الربيع العربي، الفصل الثاني
بدرالدين عرودكي
لاشك
أن انطلاق الربيع العربي قبل ثمانية أعوام كان مصدر قلق بليغ لمعظم النظم العربية
القائمة، وخصوصًا تلك التي ظنت أن بوسعها الحيلولة دون وصوله إليها عن طريق هبات
مالية استثنائية لشعبها، وكذلك بواسطة عمليات التدخل السريع في البلدان التي انطلق
فيها عام 2011، سواء عن طريق إفساد من تنطعوا لقيادة الحراكات الثورية أو من خلال
ثورات مضادة يعيدون بها عقارب الساعة إلى الوراء. ومن هنا كان غضب هذه النظم على
الربيع العربي واعتباره كارثة مدمرة للبلدان التي قام فيها. لكن ها هو، في
انطلاقته الثانية مجدَّدًا، ينذر بما لم يكن في حسبان هذه النظم، سواء تلك التي
ظنت أنها انتصرت واستبعدت الخطر بعد نجاحها في دعم وإنجاح الثورات المضادة، أو تلك
التي ظنت نفسها بمأمن من ثورات شعبية تطيح بها حين زيَّنت لشعوبها سيادة ديمقراطية
مزيفة و"استقرارًا" لم تكن حقوق المواطن في الحرية وفي الكرامة تحت
ظلهما بعض أهدافها. لكنها ظلت مع ذلك على أهبة الاستعداد للحيلولة دون أدنى محاولة
تسعى إلى استئنافه.
ومن
هنا كان طابع الحذر والترقب يسم موقف جميع من يتابع حراك الشعبين، السوداني
والجزائري، ضد نظامي بلديهما. والذي لم يكن تراجع بوتفليقة عن العهدة الخامسة، أو
عزل البشير ليخفف منهما. لاسيما وأن الحدث السوري ماثل للعيان لا يزال. فقد كان أول درس تلقاه السوريون يوم خرجوا
يطالبون بالحرية وبالكرامة ثم بإسقاط النظام الأسدي بعد شهودهم سقوط مبارك بمصر وبن
علي بتونس خلال أسابيع، أن عليهم، هم، أن لا يتسرعوا في التفاؤل وفي توقع سقوط
الأسد ونظامه، حين كانوا يتثبتون مما كانوا يعيشونه واقعًا: الاختلاف العميق بين
نظم الاستبداد العربية كافة والنظام السوري خصوصًا على صعيدي عقيدة الجيش من ناحية
وتنظيمه الداخلي من ناحية أخرى. أما الدروس التالية فقد توالت بلا توقف، من دون أية
قدرة للسوريين على الاستفادة منها أو العمل بناء عليها.. ذلك أن الكارثة كانت قد
وقعت وأدّت إلى ما هو ماثل أمام عيون الجميع: دمارًا وقتلًا وتهجيرًا.
لذلك،
حين خرج السودانيون يطالبون بإسقاط نظام البشير، وحين ملأ مئات آلاف الجزائريين شوارع
معظم مدنهم يطالبون بإلغاء العهدة الخامسة، وبدا أن خروجهم المتزامن يبدد الغيوم
السوداء الكثيفة التي غطت بها الثورات المضادة سماوات العالم العربي، كان الحذر
المشوب بالخشية من أن يتبدد الأمل مع ولادته هو السائد أيضًا لدى شباب الربيع
العربي وأنصاره. ذلك لأن اعتياد أنظمة الاستبداد طوال عقود من السنوات على
الاستمرار، قد يحملها كما فعل النظام السوري، على ألا تتوانى عن استخدام كل
الوسائل للمحافظة على نفسها وعلى ديمومتها، بما في ذلك القمع وصولًا إلى القتل.
دبَّ
القلق في دوائر الأنظمة العربية والإقليمية والدولية ذاتها التي عملت على الحيلولة دون انتصار الربيع العربي إثر
انطلاقته الأولى. وسارع بعضها إلى التعبير الصريح الذي لا يخلو من وقاحة عن موقفه
معتبرًا أن خروج الجزائريين "محاولة لزعزعة استقرار البلاد"، مثلما
سارعت نظم أخرى إلى إرسال وفودها إلى السودان للاطمئنان عن مسار وطبيعة تغيير قيد
التحقيق. كان لا بد للدرس السوري أيضًا من
أن يكون مفيدًا سواء لنظم الاستبداد التي تواجه الثورة أو لتلك التي تريد أن تحول
دونها في بلدانها عن طريق محاولة خنقها في مهدها.
لكنه
لم يكن كذلك بالنسبة للنظام في السودان، على الأقل بالنسبة لرئيسه نفسه. فالشعب
السوداني الذي خرج منذ 19 كانون الأول 2018، سرعان ما واجه عنف رئيس هذا النظام في
بعض المدن التي بادر فيها جهازه الأمني إلى إطلاق النار على المتظاهرين الذين سقط
منهم حوالي الأربعين قتيلًا، وكذلك إلى اعتقال أكثر من ألف شخص في الأيام الأولى،
سائرًا على هدي النظام الأسدي الذي كان البشير قد زار رئيسه بدمشق قبل أسابيع من
انطلاق المظاهرات بالخرطوم، والذي كان قد اعتمد الحل الأمني والوحيد في مواجهة
ربيع دمشق مع بدايات الألفية الثالثة ثم ربيع سورية مع بداية العقد الثاني منها. إذ
ما لبث البشير أن انتهى إلى إعلان حالة الطوارئ لمدة عام وحل حكومة الاتفاق الوطني
وحكومات الولايات، تمهيدًا لقمع المظاهرات والحيلولة دون استمرارها. سوى أن مؤسسة
الجيش التي بدأ بعض أفرادها ينضمون إلى المتظاهرين والتي لم تكن تقف على ما يبدو
صفًا واحدًا وراء البشير، انتهت إلى التخلي عنه وإلى عزله، وتأليف مجلس عسكري يحل
محله.
أما
في الجزائر، وعلى أن رئيس الوزراء فيها عند بدء المظاهرات أشار في صيغة تهديد ضمني
إلى الحدث السوري وإلى ما آلت إليه ورود المتظاهرين السوريين، فقد سلك الجيش
الجزائري حتى الآن وعلى النقيض منه سلوكًا مغايرًا حين حال، منذ البداية، دون
ممارسة أي عنف إزاء جماهير الشعب الجزائري التي
خرجت في معظم المدن الجزائرية منذ 22 شباط/فبراير 2019 في حراك سلمي منقطع
النظير في شعاراته وفي إصراره وفي كثافته؛ ثم عبر هذا الجيش على لسان رئيس أركانه
نفسه عن تفهمه ووقوفه مع مطالبهم في رفض
العهدة الخامسة، ثم في استمراره في التعبير عن وقوفه إلى جانب هذه المطالب التي
كان سقفها يرتفع مع الأيام وصولًا إلى تغيير النظام جذريًا وإلى الانتقال السلمي من
ثمَّ إلى جمهورية جديدة.
باشر
المتضررون من الربيع العربي في انطلاقته الثانية في السودان وفي الجزائر، منذ
اللحظة الأولى، محاولاتهم العمل على استمرار النظامين السابقين فيهما مع بعض
التعديلات التي توحي بتغيير سطحي أو تجميلي. يكفي أن نقرأ التصريحات الرسمية الصادرة
عن موسكو أو عن واشنطن، أو ما تكتبه الصحف عن وفود زارت الخرطوم أو عن اتصالات جرت
مع نائب وزير الدفاع في الجزائر، كي ندرك المراد منها. قد ينجحون في توجيه المسار
هنا أو هناك. وربما تذهب جهودهم أدراج الرياح في واحد من البلدين أو في كلاهما.
وفي الحالتين، لكل مآل ثمنه: يدفعه الشعب الثائر في الحالة الأولى خيبة قصوى، أو
تدفعه معًا نظم الاستبداد المحلية وقوى السيطرة الإقليمية والدولية في الحالة
الثانية من دون أن تتخلى عن مشروع ثورة مضادة تنقل بها الأمور إلى المسار الذي
يلائمها..
ذلك
يعني أنه لا يزال علينا، ونحن نتابع بسعادة غامرة الفصل الثاني من الربيع العربي
الذي انطلق مؤخرًا في السودان وفي الجزائر، أن نستمر في الحذر، لا في تفاؤلنا
فحسب، بل كذلك من وقوعنا في براثن تشاؤم لابد
يومًا من أن ينتقل ويسم سلوك أعداء هذا الربيع العربي..
** نشر على موقع جيرون،
الخميس 18 نيسان/أبريل 2019.