من أجل قتل الرمز
بدرالدين عرودكي
مشهد
أم عبد الباسط الساروت، حارس مرمى نادي الكرامة أو كما سماه السوريون "حارس
الثورة السورية" منذ انطلاقها في ربيع عام 2011، وهي تنعم النظر في وجه فلذة
كبدها الذي فارق الحياة، يجسِّدُ فجيعة السوريين الذين خرجوا قبل نيف وثمانية
أعوام لإسقاط نظام الاستبداد. وهاهم، يوم رحيل من بات ضميرهم، يشيعونه حاضرًا
وغائبًا في كل مكانٍ يتواجدون فيه ويستحضرون مسيرته، مسيرتهم، منذ أيامها الأولى
التي كانت حبلى بالآمال وعمل نظام البراميل الكيمياوي محاولًا سحقها إذ وجَّهَ
رصاصَهُ منذ البداية نحو من كان يحملها بكفاءة منقطعة النظير، فقتل منهم أو اعتقل
(وكلاهما سيّان) من استطاع، وحمل من لم
يستطع النيل منهم إما على القتال لمن استطاع إليه منهم سبيلًا أو على الهجرة
والانتشار في أرجاء المعمورة.
هكذا
جسّدت لحظة الفجيعة برحيل واحد منهم، عبر بساطته وصدقه ومسيرته، لا كلَّ ما كانوا
ولا زالوا يصبون إليه فحسب بل كذلك كل ما واجهوه عند ثورتهم من أفعال الإنكار والتشويه
والعبث والاستهتار عَمِلَ النظام الاستبدادي بكل الوسائل المتاحة لديه وبدعم
دبلوماسي ومادي من قبل روسيا وإيران مباشرة أو/ وعبر وكيل أعمالها في المنطقة على
تعميمها بالقول وبالفعل. لكن هذا النظام نفسه الذي حاول بشتى الوسائل، ومنذ الأيام
الأولى لظهور عبد الباسط الساروت بين صفوف المتظاهرين يغني ثورتهم ومطلبهم في
الحرية وفي الكرامة، أن يعتقل أو أن يغتال هذا الشاب كما اغتال أمثاله ورفاقه
واحدًا بعد الآخر، حاول مرة أخرى، ومنذ إعلان مقتله في المواجهة ضده، أن يقتله
ثانية إذ أخذ ينكر صفته كثائر ويشوه سمعته واصمًا إياه بالإرهاب، ويعبث بها كما
يشاء، مثلما حاول من لم يتخلصوا بعدُ من هذه البيئة التي أنشأهم النظام نفسُهُ
فيها ولم يتخلصوا من آثارها الوخيمة أن يسيئوا إليه راحلًا بعد أن أساؤوا فهمه
حيًّا. لم يكن ذلك صدفة بقدر ما كان سياسة مدروسة ومنسقة لتشويه ثورة السوريين وكل
ما يمتُّ إليها بصلة، رمزًا أكان أم إنسانًا عاديًّا شيمته الصدق والإخلاص.
إذ،
منذ الأيام الأولى التي بدأ السوريون يتلقون خلالها أخبار القتلى من أبنائهم أو
أقربائهم أو أصدقائهم في المظاهرات أو في المعتقلات، أُخطِروا في الوقت نفسه بحرمانهم
من المشاركة في جنازاتهم أو في عزائهم. وكان على ذوي القتلى أن يدفنوا فلذات
أكبادهم ليلًا، بهدوء، ومن دون مشاركة أحد خارج دائرة العائلة الصغيرة، وبمعزل عن
أي إعلان.
هكذا
وصلت قيود الخناق التي فرضها النظام الأمني الأسدي على السوريين في حياتهم اليومية
والمهنية والاجتماعية إلى حرمانهم حتى من الحزن أو البكاء على من يرميهم النظام
الأمني بمختلف التهم الملفقة بشتى الوسائل، وصولًا إلى شبكات التواصل الاجتماعي
التي أنشأ من أجله جيشه من الذباب الإلكتروني بهدف التشويش على من يعتبرهم أعداءه،
والتغطية على كل ما يقال بحقه بما يفضح أساليبه في الكذب وفي التلفيق وفي المناورة
الخبيثة. وهو ما باشره فور الإعلان عن مقتل عبد الباسط الساروت ورؤيته ما أثاره
الخبر من ردِّ فعل جماعي مذهل لدى السوريين على اختلاف أعمارهم وأماكن وجودهم
وآرائهم، حين اجتمعوا حزانى لفقدان شابٍّ في السابعة والعشرين من عمره لطالما أثار
صدقه وإخلاصه الثوريّيْن لديهم مشاعر الحب والإعجاب. إذ سرعان ما بدأ الذباب
الإلكتروني التابع للنظام ومواليه عمله بالاعتداء على صفحات السوريين في مواقع
التواصل الاجتماعي، ولاسيما الفيسبوك، والتبليغ عنها لحذفها أو لتجميد حسابات كل
من نشرها، في حين قام فصيل آخر من الذباب الأسدي نفسه بالكتابة لتشويه سمعة من وقف
ضد نظام الأسد صراحة وبلا مواربة منذ اللحظة الأولى وحتى لحظة مفارقته للحياة عن
طريق وسمه بالإرهاب أو بالسلفية أو بكليهما معًا. حرب إلكترونية منتظمة لقتل الرمز
عبر الحيلولة دون ترسيخ صورة الشاب الذي كرس ثلث سنيِّ حياته الأخير وبكل ما أوتي
من قوة لإسقاط الأسد ونظامه، استمرارًا لسياسة الإطباق الكامل على حركات وسَكنات
السوريين حتى وهم في قلب مآساتهم. لكن الساروت الذي لم يحِد قيْد أنملة عن هدفه
الأول/الأساس الذي خرج من أجله صحبة المتظاهرين، أي إسقاط النظام الأسدي، وجد في
السوريين، الذين رأوا فيه ضميرهم، خير من يحميه ويحمي ذكراه من إجرام نظام لم يقبل
منذ نشأته إلا ولاء العبيد غير المشروط.
لا
شك أن مثل هذه الحملة من نظام يتوهم النصر المؤزر على شعبه بفضل من سارعوا إلى
حمايته واحتلال بلده واستثمارها من أجل ذلك كانت متوقعة أو، على أقل تقدير، مبررة
في سياق سلوكه الحاقد على كل من وقف ضده. لكنه ليس مفهومًا ولا مبرَّرًا أن يصدرَ اليوم
عن بعض من يعتبرون أنفسهم حماة هدف الثورة في الديمقراطية والمدنية هذا الحكمَ السلبيّ
الصارم على عبد الباسط الساروت وعلى فيلمٍ جعل منه بطل الثورة ومن حمص عاصمتها،
إشارة إلى فيلم طلال ديركي "العودة إلى حمص"، بعد أن قام عبد الباسط
الساروت "بالدعوة إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام" من خلال تساؤل
صاغه موقعو المقال/الحكم، جماعة السينمائيين السوريين، أبو نضارة، على هذا النحو:
"هل لا يزال بالوسع تصديق ثورة في سورية في الوقت الذي ينضم فيه بطلها
المعتمد إلى أفكار أعداء الديمقراطية؟" قد يكون من المفهوم طرح مثل هذا
السؤال بصدد الساروت في هذا المقال الذي نشر في صحيفة ليبراسيون الفرنسية في شهر
كانون الثاني/يناير 2015. وهو سؤال خاضع بطبيعة الحال ـ وضمن حدود ـ للنقد والنقاش
يوم نشر المقال للمرة الأولى. لكن إعادة نشره على صفحة موقعيه في الفضاء الأزرق
يوم إعلان وفاة عبد الباسط الساروت كان يعني أن من وقعوه، بإعادتهم نشره، لم تكن
مسيرة الرجل طوال نيف وأربع سنوات مضت على ما كتبوه ونشروه تعني شيئًا لهم، وأنهم
بنشره اليوم يصرِّحون باعتمادهم نهجًا القالب الذي اختاروه للثورة السورية: أي
طريقة بروكرست وسريره! ذلك أن السبب الذي كتب المقال من أجله لم يعد له وجود منذ
ذلك الحين، وهو واقع ثابت أيضًا بفديوهات منشورة على اليوتوب. ومن ثمَّ فإن نشره
يوم وفاته كان يقول بكل بساطة أن الساروت/ الرمز، رغم كل شيء عبرت عنه ببساطة متناهية مسيرته ومسار بوصلته إلى يوم
وفاته، يبدو أقصر قامة من أن يحتويه السرير الذي اعتمده موقعو المقال إذ نشروه
ثانية للتأكيد وللتذكير.
تلك
أيضًا محاولة لا يمكن إلا أن تكون واعية لقتل الرمز الذي جسَّدَه الساروت في نظر
الذين خرجوا معه ورافقوه أو تابعوا مسيرته ثم خرجوا ألوفًا مؤلفة يشيعونه حاضرًا وغائبًا. قتلٌ إذن بأدوات نظام
أمني لا يسوغ أي خروج على طاعته العمياء، وذلك هو القتلُ الموعود. وقتلٌ بأدوات
منهج يضيق ذرعًا بالدأب وبالبحث وبمحاولات الفهم ـ ولو عن بعد ــ لثورة معقدة
تحالف من أجل وأدها أعداء الداخل وأعداء الخارج معًا، دون الحديث عن الأصدقاء
والحلفاء الذين أطلقوا على أنفسهم ذات يوم "أصدقاء الشعب السوري"، وذلك
هو القتل المبين.
** نشر على موقع جيرون، يوم
الخميس 20 حزيران/يونيو 2019.