jeudi 29 mars 2018



معهد العالم العربي 
بين غياب العرب  أو تغييبهم 

بدرالدين عرودكي
كانت الآراء حول رسالة معهد العالم العربي وطبيعة وغاية نشاطاته الثقافية التي عبر عنها المثقفون العرب الذين التقاهم إدغار بيزاني خلال الاجتماعات الخاصة في تونس ثم أؤلئك الذين التقاهم بالقاهرة وبعمان، تقف كما سبق القول على طرفي نقيض من تلك التي كان السفراء العرب يعبرون عنها في اجتماعات المجلس الأعلى أو مجلس الإدارة في المعهد، أو حتى في لقاءاتهم الفردية مع رئيس المعهد حول ما يراه كل منهم باسم بلده. وعلى أن الاجتماعات الثلاثة الخاصة والمغلقة كانت سهلة التنظيم، كان تنظيم الاجتماع الذي أراد عقده بدمشق أمرًا يمكن أن يقترب من الاستحالة!
كان إدغار بيزاني قد تلقى في منتصف عام 1994، دعوة رسمية من وزيرة الثقافة إثر انتهاء معرض "سورية، ذاكرة وحضارة" الذي امتد تقديمه في المعهد بين 13 أيلول 1993 وحتى نهاية نيسان من العام التالي، لشكره أولًا على النجاح الهائل الذي  حظي به هذا المعرض في فرنسا والذي استقبل أكثر من أربعمائة ألف زائر من جهة،  ولتقليده ثانيًا وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة الذي صدر بمنحه له مرسوم من رئيس الجمهورية آنئذ، من جهة أخرى.
أراد إدغار بيزاني أن تكون الرحلة إلى دمشق بهذه المناسبة خاتمة رحلات ثلاث متوالية، تبدأ أولاها بالقاهرة ثم الثانية بعمان من أجل الاجتماع بمثقفي البلدان الثلاثة في كل منها. إلا أنه بخلاف هاتيْن العاصمتين اللتين كان هدف الرحلة الوحيد إلى كل منهما يقتصر على اللقاء بالمثقفين، كان هدف الرحلة إلى دمشق في المقام الأول تلبية الدعوة الرسمية. فلم يكن ثمة بدٌّ، والحالة هذه في الحقيقة، من إخطار الجهة الداعية برغبة رئيس المعهد وعزمه تنظيم لقاء مع عدد من المثقفين السوريين بصورة شخصية، وخاصة، وضمن اجتماع مغلق، يعقد في مكان لا صفة رسمية له فرنسية أو سورية.
أعلمتُ وزيرة الثقافة مفصّلًا بهذه الرغبة: أسبابها، وهدفها، وغايتها، وكذلك بأن اجتماع دمشق، سيسبقه اجتماعان مماثلان في كلٍّ من القاهرة وعمان. أعلمتها أيضًا بالطبيعة الخاصة لمثل هذا الاجتماع المغلق الذي يمكن أن يعقد في قاعة ما بفندق ما. فجاء جواب الوزيرة بالترحيب، وطلبتْ تزويدها بأسماء المثقفين الذين ننوي دعوتهم. فأرسلت لها قائمة بالأسماء التي كنت اقترحتها على رئيس المعهد. عرضت الوزيرة آنئذ أن يتم عقد الاجتماع بالقاعة الشامية في المتحف الوطني بدمشق. وسرعان ما أدرك إدغار بيزاني الغاية من هذا الاقتراح مبتسمًا: "يريدون الاستماع إلى ما نقول. لا بأس. ليكن. ليس لدينا ما نخفيه!".
أعلمت الأصدقاء المدعوين إلى الاجتماع واحدًا بعد الآخر. وبدأنا رحلتنا الثلاثية إلى القاهرة. إلا أننا غداة وصولنا إلى عمان، فوجئنا بسفير فرنسا في سورية قادمًا إلينا على عجل كي ينقل إلى علم بيزاني قرار إلغاء الاجتماع المقرر مع المثقفين بدمشق. بدا للتوّ واضحًا أن الدوائر الأمنية السورية انتهت إلى عدم الموافقة على عقد مثل هذا الاجتماع، وأنها طلبت من الوزيرة بكل بساطة إلغاءه. كان رد فعل بيزاني السريع، أن بوسعنا الاجتماع كل يوم مع عدد من الذين  دعوناهم خلال أيام إقامتنا الثلاثة صباح كل يوم. كان الجناح الكبير، الذي خصص لإدغار بيزاني في فندق الشام، يصلح لاستقبال الضيوف والأصدقاء؛ ومن ثم، فقد قمتُ بدعوة كل من كان على استعداد للقاء رئيس المعهد على الفطور في اليوم المخصص له. كان في مقدمة من استجاب إلى هذه الدعوة الدكتور بديع الكسم، وأديب اللجمي، ونبيل المالح وأنطون مقدسي وآخرون. أما الوزيرة فقد استوقفتني، وهي تستقبل مدعويها إلى حفلة تقليد وسام الاستحقاق بإحدى قاعات الاستقبال في فندق الشام، كي تخبرني في لهجة أقرب إلى التأنيب، أنها دعت إلى الحفلة جميع من أردتُ دعوتهم إلى الاجتماع، وهو ما كان يعني بوضوح أن هذا أقصى ما كان بوسعها أن تفعله. كما لو أن لقاء مجاملة أثناء حفل استقبال كان يمكن أن يحقق الغاية المرجوة من الاجتماع المُلغى!
كان الحرج شديد الوضوح بقدر ما كان، أيضًا، شديد البلاغة. وكان أيضًا رسالة عرف إدغار بيزاني محتواها، من قبل، عبر السفراء العرب، تقول له ما الذي يمكن أن ينتظره من الأنظمة العربية، على اختلاف اتجاهاتها ورؤاها وموقع الثقافة في خططها، من أجل تطوير معهد العالم العربي.  
ذلك أن "عقدة النجار" كانت تقوم هنا، في هذا التناقض الذي كشفت عنه محاولة بيزاني. لن يتمكن هذا الأخير من تجاوزها أو التغلب عليها، لاسيما وأن الزمن وقف حائلًا بينه وبين ما يريد. إذا ما إن حل جاك شيراك محل فرنسوا ميتيران في الإليزيه حتى طلب الرئيس الجديد إلى بيزاني الاستقالة من رئاسة المعهد. كان ذلك يعني بوضوح شديد أن رئاسة المعهد لا يمكن أن يتولاها إلا من يختاره رئيس الجمهورية الفرنسية شخصيًا. وكان من اختاره هو أحد نوابه المنتخبين حين كان عمدة مدينة باريس: كميل كابانا.
وشأن أسلافه من الرؤساء، سرعان ما اكتشف الرئيس الجديد مشكلة المعهد المالية وميزانيته النظرية التي تعتمد على كامل الإسهام المالي للدولة الفرنسية، أي نصف ميزانية المعهد، وعلى ما يقارب 15 % الذي يتم تسديده فعليًا من النصف الباقي الواقع على عاتق الجانب العربي! فكان أن صرف همَّه إلى حل المشكلة المالية، تاركًا للمدير العام، العربي، آنئذ أن يتولى الشأن الإداري والثقافي.
لم تتح الفرصة الزمنية أمام إدغار بيزاني كي يقنن أسس وعناصر هذه الشراكة الفرنسية/العربية التي أقامها سواء على صعيد البرمجة الثقافية أو على صعيد تقاسم المسؤوليات في تنظيم العمل، بما في ذلك الشراكة الحقيقية بينه كرئيس يمثل فرنسا وبين المدير العربي الذي يمثل العالم العربي (وكان من المغرب حينها)، من خلال إعادة النظر في النظام الأساسي للمعهد. وعلى أن هذا المفهوم كان لا يزال قائما على أرض الواقع مع مجيء الرئيس الجديد، إلا أن غياب التقنين أتاح الفرصة لتوجيه هذه الشراكة منذئذ في اتجاه آخر، بدأ بتحديد مساره المدير العام ذاته الذي استعاد صلاحياته ( بعد أن كان الرئيس السابق قد جرده منها في الأشهر الأخيرة من ولايته) بفضل الرئيس الجديد. كان هذا الأخير قد وضع نصب عينيه ألا يقوم بينه وبين المدير العام أي خلاف على غرار ما حدث قبل وصوله. هكذا استعيدت عقدة النجار مجدّدًا: فإذا كان الخلاف على مفهوم الشراكة الفرنسية العربية على طرفي نقيض بين السفراء العرب من جهة، والمثقفين العرب من جهة أخرى، فقد جاء المدير العام العربي وفي ولايته الثانية تحديدًا، لا ليتبنى فهم السفراء العرب لهذا المفهوم، بل ليعيد تأويله لصالح الدولة التي ينتمي إليها والتي تبنت منذ البداية اعتماده مديراً رسميًا بعد أن عين بصورة مؤقتة من قبل الرئيس السابق في بداية الأمر. إذ أنه بدأب وعناد، قام بتغيير التوازن تدريجيًا على صعيد التنظيم الإداري، بحيث أمكنه قبل نهاية ولايته أن يقدم تقريرًا عيانيًا لرئيس الوزراء المغربي عام 1999، عبد الرحمن اليوسفي، عند زيارته المعهد، حين قدم له كافة موظفي المعهد من رعايا المملكة المغربية حصرًا، مشدّداً على المسؤولين منهم: مدير المتحف والمعارض، مدير النشاط الثقافي، مسؤول الندوات الأسبوعية، مدير مركز تعليم اللغة العربية، أي كافة فعاليات معهد العالم العربي الثقافية التي وضعها حصرًا بين أيدي موظفين ينتمون إلى جنسية عربية واحدة من أصل 22 جنسية وذلك قبل انتهاء ولاية المدير العام المغربي. كان هذا المشهد وحده يكفي لبيان انحراف طريق الشراكة الذي كان يفترض بالمدير العام العربي أن يكون أول من يحرص عليه بصفته يمثل العرب جميعًا، لا الدولة التي يحمل جنسيتها وحدها!
لذلك، وبعد مغادرة المدير العام المغربي، حرص رؤساء المعهد على التوالي على الحدّ من صلاحيات المدير العام إلى درجة الحيلولة دونه ودون الاستقلال عن الرئيس  باتخاذ أي قرار يتعلق بتعيينات جديدة أو تسميات في مواقع المسؤولية. وكان لابد من انتظار سنوات قبل العودة إلى ضرب من التوازن على صعيد التنظيم الإداري جاء نتيجة تقرير تفتيش مالي أولي ما لبث أن استدعى التوسع بحملة تفتيشية واسعة أدت إلى تسريح مدير المتحف والمعارض، وإنهاء خدمات مدير مركز اللغة العربية في المعهد، وقبول استقالة مدير الإدارة والمالية.
ضرب من التوازن فرضته الضرورة في البداية لا السياسة؛ لكن هذه الأخيرة ستحتل الأولوية وستسير في درب آخر كليًا مع وصول فرنسوا هولاند إلى قصر الإليزيه وقيامه بتعيين جاك لانغ رئيسًا للمعهد، على الأقل في الصيغة التي نشهد تطورها وترسيخها منذ خمس سنوات. وهي ذات الصيغة التي اعتمدت، تحت وطأة الضرورة، في سنوات المعهد الخمس الأولى والتي اقتصرت خلالها مسؤوليات تخطيط وتنفيذ  النشاطات الثقافية ووضع أسس بنيان المعهد الرئيسة على الفرنسيين وحدهم. صحيح أن الرئيس الأول للمعهد قد أحاط نفسه بلجان ثقافية استشارية، فرنسية وعربية، في مختلف الاختصاصات، إلا أن هيكل البناء الوظيفي لم يكن على صورتها. كان العالم العربي كلي الحضور مع ذلك في متابعة سياسة المعهد والإشراف عليها من خلال المجلس الأعلى ومجلس الإدارة. لكننا الآن نشهد عودة إلى هذه الصيغة الأولى في غياب كليّ للعالم العربي الذي استغرقته بل وعطلته منذ عام 2011  هموم الانفجارات الثورية وما تلاها من اضطرابات وحروب في مختلف البلدان العربية. وكان من نتيجة هذا الغياب، تغييب يكاد يكون كليًّا للشريك العربي، على صعيد التخطيط والتصميم والتنفيذ. إذ ضمن سياسة الحدِّ من سلطات المدير العام، ألغي منصبا المدير العام المساعد، الفرنسي للشؤون الإدارية والمالية، والعربي للشؤون الثقافية، وحلَّ محله منصب سكرتير عام ألحق برئيس المعهد حصرًا؛ كما امتد تغييب الشريك العربي إلى المناصب الخاصة بمختلف إدارات النشاط الثقافي.
ومن هنا التساؤل: هل بتنا الآن، في غياب العالم العربي على الصعيد الرسمي، وفي تغييب العرب كطرف أساس في شراكة العمل اليومية، أمام معهد فر نسي للعالم العربي؟

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 29 آذار 2018.



jeudi 22 mars 2018



في  مستهل العام بعد السابع 
بدرالدين عرودكي 
يبدو كما لو أن علينا اليوم، وضمير المتكلم الجمع هنا يحيل إلى كل من وجد نفسه مندفعًا في صفوف الذين جعلوا الثورة السورية حقيقة على غير انتظار، وإلى كل من آمن بها حقًا وضرورة، أن نستسلم إلى الإرادة الدولية التي لا تفصح عن نفسها بالقول بل بالفعل، ولاسيما حين تتيح لرأس النظام الكيمياوي أن يخرج فيلمًا يظهر فيه، وهو يقود سيارته، "كي يرى كيف هي الأمور في الغوطة" وأن يقول بما يليق به من صفاقة حرصه على المدنيين! وعلى أن صور الأطفال الخارجين مع عائلاتهم من الغوطة الشرقية كانت تجسد بوضوح لا لبس فيه ما يمكن أن يعنيه مثل هذا الاستسلام الذي يدعى إليه شعب بأكمله، إلا أن الأهم هو الموضوع الذي يحيل إليه مثل هذا الافتراض الذي يبقى، رغم كل شيء، مجرد افتراض.
ويتجلى هذا الموضوع الأهم في سؤال أساس يمكن صوغه بطرق مختلفة: هل علينا اليوم، في مستهل العام بعد السابع على انطلاقها، أن نكف عن الحديث عن "الثورة السورية" بصيغة الحاضر؟ أو، بصيغة أخرى أكثر مباشرة، أو إن شئتم، فجاجة: هل انتهت الثورة السورية التي انطلقت في آذار 2011  وبات على الجميع أن يستيقظوا من حلم يقظة بدا قاب قوسين أو أدنى من التحقق لولا أن..؟
إذ سرعان ما تحيلنا مجرد نظرة سريعة إلى مجريات السنوات السبع الماضية التي عاشتها إلى الإقرار بأن ما حظيت به الثورة السورية من الصفات لم يسبق أن حظيت به ثورة مماثلة من قبل: فهي الثورة المستحيلة، أو اليتيمة، أو المغدورة، أو المسروقة، وهي أيضًا الثورة المهدورة، أو المدهشة، أو المأساوية...
من المؤكد أنه لن يجيب بالنفي معظم إن لم يكن كل الذين وجدوا أنفسهم في الثورة ممارسة وحياة، وهم اليوم إما في بلاد المنفى أو نازحين على الأرض السورية التي انتزعت من هيمنة النظام، أو متوارين عن أنظار عملائه حيث يتواجد مستمرًا في استبداده. فليس بوسع هؤلاء الشباب الذين حطموا جدران الخوف على غير انتظار في منتصف آذار عام 2011،  وقد باتوا يدركون اليوم المعنى الأعمق لما فعلوه، أن ينكروا لحظة واحدة استمرار الثورة أو أن يقدموا على الإعلان عن نهايتها. ذلك أنهم، من ناحيتهم، بمعزل عما يراه سواهم ممن ركبوا قطار الثورة وتصدوا للحديث باسمها بلا توكيل من أحد، أو ما يراه بعض الذين اعتادوا على الارتزاق فارتجلوا أنفسهم ممثلين لها أيضًا بلا توكيل بعد أن وجدوا فيها مصدر رزق وثراء لهم، وكذلك بمعزل عن قراءات لبعض "المحللين الاستراتيجيين" مشبعة باليقين حول الحسم العسكري الذي يزعم النظام اقترابه والذي قارب نهايته، أو حول تقرير نهاية سورية بعد أن تقاسمها المحتلون الأربعة، أقول إنهم، هم الذين وجدوا أنفسهم في الثورة ممارسة وحياة، لا يرون ذلك كله: ليس بفعل غشاوة أصابت عيونهم، ولا عن رفض لرؤية الواقع كما يتجلى للعالم أجمع وفي مقدمته هم الذين دفعوا ولا يزالون يدفعون ثمن خروجهم على أعتى نظم الاستبداد وأكثرها وحشية وصفاقة في عالمنا العربي. بل ربما لأنهم وهم في غمرة الفعل الحقيقي في ميادين الثورة المختلفة، لا يمارسون النبؤات التي يتبارى في عرضها كل من ارتجلوا أنفسهم بمناسبة هذه الثورة محللين استراتيجيين ينطقون باسم النظام تارة أو يعززون وجهة نظر هذا أو ذاك ممن يحتلون سورية اليوم.
ذلك لأنهم أدركوا على التوالي معاني الصفات التي اكتسبتها من حيث لم تسع إليه هذه الثورة في مسارها. كانوا يعرفون قبل خروجهم، على غرار رفاقهم في تونس والقاهرة، في شوارع المدن السورية مطالبين بالحرية وبالكرامة أنهم في طريقهم إلى أن يجعلوا من المستحيل واقعًا إذ هدموا جدران الخوف الجاثمة على صدور آبائهم منذ نيف وأربعين عامًا. لكنهم أدركوا، منذ الأيام الأولى، أنهم وحدهم في الساحة، وأن الثورة التي كانوا من فجَّرها باتت يتيمة، وذلك حين هتفوا في مظاهراتهم السلمية في كل المدن السورية وهم يواجهون بصدورهم العارية رصاص من انتفضوا على استبداده واستملاكه الأرض والشعب "يا الله مالنا غيرك، يا الله!". أدركوا أيضًا، وفي الوقت نفسه، أن النظام سيسرق منهم ثورتهم في براءتها وفي وضوح أهدافها ويلقي بها طعمًا سائغًا لجماعات أنشأها أو عمل على إنشائها، فتكاثرت كالفطر بتمييز نفسها عن أؤلئك الذين تبنوا شعارات الثورة وعلمها وأهدافها، زاعمة الإسلام مرجعها، وحاملة أسماء مرجعياتها قبل أربعة عشر قرنًا، ورافعة راياتها السوداء التي سرعان ما أتاحت لنظام الاستبداد فرصة الدعاية لها بوصفها تجسيد الإرهاب، مقدمًا البرهان على أنه إذ يقاتلها إنما يشارك في قتال الإرهاب والإرهابيين. ثم سرعان ما شهدوا كيف استحالت انتفاضتهم ثورة مغدورة، لا من قبل نظام الاستبداد المافيوي وحلفائه من أعدائها الذين تكالبوا عليها تزييفًا وتجريمًا وإنكارًا وتعهيرًا، بل من قبل معظم "الأصدقاء" الذين أرادوا استخدامها في تنفيذ بعض مآربهم: فالبلد الذي تنتمي إليه، والذي تدعو إلى أن تسود فيه الديمقراطية والكرامة والحرية، ليس كالبلاد الأخرى بحكم الأبعاد السياسية والاستراتيجية لموقعه الجغرافي من جهة، وتعدد انتماءات سكانه الإثنية أو الدينية من جهة أخرى، فلابد والحالة هذه أن يبقى القديم على قدمه، بصورة أو بأخرى، تسهيلًا لتحقيق مآرب هؤلاء أو مصالح أؤلئك.
ثم إنهم عايشوا مختلف الطرق التي كانت تهدر بها معاني ثورتهم طوال هذه السنوات السبع العجاف: ولم يكن هدر هذه المعاني من فعل النظام أو حلفائه وحدهم، بل جاء أيضًا وعلى وجه الخصوص، ممن كان من المنتظر منهم، على اختلاف انتماءاتهم الفكرية أو الأيديولوجية،  تجسيد معاني الثورة بفعل تاريخ ماضيهم النضالي. لكن أول ما فعلوه، وقد تصدوا لقيادة الثورة، أنهم أسرعوا إلى وضع أنفسهم خارجها حين أطلقوا على أنفسهم صفة "المعارضة"، كما لو كانوا يعلنون انفصالهم عمَّن كانوا يمارسون الثورة يوميًا في مختلف بقاع سورية وفي مختلف ميادينها ولا سيما في محاولات إنشاء أولى بنى المجتمع المدني بدءًا بما عرف باسم التنسيقيات.  لذلك، وبوصفهم معارضة، تلقفهم العالم الديمقراطي وتعامل معهم على هذا الأساس: أي أنهم يمثلون المعارضة مقابل نظام قائم معترف به دوليًا "أو شرعي" كما يردد الروس والإيرانيون معًا، كما لو أننا في نظام ديمقراطي حقيقي. هكذا  طُوِيَ تمثيل الثورة في الجامعة العربية، ثم طُرِحَ، على الصعيد الدولي، الحلُّ السياسي كمخرج وحيد مما صار يطلق عليه "الحرب الأهلية"، فبدأ بكل صفاقة تغييبُ الثورة، ومحاولة طمس أسبابها وأهدافها؛ ووجد نظام الاستبداد نفسه وقد وضعه حُماتُهُ على سكة إعادة التأهيل بعد أن صار أداة مطواعة بين أيديهم قادرًا على أن يعلن الانتصار على البلد الذي دمر قراه ومدنه، وقتل وسجن وهجّر نصف شعبه على مرأى من العالم كله. هكذا كان هؤلاء الذين صنعوا الثورة والذين آمنوا بها حقًا وضرورة، يعيشون مأساوية ثورتهم التي باتت علامة استثنائية في عالمنا اليوم.
وعلى كل ذلك أو بالرغم منه، ولكي يثبتوا بالفعل أنها ثورة مدهشة، كانوا جميعًا، ما إن يخيم السلام في هذه المدينة أو تلك، يملؤون الشوارع والساحات، مستعيدين بل مجدّدين أيام الثورة الأولى وكأنهم يصرخون في وجه العالم كله: لا تزال شعلة ثورتنا على جروحها وآلامها في أوج توهجها.
ليس ما سبق ضرب من الأوهام. بل هو واقع لمسه وتحسَّسَه كل من كان على صلة مع هؤلاء الذين لا يزالون هناك، على الأرض، وفي مختلف بقاع سورية. واقع يكاد يكون مماثلًا للذين نذروا أنفسهم لخدمة الثورة في أمكنة نزوحهم أو لجوئهم: في خدمة أهداف الثورة على كل الصعد نظرًا وعملًا، سلوكًا وممارسة.
فكيف يسع من يراهم، أو من يسمعهم، أن يقول ــ رغم كل شيء ــ إن الثورة السورية قد انتهت؟ وهل تموت ثورة قضى في سبيلها مئات الآلاف من البشر وأرغم على الهجرة من بيوتهم وقراهم أو مدنهم ملايين آخرون منهم قبل أن تحقق أول هدف لها على الأقل: تحطيم نظام الاستبداد برأسه ورموزه؟  
قد يقول البعض من اليأس نعم. لكن التاريخ لم يسبق له أن قال مثل ذلك.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 22 آذار 2018


jeudi 15 mars 2018



معهد العالم العربي والشراكة الثقافية



بدرالدين عرودكي

لم يكن هناك شك لدى إدغار بيزاني في أنه لن يكون هناك معنى لرسالة معهد العالم العربي التي أسس من أجل تحقيقها إن لم توضع قواعد شراكة حقيقية بين الطرفيْن المؤَسِّسَيْن، فرنسا من جهة، والعالم العربي ممثلًا بالدول الأعضاء في الجامعة العربية من جهة أخرى، لا تقف قطعًا عند التمويل المشترك والإدارة التقليدية من خلال الهيئتيْن الرئيستيْن: المجلس الأعلى ومجلس الإدارة. على أنه إذا كان لفرنسا صاحبة المبادرة، رؤية واضحة يتفق على طبيعتها ممثلوها فيه بدءًا بالرئيس، فإن للعرب، على توقيعهم الاتفاقية ذاتها التي وقعتها فرنسا، مذاهب في فهم المعنى والرسالة تكاد تتعدد بعدد  الدول التي تمثلهم!
لذلك، كان على إدغار بيزاني الذي كان من الواضح أن رؤيته تتماهى مع رؤية الرئيس الفرنسي آنئذ، فرنسوا ميتران، للمعهد ولرسالته، أن يعمل بسرعة وعلى مستوييْن معًا: المستوى الدبلوماسي في الخارج، والمستوى التنظيمي داخل المعهد.
هكذا، لم تقتصر خطة الرئيس الجديد بالطبع، من أجل إطلاق المعهد، على دفعه إلى مقدمة المشهد الثقافي بباريس، والتأكيد في الوقت نفسه على بعده السياسي من خلال استعادة مصر، بوصفها دولة مؤسسة بين الدول العربية للمعهد، ثم إدخال فلسطين كعضو مؤسس أيضًا، كما تمت الإشارة إلى ذلك في المقال الأخير، والذي كان من أولى نتائجه استقبال ثلاث فعاليات رئيسة قام بها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات خلال أول زيارة قام بها إلى فرنسا (اللقاء مع كبار الصحفيين والمثقفين الفرنسيين، وحفلة العشاء الرسمية، والمؤتمر الصحفي في ختام الزيارة) ثم، بعد ذلك، من خلال تدشين ما صار يعرف فيما بعد بالمعارض الكبرى بدءًا بمعرض "مصر عبر كل العصور"، الذي افتتح في 16 تموز/يوليو 1989 بحضور رؤساء خمسة عشر دولة إلى جانب الرئيس المصري ورئيس الوزراء الفرنسي. إذ أن الخطة كانت تقتضي، إلى جانب دراسة مختلف إمكانات حل مشكلة التمويل المشترك للمعهد، أن تمتد لتشمل، كخطوة أولى، إعادة النظر جذريًا بالهيكل التنظيمي القائم في  المعهد في تشرين الثاني 1988، تمهيدًا لوضع أسس سياسة ثقافية تقوم على الشراكة العربية الفرنسية داخل المعهد لا على صعيدي التصميم والتخطيط فحسب، بل على صعيد التنفيذ والمُنَفذين.
كان بيزاني قد لاحظ عند وصوله المعهد رئيسًا أن النشاطات الثقافية كانت موزعة كيفما اتفق على دوائر باتت أشبه بقلاع تعمل كلٌّ منها باستقلال كامل عن سواها. كما خرج أيضًا بعد لقائه مع موظفي المعهد الذين كان عدد الفرنسيين منهم أقل من عدد مختلف الجنسيات العربية مجتمعة، سوء توزيع الاختصاصات أو الإمكانات بينهم. لذلك، وفي سبيل إعادة النظر في الهيكل التنظيمي من أجل بنائه مجَدَّدًا (وكان لبيزاني في هذا الميدان تجربة ناجعة في الوزارات التي تولاها خلال عهد الجنرال ديغول)، سارع كخطوة أولى في فتح الباب أمام جميع الموظفين كي يعبروا عن رغباتهم في طبيعة العمل الذي يودون القيام به في المعهد (دون أن يعني ذلك بالطبع الاستجابة الآلية لهذه الرغبات) انطلاقًا من نشأتهم وتحصيلهم العلمييْن وتجربتهم المهنية، طالت أم قصرت، في مجال  العمل الذي يفضلونه.
مع احتفاظه بالركنيْن الأساسيْن في المعهد: المتحف من جهة والمكتبة العامة من جهة أخرى، اعتمد المخطط الجديد في تحديد المهمات على طبيعتها وأدوات تنفيذها: الكلمة (الوثيقة، الندوات، الموائد المستديرة)؛ الصورة الساكنة والمتحركة؛ الموضوعات الفنية (الآثار، المنحوتات، اللوحات التشكيلية..). هكذا ولدت أوائل النشاطات الجديدة: خميس المعهد (مائدة مستديرة أسبوعية)، وكرسي المعهد (سلسلة من المحاضرات العلمية الأسبوعية، تتناول موضوعًا محدّدًا، يلقيها أستاذ جامعي كل ثلاثاء خلال ثلاثة أشهر)، والتي ستغتني مع الأيام بموائد مستديرة شهرية تتناول موضوعات الساعة في العالم العربي، فضلًا عن الندوات المغلقة التي كان يديرها ويختار المشاركين فيها بيزاني نفسه لبحث أمور تتعلق بالسياسة العامة للمعهد أو العلاقات العربية الفرنسية، إلخ. أما على صعيد الصورة، فقد خصصت قاعة لمعارض التصوير الفوتوغرافي تنظم شهريًا، والأوديتوريوم بوصفه قاعة متعددة الإمكانات، للصورة المتحركة، أي للعروض السينمائية المنتظمة أسبوعيًا، فضلًا عن استقبال مهرجان السينما العربية السنوي، والذي صار بعد ذلك ينظم كل سنتيْن. أما الموضوعات الفنية، فقد خصصت لها قاعتان متصلتان للمعارض المتوسطة الحجم، في حين خصص الطابق الأول والثاني للمعارض الكبرى والتي استقبل فيها أول معرض من هذا القبيل: مصر عبر كل العصور.
بذلك كان النشاط الثقافي في شموليته يغطي مختلف المجالات الفكرية والأدبية والفنية في العالم العربي، مستعيدًا الماضي بمنجزاته وجمالياته بقدر اهتمامه بالحاضر على صعيد الإبداعات والإنجازات الفنية والفكرية، ومن خلال تناوله إشكالاته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. كان يراد للمعارض الكبرى التي كان روادها يعدون بمئات الألوف أن تكون فرصة حشد لفعاليات المعهد في كل المجالات من حول الثيمة التي يتناولها المعرض الكبير. لم يكن هذا الهدف ممكن التحقيق على الدوام، لكن تنوع وغنى البرمجة في ميدان الكلمة والصورة، كان يثير فضول رواد المعرض الكبير ممن كانت اهتماماتهم تتجاوز جماليات الماضي باتجاه معرفة أكثر بحاضر مهد هذه الآثار أو الجماليات على اختلافها.
لم تتحقق الشراكة الثقافية العربية والفرنسية في التخطيط وفي الإنجاز على صعيد فرق العمل المختصة في كل مجال من هذه المجالات ، سواء  في موقع القيادة أو في موقع التنفيذ فحسب، بل تجاوزتها إلى اختيار المدعوين للمشاركة في الندوات أو في الموائد المستديرة. وكثيرًا ما كان إدغار بيزاني يكرر أمام أعضاء اللجنة الإدارية التي تضم مختلف مسؤولي الأقسام في المعهد: "يجب أن نسمع صدى اللغة العربية يتردد في فضاء المعهد". كان يعني بذلك ضرورة تواجد أصوات عربية قادمة من البلدان العربية كي تدلي بدلوها في سجالات ونقاشات المعهد على اختلافها، لا أن يُكتفى بالمثقفين العرب الناطقين بالفرنسية المقيمين منهم بباريس.
كان إدغار بيزاني يتلقى بعض الملاحظات النقدية على البرامج الثقافية. وهي ملاحظات تمس في معظمها المعارض الكبرى التي تركز على آثار الماضي التي يولع بها الجمهور الفرنسي، والتي لم تكن، مع ذلك، قد وضعت معهد العالم العربي في مقدمة المشهد الثقافي الباريسي إلى جانب مؤسسات ثقافية عريقة كمتحف اللوفر أو متحف أورسيه أو المكتبة الوطنية فحسب، بل أسهمت في رفع عدد زوار المعهد إلى ما يقارب مليون زائر سنويًا. وهو عدد ما كان من الممكن تحقيقه لولا هذه المعارض الكبرى التي كانت، فضلًا عن ذلك، تكاد تمول نفسها بنفسها، بفعل وارداتها من تذاكر الدخول وبيع الكتب المخصصة لها أو حولها. ذلك ما حمل بيزاني على أن ينظم على إثر النجاح الكبير الذي لاقاه معرض "سورية، ذاكرة وحضارة"، في أيلول وتشرين أول عام 1994، عدداً من اللقاءات المغلقة مع مثقفين فرنسيين بباريس ومع مثقفين عرب في تونس ومصر والأردن وسورية، كي يصغي إلى ما يمكن لهم أن يقدموه من إجابات عن سؤال طرحه عليهم: ما الطريقة الأفضل، وبأي كيفية ترى تقديم العالم العربي، حضارة وثقافة وحركية اجتماعية، إلى الجمهور الفرنسي خاصة والأوربي عامة؟
لم يكن ثمة اختلاف جوهري أو عميق بين الإجابات التي قدمها المثقفون خلال اللقاء بهم بتونس العاصمة والتي سمعتُ مجرياتها المسجلة، وبين تلك التي قدمها المثقفون خلال اللقاءيْن اللذين جريا بالقاهرة وبعمان واللذين قمت بتنظيمهما شخصيًا. أما لقاء دمشق فقد كانت له قصة أخرى تعكس خصوصية النظام الأسدي، في هذا المجال كما في سواه، بالمقارنة مع الأنظمة العربية الأخرى، على اختلافها، والتي لا بد من روايتها لدلالاتها الهامة في هذا المجال.
حرص بيزاني على أن يجري لقاءه بالمثقفين في مكان غير رسمي. في القاهرة، كان الشريك في التنظيم وزير الثقافة المصري السابق، ثروت عكاشة، الذي اختار مقر جمعية الصداقة الفرنسية المصرية مكانًا للقاء الذي دُعيَ إليه وحضره كبار المثقفين المصريين من مختلف الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية. أما في عمان، فقد كان الشريك هو المفكر الأردني وعضو المجلس الأعلى السابق في المعهد الدكتور فهمي جدعان، الذي استقبل اللقاء في بيته، والذي دُعيَ إليه وحضره كذلك كبار المثقفين والمفكرين الأردنيين.
كان الإلحاح في القاهرة، كما في عمان، على ضرورة تقديم العالم العربي لا من خلال ماضيه المجيد فحسب بل، أيضًا وخصوصًا، من خلال وضعه الراهن، أي من خلال مشكلاته وعثراته وقصوره عن تحقيق نهضته. وكان هذا الرأي يلتقي، في خطوطه العريضة، مع خلاصة الاجتماع الأول والوحيد للجنة الثقافية الاستشارية التي رأسها جاك بيرك، والتي كان على ثروت عكاشة، أن يرأسها في اجتماعها الثاني الذي لم ينعقد بسبب الضجة التي أثارها السفراء العرب حوله وحول مقرراته. بعبارة أخرى، كانت آراء المثقفين العرب في البلدان العربية أو الفرنسيين في فرنسا معًا على طرفي نقيض مما كان السفراء العرب يعبرون عنه لدى الخارجية الفرنسية أو في اجتماعات المجلس الأعلى أو مجلس الإدارة للمعهد.
تلك كانت كما يقال في سورية عقدة النجار.. أو بالأحرى المعضلة التي واجهها  إدغار بيزاني في محاولته الجريئة..
أما رواية الاجتماع بدمشق، وهي جديرة بأن تروى، فستكون بداية المقال التالي والأخير.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 14 آذار 2018.



vendredi 9 mars 2018



الثورة المغدورة في عالم الاستغباء 
بدرالدين عرودكي 
بين الثامن والخامس عشر من آذار عادة أسبوع كامل. أما وأن التاريخ الأول ينتمي إلى عام 1963، والثاني إلى عام 2011، فقد امتد هذا الأسبوع ثمانية وأربعين عامًا قبل أن يخرج جيل جديدٌ كليًا، لم يكن معظم أفراده قد رأى النور في 8 آذار 1963، كي يقول، في نهاية الأسبوع، كلمته الفصل في مبنى ومعنى الصفة التي أُضفيَت على هذا اليوم بغير حق، أي اسم وصفة ومعنى "الثورة"، على امتداد كل هذه السنوات، وصولًا إلى الخامس عشر من آذار عام 2011، أي قبل سبع سنوات، كي يستحوذ على الاسم والمعنى الأصل، الشرعيٌّ بدءًا وبداهة، والمختلفُ، من ثمَّ، جذريًا. على أن هذا الأخير بدا، منذ الأشهر الأولى، وكأنه دقَّ ناقوس خطر محدق، فكانت استجابات سدنة المعنى الأول، سريعة، وبقدرة على الاستمرار مريعة، داخليًا وخارجيًا، على مستويات مختلفة، وفي اتجاهات متباينة، لكنها استهدفت، ولا تزال تستهدف، جميعها، تغييب ثم طمس المعنى، والقضاء بمختلف الوسائل على مالكه الشرعي والأصيل الذي استعاده، في الوقت نفسه.
قيل وسيقال الكثير عن هذه السنوات الفاصلة بين تاريخين. لكن السنوات السبع الأخيرة، ما بين عاميْ 2011 و2018 ، هي ما تعنينا، باعتبارها اليوم موضوع الساعة واللحظة. وهي تفرض بذلك الحديث عنها وحولها، سردًا وتحليلًا، في ضوء ما جرى خلالها وما سيجري بعدها في قادم الأيام. إذ أن الحفاظ على معنى "الثورة" الذي اعتمدته نظم العسكريتاريا العربية لتغطية استبدادها وقصورها وعجزها، هو ما كان الهمُّ الأكبر لدى هذه النظم، حين انتفضت الجماهير العربية عام 2011 من تونس إلى سورية كي تحول دونها ودون أن تستعيده بمعناه البدئي. كانت استجابة النظام الأولى في سورية على ما انطلق في تونس وليبيا ومصر تقوم على استبعاد مثل هذا الاحتمال في سورية، لأنها ــ كما زعم رئيس النظام يومذاك لصحيفة وول ستريت ــ مختلفة عن تونس وعن مصر. وحين كذبت الجماهير السورية هذا القول، وخرجت تطالب بإسقاط النظام، كان رفض اعتراف هذا الأخير بما يحدث (بحجج بدأت، خلال الأسابيع الأولى، بالحديث عن سلفيين مأجورين يسعون إلى إقامة إمارات إسلامية، ولم تنته بالحديث عن "المندسين" و "العراعرة"...، إلخ) فاتحة العمل لإعدام الثورة والثوار الحقيقيين. لم يكن ذلك قرار النظام السوري وحده. فالانتفاضة الثورية في مختلف البلدان العربية فاجأت، وأذهلت، و، من حيث لا تحتسب، هدَّدت؛ فكان لابد من استجابات تتلاءم مع الواقع والجغرافيا، ولذلك كانت تلك التي ووجهت بها الثورة في سورية خصوصًا، لا تقتصر على النظام، ولا على نظم الدول المجاورة على اختلافها، عربية أو غير عربية فحسب، بل تعددت، متباينة في طبيعتها، في دول أخرى بعيدة، صُنِّف بعضها ضمن "أصدقاء سورية"  ونظر إلى بعضها الآخر، عربًا وغير عرب، بوصفه من "حلفاء النظام" التاريخيين.
من هنا، لم يكن مفاجئًا في هذا المقام، بمعزل عن أي اعتبار آخر، أن يكون أول بلد بادر إلى دعم الثورات العربية في تونس وليبيا ومصر هو نفسه أول بلد ندد بالثورة في سورية: إيران، باعتبارها "مؤامرة ضد نظام المقاومة والممانعة". لم يكن ذلك مفاجئًا بالفعل، إذ كما أطلق العسكر على انقلاباتهم صفة "الثورة" منذ أول انقلاب في العالم العربي جرى في سورية عام 1949، كذلك استحوذ عليه العساكر الجدد المُعَمّمين في إيران، وكلاء الله على الأرض بما أنهم "آياته". وإذا كانت لإيران في قمع كل تمرد أو بادرة ثورة على "الثورة" تجارب ناجعة سرعان ما بادرت إلى محاولة تسويقها لدى النظام في سورية على الفور، فإن لدى النظام السوري، الذي راكم طوال نيف وأربعين عامًا من التجارب في القمع والقتل، ما يساوي، أو ما يتفوق به حتى على أعتى النظم الاستبدادية التي عرفها عصرنا الحديث، من خبرات استنفرها في الرد على من خرجوا ينادون بسقوطه. كذلك، لم يكن مفاجئًا أن تدلي روسيا بدلوها معتبرة أن الانتفاضات العربية محض صناعة غربية، وأن تهرع بالتالي لدعم خيارات النظام في سورية إزاء الانتفاضة بالسلاح وبالعتاد، ثم في المجال الدبلوماسي، قبل أن تسارع، حين أوشك هو وحلفاؤه من الميليشيات المرتزقة على الانهيار في صيف 2015، إلى احتلال سورية بالمعنى المادي والصارخ للكلمة.
كان النظام إذن، ومعه حلفاؤه، قد اعتمدوا سياسة لا يمكن وصفها بكلمة أخرى غير الاستغباء. سياسة برزت آلياتها واضحة المعالم منذ الأيام الأولى للثورة التي كانت تنقل وقائعَها وسائلُ الإعلام المرئية، في العالم أجمع، بفضل الشباب الذين ارتجلوا العمل الصحفي بالأفلام التي كانوا يصورونها ويرسلونها بواسطة هواتفهم المحمولة، والتي كان النظام ينكر بكل بساطة وجودها، بصورة شديدة السذاجة في البداية، كزعم وسائل إعلامه أن الناس كانوا يخرجون إلى الساحات احتفالًا بسقوط المطر، أو الاستوديوهات الهوليودية التي بنتها قناة الجزيرة لتبث منها صور مظاهرات  مصطنعة كي "تزعم حدوثها في مدن سورية"! إلخ. لكن الأخطر من كل ذلك تجسَّدَ في الإعلان عن الجماعات الدينية السلفية قبل ظهورها الفعلي على الأرض السورية. كان ذلك واضحًا لكل ذي عينيْن، مثلما كانت صفاقة الاستغباء واضحة. لكن ذلك كان إعلانًا عن الطريق الذي اختاره النظام على الصعيد الإعلامي في محاولة لتفريغ الثورة من معانيها إعلاميًا ودبلوماسيًا. أما على صعيد المواجهة المباشرة مع المظاهرات التي كانت تستفحل في مدن سورية الكبرى، فقد كان الحل الأمني عنوانها مع وسائل كانت هي الأخرى شديدة التباين، لكن هدفها لم يتغير هنا هو الآخر: دفع الشعب إلى استخدام السلاح بصورة أو بأخرى لمواجهة الإهانات، أو الانتقام بسبب المجازر التي تقوم بها ميليشيات النظام وتتهم بها الجماعات المسلحة التي انتشرت كالفطر في سورية والتي كان كثير منها بالتالي يعمل لحساب النظام وبتوجيهاته، وصولًا إلى تشويه الثورة والثوار.
لا يمكن نكران نجاح النظام الأسدي على الصعيد الإعلامي، وبمساعدة حلفائه على الأرض، في تغييب الوجه الأنقى للثورة السورية من المشهد ومن الصورة: الشباب الذين قاموا بها والذين مورست بحقهم كل الجرائم: السجن والتعذيب وصولًا إلى القتل، والتهجير، أو فرض التواري عن الأنظار، أي شلّ حركتهم. كما لا يمكن نكران نجاحه على الأرض في استخدام الجماعات الإسلامية التي أخرج زعماءها من سجونه في بداية الثورة كي تحلّ مكانه في ممارسة قمع تقوم به لحسابه في ما كان يسمى "الأراضي المحررة". لكنه جعل منها في الوقت نفسه عنوان الإرهاب الذي بات هاجس العالم كله، والحجة التي اعتمدها كمحارب له، كي يبرر بها كل ضروب الوحشية التي مارسها ولا يزال إزاء شعب بأسره. هكذا استطاع أن يقنع قطاعًا واسعًا من الرأي العام العربي والعالمي بأنه يواجه الإرهاب، لا ثورة شعب طالب بكرامته وحريته!
بذلك تحول المشهد إعلاميًا، وبدعم من أرباب الاستغباء في إيران وفي روسيا، إلى حرب بين "حكومة شرعية" لا تكف وسائل الإعلام الإيرانية والروسية وذيولها في المنطقة العربية عن تكرارها صبح مساء، و "جماعات إرهابية" تراها "الحكومة الشرعية" وحليفتها إيران في كل من وقف في وجهها أو عارضها، ويبالغ الحليف الأقوى، روسيا، حين تمضي بممارسة الاستغباء إلى حدوده القصوى: تحتل سورية تحت شعار محاربة الإرهاب، وتقصف خبط عشواء في كل مكان، في الوقت الذي تتحدث فيه على لسان وزير خارجيتها عن "معارضة معتدلة" و"معارضة متطرفة"، وعن إرهابيين لابدّ من تصفيتهم أيًا كان الثمن من أرواح المدنيين وقراهم ومدنهم، في تجاهل كامل ــ هو الاستغباء بعينه ــ للسبب الأساس وراء كل ما يحدث في سورية.
هكذا جرت ولا تزال تجري محاولات القضاء على معنى الثورة التي خرجت قبل سبع سنوات لتضع حدًا لمعنى "ثورة الاستبداد والقمع" التي مثلها البعث في البداية ثم النظام الأسدي منذ عام 1970. ولسوف تكون ذروة الاستغباء الموجهة إلى الشعب السوري، نجاح هؤلاء وأؤلئك من حلفائه في إعادة تأهيله التي لم يتوقفوا عن فرضها بوصفها الحل الوحيد الممكن..
خرج شعب سورية في منتصف آذار 2011 من أجل الحرية والكرامة. من هو الأحمق الذي يسعه أن يتخيل رؤيته عائدًا من حيث أتى، بعد كل هذا الثمن الذي دفعه ولا يزال يدفعه من أجلهما حتى هذه اللحظة؟

** نشر على موقع جيرون يوم الجمعة 9 آذار 2018.