jeudi 18 avril 2019



الربيع العربي، الفصل الثاني 
بدرالدين عرودكي 
لاشك أن انطلاق الربيع العربي قبل ثمانية أعوام كان مصدر قلق بليغ لمعظم النظم العربية القائمة، وخصوصًا تلك التي ظنت أن بوسعها الحيلولة دون وصوله إليها عن طريق هبات مالية استثنائية لشعبها، وكذلك بواسطة عمليات التدخل السريع في البلدان التي انطلق فيها عام 2011، سواء عن طريق إفساد من تنطعوا لقيادة الحراكات الثورية أو من خلال ثورات مضادة يعيدون بها عقارب الساعة إلى الوراء. ومن هنا كان غضب هذه النظم على الربيع العربي واعتباره كارثة مدمرة للبلدان التي قام فيها. لكن ها هو، في انطلاقته الثانية مجدَّدًا، ينذر بما لم يكن في حسبان هذه النظم، سواء تلك التي ظنت أنها انتصرت واستبعدت الخطر بعد نجاحها في دعم وإنجاح الثورات المضادة، أو تلك التي ظنت نفسها بمأمن من ثورات شعبية تطيح بها حين زيَّنت لشعوبها سيادة ديمقراطية مزيفة و"استقرارًا" لم تكن حقوق المواطن في الحرية وفي الكرامة تحت ظلهما بعض أهدافها. لكنها ظلت مع ذلك على أهبة الاستعداد للحيلولة دون أدنى محاولة تسعى إلى استئنافه.
ومن هنا كان طابع الحذر والترقب يسم موقف جميع من يتابع حراك الشعبين، السوداني والجزائري، ضد نظامي بلديهما. والذي لم يكن تراجع بوتفليقة عن العهدة الخامسة، أو عزل البشير ليخفف منهما. لاسيما وأن الحدث السوري ماثل للعيان لا يزال.  فقد كان أول درس تلقاه السوريون يوم خرجوا يطالبون بالحرية وبالكرامة ثم بإسقاط النظام الأسدي بعد شهودهم سقوط مبارك بمصر وبن علي بتونس خلال أسابيع، أن عليهم، هم، أن لا يتسرعوا في التفاؤل وفي توقع سقوط الأسد ونظامه، حين كانوا يتثبتون مما كانوا يعيشونه واقعًا: الاختلاف العميق بين نظم الاستبداد العربية كافة والنظام السوري خصوصًا على صعيدي عقيدة الجيش من ناحية وتنظيمه الداخلي من ناحية أخرى. أما الدروس التالية فقد توالت بلا توقف، من دون أية قدرة للسوريين على الاستفادة منها أو العمل بناء عليها.. ذلك أن الكارثة كانت قد وقعت وأدّت إلى ما هو ماثل أمام عيون الجميع: دمارًا وقتلًا وتهجيرًا.
لذلك، حين خرج السودانيون يطالبون بإسقاط نظام البشير، وحين ملأ مئات آلاف الجزائريين شوارع معظم مدنهم يطالبون بإلغاء العهدة الخامسة، وبدا أن خروجهم المتزامن يبدد الغيوم السوداء الكثيفة التي غطت بها الثورات المضادة سماوات العالم العربي، كان الحذر المشوب بالخشية من أن يتبدد الأمل مع ولادته هو السائد أيضًا لدى شباب الربيع العربي وأنصاره. ذلك لأن اعتياد أنظمة الاستبداد طوال عقود من السنوات على الاستمرار، قد يحملها كما فعل النظام السوري، على ألا تتوانى عن استخدام كل الوسائل للمحافظة على نفسها وعلى ديمومتها، بما في ذلك القمع وصولًا إلى القتل.
دبَّ القلق في دوائر الأنظمة العربية والإقليمية والدولية ذاتها التي عملت على  الحيلولة دون انتصار الربيع العربي إثر انطلاقته الأولى. وسارع بعضها إلى التعبير الصريح الذي لا يخلو من وقاحة عن موقفه معتبرًا أن خروج الجزائريين "محاولة لزعزعة استقرار البلاد"، مثلما سارعت نظم أخرى إلى إرسال وفودها إلى السودان للاطمئنان عن مسار وطبيعة تغيير قيد التحقيق.  كان لا بد للدرس السوري أيضًا من أن يكون مفيدًا سواء لنظم الاستبداد التي تواجه الثورة أو لتلك التي تريد أن تحول دونها في بلدانها عن طريق محاولة خنقها في مهدها.  
لكنه لم يكن كذلك بالنسبة للنظام في السودان، على الأقل بالنسبة لرئيسه نفسه. فالشعب السوداني الذي خرج منذ 19 كانون الأول 2018، سرعان ما واجه عنف رئيس هذا النظام في بعض المدن التي بادر فيها جهازه الأمني إلى إطلاق النار على المتظاهرين الذين سقط منهم حوالي الأربعين قتيلًا، وكذلك إلى اعتقال أكثر من ألف شخص في الأيام الأولى، سائرًا على هدي النظام الأسدي الذي كان البشير قد زار رئيسه بدمشق قبل أسابيع من انطلاق المظاهرات بالخرطوم، والذي كان قد اعتمد الحل الأمني والوحيد في مواجهة ربيع دمشق مع بدايات الألفية الثالثة ثم ربيع سورية مع بداية العقد الثاني منها. إذ ما لبث البشير أن انتهى إلى إعلان حالة الطوارئ لمدة عام وحل حكومة الاتفاق الوطني وحكومات الولايات، تمهيدًا لقمع المظاهرات والحيلولة دون استمرارها. سوى أن مؤسسة الجيش التي بدأ بعض أفرادها ينضمون إلى المتظاهرين والتي لم تكن تقف على ما يبدو صفًا واحدًا وراء البشير، انتهت إلى التخلي عنه وإلى عزله، وتأليف مجلس عسكري يحل محله. 
أما في الجزائر، وعلى أن رئيس الوزراء فيها عند بدء المظاهرات أشار في صيغة تهديد ضمني إلى الحدث السوري وإلى ما آلت إليه ورود المتظاهرين السوريين، فقد سلك الجيش الجزائري حتى الآن وعلى النقيض منه سلوكًا مغايرًا حين حال، منذ البداية، دون ممارسة أي عنف إزاء جماهير الشعب الجزائري التي  خرجت في معظم المدن الجزائرية منذ 22 شباط/فبراير 2019 في حراك سلمي منقطع النظير في شعاراته وفي إصراره وفي كثافته؛ ثم عبر هذا الجيش على لسان رئيس أركانه نفسه عن  تفهمه ووقوفه مع مطالبهم في رفض العهدة الخامسة، ثم في استمراره في التعبير عن وقوفه إلى جانب هذه المطالب التي كان سقفها يرتفع مع الأيام وصولًا إلى تغيير النظام جذريًا وإلى الانتقال السلمي من ثمَّ إلى جمهورية جديدة.
باشر المتضررون من الربيع العربي في انطلاقته الثانية في السودان وفي الجزائر، منذ اللحظة الأولى، محاولاتهم العمل على استمرار النظامين السابقين فيهما مع بعض التعديلات التي توحي بتغيير سطحي أو تجميلي. يكفي أن نقرأ التصريحات الرسمية الصادرة عن موسكو أو عن واشنطن، أو ما تكتبه الصحف عن وفود زارت الخرطوم أو عن اتصالات جرت مع نائب وزير الدفاع في الجزائر، كي ندرك المراد منها. قد ينجحون في توجيه المسار هنا أو هناك. وربما تذهب جهودهم أدراج الرياح في واحد من البلدين أو في كلاهما. وفي الحالتين، لكل مآل ثمنه: يدفعه الشعب الثائر في الحالة الأولى خيبة قصوى، أو تدفعه معًا نظم الاستبداد المحلية وقوى السيطرة الإقليمية والدولية في الحالة الثانية من دون أن تتخلى عن مشروع ثورة مضادة تنقل بها الأمور إلى المسار الذي يلائمها..
ذلك يعني أنه لا يزال علينا، ونحن نتابع بسعادة غامرة الفصل الثاني من الربيع العربي الذي انطلق مؤخرًا في السودان وفي الجزائر، أن نستمر في الحذر، لا في تفاؤلنا فحسب، بل كذلك من وقوعنا في براثن تشاؤم  لابد يومًا من أن ينتقل ويسم سلوك أعداء هذا الربيع العربي..

** نشر على موقع جيرون، الخميس 18 نيسان/أبريل  2019.




jeudi 4 avril 2019



قمّة النِيام 
بين الجزائر وتركيا 
بدرالدين عرودكي 
خلال عام 2006، وخلال رحلة كان يقوم بها إيف غينا، أحد الساسة الفرنسيين الديغوليين ورئيس معهد العالم العربي يومئذ، إلى دول الخليج العربي  للقاء ملوكها أو أمرائها، التقى أمير إحدى دولها في قصره. أراد الأمير وهو يرحّب بضيفه أن يعبر عن مدى صداقته مع جاك شيراك، رئيس جمهورية فرنسا التي جعلته لا يتردَّد في أن يتأخر عن حضور افتتاح القمة العربية التي كانت ستنعقد بالخرطوم نظرًا لارتباطه بموعد مع صديقه المفضل. وبرر لمضيفه، إيف غينا، هذا التأخر ضاحكًا بأن قررات القمم العربية معروفة مسبقًا لأنها مكرورة، وإنه كان بوسعه، بسبب ذلك، أن يتأخر بلا حرج عن موعد الافتتاح.. نقل المترجم ما قاله الأمير لضيفه الذي بقي هادئًا من دون رد فعل. قال الأمير للمترجم: يبدو أنك لم تترجم له كلَّ ما قلتُه!. فأعاد المترجم الترجمة ثانية لكل ما قاله الأمير، من دون أن ينسى الإشارة إلى أنه إنما يفعل ذلك لأن الأمير ظن أنه لم يترجم له كل ما قاله. لكن إيف غينا هزَّ رأسه متفهِّمًا ولم يبدُ منه مرّةً أخرى أي رد فعل على قهقهة الأمير الذي فاته قبل أن يدرك، بعد الترجمة الثانية، أن مضيفه كان من التهذيب بحيث لم يسمح لنفسه مجاراة الأمير في سخريته من قمة زملائه ملوك ورؤساء العرب ومن قراراتهم المكرورة!
تذكرتُ هذه الحادثة التي شهدتها حين رأيت صور القادة النّيام في القمة العربية الأخيرة بتونس. لم تكن صورهم خلال جلسات القمة العربية الأخيرة التي ملأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تثير الاستغراب بقدر ما كانت تثير السخرية في عالم عربي بات، بسبب هؤلاء القادة والنظم التي يمثلونها بالفعل، غائبًا كليًّا عن الحاضر والواقع والتاريخ. ليست هي المرة الأولى التي ينام فيها القادة العرب الراسخون على كراسيهم خلال مؤتمراتهم التي نيَّفت على الأربعين مؤتمرًا، والتي صارت قراراتها منذ ما سيقارب نصف قرن تفتقر إلى أدنى قدرة على التأثير السياسي أو العملي. والمشكلة أنهم جميعًا، بما يفعلونه وبما يُصرّون على فعله، شأن أمير الدولة الخليجية المشار إليه، على وعي كامل بعبثيتها. عبثية تتساوى بقدر ما تتكامل أيضًا مع سلوكهم في استغباء شعوبهم التي لم يكن ظاهر سلوكها يعني، كما يظنون، الاستسلام أو الخنوع لهم، ولا الموافقة أو القناعة بما يقدمونه لها من ضروب الكذب والخداع تحت مسميات شتى تتردد شعارات على ألسنة مَواليهم. على أن منظرهم نيامًا كان التعبير الأكثر بلاغة عن رفضهم رؤية ما يحدث من حولهم بعد موجات الثورات العربية التي قضَّت مضاجعهم وتراءت لهم استكانتها بفعل الثورات المضادة، وكذلك عن وضع نظمهم وهي تشهد ثورة جديدة تتأجج، في بلد عربي آخر، سلمية، نضرة، مُصِرّة، ماضية في طريقها حتى تحقيق الهدف المنشود.
غاب عن القمة وعن قراراتها معنى حراك لا يمكن تجاهله، جارٍ على الطرف الآخر من حدود بلد انعقادها. لكن الجميع مع ذلك سكتوا عنه، ولعل معظم المشاركين تبادلوا فيما بينهم الأمنيات بفشله وعودة الأمور إلى "نصابها" كما جرى الأمر في بلدانهم. فبعد ثماني سنوات من ثورات أججت الآمال في العالم العربي ثم ما لبثت مضاداتها أن أخمدتها بالحيلة أو بالكذب أو بالقوة، ها هي حركة أخرى تنطلق في الجزائر التي برهن شعبها طوال قرنيْن متواصلين عن حيويته وكبريائه وإصراره على تأكيد وتعزيز هويته وانتمائه الثقافي والحضاري، كما لو أنها تُذَكِّرُ بأن تلك الثورات لم تنته بعد، وأن ما بدا للبعض انتصارًا أدى إلى استدعاء رجال النظام القديم إلى الخدمة مجدَّدًا كما حدث عند اختيار الأمين العام لجامعة الدول العربية، ليس إلا بعض أوهام المستبدين الجدد الذين اعتنقوا دين أسلافهم الأقربين في ضرورة الحكم مدى الحياة أو ربما أيضًا في التوريث.
لم يروا مظاهرات الشعب في السودان وكيف يحاول حاكمها منذ ثلاثين عامًا تأبيد جلوسه وهو يكرر الصيغ المبتذلة التي استخدمها من قبْلُ أمثالُهُ في البلدان العربية الأخرى في الرد على الحراك الشعبي في بلده؛ ولم يستسيغوا الانتباه إلى الحراك الشعبي الجارف، القائم منذ ستة أسابيع، في مختلف أرجاء الجزائر؛ ولعلهم أرادوا أن يتجاهلوا ــ وبعضهم أن يتدخلوا في ــ مجرياته، من أجل فرض حلول تتلاءم وتلك التي شجعوا عليها بالمال أو بالسلاح في بلدان عربية أخرى. لكنهم يرون اليوم أن حراك الشعب الجزائري بدأ يتلقى أولى الردود على مطالبه في رفض العهدة الخامسة وكلّ ما تعنيه نظامًا ورجالًا ومؤسسات. فهل سيباركون الحراك عبر التهاني والتمنيات ويعملون في الوقت نفسه على إجهاضه من وراء ستار؟     
  لا شك أن هذا الحراك الشعبي الجزائري قد أعاد بعض الروح إلى آمال شعوب عاشت الخيبة بكل معانيها طوال السنوات الماضية في بلدان عربية عديدة. وطبيعي أن يثير الخوف من أن يواجه، على غرار أمثاله في البلدان العربية الأخرى من قبل، ضروبًا من الالتفاف والمقاومة العنيفة أو الخبيثة تقضي عليه بصورة أو بأخرى كما قضت أمثالها على سواه. لا بفعل طبيعة النظام في الداخل فحسب، بل كذلك بفعل تدخل القوى الخارجية التي لا ترى مصلحة لها، سواء أكانت عربية أو غير عربية، في أي تغيير يمكن أن يطرأ على نظام الحكم في الجزائر ولاسيما إن اعتمد الديمقراطية أساسًا له.
يشهد العالم العربي خصوصًا هذا الحوار الثلاثي بين جماهير الجزائريين في الشارع من جهة، وممثلي النظام السائد من جهة ثانية وبينهما من جهة ثالثة الجيش الذي اختار، كما يبدو، أن يسير إلى جانب الجماهير من أجل تحقيق مطالبها، ولاسيما حين قام بحسم موضوع انسحاب ممثل النظام السائد الذي كان أول مطلب للشارع الجزائري. فإذا ما استمرت العملية الانتقالية خلال الأشهر الثلاثة القادمة ــ وذلك رهان محفوف بكل المخاطر التي يمكن تصورها ــ لصالح نظام مدني ديمقراطي بالسلاسة التي جرت فيها الأمور حتى الآن، فإن الجزائر ستقدم بعد تونس نموذج نظام يكسر أخيرًا، وهو يخرج عليها، رتابة نظم الاستبداد المختلفة في العالم العربي.
ذلك أن تركيا التي تشارك العالم العربي جزءًا كبيرًا من تاريخه، قدمت مثلًا يحتذى في ممارسة الديمقراطية خلال انتخاباتها البلدية الأخيرة التي رفض خلالها الشعب التركي في كبرى مدنها (العاصمة السياسية أنقرة والعاصمة الاقتصادية استنبول) تجديد الثقة بممثلي الحزب الحاكم. ولا يمكن لكل ما يمكن أن يقال حول ميول أو ممارسات أردوغان السلطوية  أن يحجب هذه الحقيقة: إمكان التناوب على السلطة بإرادة الناخبين كما تجسَّد أخيرًا وأدّى إلى خيبة كبيرة لدى حزبٍ لم يعرف سوى النجاح خلال أكثر من خمسة عشر عامًا.
لكن تركيا ليست مثلًا يحتذى بالنسبة إلى عدد من القادة العرب مادامت تقف على النقيض من أنظمتهم. ولا بد من الشك في تنديدهم عبر مقررات قمتهم الأخيرة بتدخلها وبتدخل إيران في المنطقة العربية وفي سورية خصوصًا حين يستثنون من تنديدهم تدخل روسيا المسلح لنصرة نظام قاتل. هكذا، لا تعكس صور القمة العربية الأخيرة قادة يغلب على معظمهم النوم عن كل شيء فحسب،  بل تبرهن في الوقت نفسه على انفصالهم الفاضح عن الواقع المحيط بهم إلا في ما يتعلق بالمحافظة على سلامة كراسيهم ونظمهم ومصالحهم .  
طبيعي والحالة هذه أن يكون صدى مظاهرات الشعب الجزائري والانتخابات البلدية في تركيا أكبر وأهم وأنجع وأجدى بما لا يقاس من كل الطنين الممل لقرارات تصدر عنهم ولا تثير أدنى رد فعل لدى المستهدفين بها، أعداءً كانوا أم أصدقاء!

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 4 نيسان/أبريل 2019.