mercredi 28 novembre 2018




دروسُ روايةٍ غير منجزة


  
بدرالدين عرودكي 
"آه! ياله من لقاء حزين، لقاء الكتاب الكبار!". كذلك كتب ميلان كونديرا تعليقًا على حادثة إرسال فرانز كافكا مخطوط روايته المسخ إلى مجلة كان مسؤولُ تحريرها، روبير موزيل، على استعداد لنشرها، إذا قام المؤلف باختصارها. موقف مماثل، لكنه أشدّ عنفًا، تمثل في رفض أندريه جيد ــ وكان مستشارًا للنشر لدى منشورات المجلة الفرنسية الجديدة التي ستقوم عليها من بعد منشورات غاليمار ــ نشر الجزء الأول من رواية مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود، وإن اعتبر، وهو يعتذر بعد ذلك، أن رفضه كان "الأكثر مرارة في حياته".  لن تكون مثل هذه اللقاءات إذن حزينةً دومًا. إذ حين أصدر روبير موزيل (1880 ــ 1942)، الذي سيعتبر أحد كبار روائيي القرن العشرين، الجزء الأول من روايته الكبرى الإنسان بلا خصائص، كتب روائي كبير آخر عن هذه الرواية، بما يضفي بعض الغبطة على لقاءات أخرى بين كبار الكتاب: » مشروع شعري، لا مجال للشك في أهميته الحاسمة من أجل تطور الرواية الألمانية، وارتقائها، وثرائها الروحي. هذا الكتاب المتألق الذي يحافظ بأروع الطرق على التوازن الصعب بين المقالة والكوميديا الملحمية، لم يعد، ولله الحمد، رواية بالمعنى الجاري للكلمة: لم يعد لأنه، كما قال غوته، "كل ما هو كامل في نوعه، يسمو بهذا النوع، كي يصير شيئًا آخر، غير قابل للمقارنة". فسخريته، وذكاؤه،  وروحانيته، تقع ضمن أكثر المجالات دينية، وطفولية، أي ضمن مجال الشعر. إنها أسلحة النقاء، والأصالة، والطبيعي ضد الغريب، والاضطراب، والتزييف، ضد كل ما أطلق عليه موزيل، باحتقار حالم، "الخصائص" «. لم يكتب هذه الكلمات ناقد أدبي أو مؤرخ آداب، بل كتبها أحد كبار روائيي القرن العشرين، توماس مان، صاحب الجبل السحري، و موت في فينيسيا، حول مشروع أحدِ أهمّ مبدعات القرن العشرين الروائية، رواية معاصرهِ روبير موزيل، الرجل بلا خصائص، التي ترجمت إلى العربية في طبعتيْن ناقصتين بالنسبة إلى طبعاتها الألمانية المختلفة للرواية ولاسيما بالنسبة التي طبعة (Rowohlt ) المعتمدة والتي كان قد أشرف عليها بعناية فائقة أدولف فريزيه (Adolf Frisé)، الأولى الصادرة في عام 2003 عن دار الجمل بترجمة فاضل العزاوي تحت عنوان "الرجل الذي لا خصال له" وتمثل ثلث الرواية تقريبًا، والثانية الصادرة في عام 2007 عن دار المدى، بترجمة محمد جديد، تحت عنوان "رجل بلا صفات" وتمثل خمْسيْ الرواية. أي أن نصَّ الرواية، المعتمد اليوم في اللغة الألمانية، والمتاح سواء لقارئها أو للقارئ في البلدان الأخرى عبر ترجماته الكاملة إلى مختلف اللغات الأوربية، لا يزال غير متاح بكامله لقارئ اللغة العربية. 
سوى أن اللقاءات الحزينة بين الكتاب الكبار لا تحدث، غالبًا، إلا بسبب توقف مفاجئ في عمل البصيرة لدى بعضهم، يحول بينهم وبين رؤية ما ينطوي عليه عمل أدبي من إمكانات جديدة أو ما يقترحه من آفاق غير مسبوقة، كما كان الأمر مع كافكا أو مع بروست. فحين نشر روبير موزيل الجزء الأول من روايته الإنسان بلا خصائص، سيفضل البعض، ممن لا يمكن مع ذلك الشك في ذائقتهم، ذكاء موزيل على فنه، في حين سينصحه آخرون أن يسير على هدي بروست في الكتابة الروائية! لم يكن هؤلاء وأؤلئك، وهم يكتبون ذلك، قادرين على رؤية الجدّة التي تخرج بهذه المبدعات عن المألوف، أو عن التقاليد شبه الراسخة في هذا الجنس الأدبي الذي كان يشهد، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، قفزة نوعية في تاريخه مع مارسيل بروست ثم مع فرانز كافكا وهرمان بروخ  وروبير موزيل.
على غرار رواية البحث عن الزمن المفقود، التي لم يتمكن مارسيل بروست من إنجازها في حياته، كانت رواية الرجل بلا خصائص مشروع حياة أكثر منها مجرد رواية بين روايات أخرى. كان روبير موزيل وهو في الثالثة والعشرين من عمره، يضع تصوراته الأولى عن روايته هذه التي يبدو أنه كان آنئذ يخطط أن تكون سيرة حياته، واضعًا لها عنوان "الجاسوس"؛ لكنه سرعان ما سيتخلى عنه حين سيعكف فعليًا، وقد بلغ الأربعين من عمره، بين عاميْ  1920 و 1926، على وضع مخططها، الذي سيعرضه في مقابلة له عام 1926، مشيرًا إلى أنه وضع لها عنوان "الأخت التوأم". ولسوف يستمر عشرين عامًا في الكتابة فيها إلى أن داهمه الموت على حين غرّة يوم 15 نيسان/أبريل عام 1942 وهو منكبٌّ على  كتابتها، من دون أن ينجزها. لم يكن قد نشر قبل وفاته منها إلا  ثلثي الفصول التي ستتضمنها طبعة أدولف فريزيه. إذ أن الفصول الأخرى، التي ستكون حصيلة جهود زوجته أو أصدقائه، والتي انصبت على دراسة مخطوطات غير نهائية للفصول القادمة من الرواية وفق خطتها الأساس والتي تركها موزيل وراءه، سمحت في النهاية، مع بعض الافتراضات، بضروب ترميم تتمات افتراضية للرواية في الطبعة المشار إليها، أي تلك التي اعتمدتها طبعة الترجمة الفرنسية الصادرة في عام 1956 في حوالي 1842 صفحة.
لكن الذين أدركوا أهميتها في حياة مؤلفها، أي قبل تمامها، كانوا من الروائيين أساسًا، على غرار توماس مان وهرمان بلوخ، ثم من جاء بعدهم من كبار روائيي أوربا الوسطى كما يحلو لميلان كونديرا أن يميزهم، مثل غومبروفيتش، بل وكونديرا نفسه. فقد اكتشفوا ما كانت تمثله هذه الرواية، على الرغم من عدم اكتمالها، بوصفها مشروعًا روائيًّا يجدِّد الكتابة الروائية الغربية. أما نقاد الأدب المعاصرين لهم، فلم ينتبهوا إلى ما كانت تنطوي عليه رواية موزيل،  بل لم يروا فيه روائيًا حقيقيًّا. منهم الناقد الأدبي والمترجم الألماني، والتر بينيامين، الذي حملته الإنسان بلا خصائص على التعبير عن إعجابه بذكاء مؤلفها لا بفنه! في حين وجد الناقد الأمريكي إدوار روديتي أن شخصيات موزيل في هذه الرواية خالية من الحياة؛ وبلغ به الأمر أن اقترح على مؤلفها السير على هدي مارسيل بروست حين أجرى على سبيل المثال مقارنة بين إحدى شخصيات بروست، مدام دو فيردوران، وبين شخصية رواية موزيل: ديوتيم، على صعيد الواقعية السيكولوجية.  
كان توماس مان، إذن، أول من رحّبَ برواية موزيل، قبل اكتمالها، بعدَ أن أدرك ببصيرته كروائي ما كانت تنطوي عليه من جدّة لم يلمحها أو يدركها معاصروهما من نقاد الأدب أو مؤرخيه. وسيليه بالطبع معاصر آخر، هو هرمان بروخ، صاحب رواية السائرون نيامًا، التي استقصت، هي الأخرى، إمكانات الفن الروائي فيما وراء ما عرف بالواقعية السيكولوجية التي انطوت على قوانين بدت للبعض شبه دائمة، والتي بدا أن نقاد موزيل ورفاقه يتوقفون عندها، والتي أطلق عليها ميلان كونديرا القواعد الثلاث: "1) يجب إعطاء أكبر قدر من المعلومات عن الشخصية: عن مظهرها الخارجي، وعن طريقتها في الكلام وفي السلوك؛ 2) يجب عرض ماضي الشخصية لأننا سنجد فيه دوافع سلوكها كلها في الحاضر؛ 3) يجب أن يكون للشخصية استقلالها التام، أي أن على المؤلف أن يختفي وأن تختفي آراؤه الشخصية كي لا يزعج القارئ الذي يريد الاستسلام للوهم واعتبار التخييل واقعاً".
لكن موزيل أخلَّ بهذه القواعد مثلما أخلَّ بها، كلٌّ على طريقته، عددٌ من كبار معاصريه في بداية القرن الماضي. يرى كونديرا أن أكبر روائيي المرحلة ما بعد البروستية، وخصوصًا كافكا وموزيل وبروخ وغومبروفيتش، أو من كان من جيله، مثل كارلوس فوينتيس، كانوا "شديدي الحساسية لجمالية الرواية، شبه المنسيّة، التي سبقت القرن التاسع عشر: فقد أدمجوا التأمل المقالي في فن الرواية؛ وجعلوا التأليف أكثر حرية؛ واستعادوا حرية الاستطراد؛ ونفخوا في الرواية روح اللا جدية واللعب؛ وتخلوا عن عقائد الواقعية السيكولوجية بابتكارهم الشخصيات دون أن يزعموا منافسة السجل المدني (على طريقة بلزاك)؛ وبصورة خاصة: فقد عارضوا واجب الإيحاء للقارئ بوهم الواقعي: الواجبُ الذي حَكمَ بصورة مطلقة زمن الرواية الثاني برمّته".
هذه الحساسية هي أيضًا حساسية كونديرا التي تجلت في مبدعه الروائي. وهي أيضًا ما يفسر كيف أنَّه في ثلاثيته حول الرواية (فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار) يكاد لا يتوقف في معظم فصولها عن الإشارة إلى روبير موزيل وإلى روايته الإنسان بلا خصائص، تارة يقارنها مع رواية توماس مان، الجبل السحري، التي حول فيها "بعض السنوات قبل حرب 1914 إلى عيد رائع لوداع القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كان فيه موزيل يسبر "الأوضاع البشرية في الحقبة التي ستلي، أي هذه المرحلة النهائية في الأزمنة الحديثة التي بدأت في عام 1914 وهي فيما يبدو في طريقها إلى أن تختتم اليوم [ستينيات القرن الماضي] تحت أعيننا؛ وتارة أخرى يشير إلى  ما أدخله موزيل، ومعه بروخ أيضًا، في جمالية الرواية الحديثة. إذ لا علاقة للتأمل في رواية كل منهما مع تأمل العالم أو الفيلسوف، بل وربما يكاد يكون، كما يرى،  لا فلسفيًا بل معادٍ للفلسفة، أي مستقلٍّ بعنف عن كل نسق أفكار مسبق التصميم. ذلك أن الرواية ــ كما يقول الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو في روايته الملاك المُبيد (1974) ــ "هي ما تبقى لنا في عالم هجرته الفلسفة [...] بوصفها آخر مرقب يسعنا منه أن نحتضن الحياة الإنسانية بوصفها كلًّا".
تلك هي فرادة الرواية التي فكَّرَها موزيل وبروخ في النصف الأول من القرن الماضي: تلك التي لا يسع سواها قولَ ما تقوله.

** نشرت على موقع جيرون، يوم الأربعاء 28 تشرين ثاني 2018.




jeudi 15 novembre 2018



العنف "المُقَدَّس" راهنًا 
بدرالدين عرودكي
 يرى عدد من المؤرخين الذين انكبوا على ثيمة العنف وأصوله الاجتماعية والثقافية عبر التاريخ، اجتماع شرطين لإمكانه في المجتمعات البشرية: الدين والأيديولوجية. هذا، على أن يفهم الدين خصوصًا ــ كي لا تختلط الأمور على المتسرعين ــ ضمن مفهومه التاريخي، البشري، نظرًا وممارسةً، أي مجموع تأويلات النصوص المقدسة الجوهرية، والمتوالية على مرِّ العصور، وكذلك ما كان يضاف إليها دومًا من تأويلات لها أو تعليقات عليها، تجسدت خلال مراحل تاريخية في ممارسات تعتمد حرفية النصوص، أو تنتقي ما يلائم منها الظرف والمكان عمومًا، وتتبنى انطلاقًا من ذلك التأويلات التي تستجيب لأغراضها الآنية أو العاجلة، بمعزل عن قداستها، مع تبنٍّ أحينًا لهذه الأخيرة في الوقت نفسه.
يكمن الدين والأيديولوجية إذن، معًا، في التأويل والتفسير والاجتهاد على مر العصور أصولًا وتراكمًا، مثلما يُعتمدان من أجل تبرير استخدام العنف وإضفاء طابع من "القداسة" عليه في حملات تبرير لا تخفى مرجعياتها الدينية، ولا سيما حين يستخدم من قبل جماعات أو مؤسسات أو أنظمة لا صلة لها بالدين أو، على الأقل، لا تتذرع به منهجًا لسلوكها أو لممارساتها. شهد القرن العشرون على امتداده واستمر مع القرن الحالي ممارسة وتبرير العنف على هذا النحو من قبل إمبراطوريات غابت الشمس عنها اليوم ومن دول عظمى ورثتها وحلت محلها. لكن أشكالًا أخرى من العنف ولدت في العالم العربي تميزت بخصوصية غير مسبوقة، سواء على صعيد الممارسة، أو أدواتها، أو ممارسيها، أو ضحاياها.
فقد حفلت سنة 2011 التي شهدت انطلاق ثورات الشعوب العربية والسنوات التالية عليها في البلدان الأساس من العالم العربي، تلك التي تميزت بموقعها الجغرافي، أو بممارساتها التاريخية للسياسة بمعناها الأصل، أو بهيمنة شبه مطلقة فيها للاستبداد، أمثلة على ممارسة أشكال مختلفة من عنف بدت من الوهلة الأولى وكأنها غير مسبوقة تاريخيًا، لكن وجودها سرعان ما تجلى للجميع، ضمن صيرورة طبيعية واستمرارية تاريخية انطلقت، أساسًا، من اعتماد النصوص المقدسة الأولى تارة، أو الإيديولوجيات الدينية التالية عليها تارة أخرى، لكن عددًا من ممارسيها المعاصرين اصطنعوا لها مبررات جديدة، دنيوية في ظاهرها، لكنها لن تختلف على كل حال عن الأولى لا في الشكل ولا في المضمون ولا في الغايات. ذلك يعني أن نظم الاستبداد في العالم العربي على اختلافها، ملكية أو "جمهورية"، وجدت ضالتها في ما استحدثته أو شجعت على استحداثه مؤسسات أمنية متعددة الجنسيات بالتعاون الرسمي أو الخفي مع مؤسساتها المماثلة من جماعات وهيئات وألوية و "جيوش"، مسلحة كلها، وفي مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي فرض نفسه بأشكال من العنف مغرقة في البدائية مع تسويق لها بوسائل وأدوات مغرقة في الحداثة.
لا يعني ذلك أن العنف قد بدأ في العالم العربي اعتبارًا من السنة المشار إليها. لكن أشكاله كانت خلال هذه الفترة، بالمقارنة مع تلك التي مورست خلال القرن الماضي، شديدة الاختلاف وأقرب، في مداها وطرقها وقسوتها، ــ ولاسيما تلك التي اعتمدها النظام الأسدي في سورية، والتي يستهدف هذا المقال بحثها ــ إلى تلك التي مارستها النظم النازية والفاشية في أوربا في النصف الأول من القرن العشرين، وفي أمريكا اللاتينية في نصفه التالي. كما أنها شملت خلال الأعوام الثمانية الماضية طيفًا واسعًا يبدأ من القتل الفردي اغتيالًا أو بعد التعذيب في المعتقلات وينتهي بالقتل الجماعي قصفًا بالبراميل أو بالسلاح الكيمياوي، أو عن طريق مجازر جماعية تختتم بحرق الضحايا.
وقد تعددت أشكال العنف بتعدد الغايات المستهدفة منه وبتعدد هوية مستخدميها، مثلما تعددت طرق الإعلان عنه وتسويقه. أما المبررات فلم تكن تقدم إلا في صيغ دعائية دينية أو أيديولوجية أو الاثنين معًا كانت كلها وبلا استثناء أقرب إلى السذاجة في مرجعيتها الدينية، أو إلى الكذب الصراح في مرجعيتها الأيديولوجية "النضالية".    
أما الغايات فكانت تتراوح بين قمع المعارضين، فرادى وجماعات، من القياديين حتى الأنصار، بواسطة الاعتقالات والتعذيب، وإدانتهم بعد محاكمات صورية غالبًا، وبين اغتيالهم حيثما كانوا، داخل البلاد أو خارجها. وكانت في بلدان عربية أخرى تستهدف طائفة بعينها، الشيعة في هذا البلد، أو السنة في البلد الآخر. أما في سورية فكان الوضع مختلفًا كليًا عن البلدان العربية كافة. إذ لم يكن ثمة تمييز والحق يقال في استخدام مختلف أشكال العنف بين انتماء المستهدفين، أيًا كانت أحزابهم أو أصولهم الإثنية أو الدينية أو الطائفية ماداموا موضع شك في ولائهم غير المشروط للنظام الحاكم.
أما الوسائل فكانت تتطور بالتدريج مع تطور الثورة وامتدادها الشعبي، جغرافيًا وزمنيًا، اعتبارًا من آذار/مارس 2011. فبعد أن كان العنف مقتصرًا، خلال أربعين سنة من الهيمنة الأسدية، على القمع والإرهاب الأمني والاعتقال مدى الحياة بلا محاكمات طوال سنين بل عقودٍ من السنوات، وعلى اغتيالات محدودة لعدد من المعارضين، بدأ النظام الأسدي في عهد الوريث يمنهج خياراته وطرقه في العنف. فقد لاحظ، منذ البداية، أن الشباب كانوا القوة الأساس في المظاهرات التي انطلقت من درعا إلى حلب ومن دمشق إلى دير الزور. وأن قادتها ومنسقيها كانوا شبه مجهولين لدى مختلف الدوائر الأمنية الممسكة بخناق السوريين طوال نيف وأربعة عقود. ومن ثم فقط عمل الأمن الأسدي على استهدافهم بمختلف الوسائل: باعتقالهم وقتلهم تحت التعذيب وتسليمهم موتى إلى أهاليهم كما لو كان يعلن للآخرين من أمثالهم مصيرهم إن اعتقلوا. ثم تطور العنف إلى استهداف المتظاهرين بالرصاص الحي، كي يتواصل بعد ذلك قصفًا بالدبابات وبالمدافع كما حدث في حمص وحماه ودير الزور بعد ستة أشهر من انطلاق الثورة؛ استخدمت كافة الأسلحة الكلاسيكية والمحرمة، كالسلاح الكيمياوي في 21 آب/أغسطس 2013، فصار القتلى لا يعدون بالمئات ولا بالآلاف بل بعشراتها، كي يتجاوز عددهم الثلاثمائة ألف في نهاية عام 2014، دون الحديث عن استمرار الاعتقال والتعذيب والقتل الذي سيكشف من خلال عملية قيصر، المصور الفوتوغرافي في الشرطة العسكرية السورية، الذي سرب إلى فرنسا جزءًا هامًا من صور المعتقلين القتلى في السجون الأسدية في عام 2015.
لم تقتصر أشكال العنف على الاعتقال والتعذيب والقصف الجوي والبري، بل اعتمد أيضًا وسيلتين إرهابيتيْن يحقق عبرهما هدفه الأساس، أي التغطية على الفظاعات التي يرتكبها بحق شعب كامل. الأولى، عن طريق ميليشيات غير رسمية من ناحية، وعن طريق الجماعات "الإسلامية" التي بلغ عددها المئات خلال عامي 2014 و2015 والتي أعلنت وسائل إعلامه عن وجودها قبل أن توجد حقًا حين تحدثت عن جماعات إسلامية أنشأت "إمارات سلفية" تذكر بقندهار من حول حمص وحماه، وقد ارتكب الجيش الأسدي باسم هذه الميليشيات عددًا من المجازر استهدفت عائلات بأكملها لحض الناس على الهجرة من بيوتها وقراها في مختلف البقاع السورية، وارتكبت الميليشيات ذاتها عددًا منها، مثل مجزرتي البيضاء وبانياس في أيار عام 2013، أو مجزرة عدرا في كانون الأول من السنة ذاتها. والثانية هي انطلاق ما سمي بتنظيم تنظيمات الدولة الإسلامية (داعش) من سورية في نيسان/أبريل 2013، والذي تشير كثرة من الأدلة والقرائن إلى استخدام النظام الأمني الأسدي لها في تحقيق مآربه داخل سورية وخارجها، مثلما تشير أدلة وقرائن أخرى أيضًا وفي الوقت نفسه على استخدام الهيئات الأمنية لها لدى القوى الأجنبية، الإقليمية والدولية، المتواجدة في سورية.
كانت أشكال العنف بلا حدود، غير المسبوقة في سورية العصر الحديث، وسائلَ هذه القوى جميعًا للقضاء على ثورة شعب أولًا، ثم تحويلها، ثانيًا، إلى صراع بين قوى علمانية وقوى سلفية تارة، أو بين نظام الممانعة والمقاومة من جهة، وقوى ارتهنتها قوى إقليمية ودولية لإسقاط هذا النظام من جهة أخرى. وكان الهدف النهائي من استخدامها إرغام العالم كله على الاختيار بين النظام الأسدي والنظام السلفي الذي تعد به "الجماعات الإرهابية الإسلامية التي لم ترفع يومًا شعار إسقاط النظام، ولا علم الثورة (الذي استحوذت عليه بعد تعديله أو بالأحرى تحريفه بما يعني حرْفًه عن هدف الثورة السورية أساسًا).
لم يكن النظام الأسدي الذي بات اليوم أسير قوتيْن، إقليمية ودولية، من استطاع تحقيق كل ذلك وحده، بل كان منذ البداية تحت رعاية ورقابة سياسية على الصعيد الدولي، ولوجستية وعسكرية من قبل إيران وروسيا، اللذين انتهيا إلى الاستحواذ على سورية أرضًا ومصيرًا ولأجل لا يضع حدّا له سوى الشعب السوري نفسه. لكن الدين ــ ضمن مفهومه التاريخي كما أسلفنا ــ  والأيديولوجية كانا، عبر أشكال العنف غير المسبوقة، الأداتين الرئيستين في التبرير وفي التهويل وفي الإرهاب، دفاعًا عن نظام الاستبداد، ثم تثبيتًا لدعائمه عن طريق محاولات تأهيله التي باتت اليوم، رغم كل شيء، أضغاث أحلام.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 15 تشرين أول/أكتوبر 2018.



dimanche 11 novembre 2018



حفل العربدة الدائم ملاذًا


بدرالدين عرودكي 
"الوسيلة الوحيدة لتحمّل الوجود، هي أن ينهمك المرء في الأدب كليًا كما ينهمك في حفل عربدة دائم". ستكون الكلمات الثلاث الأخيرة في هذه الجملة التي كتبها الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير في واحدة من رسائله عام 1858، عنوانًا استعاره روائيٌّ آخر في كتاب سيصدره بعد أكثر من نيف وقرن على ما كتبه فلوبير في هذه الرسالة الخاصة التي ستجد طريقها، هي الأخرى، للنشر بعد وفاته. كان الكتاب، في الواقع، بمثابة ثناء على مُبدع مدام بوفاري، عبر تأملات في رواية، كانت في نظره، هي الرواية بامتياز، وكانت بطلتها قد صارت، منذ لقائه الأول بها، حبيبته الأولى.
ثمينة في الواقع هي التأملات التي قام بها عدد من كبار الروائيين الغربيين، الحديثين والمعاصرين، حول فن الرواية الذي كان خيار الكتابة الذي فرض نفسه عليهم في لحظة ما من سنوات تفتح وعيهم على العالم والتخييل، وعلى الكتابة من ثمَّ، بوصفها بابًا ينفتح على عوالم موازية للعالم الواقعي لا حدود لها. تأملات تكاد تؤلف في معظمها سِيَرًا أو اعترافات أدبية، تكشف عن ميول كاتبها نحو هذا النوع من الرواية أو ذاك، وعن أسلافه من الروائيين الذين كانوا أساتذته في هذا الفن على غير علم منهم، وعن معاصريه ممن يتابع ما يكتبونه ويتابعون ما يكتبه، نقدًا تارة، وإعجابًا غالبًا. ولنا في بروست في بداية القرن الماضي، أو في كونديرا في نصفه الثاني، مثاليْن بليغين في هذا المجال. لنا أيضًا في  ماريو فارغاس يوسا، أحد كبار وأهمّ روائيي أمريكا اللاتينية المعاصرين، مثلًا آخر لا يقل بلاغة عن سابقيه، وربما لا يختلف عنهم إلا بتفصيل دقيق، إلا أنه ثريٌّ في معناه وفي دلالاته، يتمثل في أن هواه الروائي قد بدأ في التأجج، على وجه الدقة وبصورة حاسمة، حين كان في الثالثة والعشرين من عمره عند وأثناء قراءته للمرة الأولى، بباريس، رواية غوستاف فلوبير: مدام بوفاري، في طبعة شعبية. كان قد رآها فيلمًا في بلده: بيرو، في التاسعة عشر من عمره ، لكن الفيلم لم يشجعه على قراءتها، ثم أتيح له فرصة أن يسمع حولها عام 1958، نتفًا من محاضرة في احتفال أكاديمي بمناسبة مرور مائة عام على كتابة الرواية قاطعها مناضلون جزائريون بهتافاتهم من أجل حرية الجزائر يومئذ ضد السفير الفرنسي الذي كان حاضرًا ذلك الاحتفال.
يروي يوسا أنه، بعد شرائه الرواية في طبعتها الشعبية، عاد إلى غرفته في فندق متواضع في الحي اللاتيني، وطفق يقرأ فيها دون توقف حتى فجر اليوم التالي، حين خلد إلى النوم مرهقًا، كي يستيقظ بعد ساعات ويتناول الرواية من جديد لمتابعة قراءتها. لكنه كان، وهو يتناول الكتاب، يشعر، على غير انتظار، باستحواذ يقينيْن على كيانه، سيؤكدهما من بعدُ  في الأربعين من عمره: "كنتُ أعرف، من الآن فصاعدًا، أيُّ كاتبٍ وددتُ أن أكونه، وعرفت أنني سأعيش، منذئذ وحتى موتي، عاشقًا لإيما بوفاري، وأنها ستكون في المستقبل بالنسبة إلي [...] عشيقة كل الروايات، و أنها، هي، بطلة كل المسرحيات المأساوية، وموجة مجلدات الشعر جميعًا".
ما الذي جعل مدام بوفاري تحرك لدى ماريو فارغاس يوسا طبقات على هذا القدر من العمق في كيانه، وما الذي حملته له مما لم تستطع روايات أخرى أن تقدمه له؟ إذ هاهو، بعد قراءته لها للمرة الأولى، يعيد قراءتها من أولها إلى آخرها نصف دزينة من المرّات، ويقرأ فصولًا منها أو مقاطع فيها منفصلة في مناسبات كثيرة، مرات ومراتٍ أيضًا، دون أن يخيب ظنه في الرواية، كما كتب، على عكس ما كان يحدث له كلما كان يعيد قراءة روايات أخرى كانت عزيزة عليه. كان يكتشف في كل قراءة، كلية أو جزئية، "جوانبَ سرية، أو تفاصيل غير مسبوقة".  
يدرك يوسا أن لديه من الأسباب اثنين حملاه خصوصًا على هذا الإعجاب غير المشروط. أولهما أنه اكتشف بفضل هذه الرواية ميله في المبدعات الفنية أيًا كان مجالها، إلى ما يجده فيها من بناء شُيِّدَ وفق نظام صارم ومتناسق، مع بداية ونهاية؛ بناء يجعل من الرواية تنغلق على نفسها وتعطي الانطباع بعمل كامل منجز. صحيح أن العمل الفني المنفتح يبدو أقرب إلى الواقع، بما يوحي به من إمكانات واحتمالات، لكن يوسا يرى أن العمل الفني المقتطف من واقع يضعه الكاتب ضمن بنية جريئة وتعسفية لكنها مقنعة هو ما يعطي الانطباع بالهيمنة على الواقع وبتلخيص الحياة من خلالها. وثاني هذه الأسباب أنه، بين وصف الحياة الموضوعي والذاتي، والفعل والتأمل، يفضل الأول على الثاني. إذ أن "المهارة الكبرى تكمن في وصف الثاني عبر وصف الأول بدلًا من العكس". كان فلوبير مقتنعًا أنه، وهو يكتب رواية مدام بوفاري، إنما كان يكتب رواية أفكار لا رواية أحداث. ذلك ما حمل البعض على اعتبار الرواية خالية من كل حدث باستثناء الأسلوب! لكن أحداث الرواية كما يشير يوسا كثيرة: ففيها الزواج، والزنا، والحفلات، والرحلات، والنزهات، والاحتيالات، والأمراض، والمشاهد المسرحية، والانتحار. لاشك أنها مغامرات تعتبر عادية بصورة عامة، لكن روايتها التي كانت انطلاقًا من الانفعالات بها أو من ذكريات أبطال الرواية بأسلوب فلوبير المادي إلى درجة الهوس، أضفت على الواقع الذاتي كثافة وثقلًا ماديًّا جعله شبيهًا بالواقع الموضوعي. هكذا صارت الأفكار والمشاعر في مدام بوفاري وقائع يمكن أن ترى بل وأن تلمس تقريبًا.
لم يكن اكتشاف ماريو فارغاس يوسا لرواية مدام بوفاري ولكاتبها غوستاف فلوبير  إذن حدثًا طارئًا في حياته. إذ يكاد يكون حاضرًا، بصورة أو بأخرى، في كل ما كتبه من روايات. أما الكتاب الذي وضعه في الأربعين من عمره والذي استعار له عنوانًا من رسالة كتبها فلوبير عام 1858: حفل العربدة الدائم (L’Orgie perpetuelle)، فهو يتجاوز مجرد الثناء على الرواية وعلى الروائي كي يقدم رؤيته النقدية في هذه الرواية/الحدث الذي سكنه. يلخص ماريو فارغاس يوسا في المقطع الذي  يفتتح به مقدمة وجيزة لكتابه: "هناك من جهة، الانطباع الذي تتركه إيما بوفاري لدى القارئ الذي يقترب منها للمرة الأولى ( أوالثانية، أو العاشرة): التعاطف، اللامبالاة، السأم. وهناك، من جهة أخرى، ماهية الرواية في ذاتها خارج اِلأثر الذي تحدثه قراءتها: القصة التي تؤلفها، والمصادر التي تستخدمها، والطريقة التي تجعل بها من نفسها زمنًا وأسلوبًا. وأخيرًا، ما تعنيه الرواية، لا بالنسبة إلى من يقرؤونها، ولا بوصفها شيئًا مستقلًا بذاته، بل من وجهة نظر الروايات التي كُتِبَت قبلها أو بعدها"، وكما يكتب هو نفسه، خيارات ثلاثة في مقاربة الفن الروائي يؤلف كلٌّ منها شكلًا من أشكال النقد التي عرفتها الثقافة الغربية: "الأول فردي وذاتي، ساد في الماضي وأطلق عليه أنصاره النقد الكلاسيكي؛ والثاني، حديث، يزعم كونه علميًّا، يقوم على تحليل المبدع بطريقة موضوعية حسب قواعد عامة، وإن كانت هذه القواعد تتنوع حسب ضروب النقد (تحليل نفسي، ماركسي، أسلوبي، بنيوي..إلخ)، والثالث، يتعلق بتاريخ الأدب أكثر مما يتعلق بالنقد بصورة دقيقة.
حول فلوبير ومدام بوفاري، يقيم ماريو فارغاس يوسا إذن حفل العربدة الدائم هذا على شرف رواية و روائي، معتمدًا في ذلك هذه المنظورات الثلاثة، ومُحاولًا التعبير عن إعجابه الكامل مادامت هذه الرواية قد استجابت لمزاجه ولعقله في آن واحد.

** نشر على موقع جيرون، يوم الأحد 11 تشرين ثاني 2018.



jeudi 1 novembre 2018



تغييب الصوت السوري 
بدرالدين عرودكي 
في  الوقت الذي كان فيه مبعوث الأمم المتحدة ستيفان ديمستورا ــ كما يبين تقريره إلى مجلس الأمن ــ يستمع بدمشق إلى حديث وزير خارجية الأسد حول مسألة "السيادة الوطنية" ذات الحساسية البالغة ومن ثمَّ رفضه الحديث عن أي دور للأمم المتحدة في تشكيل اللجنة الدستورية عبر اختيار قائمة الثلث الأوسط  الذي يفترض أن تقترحه إلى جانب قائمتيْ النظام والمعارضة فيها، كان الرئيس الروسي بوتين، في قمة إسطنبول الرباعية الأخيرة التي شارك فيها إلى جانب المستشارة الألمانية والرئيسين التركي والفرنسي، يتحدث عن المسألة نفسها، أي مسألة "السيادة الوطنية" السورية وصعوبة الضغط على النظام الأسدي في هذا المجال، هذا على الرغم من أن دور الأمم المتحدة في العملية السياسية كان أحد "تفاهمات" روسيا مع الأمم المتحدة. لم يكن ذلك نتيجة تنسيق مسبق بقدر ما كان بعض ضروب اللعب الدبلوماسي الروسي في الوقت الضائع بعد رفض الدول الغربية الخوض في مسألة إعادة الإعمار في سورية قبل إنجاز العملية السياسية بإشراف الأمم المتحدة. وكما لاحظ كل من يتابع الحدث السوري، كان مفهوم "السيادة الوطنية" يسعف روسيا والنظام الأسدي، الذي يعمل تحت إمرتها، كلما كان الهرب إلى أمام هو المخرج الوحيد لها حين تحشر في زاوية احترام التزامات تعهدت بها أمام المجتمع الدولي، بل ووقعت عليها، كما حدث في مؤتمرات جنيف وفيينا، أو بالنسبة إلى مقررات مجلس الأمن في الشأن السوري.
الملاحظ في هذا "التوافق" في الموقف بين ما قاله الرئيس الروسي في إسطنبول وما قاله وزير خارجية الأسد بدمشق، أن الصوت السوري الوحيد الذي تريد روسيا إسماعه هو صوت النظام الذي تحميه والذي تعمل على إعادة تنظيمه وتنسيقه وتوجيهه والإعداد لمستقبله وفق مصالحها قبل موعد الحسم الأخير. سبق لروسيا أن كيَّفت خطابها حول الحدث السوري لكي يتلاءم مع إنكارها العنيد لثورة الشعب السوري، ثم أن حاولت ــ ولا تزال تحاول حتى الآن ــ تفريغ كل تمثيل سياسي مناهض للنظام الذي تحميه بعد أن عملت ونجحت ــ نسبيًا ــ في تحييد مختلف هيئاته، إثر سقوط الغوطة ودرعا على يديها. ذلك ما جعل الصوت السوري الآخر، صوت الصامتين والنازحين داخل سورية والمهاجرين واللاجئين خارجها مُغَيَّبًا كليًا. فهذه الهيئات التمثيلية، أيًّا كان الرأي في تكوين أهمها، كالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أو الهيئة العليا للمفاوضات السورية أو المجلس الوطني السوري، وأيًّا كانت أخطاء ممارساتها أو خياراتها أو تحالفاتها، كانت كلها تعلن انتماءها إلى مطالب السوريين الأولى حين خروجهم في عام 2011 وفي مقدمتها إسقاط النظام الاستبدادي والانتقال إلى نظام ديمقراطي، مثلما كانت ترفع شعاراتهم مبادئ لها. كانت صوت السوريين الحاضر إعلاميًّا، أيًّا كانت درجة قوته، وسياسيّا في المحافل الإقليمية والدولية أيًّا كان تأثيره. ولذلك كانت المستهدف الأول لقوى الاحتلالين الأساس، الروسي والإيراني، لا من أجل تغييب صوت من تمثلهم فحسب، بل لتأكيد نظرتهما إلى الحدث السوري بوصفه تمرد جماعات إرهابية ضد "نظام المقاومة والممانعة" تارة، أو ضد "الدولة" التي يحميها النظام الأسدي ويتماهى فيها تارة أخرى، أو تارة ثالثة، ضد "الحكومة الرسمية" التي لم تفقد شرعيتها في نظر هاتين القوتين مادامت تتيح لهما تحقيق مصالحهما لقاء المحافظة على النظام القائم أيًا كان الثمن الواجب دفعه.
مما لاشك فيه أن هذه التكوينات كانت تدرك أنها مستهدفة جميعها، وأن العمل يجري حثيثًا على إلغاء دورها منذ أن قررت روسيا احتلال سماء سورية ثم أرضها من أجل إنقاذ النظام الأسدي من سقوط معلن، ومن ثم إعادة تأهيله، وإرغام العالم بالتدريج على القبول به. ولكن ما الذي كانت عليه، منذئذ، ممارساتها من أجل الدفاع عن صوت الشعب الثائر الذي تصدت لتمثيله والنطق باسمه؟ وهل كانت تستجيب لضرورات الواقع الذي فُرِضَ عليها بقوة السلاح والدبلوماسية معًا؟ 
لم يكن النقد الموضوعي الذي كان يوجه إلى هذه الهيئات منذ إنشائها خالٍ من المبررات، سواء ذلك الذي كان يتعلق بهيمنة فصيل من فصائل المعارضة عليها بطرق لا ترقى في مستواها السياسي أو الأخلاقي إلى خطورة الكارثة التي تعيشها سورية، أو ذلك الذي كان يتناول منهج عملها على الصعد السياسية والإعلامية، أو حتى ذلك الذي كان يستهدف سلوك بعض مسؤوليها على المستوى الشخصي أوالمسلكي. ومن المؤسف أن البنى القيادية في هذه الهيئات لم تر ضرورة للرد على هذا النقد بصورة أو بأخرى، لا دفاعًا ولا تبريرًا ولا اعترافًا. كما أنها، وهي ترى الخطر يداهم وجودها السياسي والفعلي على أيدي دولتي الاحتلال، لم تبادر إلى القيام بخطوات تستعيد بها حماية الناس الذين تصدت لتمثيلهم عبر أفعال وممارسات تثبت قدراتها وجداراتها بتمثيلهم. كما لو أنها قررت الاستسلام قبل الأوان إلى واقعها الجديد الذي أسهمت بفعلها وبممارساتها في أن تكون أسيرته على هذا النحو، أو أنها ظنت أنها استنفذت قواها ولم تعد قادرة على رؤية مختلف الإمكانات التي لا تزال قائمة داخل سورية وخارجها ولدى السوريين أنفسهم، لو شاءت أن تنصرف إلى العمل الحقيقي المجدي الذي يمكنها أن تقوم به. ولعل هذا ما جعل الثقة بها تتلاشى شيئًا فشيئا، وما حمل الناس أيضًا على أن ينفضّوا من حولها بعد أن كانت في لحظة ما موضع أملهم.
لم يقرع أحدٌ أجراس الهزيمة؛ وليس بوسع أحد، أيًا كان، أن يعلن انتصاره، بما في ذلك روسيا. ومن الواضح الآن لمن لم يكن يتوقع ذلك، أن كل مناورات هذه الأخيرة عبر سوتشي وأستانة لفرض حلٍّ يكون روسيًا بدلًا من الحل الأممي، والتي يبدو للبعض أنها نجحت، حتى الآن على الأقل، في تسويقه بوصفه الحلّ الوحيد الذي سيرغم الجميع على القبول به، ستؤول في أسوأ الأحوال إلى العودة بصورة أو بأخرى إما إلى تكييف الحل الروسي وفق الحل الذي نصت عليه القررات الأممية، وإما إلى العودة إلى هذه الأخيرة نصّاً وروحًا.
ومن الواضح أيضًا أن ذلك لن يتم بين يوم وليلة. إلا أن أوان الدور الرئيس الذي يمكن أن تؤديه هيئات المعارضة المشار إليها قد حان الآن، لو أنها وضعت وحدة العمل والهدف منهجًا وحيدًا لها بصرف النظر عن الخلافات الشخصية أو الأيديولوجية أو الفكرية. هناك اليوم دعوات تصدر عن قوى شعبية عديدة من أجل عقد مؤتمر وطني عام لتقرير النظام البديل. من المؤكد أن التقاء أصحاب هذه الدعوات كلها من حول برنامج تشارك جميعها في وضعه من أجل مرحلة انتقالية حقيقية سيسمح باستعادة الصوت السوري المُغّيَّب من أجل التمهيد لسورية المستقبل الذي يبدو دون شك بعيدًا، لكنه بكل تأكيد، ليس مستحيلًا..

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 1 تشرين ثاني/نوفمبر 2018.