mercredi 27 février 2019



المعرّي: العقل الإمام 
بدرالدين عرودكي 
لا إمام سوى العقل..
لم يكن أبو العلاء المعري، وهو يقول هذه الكلمات، يلخص حصيلة ثلاثة قرون من جهد فكري لم تعرفه الثقافة العربية من قبل في اللغة والكلام والفلسفة وفي التواصل مع تراث الأمم الأخرى ولاسيما التراث اليوناني، عبر ترجمات ثمراته الكبرى في الفلسفة والمنطق والرياضيات والطب والأخلاق فحسب، بل كان يجسِّد سلوكًا وفعلًا وإبداعًا تلك الفترة التي، على أنها كانت عصر بداية انحطاط سياسي كارثي تاريخيًا، عرفت في الوقت نفسه جانبًا مضيئًا تمثل في ازدهار حياة عقلية بين بغداد وقرطبة لا تزال آثارها الفكرية والعلمية تشهد عليها، وفي المقدمة منها أحد أهمِّ ممثليها: رهين المحبسيْن.
فالمعري الذي فقد بصره في الرابعة من عمره لم يكف، منذ بلوغه سنَّ الشباب، عن التجوال في حواضر الثقافة في عصره بدءأ بحلب واللاذقية وطرابلس وأنطاكية التي كانت تضم مكتبة عربية كبيرة أتى على معظم ما فيها قراءة وحفظًا، وانتهاء ببغداد التي كانت عاصمة الثقافة في العالم يومئذ، فنهل فيها ما تيسر له من عيون الفلسفة والكلام والفقه والأدب والشعر، قبل أن يعود إلى المعرّة بسبب مرض والدته ويقرر، وهو في منتصف العقد الرابع من عمره،  أن يعيش بقية حياته، التي بلغت قرابة خمسين عامًا، حرًّا وكما وصف نفسه، رهين محبسيْه، فقدان النظر ولزوم البيت.
لم يسع، وهو الفيلسوف والمفكر والشاعر،  بخلاف معظم معاصريه من الشعراء أو الأدباء أو المتكلمين أو الفلاسفة، إلى التقرب من أولي الأمر أيًّا كانت منزلتهم، بل بقي، في حلّه وترحاله، مستقلًّا يقول وينقد المجتمع الذي يعيش فيه في مجالات السياسة والدين والثقافة بلا محاباة، نثرًا أو شعرًا، متخذًا من الشك أداة ومن العقل دليلًا. ترك وراءه مبدعات ضاع معظمها، لكن ما وصلنا منها وهو نذر يسير يكفي لقول مثقف استثنائيّ في مواهبه وقدراته الفكرية الخارقة، كما تجلت في رسالة الغفران وفي ديوانيه سقط الزند واللزوميات.
على أن الشك لم يكن لدى أبي العلاء أداة خلال موقف طارئ، بل منهجًا للوصول إلى الحقيقة:
إنما نحن في ضلال وتعليل فإن كنتَ ذا يقين فهاته
          ولاسيما في غياب اليقين:
أما اليقين فلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
إذ لم يكن قادرًا، في مجاليْ الحياة العملية والتأملات النظرية، على تجاهل ما تفرضه ملاحظاته ودراساته من تساؤلات:
دين وكفر وأنباء تقص وقرآن ينصُّ وتوراة وإنجيل
في كل جيل أنباء ملفقة فهل تفرَّدَ يومًا بالهدى جيل؟!
لذلك، كان لا بد والحالة هذه من السخرية التي تقول الشك أو يقين اللايقين بوصفها أداةً وعنصرًا مقوّمًا وظَّفها في مُبدّعه الاستثنائي: رسالة الغفران. هذا، إلى جانب دليله و"إمامه" في التفكير: العقل، الذي كان عماده في الفهم وفي التأويل عمومًا وفي المواقف النظرية والفعلية خصوصًا، نتيجة معايشته ودراسته لمختلف الديانات السائدة والمعروفة في عصره، وتجلياتها في سلوك أسلافه ومعاصريه.
رمز الحداثة قبل عصر الحداثة!

** نشر على موقع ناجون بتاريخ 27 شباط/فبراير 2019


jeudi 21 février 2019



من ثوابت الثورة إلى أولويات قوى الاحتلال  
بدرالدين عرودكي
منذ تقديمها على سواها من قبل روسيا وتسويقها على أنها أولى خطوات الحل السياسي، خلافًا لما اعتمده بيان جنيف وقراري مجلس الأمن 2218 و 2254، باتت اللجنة الدستورية أولوية المهتمين بالحدث السوري، ومن بينهم بوجه خاص رئيس وأعضاء الهيئة العليا للتفاوض. ومع الوصول، أخيرًا، بعد أكثر من سنة ونصف من الجدال حولها، إلى اعتماد الأسماء الخمسين التي قدمها لتمثيله كلٌّ من أطراف مكوناتها الثلاثة: النظام الأسدي والهيئة العليا للتفاوض في صيغتها الثانية والأمم المتحدة، انطلقت النقاشات مجدَّدًا حولها وبصددها، ولا سيما على شبكات التواصل الاجتماعي، واتخذت أشكالًا متعددة تبدأ بإنكار كل صلاحية شخصية لوجود بعض أو كل الأسماء بين أعضائها ولا تنتهي بتخوين البعض أو الجميع بسبب قبول اختيارهم فيها.  
لابد من الاعتراف بأن روسيا قد نجحت حتى الآن، بالتعاون مع إيران وتركيا وبالتواطؤ مع الولايات المتحدة الأمريكية، في لوي ذراع القرارات الأممية التي سبق وأن وقعت عليها، على الأقل على مستوى تنظيم الأولويات الإجرائية، تمهيدًا لتطبيق حلٍّ سياسي كانت منذ البداية تستهدف عبر تفسيرها لها إعادة صوغه ومن ثم فرضه. وقد باشرت في التمهيد له على الأرض عمليًا منذ أن قررت دعم المعارك الدبلوماسية، التي كانت تخوضها لصالح النظام الأسدي على الصعيد الدولي، بالتواجد عسكريًا على أرض وفي سماء سورية  اعتبارًا من 30 أيلول 2015، سعيًا إلى تثبيت توصيفٍ آخر للثورة السورية قوامه محاربة الإرهاب والإرهابيين، ومن ثمَّ إعادة تأهيل النظام الأسدي الذي ثار عليه الشعب السوري وفرْضِ قبوله على الجميع. هكذا، وبالتدريج، انتقل خلال السنوات الأربع الأخيرة مركز الثقل في الشأن السوري من مقرات الأمم المتحدة بجنيف ونيويورك وفيينا إلى آستانة في كازاخستان وسوتشي في روسيا الاتحادية، ولم يبق إلا الاعتراف الدولي، بعد إنجاز ما يشبه الاعتراف الإقليمي، رسميًا، بمرجعيتهما في تحديد وتأويل مختلف بنود الحلِّ السياسي، فضلًا عن ترتيب نظام أولوياتها ضمنه.
جرى ذلك كله على مرأى ومسمع من الجميع. كان من المفهوم، بعد أن لجأ إليها مستنجدًا، أن يقبل النظام الأسدي بكل ما كانت روسيا تمليه عليه من خيارات كانت تؤدي في نظره إلى إنقاذه وترميمه وإعادة تأهيله إقليميًا ودوليًا. كما كان من الطبيعي، في ظل التواطؤ الروسي الأمريكي، أن تتغاضى الأمم المتحدة عن المحاولات الروسية وأن تتلافى نقدها. أما ما لم يكن مفهومًا ولا مقبولًا، فقد كان انسياق المعارضة، التي تصدت لتمثيل الشعب السوري ومطالبه، تدريجيًا، إلى القبول عمليًا، هي الأخرى، بالإملاءات الروسية عبر الدول العربية "الداعمة" لها. والواقع أن هذا الانسياق، الذي أدّى إلى القبول، لم يتمّ دفعة واحدة. 
فقد عقدت المنظمات الأساس للمعارضة السورية مؤتمرها الأول بالرياض في العاشر من كانون الأول 2015 من أجل تأليف هيئة عليا للمفاوضات التي كانت الأمم المتحدة تسعى لإجرائها بين النظام السوري وممثلي المعارضة بناء على القرار الذي كان قيد الإعداد والذي سيصدر عن مجلس الأمن تحت رقم 2254 بتاريخ 18 كانون أول 2015.  وأعلنت هذه الهيئة غداة تأليفها تمسكها من جهة بثوابت الثورة السورية، أي وحدة سورية، وأن لا مكان لبشار الأسد ورموز نظامه خلال العملية الانتقالية التي يجب أن تؤدي إلى إقامة نظام جديد يمثل كافة أطياف الشعب السوري؛ ومن جهة أخرى، فيما يخص الإطار التنفيذي، فقد اعتمدت الحلَّ السياسي خيارًا استراتيجيًا، وفق ما نص عليه بيان جنيف وقراري مجلس الأمن 2118 و2254 ، يقوم على "إنشاء هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية". على أن ثمة، في بيان جنيف وقراري مجلس الأمن، تفصيل شديد الأهمية: فهو إذ "يؤكد على أن الحل الدائم الوحيد للأزمة الراهنة في سورية يقوم فقط من خلال عملية سياسية شاملة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، ضمن هدف التطبيق الكامل لبيان جنيف بتاريخ 30 حزيران 2012، كما صادق عليه القرار رقم 2118 لعام 2013، المتضمن قيام جسم انتقالي شامل، بصلاحيات تنفيذية كاملة" إلا أن تشكيل هذا الجسم لا يمكن أن يتم إلا على أساس "التوافق المتبادل، [أي بين النظام والمعارضة] بالتوازي مع ضمان استمرار عمل المؤسسات الحكومية".  شأن كل العبارات الدبلوماسية، هناك مساحات واسعة للتفسير وللتأويل تسمح للأطراف الفاعلة، أي روسيا هنا تحديدًا، بتحديد من هي "القيادة السورية" ومن هو "الشعب السوري"، وهو ما أكدته خطوات روسيا التالية على توقيعها على هذه القرارات: فالقيادة السورية المعنية هنا، في نظرها،  هي المتمثلة في النظام الأسدي تحديدًا، الذي لابد من موافقته على طبيعة الحل السياسي، ومضمونه، وخطواته، وترتيب أولوياته.
هل يعني ذلك أن قرارات مجلس الأمن بصدد سورية كانت ملغومة منذ البداية؟ إذ من كان بوسعه أن يصدق أن الأمم المتحدة التي استمرت في إضفاء الشرعية على النظام الأسدي يمكن أن تدعو إلى هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية "لا مكان [فيها] لبشار الأسد ولنظامه"؟ ثمَّ، من كان بوسعه أن يصدق أن بشار الأسد الذي رفض التفاوض قبل أن تراق نقطة دم واحدة من السوريين، سوف يقبله اليوم بكل أريحية بعد أن كان وراء مئات ألوف القتلى والجرحى وملايين المهجرين والنازحين؟
كان لابد والحالة هذه ــ بين أسباب عديدة أخرى ــ من أن يُعادَ النظر في تشكيل الهيئة العليا للتفاوض كي تنسجم مع الواقع السياسي الذي بدأت فيه عملية القبول ببقاء بشار الأسد "ولو إلى حين"! هكذا عقد مؤتمر الرياض الثاني بعد يومين من استقالة منسق الهيئة العليا للمفاوضات وعشرة من أعضائها، وبعد نشر تصريح نقل عن لسان وزير الخارجية السعودي ــ قيل يومها إنه لم يكن دقيقًا في النقل ــ مفاده " إن الرياض تريد خروج بشار الأسد من السلطة اليوم، ولكن الوقائع تؤكد أن لم يعد ممكنًا خروجه في بداية المرحلة الانتقالية". وعلى هذا النحو تمَّ الانتقال من مؤتمر الرياض الأول 2015 من قرار صارم: "لا مكان لبشار الأسد ونظامه في العملية الانتقالية" إلى مؤتمر الرياض الثاني 2017، أي إلى موقف قابل للأخذ والرد: "التأكيد على ضرورة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد وأركان نظامه مع بداية المرحلة الانتقالية".
لكن هذا "التأكيد على ضرورة رحيل" رئيس وأركان النظام الأسدي، سوف يبقى مجرد أمنيات، وسيتلاشى في الواقع بعد أن بدأت إقرارات القبول إقليميًا ودوليًا تتوالى حول بقاء الأسد ونظامه خلال المرحلة الانتقالية وربما بعدها. ذلك ما أدّى إلى التغاضي عن تشكيل "الهيئة الانتقالية" كأولوية لصالح القبول بـ"تشكيل اللجنة الدستورية" الذي كان يفترض أن يكون إحدى أواخر المهام التنفيذية الأساس للهيئة الانتقالية كاملة الصلاحية التي لا مكان فيها لبشار الأسد ولأركان نظامه فيها.
 لجنة دستورية إذن، بدلًا من الهيئة الانتقالية، تمكنت الدول الضامنة (روسيا وإيران وتركيا) من تشكيلها بعد سنة ونصف من استمرار روسيا في زرق إرادتها في عروق القرارات الأممية ونجاحها الظاهر على الأقل حتى الآن في تسويق وفرض فكرة استمرار بشار الأسد ونظامه في الحكم التي ألغت بالضرورة تشكيل الهيئة الانتقالية كاملة الصلاحية. كان مجرد تشكيل هذه اللجنة بمكوناتها ومرجعياتها يعني أن الانزلاق، الذي تلا الانسياق وتمَّ وفق إرادة القوى المهيمنة على الساحة السورية، كان تعبيرًا صريحًا ومباشرًا عن التنازل عن ثوابت الثورة السورية التي تبناها  بيان جنيف ومجلس الأمن في قراريْه المشار إليهما.
لاشك أن السؤال، الذي قد يبدو مُفحِمًا، سيُطرَح الآن مجدَّدًا: ماذا كان بوسع ممثلي المعارضة وقوى الثورة أن يفعلوا غير ما فعلوه تحت وطأة إرادات القوى الكبرى والإقليمية التي هيمنت على مصير سورية شكلًا وموضوعًا بإرادة وسعي رأس النظام الحاكم مقابل البقاء على كرسيِّه؟
ولكن، أليس الأصحّ أن يُطرح السؤال في صيغة أخرى: ما الذي فعله ممثلو المعارضة وقوى الثورة كي لا يجدوا مناصًا من الانسياق وراء ثم الانزلاق وفق إرادات القوى المهيمنة والفاعلة في سورية؟
الآن، أمام ما يمكن أن يطلق عليه من دون أية مبالغة: انهيار آمال أجيال كاملة في بلوغ ما تطلعت إليه يومًا: استعادة كرامتها وحريتها، والخراب الكارثي المعمَّم اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعمرانيًا، ما الذي كان بوسع هؤلاء الذين تصدوا لتمثيل قوى الثورة والمعارضة أن يفعلوا بدلًا من الانزلاق إلى القبول بأولوية اللجنة الدستورية تحت هيمنة الراعي الروسي والإيراني والتركي وبحضور مستبد ملطخ اليديْن بدماء مئات آلاف السوريين؟
كان يوسف العظمة يدرك تمام الإدراك أنه لن يكون بوسعه مواجهة جيش كامل العدة والعتاد مع قلة من الرجال الذين لم يكونوا يملكون من السلاح والعتاد إلا أقل القليل. وكان يعرف أنه ذاهب معهم إلى الموت الذي سيكون نصره المشرف أمام عدوٍّ محتل.
لم يكن مع ذلك مطلوبًا ممن تصدوا لقيادة قوى الثورة والمعارضة الذهاب إلى الموت، بل مجرد رفض الذهاب باسم الشعب السوري الثائر إلى مفاوضات تجري تحت رعاية وهيمنة قوى احتلت سورية وعزمت على أن تقرر مصير مستقبلها.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 21 شباط 2019.



jeudi 7 février 2019



آفةُ "ثورةٍ" آفِلَة 
بدرالدين عرودكي  
قبل أربعين عامًا، ومن منفاه بالنجف في العراق ثم من نوفل لوشاتو بفرنسا، استطاع آية الله روح الله الخميني، أن يفرض نفسه زعيمًا شعبيًا بلا منازع وأن تقبل به مختلف القوى الشعبية المناهضة للنظام الإمبراطوري في إيران. وبات مقره في فرنسا اعتبارًا من اليوم التالي على 8 أيلول/سبتمبر 1978، أي يوم "الجمعة الأسود" الذي أطلق فيه الجيش النار على المتظاهرين في طهران، لا موئل مختلف هذه القوى من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها فحسب، بل كذلك مئات الصحافيين القادمين من وسائل الإعلام العالمية، السمعية والبصرية، مكرسين، من حيث يدرون أو لا يدرون، زعامة هذا الرجل الذي كان قد أرغم على مغادرة إيران قبل خمسة عشر عامًا من ذلك، أي عام 1963، إلى العراق ثم في تشرين أول/أكتوبر 1978 ، مرغمًا ثانية، إلى فرنسا، قبل أن يعود نهائيًا إلى طهران، بعد أن كرسه ملايين الإيرانيين وهرعوا لاستقباله زعيمًا في الأول من شباط 1979. 
ما إن عاد الخميني إلى طهران منتصرًا بعد مغادرة الشاه لها، حتى خان الوعود التي قطعها لمن نصروه في منفاه الفرنسي، تلك التي كانت تنصبُّ على اعتماد النظام الديمقراطي واحترام حقوق المواطنة والإنسان والعمل على سيادة العدالة الاجتماعية. ذلك أنه سرعان ما استفاد من ضروب الفوضى التي عمت أيديولوجيًا وسياسيًا أرجاء إيران ووضعت البلاد على حافة حرب أهلية، كي يفرض نظام ولاية الفقيه غير المسبوقة بعد أن نودي به إمامًا، وأن يعلن قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
كان العالم العربي لحظة انفجار الثورة الإيرانية وقيام الجمهورية الإسلامية يعيش مرحلة النكوص التي افتتحتها هزيمة حزيران 1967 وانكسار المشروع السياسي العربي على الصعد كلها، ودخول عصر النظم الاستبدادية الوراثية الطامحة إلى التأبيد. ومن ثمَّ، كانت الأرض العربية شبه ممهدة لمطامح إيران الإمبراطورية بثوب إسلامي لبسته إثر ثورة شعبية حقيقية. تجسّدت فاتحة السياسة العربية لإيران آيات الله في محاولة تجيير القضية الفلسطينية لصالح النظام الجديد عن طريق توثيق الصلة بالفلسطينيين وبالمنظمة التي تمثلهم ــ ولاسيما بعد زيارة السادات للقدس وتوقيع معاهدة كامب دافيد ــ حين استقبل الخميني ياسر عرفات وقطعت الجمهورية الإسلامية علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل وقامت بتسليم مفاتيح سفارتها إلى وفد فلسطيني كي تصير فيما بعد سفارة فلسطينية. إلا أنه سرعان ما تبين لعرفات أن العمق الاستراتيجي الذي ظن أنه عثر عليه في إيران الثورة لم يكن أكثر من مجرد سراب ولاسيما بعد نشوب الحرب العراقية الإيرانية التي قسمت عددًا من دول العالم العربي إلى فريقيْن، أحدهما مؤيد لإيران (نظام الأسد ونظام القذافي) وآخر مؤيد للعراق تمثل بوجه خاص في دول الخليج.
لم تكن مع ذلك مطامح إيران الإمبراطورية، سواء على صعيد طبيعة النظام الاجتماعي الذي اعتمد في الداخل، أو على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية ــ وقد بقيت بلا تغيير بعد أن صارت إسلامية ــ خافية على قطاع كبير من القوى السياسية والشعبية في مختلف الدول العربية. إذ لم تمض ثلاث سنوات حتى تم القضاء في إيران على إجماع القوى اليسارية أو العلمانية الذي استطاع الخميني تحقيقه من حول شخصه وما ظنته برنامجه قبل عودته. فتم التخلص من رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر بتسريحه، وتقرر حلُّ حزب توده الشيوعي، واستعيض عن مختلف القوى التي شاركت في الثورة ودعمت الخميني برجال الدين من أنصاره على اختلاف مستوياتهم. أما العدالة الاجتماعية المرجوة فقد بقيت حلمًا يراود فقراء إيران، واستعيض عن الديمقراطية بمفهوم مستحدث للديكتاتورية تمثل في ولاية الفقيه. كما أن التصريحات التي أطلقها الخميني قبيل عودته إلى طهران، مطمئنًا القوى الكبرى بعدم تطلعه إلى لعب دور دركي الخليج كما في الماضي، ذهبت أدراج الرياح. ذلك أن إيران "الثورة" الإسلامية لم تبادر إلى إعادة الجزر الثلاث التابعة للإمارات العربية المتحدة التي احتلتها إيران الشاه الإمبراطورية. كما أنها فضلًا عن سعيها، ولما تمض سنوات ثلاث على ثورتها، إلى العمل على احتواء عدد من الفصائل الفلسطينية من أجل السيطرة عليها بمعزل عن المنظمة، بادرت أيضًا إلى احتلال مواقع منظمة التحرير الفلسطينية نفسها في لبنان فور انتقال هذه الأخيرة عام 1982 إلى تونس، وذلك عن طريق المباشرة في تأسيس ذراع عسكرية وسياسية لها فيه تمثلت في حزب الله الذي سيحتل بالتدريج موقع الذراع المسلحة والوكيل الحصري لإيران في العالم العربي.
كان ما يقال في ثمانينيات القرن الماضي عن "تصدير الثورة" الإيرانية مُضَلِّلًا. ذلك أن الهدف لم يكن في الحقيقة نقل الثورة الإسلامية بقدر ما كان توسيع مناطق نفوذ إيران الجديدة باسم الإسلام ومفاهيمه. إذ بخلاف النهج الذي اتبعه الشاه من أجل السيطرة السياسية على المستوى الإقليمي اعتمادًا على القوة العسكرية المحضة ــ كما فعل في احتلاله الجزر الإماراتية الثلاث ــ اعتمدت جمهورية ولاية الفقيه إلى جانب تعزيز قوتها العسكرية نهجًا آخر مختلفًا جذريًا، يتمثل في تعزيز الانتماء الطائفي في البلدان العربية وتسخيره لخدمة المصالح القومية الإيرانية. لم تكن إيران من أجل التأثير على سياسات عدد من دول المشرق العربي بحاجة إلى إرسال جيوشها أو أساطيلها. فإما التحالف الوثيق الذي أبرمته مع نظام حافظ الأسد الذي وقف صراحة إلى جانبها في حربها ضد العراق، وإما دعم قوة سياسية بتحويلها قوة عسكرية تستحيل بالتدريج إلى دولة داخل الدولة التقليدية وتسيطر على مراكز القرار فيها، كما فعلت في لبنان.
كان لابد من مرور أكثر من ثلاثين عامًا على ثورة إيران الإسلامية لكي تعلن على الملأ وعلى لسان مسؤوليها تطلعاتها الإقليمية، حين طفقوا يعلنون بصفاقة أن إيران تسيطر على القرار السياسي في أربعة عواصم عربية! كان العراق أول هدف أتاح لها الشيطان الأعظم كما كانت تسمي الولايات المتحدة الأمريكية التواجد والعمل على السيطرة على مراكز القرار فيه. لكن الربيع العربي الذي بات في نظر أنصار الثورة المضادة وبالًا على العالم العربي كان أكثر كشفًا لمآرب الجمهورية الإسلامية الحقيقية. فبعد أن سارعت إلى تأييد انتفاضات الشعوب العربية في تونس وليبيا ومصر واليمن، اعتبرت أن انتفاضة السوريين ليست أكثر من مؤامرة استعمارية، وبادرت إلى العمل من أجل الحيلولة دون نجاح ثورتهم مستخدمة ذراعها العسكري الحصري في لبنان أولًا، ثم عن طريق تجنيد وتنظيم ميليشيات أفغانية وباكستانية وإرسالها إلى سورية لتعمل تحت إمرة قادة حرسها الثوري في قمع ثورة السوريين.
بعد أن هيمنت تدريجيًا على مركز القرار اللبناني على الصعد الأمنية والعسكرية والسياسية، كان همّ إيران الإسلامية  خلال السنوات الثماني الماضية، وهي تتغلغل في نسيج المجتمع والجغرافيا السوريين، منصبًّا على إنقاذ أخبث نظام استبدادي عرفته سورية في تاريخها. إلا أن مغامرتها السورية، على ضعف ثم غياب الحضور العربي خلال العقود الخمسة الأخيرة، لم تكن مضمونة العواقب. وكان لابد من ثوابت الجغرافيا والتاريخ في العلاقات العربية الإيرانية من أن تفعل فعلها مجدَّدًا خلالها وبدءًا منها بعد مغامراتها العراقية واللبنانية واليمنية. ذلك أن إيران الثورة، منذ أن استعادت الدور الإمبراطوري الذي كان الشاه من قبلها يعمل على أدائه في المنطقة المحيطة بإيران بما فيها المشرق العربي خصوصًا، كفت عن الوجود لتفسح المجال أمام إيران التطلعات الإمبراطورية المتجددة بلباس إسلامي.
لم يكن عمر بن الخطاب والحق يقال على خطأ حين ودَّ لو أن بينه وبين فارس جبل من نار. ذلك أنه لولا دعم إيران نظام الأسد بالمال والرجال والسلاح لما كان بوسعه أن يرتكب هذه الجريمة التاريخية في سورية. ولعل هذه الجريمة بالذات هي التي تؤدي اليوم إلى وضع حدٍّ لدورها في المشرق العربي بصورة نهائية.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 7 شباط/فبراير 2019.