jeudi 22 février 2018



معهد فرنسي للعالم العربي؟ 


بدرالدين عرودكي 
في كتابه "أصِرُّ وأوقِّع"، المنشور عام 1992، يروي الوزير والنائب والمفوض الأوربي إدغار بيزاني ما حدثه به رئيس الجمهورية الفرنسية فرنسوا ميتران إثر تكليفه له برئاسة معهد العالم العربي في منتصف شهر تشرين الثاني 1988. فقد قال له هذا الأخير إثر صدور قرار التكليف وخلال مهمة دعاه لمرافقته أثناء أدائه لها، إنه حين وصل إلى الإليزيه، لم يكن "المعهد" سوى مشروع أسيء تدقيقه، فهو واجهة وضعت تحت تصرف الحكومات العربية في أهم عاصمة في الغرب. صحيح أن الفكرة كانت مغرية، إلا أنه كان يجب تطبيقها. وأنه فيما وراء النشاطات الثقافية الموجهة للجمهور الواسع التي سيشرف عليها الرئيس الجديد، فإنه يريد أن يؤدي المعهد دورًا هامًا في علاقاتنا مع الدول العربية. إذ "يجب أن يكتشف الفرنسيون أن ثمة هنا حضارة كبرى مختلفة عن حضارتهم، لكنها قريبة منهم على الدوام"، وأنه لا يمكنهم أن يجهلوها لأن جزءًا من مصير فرنسا يتحقق هنا، في أوربا والبحر المتوسط؛  وكذلك، لأن هناك أيضًا ثلاثة ملايين عربي في فرنسا ويجب دمجهم. "إذ لا يمكننا أن ندمج من لا نفهمهم"؛ كما لا يمكن أن يساعدوا في هذا المجال بإنكار ثقافتهم، بل "بإثراء أنفسنا من إسهامهم". "فقد فعلت فرنسا ذلك طوال تاريخها، ولم تكن النتيجة شديدة السوء، أليس كذلك؟" يجب أن يصير المعهد بالنسبة لنا مكان معرفة أفضل بالعالم العربي على النحو الذي هو عليه الآن. ذلك أننا، من بين الدول الأوربية، الدولة الأكثر خبرة بالعالم العربي. هناك إسبانيا بالطبع، لكن ذلك كان في الماضي ولن يكون سهلًا عليها لو أرادت العودة؛ أما إنكلترا، فقد تخلت عن مكانها للولايات المتحدة التي تستخدم العالم العربي استخدامًا فريدًا من نوعه. ليس لدينا سياسة عربية، ولا تزال وزارة الخارجية تستخدم مفاهيم تعود إلى القرن التاسع عشر، أضف إليها البترول وبيع الأسلحة! ليس من الممكن الوقوف هنا. "ذلك أننا لا نملك المعارف الضرورية من أجل وضع سياسة حقيقة، وسوف ترى كيف يسعك أن نفعل. ذلك أمر مهم". لا بد للبلدان العربية "من أن تشعر بأن مصائرنا مترابطة فيما بينها، وأننا نعتبرهم شركاء أصيلين". ومن ثمَّ، "يجب أن يكون لمعهد العالم العربي الذي سوف تديره مكانه. سوف نرى كيف يمكن تحقيق ذلك ما إن تتعرفه جيدًا وتصحح أخطاء شبابه".
يكتب بيزاني أنه عند افتراقهما على مدخل قصر الإليزيه ختم ميتران حديثه إليه قائلاً: "ليست مهمة سهلة تلك التي أطلب إليكَ القيام بها. لكنكَ اعتدتَ على المهام الصعبة. كلِّمني حول الموضوع، لأن الأمر مهمٌّ بالنسبة إلي".
اكتشف إدغار بيزاني المعهد في مقره الجديد بعد سنة تقريبًا من افتتاحه الرسمي يوم 30 تشرين الثاني 1987. لكنه، وهو يصوغ برنامج العمل الذي سوف لن يتأخر عن إعلانه، سواء على صعيد إعادة هيكلة المهام والوظائف، واعتماد منهج عمل يقوم على كسر ضروب الاستقلال الذاتي الذي اعتمدته، بقوة الأشياء، الإدارات السابقة كي يحل محله تفاعل وظيفي ويومي من خلال مشروعات مشتركة،  سرعان ما اصطدم بالمبنى الجميل الذي سيقاوم تحقيق مشروعاته، وسيضطر من جانبه إلى القيام بعمليات تغيير داخلية تتيح له قدر الإمكان تكييف البناء مع المشروع الجديد، الذي سرعان ما وضعه موضع التنفيذ حين قرر عام 1989، الاستفادة من الاحتفال بمرور مائتي عام على الثورة الفرنسية كي يقوم بعمل سياسي وثقافي جوهري: سياسي، بإدخال مصر بين الدول المؤسسة للمعهد بعد استبعادها من الجامعة العربية بسبب اتفاقية كامب دافيد، ،  وقبيل عودتها إلى الجامعة، من ناحية، ومن ناحية أخرى، إدخال فلسطين كعضو كامل العضوية، مستفيدًا من أول زيارة رسمية يقوم بها ياسر عرفات لفرنسا بناء على دعوة ميتران، كي يطلب إلى المجلس الأعلى التصويت على دخول فلسطين عضوًا مؤسِّسًا للمعهد. أما العمل الثقافي، فكان تنظيم أول معرض كبير في معهد العالم العربي لتاريخ مصر الفرعوني والقبطي والإسلامي من خلال آثارها، يتم افتتاحه بعد يومين من العيد المائتين للثورة الفرنسية، تحت رعاية رئيس جمهورية مصر آنئذ بصحبة رؤساء ستة عشر دول أخرى كانوا يتواجدون بباريس آنئذ.
تمكن إدغار بيزاني، وبدعم مباشر من قصر الإليزيه حيث كان يقوم إلى جانب مهمته رئيسًا للمعهد بوظيفة مستشار للرئيس ميتران، من أن ينطلق بالمعهد على عدة مستويات قبل إتمام سنته الأولى فيه: زيارة ياسر عرفات الرسمية الأولى إلى فرنسا، وتنظيم لقاءاته مع المثقفين ومع الصحافة، ومؤتمره الصحفي في مقر المعهد من جهة، وإطلاق سلسلة المعارض الكبرى، بدءًا بمعرض "مصر عبر كل العصور" الذي زاره أكثر من أربعمائة ألف زائر خلال ستة أشهر، وهو ما دفع بالمعهد إلى مقدمة المشهد الثقافي الباريسي.
لكن مشكلة ميزانية المعهد كانت العقبة الكأداء التي حاول بيزاني طوال سبع سنوات أن يجد حلًا لها مخلصًا لما كان يراه ضرورة لا غنى عنها، أي المعنى الأعمق لرسالة المعهد: "لا يمكن لمعهد العالم العربي أن يكون المعهد الفرنسي للعالم العربي" كما قال وكتب. هو إذن معهد مشترك بين ثقافتين وبين عالمين من أجل التعارف والتفاهم، بما أن مصير كل منهما مرتبط بالآخر. ذلك يعني الشراكة في الرؤية وفي التخطيط، وفي التمويل المشترك، وفي تشكيل فريق العاملين بالمعهد على مستويات المسؤولية كلها. فإذا كان المجلس الأعلى ومجلس الإدارة يعكسان الشراكة في الإشراف وفي التخطيط وفي صوغ الرؤية، وكان موظفو المعهد ينتمون كذلك إلى فرنسا والعالم العربي بقدر من المساواة، فإن الشراكة المالية تكاد تكون غائبة كليًا: كانت القسمة أن تدفع فرنسا 60% من الميزانية والدول العربية مجتمعة 40%، كل دولة منها تدفع حسب النسبة المقررة باتفاق الدول الأعضاء في الجامعة العربية، التزاماتها المالية بموجبها. الشراكة هنا متساوية، بما أن فرنسا تستعيد عن طريق الرسوم والمشتريات ما يعادل 20%. هكذا تكون ميزانية المعهد الصافية تؤلف 80% من مبلغ الميزانية السنوية المعلن، والتي يفترض بالطرفين أن يتقاسماها. لكن ما كان يصل إلى صندوق المعهد من عدد قليل جدًا من الدول العربية، لم يكن يتجاوز نسبة الثمن من نصف ميزانية المعهد. هكذا سيقضي إدغار بيزاني طوال سنوات رئاسته السبعة، محاولًا إقناع الدول العربية بالمشاركة المالية. وكان، كما يقول، يتلقى وعودًا لم يكن أصحابها يحترمونها. ولسوف يخيب أمله أيضًا من السفراء العرب الذين لم يكن معظمهم يدرك أهمية المعهد سياسيًا وثقافيًا. ذلك ما دفع بيزاني إلى العمل على جبهتين: حل مشكلة التمويل العربي من خلال وسيلتيْن: دعوة الحكومات العربية، التي تراكمت ديونها تجاه المعهد، إلى تسديد ما عليها كي يخصص مجموع هذه المبالغ لاستثمار اقتصادي يمكن أن يعود بريع نسبي يشكل على الأقل ضعف ما كان يصل من الدول العربية إلى الصندوق سنويًا؛ وتطوير الموارد الداخلية الخاصة سواء عبر واردات المعارض الكبرى (وقد كان بعضها قد غطي نفقاته كاملة)، أو عن طريق تأجير عدد من قاعات المعهد، وكذلك تأسيس مكتبة تجارية تشارك أرباحها في ميزانية المعهد. هكذا، وضع إدغار بيزاني أسس الخطتين الماليتين، وبدأ تطبيقهما بالفعل عن طريق وزارة الخارجية الفرنسية لإقناع الحكومات العربية بهذا الحل الذي سيعفيها من التسديد السنوي لحصتها أو لمراكمة دينها، لولا أنه اضطر إلى مغادرة المعهد بعد سنواته السبع، فكان على خلفه، كميل كابانا، أن يتابع وضعهما موضع التنفيذ جنبًا إلى جنب.
أما مسألة الشراكة في الإشراف الثقافي الذي كان يتطلب بالدرجة الأولى مشاركة نخبة المثقفين أكثر من مشاركة الدبلوماسيين، فقد عمل في حقيقة الأمر، وطوال سنواته السبع،  في اتجاهات عدة تجدر مناقشتها في العمق، قبل أي مقاربة لما يجري في معهد العالم العربي منذ خمس سنوات..

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس22 شباط/فبراير 2018.



jeudi 15 février 2018


الأسئلة السبعة "القاتلة"!
بدرالدين عرودكي
يبدو أنه كان على من أطلقوا "الثورة في سورية" قبل سبع سنوات أن يتمهلوا قليلًا قبل المسارعة إلى إطلاق ثورة "ماتت سريعًا" ــ كما حكم أخيرًا السيد جهاد الزين في صحيفة النهار اللبنانية مؤخرًا ــ ويدرسوا أفضل نماذج الثورات في تاريخ العالم كي يتداركوا الأخطاء التي ارتكبت خلالها قبل وقوعها، ويجعلوا من ثورتهم بيضاء ناصعة من غير سوء!
لكنهم لم يفعلوا. لاسيما وأنهم كانوا ــ في غالبيتهم العظمى ــ  شبابًا "أغرارًا" كانت نخبة من "المثقفين" و"المناضلين" في المجتمع نفسه الذي يعيشون فيه وإليه ينتمون، تظن أنهم سادرون في مسراتهم اليومية الصغيرة، غير عابئين بكل ما عداها. لكنهم مضوا في مظاهراتهم يحمل بعضهم الورد للجنود الذين وقفوا يحاولون صدّهم عما هم فيه من جهل "فداحة" و"خطر" ما كانوا يقترفونه، ويغني بعضهم الآخر كلمات لم يكن يجرؤ أباؤهم على قول بعضها خلال أربعين سنة. لم يفكروا في ضرورة أن يكون من بينهم قائدًا كشارل ديغول، ولا بوزير مثقف كأندريه مالرو! لكنهم فعلوا ما بوسعهم في مجتمع كان قد تمَّ تفريغه كليًا من السياسة، وحرمانه من "الحرية"، ودفعِهِ إلى الانهماك يوميًا بحثًا عن قوته وحاجاته اليومية؛ فأنشأوا التنسيقيات في الأحياء، ووحدوها في المدن، ثم على صعيد البلد، يحاولون بها وضع أسس مجتمع مدني ديمقراطي. لكنهم فوجئوا قبل أن تطلق رصاصة واحدة في أي مكان في سورية بجثث بعضهم تعاد مشوهة من التعذيب إلى الأهل كي يدفنوها ليلًا وبصمت، أو باختفاء فجائي لبعضهم الآخر.. وذلك قبل أن يبدأ نظام الطغمة الأسدية بمواجهتهم برصاص البنادق، ثم بقصف المدافع فالدبابات، وانتهاء بالبراميل، وقبل أن يشهدوا جمع البعض الآخر منهم في ساحات القرى والمدن، وهم يداسون بالأقدام، ثم مجازر الأطفال والنساء والرجال ترتكب يوميًا وتتهم بتنفيذها "الجماعات المسلحة السلفية"، التي لم يكن أحد يعرف آنئذ بوجودها سوى دوائر الأمن والإعلام الأسدية، والتي بلغت الصفاقة ببعض المحررين من أنصار حزب الله في لبنان إلى الحديث بمناسبتها عن "قندهار" السورية.
ليس لهذا كله أن يحرم أحدًا من طرح أكثر الأسئلة إحراجًا، بل وقتلًا. سوى أن السؤال، كما نعلم، ينطوي في الصيغة التي يُحرَّرُ بها على بعض الإجابة. ومن هنا ضرورة النظر قبل كل شيء في صيغة الأسئلة ذاتها. ولاسيما تلك التي صاغها وعنون بها السيد جهاد الزين مقاله في النهار، "سبعة أسئلة قاتلة تجاهلتها المعارضة السورية" والتي تستدعي، لا الإجابة عنها بدلًا عن الذين تجاهلوها، وهم مُمَثلون، كما يقول الكاتب، في شخص اعتباري واحد سمّاه "المعارضة السورية"، بل الوقوف عند عناصر صوغها بالذات:عند التسميات والمفاهيم والافتراضات والوقائع التي وردت في هذه الأسئلة السبعة ومعها شروحاتها التي ألفت مجموع المقال.
يُصدر الكاتب في السطر الأول من مقاله حكمًا قطعيًا بأن الثورة السورية "ماتت سريعًا" ولم تنتج " بيئة قيادية ريادية ولم تنتج أيضا المثقف الفرد الشجاع." أما حيثيات الحكم ــ إن أردنا تسميتها كذلك تجاوزًا ــ فهي أنها لم تنتج "الموقع القيادي" ولا "الفكرة القيادية". ليس من المهم كما يبدو هنا في نظر الكاتب وضع هذه الحيثيات في ضوء الظروف التي عاشتها الثورة "قبل موتها" السريع، ذلك أن ذاكرة الكاتب لم تسجل، أو أنه لا يعلم شيئًا عن، طبيعة السياق الذي جرت فيه الأحداث طوال الأشهر الستة الأولى من الثورة، أو، لنقل، طوال السنة الأولى منها، مما سبقت الإشارة إليه. والأمر نفسه ينسحب على ما يسميه "صمت المثقفين والناشطين المعارضين"، إذ أن فقدان الذاكرة هنا شديد الوضوح، لاسيما وأن ما يسميه "صمت المثقفين" هو ذاته الذي فجرته لأول مرة تعددية الأصوات السورية الجديدة، وتلك التي كانت، بوجه خاص، للمثقفين الذين لم يكتشفوا ضرورة الثورة عند وقوعها، والذين سبق لهم أن دفعوا الثمن غاليًا من سنوات شبابهم في السجون الأسدية. ينسى الكاتب، أو بالأحرى يتجاهل، أن كثرة من هؤلاء قضوا قتلًا، أو أرغموا على التواري فالهجرة، ولم يكونوا صامتين، لا أثناء تواريهم، ولا بعد هجرتهم.
تقول هذه المقدمة في مقال الكاتب الأرضية التي وقف عليها كي يطلق اليوم أحكامه أو ربما ما يظنه رصاصة الرحمة على ما يسميه "المعارضة السورية". ولكن، ما الذي يعنيه الكاتب بـ"المعارضة السورية"؟ وقبل ذلك، هل يستقيم مفهوم"المعارضة" في ظل نظام استبدادي لا يعرف مكانًا لمعارضيه إلا السجون حيث لا صوت لهم، أو المنافي حيث يسهل التنصل منهم أو سحب الاعتراف بهم؟ ألم يلاحظ الكاتب أن وراء استخدام هذا المفهوم من قبل الدول الصديقة أو الهيئات الأممية خدعة كبرى ترمي إلى إعادة تأهيل الأسد الذي لم يسحب الاعتراف بنظامه من قبل أحد في العالم سوى الجامعة العربية؟ ثم، هل تستقيم مماهاة وجوه تفترض علمانيتها بالمعارضة كلها؟ وهل "قبلت" هذه الوجوه فعلًا "سيطرة" أو "شرعية" القوى الأصولية بصفتها الشخصية أم بصفتها التمثيلية؟ أما أن أدونيس "الذي هوجم وشيطن" ــ كما يقول الكاتب ــ رفع صوته ليعلن "أن هذه ليست الثورة"، فمن الضروري التذكير، على ما يبدو، بأن جملة أدونيس هذه قيلت ضد خروج المتظاهرين من المساجد، أي حين لم تكن آنئذ أية "قوة أصولية" موجودة على الأرض؛ ويعرف الجميع أن المساجد يوم الجمعة يمكن أن تكون نقاط تجمع في ظل نظام يفرض الحصول على موافقة أمنية مسبقة لأي ضرب من ضروب التجمع، وأن هذا "الصوت الكبير" كما يقول الكاتب آخر من يحق له أن يتحدث عن الثورة حين يصف بشار الأسد بـ"الرئيس المنتخب"! غياب التمييز في السؤال بين "المعارضة" و "شخصيات معارضة"، فضلًا عن التذرع بأدونيس، يجعل السؤال صيغة اتهام عرجاء لا صيغة إحراج!
غياب السياق مرة أخرى في السؤال الثاني عن "هرب المدنيين في المعارضة نحو إنكار معضلة (...) تأييد أجزاء كبيرة من الأقليات، وخصوصًا المسيحيين، للنظام" يجعل من السؤال لا تجريمًا فحسب بل إدانة لمجهول في الواقع، ما دام الكاتب يتجاهل من الذي تحدث عن "الإمارات الإسلامية" قبل ظهور أية جماعة إسلاموية على الأرض السورية؟ ومن أفرج عن الإسلاميين في السجون الأسدية بعد استخدامهم في العراق؟ ولماذا؟
والأمر نفسه ــ تغييب السياق ــ يتكرر في السؤال الثالث حول الإسهام في "تبرير العسكرة وكتم فكرة المقاومة المدنية"! لكن ألأسوأ من السياق تغييب طبيعة النظام الأسدي التي إذا ما استدعيت أفرغت السؤال من معناه وجعلت من المقارنات التي يعقدها مع تجارب العالم المعاصر تبدو شديدة السذاجة.
وفي السؤالين الرابع والخامس اللذين يبدآن بـ"من المسؤول عن؟"، محاولة لتوجيه الاتهام إلى "المعارضة السورية" بما أنها هي من تجاهلت أسئلة السيد جهاد الزين القاتلة. مرة أخرى، من هي هذه "المعارضة" التي يقصدها الكاتب؟ يعلم، كما يعلم كل قارئ، أن هذه المعارضات معارضات، وأن بعضها نال حظوة النظام، وبعضها الآخر رضا روسيا، والبعض الثالث رضا القاهرة والرابع رضا الولايات المتحدة وجزءًا من دول الخليج والخامس رضا الولايات المتحدة والجزء الآخر من دول الخليج. فأية معارضة يعنيها الكاتب هنا حين يطرح سؤاليه المذكورين؟
أما السؤال السادس حول تجاهل مسألة الصراع العربي الإسرائيلي في "تحدياته السورية (الجولان المحتل)" والذي كان موجهًا للمثقفين، فمن الواضح هنا أن الكاتب لا يتابع جيدًأ ما قام ويقوم به المثقفون السوريون، خصوصًا في هذا المجال، سواء على صعيد الندوات أو الدراسات أو النشاطات أو البيانات. هنا يفقد السؤال فعلًا طابعه "القتّال" كي ينزل على من وُجِّه إليهم بردًا وسلامًا!
لكن فكرة "ربح وخسارة الحرب" بوصفها "المسألة العميقة" التي يطرحها خاتم الأسئلة القاتلة، فهي تحيل إلى سؤال آخر: على من يطرح هذا السؤال القتال؟ أهو مطروح على المعارضة أيًا كانت (ما دمنا لم نتعرفها بدقة في مقالة الكاتب)؟ وهل هي، لو كانت هي مقصد السؤال، من يستطيع الإجابة عن سؤال يريد إلغاء "خسارة الحرب" لصالح "إنقاذ سورية، أو ما تبقى من سورية"؟
هنا، وفي هذه الخاتمة وفي طريقة صوغها بالذات، لا يغيب السياق، ولا المعلومات، ولا يحضر التناسي والتجاهل معًا فحسب، بل تحضر أيضًا وخصوصًا المساواة بين القاتل والمقتول، أي بين النظام والمعارضة، مادام الكاتب يرى أن كل طرف منهما "يقتل شعبه".
سوى أن السؤال القاتل حقًا، لم يرد بين هذه الأسئلة السبعة، ولن يُوَجَّهَ كما أراد الكاتب إلى من سماه "المعارضة السورية"، بل إلى من يستعجلون الأمور، أيًا كانت مواقفهم المعلنة أو الصامتة، وفي ظني أن الكاتب أحدهم: هل صدقتم فعلًا أن عملية إعادة تأهيل الأسد يمكن أن تنجح؟

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 15 شباط 2018.


jeudi 8 février 2018


  معهد العالم العربي، المعادلة الصعبة



بدرالدين عرودكي
كثرت في السنوات الأخيرة التساؤلات عن معهد العالم العربي وطبيعة نشاطاته، بل وعن تغيير يكاد يكون جذريًا في تصوره وفي خياراته وفي سياساته، وذلك منذ أن عهد برئاسته إلى جاك لانغ، أحد أهم وزراء الثقافة في ظل الجمهورية الخامسة في عهد فرنسوا ميتران، خلال أكثر من عشر سنوات (1981 ـ 1992). وهي تساؤلات تفرضها توقعات الإنجازات التي كان ينتظر منه تحقيقها للمعهد على غرار بعض ما حققه في مجال الثقافة حين كان وزيرها. لكن محاولة الإجابة عن مثل هذه التساؤلات تقتضي العودة إلى الفكرة الأساس..أي فكرة إنشاء هذه المؤسسة الثقافية التي أرادت بها فرنسا أن تستعيد ألق سياستها العربية التي دشنها الجنرال ديغول منذ اعتراف فرنسا باستقلال الجزائر.
فقد كان مشروع إنشاء معهدٍ للعالم العربي يكونُ مركزًا ثقافيًا يُعرِّفُ الجمهور الفرنسي والأوربي بثمرات الحضارة العربية والإسلامية تقيمه فرنسا في عاصمتها بالاشتراك مع الدول الأعضاء في الجامعة العربية، فكرة غير مسبوقة، بل وفريدة، في العلاقات الدبلوماسية والثقافية الدولية. ولأنها فريدة وغير مسبوقة، فقد انطوت، ما إن بدأت نشاطات المعهد اليومية في مقره في نهاية عام 1987، على سوء فهم على مختلف الصعد المالية والإدارية والتنظيمية، من جانب عدد من البلدان العربية تحديدًا، مما أتاح المجال، من بعدُ، لمحادثات حول ذلك استمرت زمنًا طويلًا على المستوى الدبلوماسي، وكذلك لاجتماعات ونقاشات واسعة داخل الهيئتيْن الرئيستيْن للمعهد، أي المجلس الأعلى الذي يضم ممثلين عن كافة الدول المؤسسة، ومجلس الإدارة الذي يضم ممثلي الطرفين المؤسسين، الفرنسي والعربي، وفي مناسبات مختلفة.
على أن الطرف الفرنسي، صاحب الفكرة والمبادرة، سار على طريق التنفيذ بلا توقف نظرًا لوضوح اتفاقية التأسيس في تحديد مسؤوليات الطرفيْن الشريكين. فبفضل جاك شيراك، وكان عمدة مدينة باريس عند توقيع وزراء خارجية فرنسا والدول العربية هذه  الاتفاقية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، الذي اقترح قطعة الأرض التي سيقام عليها مقر المعهد بدلًا من تلك التي كانت مقررة له في الدائرة الخامسة عشر، ثم بفضل فرنسوا ميتران، رئيس جمهورية فرنسا منذ أيار 1981، الذي أدخل مشروع بنائه ضمن المشروعات العمرانية الكبرى التي اعتمدها خلال فترتي رئاسته (ومنها هرم اللوفر، وأوبرا الباستيل، ومبنى المكتبة الوطنية الجديد التي حملت اسمه)، والذي كان له الفضل مع وزير الثقافة يومئذ، جاك لانغ، في استبعاد المشروعات التقليدية التي اقترحت لمبنى المعهد، أقول بفضل شيراك وميتران ولانغ، أمكن للعمارة التي صممها ونفذها المعماري الفذ جان نوفل، أن ترسو شامخة على ضفة نهر السين، في الدائرة الباريسية الخامسة، تحفة معمارية تقول طموح العرب الثقافي انطلاقًا من ثراء تراث مستعاد ضمن رؤية معاصرة تعيد تكوين العناصر القديمة وتحدد وظائفها ودلالاتها الجديدة. لكن مبنى معهد العالم العربي طرح، منذ ذلك الحين، إشكالية طبيعة وظيفته (دون الحديث عن تمويله) وكيفية تحقيق غاياته. فهل كان المراد منه أن يكون مجرد واجهة تعرض ثمرات حضارة لا شك في عراقتها وثمراتها، أم كان المراد، فضلًا عن ذلك، تقديم العالم العربي الحديث والمعاصر من خلال مختلف جوانب صراعاته مع ماضيه وحاضره من أجل استعادة قوة حركيته التاريخية وتحقيق طموحاته الحداثية في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية ؟
منذ البداية، واجهت هذه الإشكالية عقبتيْن: تصميم المبنى بناء على التصور الأساس من ناحية، ومواقف الدول العربية المُؤَسِّسَة من ناحية أخرى.
إذ مع تنفيذ مختلف النشاطات الثقافية التي نظمت طوال الأشهر الثلاثة الأولى بمناسبة افتتاحه في نهاية عام 1987، سرعان ما بدت لبعض  العاملين، ممن لم يشاركوا قبل سبع سنوات من افتتاحه في وضع ما يسمى دفتر الشروط، فداحة المسافة التي اتضحت آنئذ بين المشروع الأساس الذي صمم المبنى على أساسه وذلك الذي كان يتطلبه طموح لا بعض العاملين فيه من العرب فحسب، بل كذلك طموح عدد من الرؤساء الذين توالوا على إدارته، وفي مقدمتهم أحد كبار مثقفي وساسة فرنسا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إدغار بيزاني، والذين ووجهوا بما يفرضه المبنى في تصميمه الأولي والأساس.   
فقد كان هذا التصميم الذي اكتشفه الجمهور يوم افتتاح المعهد رسميًا في  30 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 شديد البساطة: مكتبة عامة نظمت على غرار المكتبة التي افتتحت من قبل في مركز جورج بومبيدو، لكنها مختصة بالثقافة والحضارة العربيتين قديمًا وحديثأ؛ ومتحف يضم عددًا من القطع الأثرية العربية والإسلامية تنتمي إلى مختلف العصور، تمَّ ايداعها مؤقتًا  من قبل عدد من المتاحف الوطنية الفرنسية، فضلًا عن قاعة فيه خصصت للفن التشكيلي العربي المعاصر؛ وفضاء لمنوعات النشاط الثقافي، عماده قاعة محاضرات وعروض سينمائية، وفضاء سمعي/ بصري يجمع شاشات التلفزيونات الرسمية للدول العربية المؤَسِّسَة، وقاعة للمعارض المؤقتة. أي، بعبارة أخرى، مجرد واجهة تعرض فيها ثمرات الحضارة العربية والإسلامية، قديمًا وحديثًا. إذ لم تكن قاعة المحاضرات والسينما (الأوديتوريوم) مجهزة تقنيًا لاستقبال أكثر من محاضر واحد على خشبة المسرح، في حين كان سقف قاعة المعارض المفتوح على الطابق الأرضي لاستقبال النور الطبيعي من واجهة المبنى يعرِّض الأشياءَ المعروضة على الأقل إلى خطر حريق مفاجئ يسببه عقب سيكارة يلقى عفوًا أو قصدًا!
أما الدول العربية فلم تكن في واقع الأمر تمثل طرفًا "واحدًا" بل أطرافًا، لا حين يمس الأمر الشأن المالي فحسب، بل كذلك حين يتعلق بالنشاطات الثقافية التي يمكن أن تتعرض لموضوعات يعتبرها البعض منها من المحرمات.
لم تشهد السنة الأولى في مقر المعهد أكثر من النشاطات التي كان قد خطط لها بمناسبة الافتتاح الذي حظي بميزانية كافية من أجل تغطيتها. ومن ثم فقد كانت سياسة الإدارة خلالها تنسجم مع التصور الذي قامت عليه عمارة المبنى: متحف ومكتبة ونشاط ثقافي يقتصر على محاضرة أو فيلم سينمائي . وبالتالي، فلابد لأية  نشاطات أخرى "إضافية" من أن تمول بإسهامات الدول العربية (باعتبار أن الإسهام الفرنسي يغطي أعباء المبنى والموظفين)، أو بالواردات التي يمكن أن يدرّها النشاط نفسه، كالعروض السينمائية.
لكن هذه المعادلة القائمة على أن "إسهام الدول العربية يمكن أن يؤدي إلى القيام بنشاطات ثقافية" انقلبت مع تسمية إدغار بيزاني في نهاية عام 1988 رئيسًا للمعهد وصارت: "إنجاز نشاطات ثقافية يمكن أن يؤدي إلى إسهام الدول العربية". وانطلاقًا من ذلك، افتتح ما بات يعرف منذئذ بالمعارض الكبرى، بادئًا بمعرض "مصر عبر كل العصور" الذي استطاع أن يغطي نفقاته بالواردات التي حققها، مما أتاح الفرصة لتغيير جذري في التصور الأساس الذي قام عليه المعهد: إذ يمكن من الآن فصاعدًا أن يكون واجهة ثقافية وأداة دبلوماسية ومؤسسة ثقافية تسعى من حول معارضها الكبرى إلى أن تصل الماضي بالحاضر، وأن تعمل، عبر النشاطات الموازية، على تقديم مختلف جوانب العالم العربي الراهن، الثقافية والاجتماعية والإبداعية.
كان هذا التصور الجديد يحتاج إلى وضع مؤسسي يبرره يتجاوز السفراء العرب الذين كانوا يمثلون دولهم في هيئتي المعهد المشار إليهما من قبل. فما قاله ذات يوم سفير الكويت بباريس، المرحوم عيسى الحمد، من أن السفراء في المعهد ليسوا أكثر من سعاة بريد بين الحكومة الفرنسية وبلدانهم، ومن ثم لابدّ لكل دولة عربية من أن تسمي مثقفًا كبيرًا يمثلها في المجلس الأعلى، كما فعلت الكويت حين عينت الدكتور فاروق العمر ممثلها فيه، بدلًا من سفيرها بباريس، وجدَ لدى إدغار بيزاني، من حيث يدري أو لا يدري، أصداءه حين قرر تشكيل اللجنة الثقافية الاستشارية التي ضمت نخبة من كبار مثقفي وعلماء العالم العربي كي يجعل منها المرجع الأساس في نشاطات المعهد وفي تحقيق رسالته..
(للمقال تتمة)

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 8 شباط 2018.


jeudi 1 février 2018



مدار اليوم، حوار مع بدرالدين عرودكي


مقولة الأسد عن الضمير الذي يراقب الفكر كانت تعني رقابة الامن ليس الا.
غياب المثقفين عن فعاليات الثورة ليس صحيحاً.

للمثقفين السوريين دورًا أولويًا في أهميته ومتعدد المهام.

نعم هناك دور للمثقفين السوريين في الخارج لكنه محكوم بظروف صعبة

بدر الدين عرودكي مثقف سوري لامع، ربط على مدار عشرات السنوات حياته بالقضية السورية وخدمها حيث استطاع كاتباً وناقداً ومترجماً ومشاركاً في تأسيس مشاريع ثقافية وإعلامية وادارياً في واحد من اهم المؤسسات الثقافية العربية في الخارج، حيث تولى إدارة معهد العالم العربي في باريس لسنوات طويلة، وهو اليوم الى جانب الكتابة المتعددة الاختصاصات، يدير مشروعاً طموحاً للنشر، هو دار ميسلون.
مدار اليوم” التقى في باريس مع بدر الدين عروكي، واجرى معه حواراً شاملاً حول الأوضاع الثقافية في سوريا ومستقبلها، انطلاقاً من الخاص الى العام، وتوالت الأسئلة والاجوبة.


*  مدار اليوم: نبدأ بسؤال شخصي. تعددت وتنوعت اهتمامات بدر الدين عرودكي في المجالات الثقافية وفي الكتابة بين الترجمة والنقد والبحث والصحافة. اليوم وبعد هذه التجربة الطويلة. اي من تلك الاهتمامات هو الاقرب اليك ولماذا؟
** أول ما بدأت به هو الكتابة، دراسة وبحثًا في مختلف المجالات الثقافية، وهي الفعالية الأحبُّ إلي، أو حبي الأول إن شئت، والذي سرعان ما عدت إليه بصورة يومية ما إن تحررت في نهاية عام 2012 من العمل الإداري اليومي في معهد العالم العربي بباريس. أما الترجمة فقد بدأت ممارستها بطريق الصدفة، حين كانت أولى ترجماتي، تلك التي قمت بها عام 1969 لقصيدة الشاعر الفرنسي رامبو "الحدّاد" سببًا لكي يقترح علي المرحوم محي الدين ناصر، رئيس تحرير مجلة "الطليعة" السورية  آنئذ، العمل محررًا فنيّا إلى جانب المحرر الأدبي فيها، صديقي الناقد خلدون الشمعة، والذي حللت مكانه بعد مغادرته المجلة من أجل الخدمة العسكرية.. ثم كان سفري إلى فرنسا في نهاية عام 1972 من أجل الدراسات العليا وكان وجودي فيها مناسبة كي يقترح علي سهيل إدريس، الذي كان قد طلب إلي أن أكتب رسائل ثقافية شهرية من باريس إلى مجلة الآداب، أن أترجم كتابًا لأنور عبد الملك؛ وقد صدر الكتاب الذي أعددته وترجمته عن دار الآداب تحت عنوان "الفكر العربي في معركة النهضة" عام 1974. ثم اقترح جاك بيرك، أستاذي والمشرف على رسالتي لنيل الدكتوراه، على مؤنس طه حسين أن أكون مترجم كتاب والدته، سوزان طه حسين، عن أبيه والذي حمل عنوان "معك"، وطبعته دار المعارف بمصر عدة طبعات، قبل أن يعيد طباعته المركز القومي للترجمة، ثم أخيرًا مؤسسة هنداوي بمصر التي أعادت طبع تراث طه حسين كاملًا وجعلته بمتناول الجميع، إلى جانب تراث سواه من المفكرين والأدباء المصريين خصوصًا.
ثم تكررت بباريس تجربة الصحافة حين أسست مع بلال الحسن مجلة اليوم السابع التي استطاعت بفضل المستوى الاستثنائي لمحرريها ومراسليها وكتابها (فقد كان من بين الكتاب على سبيل المثال لا الحصر: محمود درويش وسميح القاسم وإميل حبيبي وأنور عبد الملك وهشام جعيط ومحمد عابد الجابري؛ ومن فريقها الدائم: جوزيف سماحة وسمير قصير وعيسى مخلوف..) أن تصير، خلال السنوات السبع التي دامه صدورها، مرجعًا سياسيًا وثقافيًا هامًا.
أما استعادة نشاط الترجمة فقد بدأ مع ترجمتي لكتب ميلان كونديرا الثلاثة في فن الرواية ثم لكتب أخرى في الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد والفكر السياسي والرواية بالتعاون مع دور نشر عربية في المغرب الأقصى وفي مصر خصوصًا من خلال المركز القومي للترجمة ودار التنوير، وفي لبنان من خلال المنظمة العربية للترجمةن وفي سورية مع دار الحوار. هذه التجربة الطويلة ــ كما تقول ــ لم تنته بعد.. إذ أنني كلفت بالإشراف على دار نشر حديثة العهد، هي دار ميسلون، وهي منبثقة عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة، والتي رأيتني أتبنى بلا أيِّ تحفظ تطلعاتها ومطامحها في مجال نشر وترجمة الكتب الفكرية والثقافية.
* مدار اليوم: اذا حاولنا رسم ملامح للواقع الثقافي في سوريا قبل العام 2011 ماهي أهم ملامحه؟.
** منذ أن أطلق حافظ الأسد في بداية سبعينيات القرن الماضي شعاره الشهير الذي وضع على لافتات عُلِّقَت عند زاوايا شوارع العاصمة الكبرى وساحاتها العامة : "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير"، وتبين أن هذا الضمير كان يتجسَّدُ في ستة عشر دائرة أمنية لكل منها اختصاصها ونطاق عملها، كانت ملامح الواقع الثقافي ترتسم بالتدريج على مثال بنى النظام ذاته، فكما أن كل شيء في سورية كان يوحي "من الخارج" بدولة ديمقراطية من خلال وجود المؤسسات "السياسية" و"التمثيلية" و"التعددية" الصحافية، كذلك الأمر في الواقع الثقافي: كل شيء مسموح به مادام "الضمير" يقوم بعمله اليومي في الرقابة ساهرًا على عدم السماح بتجاوز خطوط حمراء غير معلنة: نقد القائد، أو الحزب القائد، أو نقد النظام بوصفه نهجًا وتطبيقًا، أو سياسة الحكومة الداخلية والخارجية ومواقفها. وفيما وراء ذلك، كان كل شيء مباحًا ومتاحًا!
والواقع أنه، في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، كان ثمة هوامش تتسع أو تضيق حسب الظروف، وكان يمكن للعاملين في مختلف الميادين الثقافية استغلالها والاستفادة من وجودها. والأمثلة على ذلك عديدة: في مجال التأليف والترجمة كانت جهود أنطون مقدسي في وزارة الثقافة واضحة في خيارات النشر والترجمة الذي كان يشرف عليه وذلك عبر خياراته في المجاليْن، وكذلك من بعده جهود محمد كامل الخطيب في الوزارة نفسها؛  وفي السينما كانت هناك مؤسسة السينما التي كان يشرف عليها حميد مرعي والتي أنتجت الأفلام الأهم في تاريخ السينما السورية، وإن لم يسلم أحدها من المنع الصريح، وأعني به فيلم عمر أميرالاي "الحياة اليومية في قرية سورية"، الذي أسهم في كتابته سعد الله ونوس. أما قطاع التلفزيون فقد كانت رقابة "الضمير" مباشرة وصارمة لا تتيح أي هامش مناورة كما كان الأمر في الصحافة المكتوبة. ومع بداية الثمانينيات، انعدمت الهوامش كليًا. كانت السلطة قد وضعت "مؤسساتها" الشعبية تحت رقابة "الضمير" الكاملة. ففي القطاع الديني، تم اختيار عدد من أكثر المفكرين الدينيين شعبية كي يكونوا الناطق الرسمي والدعائي والمدافع عن النظام مجسداً في شخص الرئيس؛ وفي المجال الفني، فقد جرى التكميم على الصعيد الاقتصادي، إذ أن ممارسة المهنة كانت تتوقف حصراً على القطاع العام أو، من بعد ذلك، على شركات إنتاجية خاصة يملكها رجال النظام نفسه أو أبناؤهم!
سنرى الفرق مثلًا في لحظتيْن: الأولى عندما حاصر ثم هاجم الجيش السوري في لبنان مخيم تل الزعتر وارتكب مع القوات اليمينية اللبنانية فيه المجزرة الشهيرة بين 12 و14 آب 1976. المقال الوحيد النقدي الذي كتب ونشر عن هذه العملية آنئذ في صحيفة سورية، هي صحيفة الثورة على ما أذكر،  كان كاتبه سعد الله ونوس، ولم تجرؤ الصحيفة على نشر أي مقال آخر حولها فيما بعد. أما بالنسبة إلى مجزرة حماه عام 1982، فلم يجرؤ أحدٌ على كتابة كلمة واحدة داخل سورية، بخلاف مفكري النظام الدينيين الذين دافعوا عما قام به بصراحة وحماسة بلغتا حدود الوقاحة.
لم يختلف الأمر في عهد الوريث. فبعد الفاصل القصير من الحرية الذي تلا تسميته رئيسًا للجمهورية، وسجن معظم من نشطوا خلاله، عاد تكميم الأفواه إلى وضعه الطبيعي مع بعض المظاهر الخارجية لذر الرماد في العيون، وكان أكبر مثل عليها احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008.
* مدار اليوم: سجل المثقفون السوريون حضوراً محدوداً في انشطة الثورة السورية رغم ان كثيرًا منهم كرر مرات عدم رضاه واعتراضاته على مسيرة النظام. ماهو السبب؟ خوفهم في الشوارع والساحات من النظام او خوفهم  مما يلي الثورة؟
** المثقفون السوريون الذين وقفوا ضد ممارسات النظام قبل الثورة التي قام بها وقادها الشباب السوري (لابد من التذكير بذلك) لم يتوقفوا لحظة واحدة عن المشاركة بطرق مختلفة ــ أي ليس بالكتابة وحدها ــ في الثورة في ميادين كل واحد منهم. كان هناك كثرة منهم يسهمون في مختلف التنسيقيات التي انطلقت آنئذ، ولأنهم كانوا معروفين في الدوائر الأمنية، اضطر معظمهم للتواري عن أعينها منذ أن بدأت باعتقال المشاركين في المظاهرات ومن ثمَّ قتل بعضهم في مراكزها دون تردد.  من الظلم للمثقفين ــ وأعني هنا من وقفوا ضد النظام قبل الثورة حصرًا ــ القول إنهم لم يكونوا حاضرين في أنشطة الثورة السورية. صحيح أن خروج الشباب في مظاهرات عمت المدن السورية قد حطم جدار الخوف، لكن الاستجابة الأمنية العنيفة للنظام، ومباشرته استخدام السلاح بمختلف أنواعه ضد المتظاهرين غطت لا على دور المثقفين بل على دور القطاعات الأخرى كلها حتى قبل ظهور الجماعات المسلحة ذات الطابع الديني خصوصًا، والتي مهَّدَ لها وأنشأها واستخدمها النظام في البداية لتشويه معنى الثورة ولتبرير حله الأمني، مما أتاح من بعدُ انتشار السلاح في جماعات لا عدَّ لها ولا حصر لتشويه الثورة ومعانيها.
* مدار اليوم: ماهو الدور الخاص للمثقفين السوريين لإنهاض الثورة من واقعها الراهن ودفعها نحو انجاز استحقاقات المرحلة الراهنة؟
** في حمأة الوضع المعقد الذي تعيشه الثورة السورية اليوم، وفي ظل هيمنة القوى الكبرى والإقليمية على مسار الحدث السوري راهنًا (فسورية الآن دولة محتلة بكل معنى الكلمة)، وفي استمرار وجود نظام أقرب إلى الميليشيا منه إلى الدولة لكنه مع ذلك لا يزال يحظى باعتراف دولي ويحتفظ بكرسي سورية في الأمم المتحدة ومؤسساتها (وفي ذلك أكبر دليل على نفاق كل  الدول التي زعمت صداقتها للشعب السوري ولثورته) لا يمكن للمثقف بادئ ذي بدء إلا أن يعمل على الحفاظ على سلامة بوصلته، على سلامة خط الثورة الذي دفع السوريون حتى اليوم مقتل أكثر من مليون  منهم، وعددًا من المعتقلين لا يستطيع أحد أن يقدر بدقة عددهم (وقد رأينا بفعل "عملية قيصر" عدد القتلى المخفيين منهم) وإن كان البعض يتحدث عن هذا العدد بمئات الآلاف، فضلًا عن هجرة ونزوح نصف عددهم. وهذه البوصلة تملي على المثقفين دورًا أولويًا في أهميته، لا في تحديد الطريق الواجب اتباعها مع المحافظة على ألق الثورة في ضوء الواقع السوري كما هو اليوم فحسب، بل كذلك في كيفية تحقيق وحدة جميع من أعلنوا وقوفهم ضد النظام الكيمياوي بوصفه الهدف الأول والأساس لكل تغيير حقيقي في سورية وإعادة صوغ الأهداف لا تبعًا لهذه القوة أو تلك، ولا تنفيذًا لرغبات هذه الدولة الداعمة أو تلك، بل تبعًا لما يتطلع إليه السوريون الذين أعلنوا هدفهم ببساطة مذهلة: الحرية والكرامة. رأينا كم هو غال تحقيق هذا الهدف الذي يبدو في أمكنة أخرى من العالم من طبيعة الأشياء. إلا أنه لا يمكن الوصول إلى تحقيق هذه الوحدة ما لم يتم وضع وصوغ مرجعية لا يمكن لأحد ممن يعمل أو يزعم العمل لإسقاط النظام الأسدي والخلاص من المحتلين إلا أن يقبل بها لغة ومعنى ويعمل بموجب ما تقتضيه.
* مدار اليوم:  كيف تقيم النتاج الابداعي الذي قدمه السوريون في السنوات الاخيرة في مجالات السينما والادب والافكار. هل نحن في تقدم ما، ام اننا لم نتقدم في السير نحو تغيير واقعنا الثقافي؟.
** أبرز ما أنتجته الثورة السورية كان تحرير الصوت السوري الذي استحال أصواتًا عديدة، مختلفة، أو متباينة، أو متناقضة، أو متكاملة، وذلك بعد أن كان صوتًا واحدًا خافتًا وخائفًا، تنسخ معانيه، وأحيانًا كلماته، في صحف النظام ومجلاته. وكان لابد من مرور بعض الوقت كي نرى بعض التغير الذي يحدث اليوم في واقع السوريين الثقافي حيثما وجدوا،  لا في الواقع الثقافي في سورية كما هو المأمول.
كمُّ الكتابات التي أنتجها السوريون، ولاسيما الشباب منهم، مذهل. وفي جميع مجالات الكتابة: الرواية والشعر والمقالة والنقد والنصوص الذاتية والتحليل النظري والاستقصاء الميداني وكذلك في التذكر.. بعض المنجزات السينمائية وصلت إلى المهرجانات الدولية وكانت حديث الصحف ووسائل الإعلام على اختلافها؛ وكذلك بعض العروض المسرحية، فضلًا عن المعارض الفنية التي تقدم مبدعات الفن التشكيلي أو النحت.
لكننا لازلنا، من وجهة نظري، وعلى أهمية هذا التحول، في بداية طريق التغيير. المرحلة الآن في ميدان العمل والنتاج الثقافيين مرحلة انطلاق. وهي مرحلة تتم لا على أرض الوطن بل خارجه، في المهاجر على اختلافها..ولابد من الانتظار كي نرى ثمراتها.
* مدار اليوم: ماهو الاثر الناتج عن حركة هجرة ولجوء كثير من المثقفين السوريين الى الغرب؟ وكيف نفصل بين الايجابي والسلبي فيه؟.
** أظن أن الأثر الأول سلبي، ولا سيما في الغرب، على صعيد الحياة اليومية في مجال التعرف على شروطها في البلد الذي يتواجد المثقف السوري فيه، وفي مجال اللغة التي عليه أن يتعلمها إن لم تكن لغة البلد لغة سبق له تعلمها، فضلاً عن مشاعر الإحباط التي يؤججها تواجده مرغمًا في بيئة لم يسع إليها وربما لا يطيق العيش فيها وضمن شروطها.في حين أن الأثر الآخر، أثر إيجابي، وهو يتجلى في التعرف على مجتمع جديد، وأسلوب أو أساليب حياة ضمن شروط مختلفة عن تلك التي سبق له أن عاش ضمنها. أما القدرة على الاستفادة من هذه المعرفة من ناحية والتغلب على مشاعر الإحباط من ناحية أخرى، وتجاوز ذلك كله وتوظيفه في خدمة دوره كمثقف أيًا كان مجاله، فهو أمر يتعلق بقدرات ومواهب كل شخص. ثمة من ينجح في هذا التجاوز، وسرعان ما يعثر على بداية طريق تسمح له بالتطور السريع، وثمة من يفقد البوصلة كليًا ويغرق في اليأس ويضيع في ظلمته.
على أن قدرة التجاوز لا يمكن في واقع الأمر أن تؤدي إلى نتيجة حقيقية إذا لم يعثر المثقف على طريقة ما تجعله يتحسس يوميًا، وأكاد أقول بصورة مادية، ما يجري في بلده، بطريقة أو بأخرى. ذلك ما سيبث روح الانطلاق من جديد ومحاولة استعادة الدرب الذي كان دربه والدور الذي كان دوره شخصيًا واجتماعيًا.    
* مدار اليوم: كيف يمكن الاستفادة من وجود هذا العدد الكبير من المثقفين والمبدعين السوريين في الخارج، ووضع جهودهم في خدمة القضية السورية؟
** كان بوسع الهيئات التي توالت على التصدي لتمثيل الثورة السورية في الخارج أن تستفيد إلى حدٍّ كبير من إمكانات العديد من المثقفين السوريين الذين توازعتهم جهات الأرض الأربع. لا المخضرمين منهم فحسب، بل الشباب خصوصًا، وعلى كافة الصعد: في الإعلام، وفي الأبحاث في مختلف فروع العلوم الاجتماعية، بما في ذلك الدراسات الميدانية. كان لديها، ولا يزال، جيش كامل، وكان يمكن لتنظيم وتنسيق عمله في إطار مشروع متكامل يخدم مطالب الثورة وأهدافها أن يؤسس للعقد الاجتماعي القادم في وطن لابد من استعادته وإعادة بنائه.
من المؤسف أن ذلك كله لم يحدث. هناك مبادرات فردية لاشك في إخلاص أصحابها وفي سمو الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها. لكن نقص الإمكانات الفادح يحدّ من قدراتها. لكنها هي، مع ذلك، مَنْ يعول عليها إذا ما تمكنت، على قلتها، من أن تجد الطريق إلى تطوير تمويلها الذاتي بما يتيح لها العمل في مختلف الميادين، وأن تسهم في بناء المرجعية الأساس لوحدة العمل الضرورية في المرحلة المقبلة من أجل التخلص من مختلف محتلي سورية اليوم، المحليين والإقليميين والدوليين.

** نشرت على موقع مدار اليوم، الخميس 1 شباط 2018.





عشّاق سوتشي 
بدرالدين عرودكي 
لا يهدف هذا المقال كما قد يوحي عنوانه إلى الحديث عن مؤتمر سوتشي المنعقد مؤخرًا. فقد قيل في التنديد به أو في تبجيله أو في استنكاره ما يملأ مئات إن لم يكن ألوف الصفحات. ولا يقصد كذلك الحديث عن نتائجه، ما دامت هذه الأخيرة ستطوى في غياهب النسيان مثلما انطوت نتائج عشرات قرارات المؤتمرات التي كانت تدور حول هذه  القضية العربية أو تلك. إذ يُقال إن العرب اليوم، والسوريون عنوانهم،  ليسوا أبطال المرحلة إلا بوصفهم كرة تتقاذفها الأمم في مباراة لا شأن لهم بها، الأمم القوية بالطبع، الإقليمية منها أو الدولية.
وإنما الهدف هو التأملُ في هؤلاء الذين آمنوا بأن سوتشي ستحمل لهم الأمن والاستمرار، وعلى رأسهم زعيم القتلة، "رئيس الحكومة الشرعية" كما يروج الروس والإيرانيون الذين احتلوا سورية بناء على طلب رسمي منه، أو "الرئيس المنتخب" كما قال صراحة كبير مثقفي النظام الأسدي، أدونيس، ومن ثمَّ الانتقال إلى فهم دوافع هذا العشق لسوتشي.
لن ندخل في نقاش حول شرعية رئيس النظام الأسدي التي يعتمدها أدونيس أو روسيا بوتين، أو كل من تجاهلوا طبيعة هذا النظام والطريقة التي أمكن له بها أن ينشأ ويستمر في سورية، ممن يقفزون على الحقائق التي يبدو أنها تعمي بعض البصائر والأبصار، بل وكل من صمتوا عن استمرار قبول تمثيل هذا النظام في منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها (وهو وضع فشل من تصدوا لتمثيل الشعب السوري الثائر على هذا النظام في العمل على تغييره أو أنهم لم يفعلوا شيئًا تعبيرًا عن رفض تمثيله للشعب الذي يُقتل بناء على أوامره). ذلك أن معظم هؤلاء سعيدون بما ينبئ عنه سوتشي مادام الذين دعوا إليه (روسيا خصوصًا) أوضحوا منذ البداية سقف المؤتمر: إعادة تأهيل النظام الأسدي (وكان عدد من المسؤولين الروس قد أعلنوا صراحة هذا السقف بوصفه خطًا أحمر قبل توجيه الدعوات لحضوره) وإخراجه في صيغ أخرى تضفي على مظهره بعض الألوان الزاهية لكنها لا تغير شيئًا في مضمونه.
بنظرة سريعة على الطريقة التي واجه بها النظام الأسدي من ثاروا عليه، ثم على الوسيلة التي اعتمدها في التعامل مع مستجدات الحدث السوري حين اضطر إلى مواجهة الحلول التي حاولتها الجامعة العربية ثم منظمة الأمم المتحدة من خلال مبعوثيها الثلاثة، ندرك، من دون حاجة إلى أية تفاصيل أعلن النظام منذ البداية أنه سيغرق الجميع بها، أنه سار على نهج واحد، لم يحِد عنه قيد أنملة حتى اليوم، أيّا كان وضعه العسكري ميدانيّا، وأيًّا كانت فداحة الثمن الضروري دفعه، من أجل الوصول إلى هذه النتيجة: استحالة زحزحته أو تغييره أو استبداله.
لم يكن من العسير إدراك هذا الموقف منذ الأشهر الأولى للثورة، أي منذ أن ضرب النظام عرض الحائط بنتائج شديدة التواضع كان قد خرج بها مؤتمر الحوار الوطني الذي نُظِّمَ بدمشق بموافقته، وبرئاسة فاروق الشرع، نائب رئيس الجمهورية، يومي 10 و 11 تموز 2011. كما لم يكن من العسير متابعة إصرار النظام الأسدي على فرض شروطه التي استخدم في سبيلها كل ضروب الأسلحة، واستدعى لنجدته حليفيْه، الإيرانيين والروس، اللذين انتهيا إلى احتلال سورية أرضًا وجوًا، وإلى فرض شروط الحل السياسي الذي يستجيب لمصالحهما في تسويق فاضح من أجل إعادة تأهيل نظام مجرم، وفي تغييب كلي لشعب سورية وتجاهل أدنى تطلعاته التي دفع ولا يزال يدفع الثمن الباهظ من أجل تحقيقها.
على هذا النحو سلك وفد النظام في مؤتمرات جنيف وفيينا المتتالية. لم يقتصر الدعم الروسي لهذا السلوك على نقض أي قرار يمس هذا النظام من قريب أو بعيد في مجلس الأمن، بل انتقل إلى تأويل قرارات جنيف تأويلًا أراد الروس منذ البداية أن يصلوا به إلى صوغ حلٍّ سياسي يستجيب بناء عليه لمصالحهم. وهو الحلّ نفسه الذي رضي به النظام الأسدي مادام يبقيه على حاله، برأسه أو برأس آخر يكون بمثابة ورقة التوت التي تغطي سوأة الحلِّ المفروض تحت عنوان التراضي بين الطرفين وبموافقة الدول الضامنة!
هكذا شهدنا انتقال مركز الثقل من جنيف إلى آستانا، ومن الأمم المتحدة إلى روسيا وحليفيها الضامنين. كما لو أن القرار 2254  لم يصدر عن مجلس الأمن إلا لإعادة صوغ مقررات جنيف الأول  الذي يستند إليه ، من جهة، وإلذي يستهدف فتح الطريق أمام روسيا كي تضع الحل السياسي بلغتها من أجل تنفيذه بضمانتها.
وعلى هذا، بدلًا من التمسك بالحل الأممي وبضمانة المنظمة الدولية التي أصدرته، قبلت فصائل المعارضة العسكرية بمباركة من المعارضة السياسية ومنصاتها المختلفة (القاهرة وموسكو وآستانا) الذهاب إلى آستانا بحجة التوافق على تخفيض التصعيد العسكري في مختلف مناطق القتال. كما لو أن الجميع لم يروا في هذه المحاولة الفخ المنصوب لهم من أجل دفعهم إلى الاعتراف بالنظام بما أنهم يتفاوضون ويوقعون معه بنود الاتفاقيات. كانت روسيا ترسم وتحدد وتقود هذه الاتفاقيات المحلية التي كان النظام يوافق عليها بما أنها كانت تؤدي في الوقت نفسه إلى توسيع مناطق سيطرته التي فقدها خلال السنوات السابقة، وصولًا إلى جعله يعلن انتصارًا لم يكن له يدٌ في تحقيقه.
هكذا بدت اجتماعات جنيف مسرحًا يستعرض وفد النظام على خشبته فجوره، ويستخدم مختلف التفاصيل التي وعد وزير خارجيته بإغراق خصومه فيها خلال المفاوضات، في الوقت الذي كان يتخلى عنها ويستكين لمقترحات حليفه وحاميه الروسي خلال تلك التي كانت تجري في آستانا. كان الهدف الروسي أن يقنع الجميع بجدوى أستانا والخطوات الروسية وبعبثية جنيف والإجراءات الأممية. وكان من الواضح، والحالة هذه، أن مركز الثقل ينتقل من حلٍّ تشرف على صوغه الأمم المتحدة إلى حلٍّ ينفرد الروس بتحديد عناصره وسقفه بموافقة أو تواطؤ القوى الكبرى في مجلس الأمن. فمن قرار أممي ينص على مرحلة تقودها هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية، إلى قرار روسي يتناساها كليًا داعيًا إلى "إصلاح دستوري" وإلى انتخابات رئاسية وبرلمانية يحق فيها لرأس النظام الحالي ترشيح نفسه بإشراف الأمم المتحدة مع المحافظة على "الدولة" وعلى "مؤسساتها"!
ومن آستانا، أرادت روسيا اقتياد الجميع، نظامًا ومعارضةً، إلى سوتشي لحضور مهرجان يضم ألفًا وستمائة مشارك اقتيدوا ليمهروا بحضورهم ما كان الروس قد أعدوه من بيانات ومراسم ومجريات بالتعاون الوثيق خصوصًا مع منصتي آستانا وموسكو وبعض المعجبين بالروس بوصفهم ورثة "الاتحاد السوفياتي الصديق"، القابلين سلفًا بإصلاحات شكلية كان يمكن القيام بها قبل سبع سنوات دون أن يسفك دم سوري واحد، لكنها صارت اليوم أقرب إلى السمّ يُرغم الشعب السوري بأسره على تناوله دون اعتراض. ومن الطريف أن سوتشي الذي فشل عقده في المرة الأولى وكاد يؤجل عقده في المرة الثانية، كان قد استبق بمؤتمر فيينا الذي أدى فيه وفد النظام الأسدي دوره التقليدي، معلنا صراحة أن المؤتمر الحقيقي والناجع سيجري بسوتشي، مطمئنًا إلى أنه سيجد هناك جوهر ما يريد: بقاءه واستمراره.
وقف العديد من المنظمات الأهلية السورية داخل سورية وخارجها ضد الذهاب إلى سوتشي،تعبيرًا عن رفض أية مرجعية أخرى غير مرجعية جنيف. وحسنًا فعلت الهيئة العليا للمفاوضات إذ رفضت الذهاب إلى هذا المؤتمر/المهرجان والمشاركة فيه،  أيًا كانت دوافعها إلى ذلك. لكن هذا الموقف يأتي متأخرًا جدًا وربما تتمكن روسيا وحلفاؤها من تجاوزه إذا لم يتم حشد القوى السورية على اختلافها من حول موقف واحد يرفض أي حل تنفرد به هذه القوة أو تلك بديلًا عن الحل الأممي، ولاسيما إذا كانت هذه القوى تحتل البلد وتقصف السكان المدنيين، وتدمر المدن بحجة ملاحقة الإرهاب الذي لم يكن من صنع كتائبه سوى النظام الأسدي نفسه.  

* نشر على موقع جيرون، الخميس 1 شباط 2018.