظام نفسُهُ فيها ولم يتخلصوا من آثارها الوخيمة أن يسيئوا إليه راحلًا بعد أن أساؤوا فهمه حيًّا. لم يكن ذلك صدفة بقدر ما كان سياسة مدروسة ومنسقة لتشويه ثورة السوريين وكل ما يمتُّ إليها بصلة، رمزًا أكان أم إنسانًا عاديًّا شيمته الصدق والإخلاص. 
إذ، منذ الأيام الأولى التي بدأ السوريون يتلقون خلالها أخبار القتلى من أبنائهم أو أقربائهم أو أصدقائهم في المظاهرات أو في المعتقلات، أُخطِروا في الوقت نفسه بحرمانهم من المشاركة في جنازاتهم أو في عزائهم. وكان على ذوي القتلى أن يدفنوا فلذات أكبادهم ليلًا، بهدوء، ومن دون مشاركة أحد خارج دائرة العائلة الصغيرة، وبمعزل عن أي إعلان.
هكذا وصلت قيود الخناق التي فرضها النظام الأمني الأسدي على السوريين في حياتهم اليومية والمهنية والاجتماعية إلى حرمانهم حتى من الحزن أو البكاء على من يرميهم النظام الأمني بمختلف التهم الملفقة بشتى الوسائل، وصولًا إلى شبكات التواصل الاجتماعي التي أنشأ من أجله جيشه من الذباب الإلكتروني بهدف التشويش على من يعتبرهم أعداءه، والتغطية على كل ما يقال بحقه بما يفضح أساليبه في الكذب وفي التلفيق وفي المناورة الخبيثة. وهو ما باشره فور الإعلان عن مقتل عبد الباسط الساروت ورؤيته ما أثاره الخبر من ردِّ فعل جماعي مذهل لدى السوريين على اختلاف أعمارهم وأماكن وجودهم وآرائهم، حين اجتمعوا حزانى لفقدان شابٍّ في السابعة والعشرين من عمره لطالما أثار صدقه وإخلاصه الثوريّيْن لديهم مشاعر الحب والإعجاب. إذ سرعان ما بدأ الذباب الإلكتروني التابع للنظام ومواليه عمله بالاعتداء على صفحات السوريين في مواقع التواصل الاجتماعي، ولاسيما الفيسبوك، والتبليغ عنها لحذفها أو لتجميد حسابات كل من نشرها، في حين قام فصيل آخر من الذباب الأسدي نفسه بالكتابة لتشويه سمعة من وقف ضد نظام الأسد صراحة وبلا مواربة منذ اللحظة الأولى وحتى لحظة مفارقته للحياة عن طريق وسمه بالإرهاب أو بالسلفية أو بكليهما معًا. حرب إلكترونية منتظمة لقتل الرمز عبر الحيلولة دون ترسيخ صورة الشاب الذي كرس ثلث سنيِّ حياته الأخير وبكل ما أوتي من قوة لإسقاط الأسد ونظامه، استمرارًا لسياسة الإطباق الكامل على حركات وسَكنات السوريين حتى وهم في قلب مآساتهم. لكن الساروت الذي لم يحِد قيْد أنملة عن هدفه الأول/الأساس الذي خرج من أجله صحبة المتظاهرين، أي إسقاط النظام الأسدي، وجد في السوريين، الذين رأوا فيه ضميرهم، خير من يحميه ويحمي ذكراه من إجرام نظام لم يقبل منذ نشأته إلا  ولاء العبيد غير المشروط.
لا شك أن مثل هذه الحملة من نظام يتوهم النصر المؤزر على شعبه بفضل من سارعوا إلى حمايته واحتلال بلده واستثمارها من أجل ذلك كانت متوقعة أو، على أقل تقدير، مبررة في سياق سلوكه الحاقد على كل من وقف ضده. لكنه ليس مفهومًا ولا مبرَّرًا أن يصدرَ اليوم عن بعض من يعتبرون أنفسهم حماة هدف الثورة في الديمقراطية والمدنية هذا الحكمَ السلبيّ الصارم على عبد الباسط الساروت وعلى فيلمٍ جعل منه بطل الثورة ومن حمص عاصمتها، إشارة إلى فيلم طلال ديركي "العودة إلى حمص"، بعد أن قام عبد الباسط الساروت "بالدعوة إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام" من خلال تساؤل صاغه موقعو المقال/الحكم، جماعة السينمائيين السوريين، أبو نضارة، على هذا النحو: "هل لا يزال بالوسع تصديق ثورة في سورية في الوقت الذي ينضم فيه بطلها المعتمد إلى أفكار أعداء الديمقراطية؟" قد يكون من المفهوم طرح مثل هذا السؤال بصدد الساروت في هذا المقال الذي نشر في صحيفة ليبراسيون الفرنسية في شهر كانون الثاني/يناير 2015. وهو سؤال خاضع بطبيعة الحال ـ وضمن حدود ـ للنقد والنقاش يوم نشر المقال للمرة الأولى. لكن إعادة نشره على صفحة موقعيه في الفضاء الأزرق يوم إعلان وفاة عبد الباسط الساروت كان يعني أن من وقعوه، بإعادتهم نشره، لم تكن مسيرة الرجل طوال نيف وأربع سنوات مضت على ما كتبوه ونشروه تعني شيئًا لهم، وأنهم بنشره اليوم يصرِّحون باعتمادهم نهجًا القالب الذي اختاروه للثورة السورية: أي طريقة بروكرست وسريره! ذلك أن السبب الذي كتب المقال من أجله لم يعد له وجود منذ ذلك الحين، وهو واقع ثابت أيضًا بفديوهات منشورة على اليوتوب. ومن ثمَّ فإن نشره يوم وفاته كان يقول بكل بساطة أن الساروت/ الرمز، رغم كل شيء عبرت عنه  ببساطة متناهية مسيرته ومسار بوصلته إلى يوم وفاته، يبدو أقصر قامة من أن يحتويه السرير الذي اعتمده موقعو المقال إذ نشروه ثانية للتأكيد وللتذكير.
تلك أيضًا محاولة لا يمكن إلا أن تكون واعية لقتل الرمز الذي جسَّدَه الساروت في نظر الذين خرجوا معه ورافقوه أو تابعوا مسيرته ثم خرجوا ألوفًا مؤلفة  يشيعونه حاضرًا وغائبًا. قتلٌ إذن بأدوات نظام أمني لا يسوغ أي خروج على طاعته العمياء، وذلك هو القتلُ الموعود. وقتلٌ بأدوات منهج يضيق ذرعًا بالدأب وبالبحث وبمحاولات الفهم ـ ولو عن بعد ــ لثورة معقدة تحالف من أجل وأدها أعداء الداخل وأعداء الخارج معًا، دون الحديث عن الأصدقاء والحلفاء الذين أطلقوا على أنفسهم ذات يوم "أصدقاء الشعب السوري"، وذلك هو القتل المبين.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 20 حزيران/يونيو 2019.



jeudi 6 juin 2019




خيار العسكر: العسكر أو الخراب!
بدرالدين عرودكي 
هل كان من السذاجة الاعتقاد، أو حتى مجرد الظن، بأن العسكر في السودان وفي الجزائر وهم يعلنون تأييدهم للثورة والاستجابة لمطالب الجماهير في السودان بإزاحة البشير بل واعتقاله، وإرغام بوتفليقة في الجزائر على الرجوع عن إرادته ــ أو إرادة من كان يحكم باسمه ــ عن العهدة الخامسة، سوف يقومون بالانتصار لثورة الجماهير في البلدين ودعم مطالبها والسير إلى جانبها من أجل إعادة بناء الجمهورية وإقامة حكم مدني ديمقراطي في كلٍّ من البلديْن ؟
 منذ  بدء الاحتجاجات يوم 19 كانون أول 2018 في السودان التي نادت بإسقاط نظام عمر البشير وقيام حكم مدني ديمقراطي، ومنذ بدء الاحتجاجات المشابهة يوم 22 شباط/فبراير في الجزائر ضد العهد الخامسة للرئيس بوتفليقة، يجري في كلِّ واحد من البلدين العربييْن حوار بين طرفين: العسكر والجماهير في الشارع حول "ما بعد تحقيق الهدف الأول": إسقاط البشير هنا وإلغاء العهدة الخامسة هناك. في كلا البلدين، يملك الجيش القوة المادية التي تسمح له التحكم بمفاتيح السلطة جميعها ويزعم شرعية اكتسبها بفضل تحقيقه لمطلب الجماهير الأول. وفي كلا البلدين، يمارس مع الجماهير المنتفضة التي تملأ شوارع العاصمة والمدن الكبرى ضربًا من حوار الطرشان. تطالب الجماهير السودانية بنظام جديد قوامه حكم مدني ديمقراطي تنحصر فيه وظيفة الجيش ضمن مهمته الوطنية الأساس: حماية البلاد وأمنها تحت قيادة سياسية مدنية شرعية. أما الجماهير الجزائرية فتطالب بجمهورية جديدة تضع حدًّا لحكم العسكر الذين استولوا على السلطة منذ انقلاب هواري بومدين مباشرة ثمَّ من وراء ستار، ولم يتخلوا عنها حتى اليوم.
قيادة كل من الجيشين، في السودان وفي الجزائر، تحاول الوصول إلى أهدافها، أي الاستمرار في الاستحواذ على السلطة، محاولة تلافي أمثال الخسائر التي أدى إليها تعنت السلطة في سورية بوجه خاص. تبدي دعمها للحراك ومطالبه، وتقول الطريقة التي تراها هي قمينة بتحقيق هذه المطالب. كلاهما رأى في رمضان حليفًا سيحمل المعتصمين هنا والمتظاهرين هناك إن لم يكن على التوقف فعلى الأقل على تخفيف كثافة الاعتصام أو التظاهر. بلا جدوى. فقد كان رمضان حليفًا بالأحرى للجماهير في البلديْن وفرصة لتعزيز التضامن الشعبي على مختلف المستويات.
بعد أن أعلن المجلس العسكري في السودان عن فترة انتقالية تدوم سنتيْن، قَبِلَ الدخولَ في مفاوضات مع قادة الحراك الشعبي حول تكوين الهيئة الحاكمة خلال الفترة الانتقالية ومدتها. لكنه كان مصرًّا خلالها على أن تكون الكلمة الأولى له، سواء في عدد الممثلين العسكريين في المجلس بالنسبة إلى المدنيين، أو في رئاسة هذه الهيئة، مع قبول بقصْر المدة على سنتين. حجته في ذلك حرصه على ضمان أمن البلاد وشرعية تمسكه بالسيادة في الحكم بما أن الجيش هو من انقلب على البشير وأزاحه عن الرئاسة. وفي الوقت نفسه كان يرسل رسائل التهديد حول "العناصر التي يمكن أن تتواجد في صفوف المعتصمين والتي من شأنها أن تسيء إليهم وإلى مطالبهم". وكان المتظاهرون أنفسهم قد ألقوا القبض على عدد من هذه العناصر عند دخولها مكان الاعتصام وقاموا بتسليمها إلى مراكز الجيش نفسه. كان طبيعيًا والحالة هذه أن يرفض المجلس العسكري متابعة المفاوضات، وأن ينتهي الأمر به إلى فض الاعتصام بالقوة لقاء أكثر من مائة قتيل وعدد كبير من الجرحى.
لا يُنكر الدعم الإقليمي والدولي الذي تلقته قيادة المجلس العسكري من أجل الاستمرار في ما ذهبت إليه. لكنه الدعم الذي سبق أن وجد وسيجد على الدوام لدى العسكر آذانًا صاغية لأنه يوافق هواها ومراميها. صحيح أن إزاحة عمر البشير عن الحكم جاءت تحت وطأة المظاهرات الشعبية التي قادها التجمع المهني، إلا أن حركة الجيش كانت انقلابًا عسكريًا محضًا يستهدف السيطرة على مواقع الحكم السيادية، شأن الانقلابات السابقة التي عرفها السودان خلال نيف ونصف قرن. ومن الواضح اليوم بعد فض الاعتصام بالقوة أن الجيش لن يتخلى عن الموقع الذي حدده لنفسه؛ وما حديث قائد الانقلاب عن انتخابات تجري بعد تسعة أشهر إلا لتثبيت حكمه ما دامت هذه الأخيرة يمكن أن تحمل إلى سدة الحكم، كما حملت من قبل، عسكريًا آخر.
أما في الجزائر فقيادة الجيش ممثلة برئيس أركانه ونائب وزير الدفاع تتمسك بمؤسسات النظام الذي خرجت الجماهير الجزائرية تنادي بإسقاطها من أجل بناء جمهورية جديدة. لكن هذه المؤسسات هي تلك التي أشرفت قيادات الجيش المتوالية على إنشائها ورعايتها كي تكفل له اليد الطولى في تسيير أمور البلاد على الصعد كافة. وإلا فما الذي يبرر غير ذلك ظهور رئيس الأركان مخاطبًا وحيدًا للجماهير الثائرة، قادرًا على فرض الوجهة التي يراها لحل ما يسميه "الأزمة" والقائمة على تطبيق مادة من الدستور تتفق ورؤيته دون سواها من المواد التي يمكن أن تفتح مجالًا للاستجابة إلى المطالب الشعبية التي لا يكف مع ذلك عن إعلان تأييده لها؟
استطاع الحراك الشعبي فرض إلغاء العهدة الخامسة، ونجح أيضًا في الحمل على تأجيل موعد الانتخابات التي كانت قد تقررت في الرابع من تموز المقبل حسب المهلة الدستورية. ولا يزال الخلاف قائمًا بين قائد أركان الجيش وبين قادة الحراك الشعبي حول طبيعة المرحلة الانتقالية. لدى الجيش مواد الدستور التي تتيح له التحكم في وجهة ومسار المرحلة الانتقالية، ولذلك لا يريد الخروج عليها. وهو ما يجعل الاستجابة إلى مطالب الحراك الشعبي في عزل رموز النظام مستحيلة، لاسيما أيضًا وأن الرئيس المؤقت ـ الدستوري ـ هو أحدهم.
من الأرجح ألا تلجأ القيادة العسكرية الجزائرية إلى العنف من أجل فرض المسار الذي تراه. فسنوات الجمر التي عاشتها الجزائر تلجمها، ولا تتطلع إلى أن تكون سببًا في تكرارها. لكنها في الوقت نفسه لا تبدي أي استعداد للتنازل عما تراه مخرجًا من الأزمة والمتمثل بالشرعية الدستورية التي تتمسك بتطبيقها حرفيًا.
لا بد لتأجيل الانتخابات الرئاسية أن يسمح بالوصول إلى حلٍّ يمكن أن يستجيب لمطالب الحراك الشعبي دون المساس بسلطة الجيش ودوره المركزي في الحكم الذي اكتسبه بعد ثلاث سنوات من استقلال الجزائر نتيجة الانقلاب العسكري الذي قاده يومئذ هواري بومدين وزير الدفاع في الحكومة التي انقلب عليها.
لاشك أن الحراكين الشعبيين، في السودان وفي الجزائر، قد طرحا مجدّدًا وبصورة جذرية وسلمية ضرورة وضع حدٍّ لنظام الحكم العسكري والاستبدادي بكل ما ينطوي عليه من فساد وإفساد بعد أن جعل من السودان أفقر بلد في العالم العربي في الوقت الذي كان يمكن أن يكون أكثرها غنى بما يملكه من ثروات طبيعية، وحمل شباب الجزائر على الهجرة بحثًا عن مستقبل لم يكن بلدهم القادر والغني يتيحه لهم تحقيقه فيه.
لاشك أيضًا أن علاقات القوة بين الطرفين، الجيش والحراك الشعبي شديدة التفاوت نظرًا لقوة الجيش الضاربة. فهل سيتمكن الأخير من فرض رؤيته على العسكر الذين يبدو أنهم لا يرون مخرجًا من دونهم سوى السير نحو الخراب؟

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 6 حزيران/يونيو 2019.