jeudi 20 décembre 2018



بين عالميْن
 بدرالدين عرودكي 
قبل أسابيع، أثار إعلام النظام الكيمياوي في سورية، على عادته في الصفاقة وفي الاستغباء، سخرية العالم، حين تحدث عن "العنف" الذي واجهت به الشرطة الفرنسية مظاهرات وتجمعات السترات الصفراء. لم يكن وحده الذي تميز بذلك في العالم العربي. فإعلام عدد من النظم الاستبدادية التي تسوق مواطنيها إلى السجن بلا محاكمة، أو تقتلهم أثناء التعذيب، أو تقوم باغتيالهم، لمجرد ممارستهم حق التعبير بتغريدات على وسائل التواصل الاجتماعي، أو بمقالات يعبرون فيها عن رأيهم حول ما يجري في بلادهم، وتعجز عن النظر إلى انعكاس أفعالها ــ التي ترتقي إلى جرائم حرب ــ على وجوهها في المرآة، سار في الدرب نفسه مادامت النظم التي يعمل تحت إمرتها قادرة على أن ترى في ما يقوله الآخرون أفعالًا تتيح لها توجيه التهم الرخيصة والكاذبة لهم، وتسمح لإعلامها ممارسة حرية المبالغة والتشويه، في الوقت الذي ترفض فيه أن ترى سوأتها التي يراها الجميع. هكذا، لا يستطيع المواطن العربي، بدءًا من السوري، إلا أن يقارن، بمرارة، بين عالميْن يتواجدان في زمن واحد، وفي قرية واحدة صارتها الكرة الأرضية !
مظاهرات السترات الصفراء العفوية التي انطلقت تعلن مطلبًا بسيطًا: إلغاء قرار رفع أسعار الوقود الذي كان مقررًا تطبيقه اعتبارًا من أول العام الجديد، تحولت خلال أسابيع ثلاثة إلى حركة عمَّت فرنسا كلها، واكتسبت دعمًا شعبيًا منقطع النظير، منذ بداياتها، أرغم الرئيس والحكومة على إعادة النظر في قراراتهما، وعلى اتخاذ قرارات لم تكن على جدول أعمالهما بلغت كلفتها الأولية ما لا يقل عن 12 مليار يورو. صحيح أن ما قامت به جماعات المشاغبين من اختراق لمظاهراتها، وارتداء بعض أفرادها السترات الصفراء، ومن تكسير واجهات المتاجر ونهبها، وقلب السيارات الخاصة للمواطنين وحرقها، وممارسة العنف الحقيقي ضد كل من يحاول من المتظاهرين السلميين مواجهتها، أدى، في نهاية الأمر إلى انحسار الدعم الشعبي للمظاهرات، إلا أن هذا الدعم بقي على حاله بالنسبة إلى المطالب التي كان سقفها يرتفع يومًا بعد آخر. لم تعد المظاهرات تنادي بضرورة رفع الحد الأدنى للأجور أو تخفيف الضرائب عن الغالبية العظمى من الطبقات الفقيرة والوسطى، أو إلغاء زيادة الرسوم المقررة على رواتب المتقاعدين فحسب، بل انتقلت في قفزة نوعية، ذات طابع سياسي هذه المرة، إلى المطالبة بتطبيق  نظام يسمح للشعب التدخل مباشرة في الحياة السياسية عن طريق استفتاءات يمكن بها إلغاء هذا المرسوم أو ذلك القانون، من خلال ما أطلق عليه استفتاء مبادرة المواطنة، تستجيب الحكومة له بناء على عريضة يوقعها سبعمائة ألف مواطن، على غرار النظام المعمول به في سويسرا خصوصًا. أي، بعبارة أخرى، كسر ديمقراطية التمثيل عبر المؤسسات المختلفة التي تعرفها فرنسا ودول الاتحاد الأوربي والانتقال، بصورة أو بأخرى، إلى الديمقراطية المباشرة التي تمارس عبر الاستفتاءات وتؤدي إلى إقالة أي مسؤول منتخب أو معيّن، بما في ذلك رئيس الجمهورية في حال عدم تطبيقه البرنامج الذي انتخب بناء عليه.
حملت هذه الحركة الشعبية الواسعة لا على استنفار أجهزة الإعلام المختلفة التي شرعت بإجراء نقاشات واسعة حول مطالب الحركة وإمكانات الاستجابة لها فحسب، بل كذلك على استنفار كافة أجهزة الدولة، بدءًا برئاسة الجمهورية، من أجل دراسة طرق العمل لتحقيق هذه المطالب، ومن ثم على دعوة كافة القوى الحزبية والنقابية وممثلي السترات الصفراء في مختلف مدن فرنسا ومناطقها، للإسهام في مناقشة كل ما يطال الأمور التي تمس حاضر فرنسا ومستقبلها على صعيد البيئة والسياسة والاقتصاد، بما في ذلك المطلب الذي بات رئيسًا لدى السترات الصفراء، أي استفتاء مبادرة المواطنة.
يحمل ما جرى في سورية أيضًا، قبل ما يقارب اليوم من ثمانية سنوات، على القيام بمقارنة طفيفة مع ما يجري في فرنسا منذ نيف وشهر. فما يمكن أن نسميه اليوم "الحدث السوري" بدأ بمظاهرات سلمية تطالب بالحرية وبالكرامة. لكن قوات الأمن الأسدية لم تواجه المتظاهرين بخراطيم المياه، أو بالغازات المسيلة للدموع، كما فعلت الشرطة الفرنسية خصوصًا عند قيام أي من المتظاهرين بمخالفة قانون التظاهر، بل اختارت ما كانت تراه أكثر فعالية ونجوعًا: بدءًا بالرصاص الحي وانتقالًا إلى القصف بالمدافع، وصولًا إلى تدمير المدن والقرى بالبراميل. لم تقم قوات الأمن السورية بإحالة المتظاهرين إلى القضاء بسبب أفعال عنف أو ارتكاب مخالفات للقانون العام، كما فعلت الشرطة الفرنسية مع المشاغبين واللصوص الذين اخترقوا مظاهرات السترات الصفراء حصرًا، بل قامت باعتقال المتظاهرين ومارست تعذيبهم الذي كان ينتهي إلى القتل غالبًا. أما مؤتمرات "الحوار" الصورية التي دعا إليها نظام الاستبداد الأسدي، فلم تكن تستهدف سوى ذرَّ الرماد في العيون، بينما كانت قواته الأمنية تمارس مهامها في القمع بلا رحمة.
سوى أن فرنسا بلد ديمقراطي ــ كما يتجاهل نقادها في النظم الاستبدادية العربية ــ لا يستطيع فيه الحاكم أيًّا كان ــ حتى لو كان جنرالًا ــ أن يفعل ما يشاء كيف يشاء. وليس بوسعه إلا أن يعمل ضمن حدود القوانين. لهذا، كان أصحاب السترات الصفراء يمارسون حقهم الكامل في الاحتجاج وفي الاعتراض على القرارات الحكومية. ولم يكن ارتفاع سقف مطالبهم إلى ما وصل إليه خلال أسابيع قليلة إلا نتيجة تراكم ما تواجهه الديمقراطية التمثيلية نفسها من مشكلات تجلت في تضاؤل نسبة الإقبال على الاقتراع في الانتخابات الرئاسية والنيابية. كما لو أن الديمقراطية التمثيلية، على تفاوت طرق ممارستها بين بلد أوربي وآخر، قد بلغت حدودها القصوى، فبات ضروريًّا إعادة النظر في بعض مفاصلها الأساس. ولاشك أن اللبرلة المفرطة للاقتصاد خلال الأربعين عامًا الماضية قد لعبت دورًا، لا في محو الحدود على هذا الصعيد بين اليمين واليسار التقليديين فحسب، بل للحدّ من دور النقابات الذي كان شديد الفعالية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. أدى ذلك كله إلى تراجع متواصل في مستوى معيشة الطبقات الوسطى، وإلى الحدِّ من فوائد الضمان الاجتماعي والصحي، مثلما أتاح، في الوقت نفسه، لليمين المتطرف أن يستغل هذا القصور من خلال شعارات شعبوية تمكن بفعلها من الوصول إلى السلطة في ثماني دول أوربية. وكانت النتيجة في فرنسا نمو التيارين الشعبويين، اليمين المتطرف واليسار المتطرف، على حساب اليمين واليسار التقليديين اللذين لا زالا يعيشان انهيارًا غير مسبوق خلال السنوات الأربعين الأخيرة.
بين عالميْن إذن: عالم بلاد يقمع فيها حكامُها شعوبَها ويحرمون عليها الحرية قولًا وفعلًا، وعالم تسعى فيه شعوبٌ مجاورةٌ ترغم فيه حكامَها على الاستجابة إلى ما تطالب به: تعميق الديمقراطية التي تعيش مع ذلك في ظلها والتي يسَعها، بفضلها، أن تفعل ذلك.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 20 كانون أول/ديسمبر 2018


dimanche 16 décembre 2018




صحبةَ مُبدَعِ كونديرا (1)
En compagnie de l'oeuvre de Kundera

بدرالدين عرودكي 
كتب كونديرا: "...الروائي هو الذي يريد، كما يرى فلوبير، أن يختفي وراء مبدعه. أن يختفي وراء مبدعه يعني التخلي عن دور الشخص العامّ. وليس ذلك من السهل اليوم حيث يتوجب على كلِّ شيء ينطوي على أهمية ما إن يمرّ من خلال مشهد وسائل الإعلام الجماهيرية المضاء على نحوٍ لا يحتمل والتي تقوم، خلافاً لقصد فلوبير، بإخفاء المبدع وراء صورة مؤلفه. وفي هذا الوضع الذي لا يستطيع أي امرئ تفاديه كلياً، تبدو لي ملاحظة فلوبير كما لو أنها تحذير: ذلك أن الروائي، إذ يقبل القيام بدور الشخص العام، يعرِّض للخطر مبدعَهُ الذي يمكن أن يعتبر مجرد ملحق لحركاته ولتصريحاته ولمواقفه. هذا في حين أن الروائي ليس ناطقاً باسم أحد، بل إنني سأذهب في هذا التأكيد إلى درجة أن أقول إنه ليس  ناطقاً حتى باسم أفكاره الشخصية."
هذا الاختفاء الذي الذي كان فلوبير يراه ضروريًا للروائي كي لا يرى القارئ أمامه سوى الرواية وحدها، سوف يعمل به كونديرا جاعلًا منه قاعدة حياته وسلوكه روائيًا. فقد كان في أعماقه يتمنى، كما صرح بذلك مرارًا، لو استطاع، أن يكتب تحت اسم مستعار، ولاسيما حين كلفته كتاباته فقدان وطنه الأصلي، الذي كان أيضًا وطن فرانز كافكا. إذ أنه بعد نشر روايته "المزحة" عام 1967 في بلده خلال ربيع براغ، منع من النشر كليًا في السنة التالية، وبقي كذلك حتى اضطراره إلى الهجرة إلى فرنسا عام 1975.
ازدادت مع الأيام قناعته بضرورة أن يحمي مبدعاته من أية عناصر يمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار من أجل فهم مبدعاته، سواء تلك المستقاة من سيرته الشخصية، أو تلك التي يمكن أن تؤخذ من مقابلات صحفية أو إذاعية لم يمهرها بتوقيعه، أي لم يعترف بها، كالمحادثتيْن اللتين ثبَّتهما في كتابه فن الرواية. وقد أتيحت له الفرصة أن يجسّد هذه الرغبة فعلًا حين قررت منشورات غاليمار استقبال أعماله ضمن سلسلتها الشهيرة، لابلياد، أو الكواكب، والتي تقوم منذ إطلاقها في بداية العقد الثالث من القرن الماضي، بنشر الأعمال الكاملة أو شبه الكاملة للكتاب والفلاسفة في العالم، اعتمادًا على المخطوطات والطبعات المختلفة للأعمال المنشورة من قبل، يقوم المختصون بدراستها وتمحيصها وتحليلها وتقديمها للقارئ قبل أن يضمها مجلد أو أكثر في السلسلة. كان دخول كونديرا هذه السلسلة وهو على قيد الحياة استثناءًا سمح له اشتراط إعداد هذه الطبعة تحت إشرافه المباشر. ومن هنا تفرّدت هذه الطبعة، ضمن المجلدات التي نيَّفت هذا العام على ستمائة وثلاثين مجلدًا في هذه السلسلة بأنها، بدلًا من أن تحمل كمثيلاتها عنوان: "الأعمال الكاملة Œuvres complètes"، أو "أعمال Oeuvres" بالنسبة للطبعات التي لم تكن كاملة بعد، حملت على المجلديْن اللذيْن خصصا لها، عنوان: "عمل Oeuvre"، جمعت فيهما مجموعته القصصية الوحيدة، ورواياته العشر، ومسرحيته الوحيدة، وكتبه الأربعة حول الرواية. وبذلك كانت منشورات غاليمار تستجيب عمليًّا لمطلب كونديرا في أن يختفي وراء ما يعتبره "أعماله"، مهملًا على سبيل المثال مجموعاته الشعرية الثلاث التي سبق له أن نشرها شابًا قبل أن يتحول كليًا نحو الرواية، أو قصصًا قصيرة كتبها ولم تضمها مجموعته الوحيدة في هذه الطبعة، فضلًا عن العديد من المقابلات الإذاعية والتلفزيونية أو الصحفية التي سبق له أن أجراها خلال السنوات العشرين التي تلت وصوله إلى فرنسا ولاسيما بعد أن غطت شهرته الآفاق بعد نشر روايته خفة الكائن التي لا تحتمل وترجمتها إلى مختلف لغات العالم الحية.    
لذلك، لن يجد ماتيو غاريغو ـ لاغرانج، صاحب برنامج "صحبةَ المؤلفين" بإذاعة فرنسا الثقافية، والذي خصص أربع حلقات للحديث عن مُبْدَع ميلان كونديرا أذيع بين الإثنين 3 والجمعة 6 كانون الأول/ديسمبر الحالي، سوى بضع كلمات تلخص حياة كونديرا الشخصية: ولد في الأول من نيسان/أبريل بمدينة 1929، بمدينة برنو في تشيكوسلوفاكيا؛ هاجر إلى فرنسا عام 1975؛ جُرِّدَ من جنسيته التشيكية عام 1979؛ حصل على الجنسية الفرنسية عام 1981. أما مضمون البرنامج، الذي سيشارك فيه عدد من الذين كتبوا عن كونديرا، كتابًا أو أكاديميين، فسوف يتناول مؤلفات كونديرا الروائية أو حول الرواية، على النحو الذي أراد لها أن تكون المرجع الأساس الذي باتت طبعة لا بلياد التي أشرف عليها بنفسه، تؤلفه من الآن فصاعدًا.
لم يُدعَ كونديرا للحديث مباشرة خلال هذه الساعات الأربع التي خصصت له وهو يقترب من عامه التسعين. ولا أظن أنه كان، لو دُعِيَ، سيقبل المجيء، لاسيما بعد أن بدا في هذه الطبعة المشار إليها وكأنه يختتم ما أراد أن يقوله، خصوصًا وأن روايته الأخيرة، عيد اللا معنى، التي لم يضمها المجلد الثاني من سلسلة لابلياد عند صدورها، قد أدرجت في طبعة جديدة للمجلد الثاني إلى جانب رواياته التسع التي ضمتها طبعته الأولى. وكان على صاحب البرنامج أن يبحث في أرشيف الوسائل السمعية البصرية عن مقابلات أو حوارات سبق لكونديرا أن أجراها من قبل ولم ينشرها كم قلنا، أو قراءة بعض المقتطفات من أعماله ذاتها في تناول هذه الثيمة أو تلك التي عالجتها كل من الساعات/الحلقات الأربع.
هل يعني هذا أن كونديرا بلغ الغاية التي كان ينشدها من حماية أعماله بسور منيع لا تنفذ منه أية عناصر أخرى تشوه فهمها أو تحور دلالاتها؟  
من الممكن القول، بعد الاستماع إلى الحلقات الأربع، إن كونديرا لن يكون مستاءًا مما قيل خلالها، رغم أنه، كأي روائي مبدع مثله، ربما كان ينتظر قراءة أخرى لمبدعاته عبر تحليلها بعمق أكثر وربما باستخدام مناهج أخرى في القراءة النقدية مادامت النصوص المرجعية متاحة بكاملها للقارئ وللناقد. غير أن الحذر ــ كما أرى ــ غلب على معظم المشاركين باستثناء واحد منهم بدت قراءته لتجربته الشخصية في الحب أكثر طغيانًا على ما قام به من تحليل لهذه الثيمة في مبدع كونديرا بوصفه وثيق الصلة به وبمؤلفه.
خصصت كل حلقة لمعالجة ثيمة محددة في روايات وفكر كونديرا : الوضع الوجودي، الذي دعي للحديث فيه الأكاديمي الكندي فرنسوا ريكار، الذي أعد تحت إشراف كونديرا طبعة مبدعاته في سلسلة لابلياد وقدم لها مثلما كتب سيرة المبدعات، كلاً على حدة ــ لا سيرة مؤلفها! ــ؛ نظرية للرواية التي دعيت لتقديمها مارتين بواييه فينمان، أستاذة الأدب المعاصر بجامعة ليون؛ عن الحب، التي دعي للحديث فيه الكاتب آلان فنكلكروت؛ وأخيرًا، كونديرا :الالتزام؟ المنفى؟، التي دعي لمناقشتها هيلين باتي دولالاند، أستاذة الأدب الفرنسي في القرن العشرين بجامعة باريس، والكاتب فرنسوا تايّاندييه.
أما مدير البرنامج فقد التزم رغبة كونديرا في الاعتماد على كتاباته كما وردت في طبعة لابلياد، وعلى مقابلات أجراها، لم ترد في الطبعة المذكورة، لكنها مسجلة بصوت كونديرا نفسه من جهة، ولا تخرج عما كتبه في مختلف مبدعات الروائية أو حول الرواية، لكن الغرض من الاعتماد عليها كان إتاحة الفرصة سماع صوت كونديرا نفسه وهو يدلي بها.
لا يزال السؤال، مع ذلك، مطروحًا: ما مدى نجوع القاعدة التي عمل كونديرا على فرضها على دارسي مبدعاته ونقادها، الآن وفي المستقبل؟
(سنستعرض في المقال القادم منهج مقاربة الحلقات الأربع المشار إليها لمبدع كونديرا، وكذلك التساؤل عن مدى صمود السور الذي بناه كونديرا حول مبدعه.)   

** نشر على موقع جيرون، يوم الأحد 16 كانون أول/ديسمبر 2018.


jeudi 6 décembre 2018



الديمقراطية في محنة الامتحان 
 بدرالدين عرودكي 
  يمكن لمظاهرات السترات الصفراء، التي انطلقت في مختلف مناطق فرنسا منذ نيف وثلاثة أسابيع، أن تقدم بعض الدروس الدقيقة والضرورية حول الديمقراطية، بوصفها نسقًا وخبرة وممارسة، والتي تواجه، خلال السنوات الأخيرة في أوربا، بعض أخطر امتحاناتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي التي شهدت، وبواسطتها، صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا. وهي دروس لابد أن يقرأها جيّدًا من يحسبون، في العالم العربي عمومًا وفي سورية خصوصًا، أن النظام الديمقراطي ينحصر في أو يقتصر على صناديق الاقتراع والانتخابات الحرة؛ أو الذين يتجاهلونها باستهتار حين يصرون على سلوك نهجهم في استغباء أنفسهم وكل من حولهم وهم يبثون عبر وسائلهم الإعلامية المرئية صورًا متحركة تظهر الحياة الوديعة في دمشق جنبًاً إلى جنب صور مماثلة تبرز النار والدخان و "عنف" الشرطة ضد المتظاهرين في شوارع باريس في اليوم ذاته؛ أو أيضًا، وربما خصوصًا، من يتشدقون بها ليل نهار في أحاديثهم أو في كتاباتهم دون أن يمارسوها يومًا حتى ضمن دائرة أسرتهم. ذلك أن ما تعيشه ديمقراطية فرنسا اليوم من احتجاجات شعبية، آخذة في النمو وفي التطور وفي الاتساع على كل المستويات، بات من الصعوبة بمكان مقارنتها، سواء على صعيد الظروف الاقتصادية أو السياسية، مع ما عاشته خلال السنوات التي سبقت استقلال الجزائر في نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، أو خلال ثورة الطلبة في أيار/مايو، أو حتى في خريف عام 1995.
لم يكن العنف وسيلة المتظاهرين من أجل استقلال الجزائر أو وسيلة حركة الطلبة الثائرين ذات الطابع السياسي والاجتماعي والثقافي، بل أداة السلطة وحدها، آنئذ، لقمع المتظاهرين. أما اليوم، فهو، إلى جانب ممارسته المعتادة في المظاهرات السلمية من قبل مجموعات قليلة من المشاغبين الدخلاء على المتظاهرين من أجل السرقة والأذى، يُمارسُ من قبل قطاع من المحتجين الذين ساروا على أثرهم، ولم يترددوا في اللجوء إليه وسيلة لفرض مطالبهم على الحكومة من أجل الرجوع على قراراتها في فرض الضرائب على أسعار الوقود، ثم احتجاجًا على النظام الضريبي في مجمله كما يمارس اليوم في فرنسا. سوى أن العنف الذي لابد أن يستدعي عنفًا مُقابِلًا يمكن أن يتفاقم من الطرفين وأن يضع النظام الديمقراطي نفسه على المحكِّ تحت طائلة خطر انهياره إن لم تتوفر شروطه الضرورية كاملة.
وإذا كان انطلاق حركة السترات الصفراء بسبب قرار زيادة الضرائب على أسعار الوقود انطلاقًا عفويًا اكتسب شعبيته على نطاق واسع في فرنسا بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه تطور خلال أسابيع ثلاثة إلى حركة احتجاج واسعة ضد النظام الضريبي غير العادل وانخفاض مستوى القدرة الشرائية لدى المواطن الفرنسي العادي ورفض رفع الحد الأدنى للأجور. ولأنها كانت حركة خارج الأحزاب وخارج النقابات التقليدية، فقد حاول، بوجه خاص، كلّ واحد من حزبيْ المعارضة الشعبوييْن، في أقصى اليسار وفي أقصى اليمين، استثمار هذا الاحتجاج الواسع وتجييره لصالحه. عبثًا. لكن ذلك لم ولن يحول دونهما ودون التسلل في صفوف الحركة التي رغم أنها لم تفرز ممثلين لها للتعبير عن مطالبها، أو لم تنتخب قيادة تعمل على صوغ مطالبها، بل ولم تتمكن بالتالي من التعبير عن نفسها إلا في الشارع وفي التمركز عند مداخل المدن المختلفة، باتت، ولا سيما في مظاهرتها الأسبوعية، تشكل خطرًا تخشاه الحكومة بسبب العنف الذي رافق التجمع الذي شهدته باريس في الأول من الشهر الحالي في شارع الشانزيليزيه. ذلك أن أفرادها الذين باتوا هدف الأجهزة الإعلامية على اختلاف انتماءاتها وأيديولوجياتها يتفاوتون في التعبير عن مطالبهم بل ويختلفون في تحديد أولوياتهم. لكن هذا الاختلاف في تحديد الأولويات، وغياب الممثلين الذين يمكن أن يفاوضوا ممثلي الحكومة حول مطالبهم فاقم من خطر تحول هذه الحركة إلى ثورة عارمة يمكن أن تفضي إما إلى إسقاط رئيس الجمهورية وحكومته، أي إلى انقلاب على قوانين الجمهورية الديمقراطية ذاتها، وإما إلى لجوء الرئيس والحكومة معًا، للحيلولة دون ذلك، إلى فرض حالة الطوارئ، وفي كلتا الحالتيْن إلى تعريض الديمقراطية إلى هزة عنيفة قد تودي بها إذا ما تمكن اليمين المتطرف أو ما يسمى يسار اليسار، الشعبوييْن، من الوصول إلى السلطة.
لاشكَّ أن الديمقراطية في فرنسا تجتاز اليوم امتحانًا شديد الخطورة والوضوح معًا. تحدث وزير الداخلية عن اللجوء إلى فرض حالة الطوارئ؛ ولم تكن جملة عابرة، تلك التي قالها مسؤول حكومي معلقًا على العنف الذي غلب على مظاهرة يوم الأول من كانون الأول/ديسمبر: هم كانوا يستخدمون العنف بلا حدود؛ أما نحن، فقد كانت لدينا حدود، تلك التي تفرضها قوانين الديمقراطية. كان لدى السلطة أدواتها التقليدية: الغاز المسيل للدموع والاعتقال والإحالة إلى المحاكم. سوى أنها لا تستطيع الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين حتى على سبيل الإنذار (كما حدث في سورية مثلًا). ولا يسعها اعتقال أحدٍ دون القيام بإحالته على القضاء أو الإفراج عنه. وفي الإعلام، تكرِّرُ السلطة يوميًا احترامَها لحق التظاهر السلمي، وتطلق الدعوات للحوار.
هنا تبدو متطلبات الممارسة الديمقراطية وشروطها الموضوعية. إذ من كان يتخيل لحظة واحدة أن رفع أسعار الوقود عن طريق زيادة الرسوم عليها سوف يطلق حركة احتجاج تتسع كل يوم في مطالبها وتكتسب مزيدًا من الدعم الشعبي لها حتى لتكاد تنقلب إلى ثورة عارمة ضد نظام بأكمله؟ ومن كان يتصور أن الحكومة التي لم تكف عن الإعلان عن أنها لن تحيد عن خط الإصلاحات التي التزمت بها أمام الناخبين سوف تتراجع شيئًا فشيئاً، وخلال ثلاثة أسابيع، حتى فقد تراجعها، الذي تمثل في إلغاء قرار الرسوم على الوقود، كلَّ أثر على المتظاهرين الذين اعتبروه مجرد فتات يلقى إليهم رغم أن هذا الإلغاء كان يعني فقدان الدولة ملياري يورو سنويًا؟ لاشك أن القوانين تضع الحدود والقيود مثلما تحدد الحقوق والواجبات. لكنها تتطلب أيضًا ما يتجاوز ذلك، ولاسيما عند الأزمات غير المتوقعة التي توشك أن تودي بكل شيء عند استفحالها. فالخبرة التي يتمتع بها الحاكم، ومعارفه، وقدرته على الإحاطة بالمشكلة، وعلى اتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة، لا تفرضها القوانين طبعًا، لكن غيابها  لابدَّ أن يحمل الناخبين على سحب الثقة ممن انتخبوه، وعلى المطالبة برحيله مادام عاجزًا لسبب أو لآخر عن القيام بما انتخب لأجله أو على أن يتوقعوا استقالته.
هوذا المعنى الذي يبدو أنه يشع من حركة السترات الصفراء: ما لم تستطع الحكومة الحالية، بدءًا برئيس الجمهورية، الخروج من هذا المأزق الذي وضعتها فيه هذه الحركة الشعبية الواسعة، فلن يكون عليها إلا الرحيل، لا استجابة، بالضرورة، للمطلب الأقصى لجماهير المتظاهرين، بل لفشلها في أداء المهمة التي انتخبت لأجلها. وهو ما قد يعني نهاية الديمقراطية في فرنسا، ولاسيما إذا ما أدى ذلك إلى وصول اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف إلى السلطة.
وربما كان دانييل كوهن بنديت، أحد أشهر ممثلي حركة الطلبة في أيار/مايو 1968، على حق، حين قال في تحليله لظاهرة السترات الصفراء: "كنا نقاوم ضد جنرال في السلطة. أما أصحاب السترات الصفراء اليوم فهم يطالبون بجنرال كي يستلم السلطة!"...

** نشر هذا المقال على موقع جيرون يوم الخميس 6 كانون الأول/ديسمبر 2018.