jeudi 25 janvier 2018


عقبات على  طريق  التنوير  
بدرالدين عرودكي
"لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان".
قاعدة ذهبية في أساس كل طريقة أو منهج في البحث أو في التفسير أو في التأويل، كان يمكن أن تكون دليلًا ومنهجًا لفقهاء اليوم، على اختلاف مشاربهم، من أجل إعادة النظر في فهم وفي تفسير وفي تأويل النصوص التي تجري قراءتها اليوم بمعزل عن زمانها ومكانها، اعتمادًا على نهج من قاموا بفهمها وبتفسيرها في ضوء ما كان عصرهم يمليه من ضرورات واعتبارات.  
ذلك لأنها قاعدة فقهية عريقة وجوهرية كانت قد وضعت من أجل الاستجابة لما كان تطور الدولة الإسلامية، وتعدد الشعوب التي كانت تنضوي تحت رايتها، يفرضانه في فهم وتأويل النصوص الأصولية الأساس، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الأزمنة التي كانت تُقرَأ خلالها هذه النصوص أو تُستَجوَبُ مضامينها. كانت هذه القاعدة، حتى قبل صوغها على هذا النحو، منذ عصر النبوة وعلى امتداد عصور الإسلام الأولى، دليل الفقهاء والعلماء في تأويل النص القرآني أو النصوص المنسوبة إلى رسول الإسلام. وكانت كذلك حجر الأساس في هذا البناء الهائل الذي أسهم خلالها كبارهم، على اختلاف طبقاتهم وأماكن تواجدهم، في رفعه وفي توطيده، ولاسيما على صعيد المنهج أو الطريقة في استخراج الدلالات أو استنباط الأحكام. وما دامت تربط التغيير بتغير الزمان، فلابد أن مصدرها الأساس كان ما عُرف في الدراسات القرآنية تحت عنوان "الناسخ والمنسوخ" الذي لا يمكن فهمه، والحق يقال، بمعزل عن أو في غياب مفهوم الزمان.
إلا أن هذه القاعدة، شأنها شأن كثير من نتاج هذا البناء من القواعد والأحكام الصريحة والواضحة، تعرضت إلى ما لا يحصى من محاولات الشرح والتأويل، بل وحتى إلى سوء الفهم، وصولًا إلى تناسيها أو تجاهلها أو إلى طمسها. لا غرابة في هذه الحال أن نقرأ لباحث جامعي معاصر، وهو يقدم بين يدي دراسة تشريعية تاريخية ونقدية في ألف صفحة، كيف أنه، وهو يباشر العمل فيها، كان بين مخافتين: فإما إغضاب الجامعة إن لم يصنف بما ينتهي إليه فيه جديدًا في العلم، وإما أن يغضب بعض رجال الأزهر إن خالف فيه القديم كما يفهمون القديم أو كما يتصورون مخالفته.
ولعله كان على حق في كلا المخافتين لاسيما وأنه، على هدي من سبقه، لن يغامر بالتعرض إلى الدلالة الأساس في ثيمة "الناسخ والمنسوخ" في القرآن، موضوع دراسته، بل سيعرض الكيفية التي قرأها وفسرها بها مختلف الفقهاء على مدار العصور، نظرًا إلى أنَّ أحدًا ممن قارب القرآن تفسيرًا أو تأويلًا أو بحثًا لم يتوان عن الكتابة فيها، وأنَّ ما وصلنا من مخطوطات وكتب حولها على كثرتها المذهلة، يكاد لا يمثل إلا غيضًا من فيض عددٍ لا يحصى من الكتب التي تناولتها ولم نعرف إلا بعض عناوينها بعد فقدانها.  
لن يغامر إذن في الحديث عن دلالة النسخ في القرآن، على صعيد غرضها التاريخي أو الزماني، مثلما لم يغامر أحدٌ من قبله في الحديث عنها، على الرغم من إقرار وتطبيق القاعدة الفقهية، التي لا تخرج في مبناها عن هذه الدلالة، حول ارتباط تغير الأحكام بتغير الأزمان. هل يمكن ألا نرى، في هذه الحالة، وجود رابطة بين مفهوم الناسخ والمنسوخ ــ وهي رابطة ذات علاقة بالزمان ــ وبين هذه القاعدة التي تربط التغير باختلاف الأزمنة؟ ألا يجب أن نبحث في الكيفية التي فهم بها معاصرو الرسول ما شهدوه خلال ثلاثة وعشرين عامًا دامها الوحي القرآني من الآيات المنسوخة والآيات الناسخة؟ ألا يمكن اعتبار هذه القاعدة دعوة لإعمال مفهوم النسخ القرآني نفسه في طريقة فهم أو تأويل الآيات غير المرتبطة بأسس العقيدة والإيمان بقدر ارتباطها بشؤون الناس الدنيوية؟
المشكلة أنَّ عددًا كبيرًا من الفقهاء التالين سيبتعدون كل البعد عن الدلالة الصريحة التي تقولها في الأصل الآية الخاصة بمبدأ النسخ في القرآن: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"(سورة البقرة)، والتي تقول سببه في متنها. يفسر، مثلًا، أحد الفقهاء، وهو القاضي ابن العربي المالكي، في معرض الحديث عن النسخ، وبضرب من القطع، الآية القرآنية: "اليوم أكملت لكم دينكم" (سورة المائدة) على أنها تقول: "اليوم أكملت لكم الفرائض وانقطع النسخ". في حين يذهب عالم مفسر آخر هو أبو مسلم الأصفهاني، إلى إنكار مفهوم النسخ من أساسه حين يفسره على أنه مظهر لتبدل علم الله الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" (سورة فصلت)، وأن النسخ بما هو إبطال، لا يمكن أن يَرِدَ على أحكام قرآنية.
كان إنكار مفهوم الناسخ والمنسوخ كليًا وكذلك المضي في تفسيره تارة بالنقل وتارة بالإبطال أو بالتبديل أو بالتحويل، يؤديان بالضرورة إلى إنكار دلالته الزمنية التي تنبه لها أول من تنبه صحابة الرسول الأقربين، (وربما ذلك ما يفسر ما نراه حرية في فهمهم وفي تأويلهم النص القرآني أو في تطبيق أحكامه) والتي وجدت من بعد تعبيرًا عنها في مفهوم آخر تمثل في القاعدة الفقهية حول تغير الأحكام بتغير الأزمنة. وهو ما أسهم بصورة حاسمة في جعل مجمل البناء الفقهي مرجعًا لازمنيًا، بدا، على زمنيته البنيوية الأصلية، كما لو تم تحنيطه، ليكون مصدر كل فهم يتم اليوم لنصوص تعود إلى أربعة عشر قرنًا، وكانت في زمنها تستجيب وبصورة ثورية إلى متطلبات مجتمعها.
كانت هذه الضروب من التفسير ومن التأويل، التي تلت العصر الذهبي الذي عرفه الفقه العربي الإسلامي، وراء ما عرفه العالم العربي خصوصًا، ومنذ الانهيار السياسي والثقافي للعواصم الإسلامية في بغداد ثم في قرطبة، من جمود وكسل شمل مجمل الفعاليات الثقافية والفكرية. وهو جمود لا يزال حتى اليوم طابع معظم الدراسات والاجتهادات في فهم وفي تفسير التراث الفقهي العربي الإسلامي. لكن الأخطر من هذا الجمود أنها أدت في الوقت نفسه إلى صعود ورسوخ سلطات تنهل من معينه خارج إطار الدولة والسياسة مؤلفة بذلك سلطات موازية، أو مرتبطة بهما مباشرة، بعد أن استحوذت على الشأن الديني، وأسست رقابة فكرية صارمة سرعان ما تجسّدت تارة في شكل جماعات دينية ذات طابع سياسي، أو في أحزاب سياسية تتخذ من الدين غطاءها أو رسالتها.
كما نرى، ليست المشكلة هنا حتى في محاولة قطيعة معرفية مع التراث أراد محاولتها من قبلُ عددٌ من مفكري التنوير من العرب خلال القرنين الماضيين، بل في تفعيل قاعدة كان يمكن لها أن تصل الماضي بالحاضر بصورة إبداعية، متيحة إمكانات القطيعة المعرفية مع جانب أساس من هذا التراث كان وراء هذا الجمود. 

** نشر على موقع جيرون، الخميس25 كانون الثاني/يناير 2018.


jeudi 18 janvier 2018


ليس دفاعًا عن عبد الناصر 
 بدرالدين عرودكي 
لا يمكن لكل من تفتح وعيه في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي على المشروعين القومي والاجتماعي الصاعدين آنئذ، أن يشهد اليوم مرور مائة عام على ولادة جمال عبد الناصر (1918)، دون القيام ببعض التأملات في معاني مرحلة دامت ثمانية عشر عامًا، تبدو اليوم مثل حلم استحال إذ انكسر كابوسًا، بعد أن تلاشى بعضها في غمرة مختلف المراحل التي تلتها والتي عملت على طمسها، أو بروز بعضها الآخر على حساب أو مكان البعض الأول بوصفها أصل البلاء الذي ساد العالم العربي ولاسيما في ظل الأنظمة التي توالت على الحكم من معمر القذافي في مرحلته الثانية في ليبيا، إلى حافظ الأسد ووريثه في سورية، إلى  زين العابدين بن علي في تونس إلى صدام حسين في العراق..
فمنذ رحيل جمال عبد الناصر عام 1970، انقسم الذين تصدوا لتقييم مرحلته ونظامه وشخصه إلى فريقين رئيسيْن: أحدهما، ويقف في مقدمته "الإخوان المسلمون"، كان قد ناهضه العداء طوال فترة حكمه وعمل بكل الوسائل على تدمير نظامه، ثم تحول بعد وفاته إلى تدمير ذكراه، مركزًا على شخص عبد الناصر ومهملًا نظامه بمحاسنه وبعيوبه؛ والآخر الذي، وهو يعلن انتماءه إلى ما بات منذئذ يحمل اسم "الناصرية"، كان قد تبنى، قلبًا وقالبًا، من دون أية مراجعة نقدية جادّة، نظامَ عبد الناصر وشخصه معًا، مدافعًا عن، أو مركزًا على المنجزات، متناسيًا أو متجاهلًا الأخطاء المميتة والثغرات الخطيرة.
ذلك أمر طبيعي ولا شك في مجال دراسة أية مرحلة حافلة بالأحداث، ولاسيما تلك التي جسدتها أو طبعتها شخصية استثنائية على الصعد كافة. هكذا كان الأمر في تقويم المرحلة الديغولية بفصليْها: مقاومة الاحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية، وتأسيس الجمهورية الخامسة في عام 1958؛ أو في تقويم المرحلة الستالينية، أو في تقييم سواهما من المراحل المماثلة. لكن المفارقة المثيرة، في تقييم مرحلة عبد الناصر هنا، أن الفريق الذي تبناه وحمل اسمه وقدم نفسه بوصفه الأمين على تراثه، تجاوز الفريق الآخر،الخصم، لا في عدائه ومناهضته من حيث لا يحتسب فحسب، بل في تشويه سمعة إرثه وصولًا  إلى درجة خيانته لهذا الأخير في صفحاته الناصعة، حين تبنى صفحاته الأخرى الأكثر سوادًا وسوءًا، وهو يمالئ طغاة العرب وينتصر لهم.
هكذا أساء الفريقان معًا، سواءً في عدائهما أو في انتصارهما لمرحلة عبد الناصر، إلى الأجيال التالية في قراءتهما لمرحلة، يصعب على من عاصرها مواطنًا عاديًا بعيدًا عن أي ارتباط أيديولوجي بهؤلاء وأؤلئك، أن ينسى لحظات الكرامة التي عرفها خلالها في أجلى معانيها أو لحظات الهزيمة التي كابدها في أقسى تجلياتها. وسيكون من الصعوبة عليه بمكان أن يخلط  اليوم بين الأزمنة والمراحل والأدوار، فيُمَاهي من ثمَّ، وهو يفعل ذلك، الأضداد فيها ما بينها.
ربما كان من الأجدى لنا، في هذه الحالة، من أجل محاولة فهم ما نحن فيه اليوم من كوارث لم تعد وقفًا على بلد عربي بعينه، بقدر ما تكاد تشمل العالم العربي بأسره، بصورة أو بأخرى، أن نبذل بعض الجهد في استعادة العناصر الأساس في مرحلة عبد الناصر، بعيدًا عن أحكام القيمة السريعة سلبًا أو إيجابًا، وذلك انطلاقًا من فرضية مفادها أن هذه المرحلة، التي شهدت تحرر الدول العربية كافة، فضلًا عن تحرر الكثير من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتي يمكن اعتبار بداية السبعينيات من القرن الماضي نهايتها، تختلف اختلافًا جذريًا عن المراحل التي تلتها، أي تلك التي بدأت أولاها مع سبعينيات القرن الماضي، وإن كان يبدو للنظرة المتسرعة وجود بعض التشابه بينها في هذا المجال أو ذاك. ذلك أن للفروق الدقيقة في هذا الميدان وزنها الذي لا يمكن في غمرة الحماس إهمالها لأي سبب من الأسباب.
لم تكن حركة الضباط الأحرار التي نفذت عام 1952 بقيادة عبد الناصر مجرد حركة عسكرية تستهدف قلب نظام الحكم الملكي بقدر ما كانت تتطلع إلى تحقيق مشروع سياسي يستعيد المشروع الأساس الذي حاوله، قبل حوالي قرن ونصف من قيامها، محمد علي من أجل إقامة دولة حديثة تحتلُّ، بحكم موقعها الجغرافي، موقع المركز وسط العالم العربي. سيستأنف عبد الناصر هذا المشروع وهو يرى مصر في المركز من الدوائر الثلاث: العربية والإسلامية والأفريقية. ولذلك انصب همّه منذ البداية وفي آن واحد على تحرير مصر سياسيًا من الاستعمار البريطاني أولًا واستعادة قناة السويس عبر تأميمها، وعلى القيام بمجموعة من المشروعات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى بدءًا بالإصلاح الزراعي ومضاعفة الأراضي الزراعية وتعميم الكهرباء على الأراضي المصرية بواسطة مشروع السد العالي، مرورًا بالتعليم والثقافة.
لكن مفهوم التحرر الذي بدأ بشعار "إرفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد" لم يقف عند الاكتفاء بجلاء الجيش الإنكليزي عن مصر، بل امتد ليشمل دعم ثوار الجزائر في حرب تحريرهم، وكذلك دعم مختلف حركات التحرر في البلدان العربية والأفريقية، حتى صارت القاهرة وعنوانها الأساس. كان ذلك على وجه التحديد هو السبب الخفيَّ الأساس وراء غضب القوتين الاستعماريتيْن الكبريين في خمسينيات القرن الماضي، ومن ثم قيامهما مع إسرائيل بالعدوان الثلاثي على مصر إثر تأميم قناة السويس بهدف إسقاط عبد الناصر. لم يحقق العدوان أهدافه، بل ربما كان سببًا في تثبيت زعامة عبد الناصر في مصر وفي مدِّها إلى العالم العربي.  
ولكن، إذا أسهم العدوان الثلاثي ــ وهو عدوان خارجي بامتياز ضد دولة تناضل للتحرر بكل معانيه ــ بصورة حاسمة في بناء أسطورة عبد الناصر، فإن خيارات السياسة الداخلية التي اعتمدها في الداخل المصري كانت السبب الرئيس في تهشيم هذه الأسطورة. فقد قامت على حلِّ الأحزاب وإحلال هيئة واحدة جامعة محلها (هيئة التحرير، ثم الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي)، مثلما قامت على "تفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة" كما شاع في تلك المرحلة، أي اعتماد من كان حوله من الضباط الأحرار، رغم التفاوت الكبير في قدراتهم ومواهبهم وإمكاناتهم السياسية، كي يكونوا من حوله في مواقع الحكم الرئيسة في البلاد. هذا فضلًا عن هيمنة الهيئة الأمنية المتمثلة في المخابرات التي رأسها طويلًا صلاح نصر في مصر وعبد الحميد السراج في سورية خلال فترة الوحدة، ومآثرها في كبت الحريات. لم يؤثر ذلك، في الحقيقة، على مسار مختلف المشروعات الكبرى فحسب، بل كان أيضًا سببًا في نشوء مراكز قوى تتصارع في ما بينها بحيث أدى صراعها هذا لا إلى كسر مشروع عبد الناصر نفسه وتهميشه هو نفسه فحسب، بل إلى ما هو أخطر من ذلك: إلى هزيمة مصر في حرب حزيران/يونيو 1967 التي اعترف بمسؤوليته كاملة عنها.
ومع ذلك، أو رغم ذلك، تميزت مرحلة عبد الناصر بامتلاكها مشروع دولة حديثة، ومجتمع قوامه الكرامة والعدالة والمساواة لمواطنيه، وبإنجازات كبيرة وهامة في هذا المجال لا يمكن إنكارها أو تجاهلها.
تلك هي نقطة الاختلاف الجوهرية بين عبد الناصر والطغاة العرب الذين جاؤوا من بعده.
قد يمكن  القول إن عبد الناصر أسس نواة الدولة الأمنية التي سيتبنى مثالَها الطغاة العرب الآخرون بهذه الدرجة أو تلك. لكن الفرق الدقيق هنا ــ وهذا للتاريخ على الأقل ــ أن هذه النواة لم تؤسس لتثبيت أو لحماية أو تأبيد سلطته الفردية. ذلك أنه، فعلًا لا قولًا، كان يستمد سلطته الحقيقية من شعبه الذي كان هو من رفض استقالته إثر هزيمة حزيران وبكاه كما لم يبك شعب قائده يوم رحيله.
وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى سواه كالقذافي أو حافظ الأسد .. لم يكن من همٍّ لهؤلاء سوى سلطتهم، وليس الخراب القائم اليوم في ليبيا أو في سورية إلا شاهدًا حيّا على ذلك.
تعمى عيون كثيرة اليوم عن رؤية هذا الفرق الدقيق والحاسم. ويسهم في تعميم هذا العمى لا معظم من يزعمون حمل الإرث الناصري فحسب، بل كذلك الكسل الفكري أو الجهل السياسي الذي قام الطغاة، الذين توالوا على الحكم منذ رحيل عبد الناصر، بتعميمه على مجتمعاتهم..

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 18 كانون الثاني/يناير 2018



jeudi 11 janvier 2018


في  مقاربة التراث

بدرالدين عرودكي 
واجه كثير من الذين تصدّوا لمقاربة التراث العربي خلال عصرنا الحديث عددًا من المصاعب في مقدمتها ما عرف، بالمعنى المنهجي للكلمة، باسم "الضوابط"، التي تجيز قبول أو رفض أو تجريم هذه المقاربة أو تلك. وهي ضوابط أدت، على مدار العصور، دورها المطلوب في وضع سدٍّ منيع في وجه أية محاولة نقد جذرية تستهدف تجديدًا ما، سواء من خلال استعادة الأصول وقراءتها في ضوء معطيات الحاضر، أو عبر محاولة تحقيق قطيعة معرفية إذ تضع النصوص التراثية ضمن حدودها الزمانية والمكانية، محاججة في إبطال مدى صلاحيتها فيما وراء ذلك. ولم تكن تلك "الضوابط" تقتصر على المسائل اللغوية أو على معاني المفردات أو على فهم هذه الأخيرة ضمن سياقاتها البيانية أو الاجتماعية أو الزمنية، من أجل فهم نصٍّ أصولي، مثل آية من الآيات القرآنية مثلًا، وصولًا إلى دلالاته في معانيه أو في مراميه أو في أمديته، بل تمَّ تجاوزتها إلى محاولات شتى في استنباط الأحكام ووضع القواعد والأحكام لم يكن لها من غاية في نهاية الأمر سوى تكوين سلطة تؤلف، على اختلاف الفقهاء والمفسرين، مرجعية واحدة ووحيدة تفرض على الجميع، ولا يستقيم في رأي واضعيها أي نقد من خارجها. تجدر الإشارة إلى أن ذلك لم يتم في عصر وضع هذه الضوابط وتأسيس مدارس الفقه الإسلامي المبدعة، بل في العصور المتأخرة، أي بعد توقف أو توقيف باب الاجتهاد.  
مما لا شك فيه أنه لابد في أي بحث علمي، جدير بهذه الصفة، من امتلاك من يقوم به ناصية اللغة وقواعد البحث، بما يسمح المضيَّ في تفسير وفي تأويل النصوص، فضلًا عن استنباط أحكامها وتخريجها، ومن ثمَّ لا يمكن لمقاربة النصوص التراثية أن تخرج عن هذه القاعدة التي لابد وأن تغتني، فضلًا عن ذلك، بقواعد فرعية ذات صلة بمجمل ما يُطلق عليه اليوم المعارف الاجتماعية والإنسانية.
على أنَّ أول ما يصطدم به الباحث في التراث العربي، والفقهي منه بوجه خاص، وجود كمٍّ مذهل من شروح وتعليقات تراكم بعضها فوق بعض  في سلسلة تشرح الأصل ثم يأتي الشرح على متن الشرح الأول، ومنه إلى ما تيسر من اختصار للمجمل تارة، أو بحث في غريب النص الأول المشروح تارة أخرى،  أو في شرح ألفاظه، وأحيانًا في تناول بعض أبوابه شرحًا وتفسيرًا إضافيًا، بحيث يتلاشى النص الأصل أو يكاد وراء كل ما تراكم فوقه، فضلًا عن النص ـ السبب والأساس الذي كان ذريعة الشرح أو التفسير الأولى. وربما كان أحد أكبر الأمثلة دلالة على ذلك "مختصر الخرقي" الذي يلخص بين دفتيه فقه الإمام ابن حنبل  وخلاصة اجتهاداته، والذي بلغ عدد شارحيه وشارحي شارحيه ثلاثمائة شرح معروفة بعناوينها وأسماء مؤلفيها.  
لكن أغرب ــ وربما الأفضل أن نقول أخطر ــ ما يمكن أن يُؤخذ على بحث يتوخى صاحبه مقاربة التراث في إطار نقدي ومعرفي، ويملك كل ما يمكن أن يؤهله القيام بها علميًا، من دون الاعتماد على هذا الكم من المتون والشروح، خروجه على السلطة التقليدية المشار إليها، أو انطلاقه من مرجعية مغايرة في البحث للمرجعيات التي فرضت نفسها على امتداد إثنتي عشر قرنًا تحت طائلة الإدانة بالردة أو بالكفر. وهذا بالفعل ما جرى خلال القرن الماضي لمفكرين أرادوا المضي قدمًا في تجاوز هذه السلطة التي تجسّدت في العصر الحديث إما في مؤسسسات أنشأتها أو دعمتها السلطة السياسية، وإما في جماعات أو أحزاب دينية أرادت الاستحواذ عليها، وعملت على فرض نفسها شعبيًا وسياسيًا بحكم تماهيها في هذه السلطة ثمَّ الدفاع عنها بوصفها السلطة الشرعية الوحيدة.
لا يمكن في هذه الحالة تحقيق أية قطيعة معرفية مع القراءات المتراكمة للنصوص المُؤَسِّسَة من دون تجاوزها مباشرة والعودة إلى هذه الأخيرة من أجل قراءتها مجدَّدًا، تمهيدًا لاستعادتها. كما لا يمكن من ثمَّ لهذه الاستعادة أن تكون ممكنة في غياب شروط أخرى، ضرورية لإنجازها. وهي شروط لم تكن متوفرة لكل الذين حاولوا حتى اليوم مثل هذه القراءة، من طه حسين وعلي عبد الرازق إلى نصر حامد أبو زيد.
ما الذي يعلل ويفرض في الوقت نفسه، في إطار أي مشروع تنويري أو نهضوي، تجاوز هذا التراث الكامل من التأويلات والتفسيرات والشروح الذي ينظر إليه الفقهاء المعاصرون اليوم ــ من غير المجددين ــ  بوصفه كلًا كاملًا ينضوي تحت مفهوم الشريعة الإسلامية؟
من الملاحظ أن أسس الفقه الإسلامي قد وضعت خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين (أو القرنين الثاني والثالث الهجريين)، أي في أوج ازدهار أقوى إمبراطوريتين عربيتيْن إسلاميتين عرفهما التاريخ الإسلامي: الأموية والعباسية؛ وأن واضعي هذه الأسس من كبار الفقهاء كانوا يتمتعون بحرية واسعة في التفكير عكستها أعمالهم وما بينها من اختلافات في الرؤية وفي الاجتهاد وفي الأحكام. كما أن من الملاحظ أيضًا أن هذه الاختلافات بين هؤلاء تعود إلى طبيعة المرحلة التي عاشها كل منهم خلال القرنين المذكورين، وأن أية دراسة معمقة للفترة التي عاشها كل منهم يمكن أن تُبْرِزَ إلى العيان توسع بعضهم وانغلاق البعض الآخر، مثلما تشير إلى أنهم كانوا جميعًا، على كل حال، يستجيبون معًا، وعلى تباعد المسافات واختلاف الأمكنة التي عاشوا فيها، لضرورات البحث والتفكير والتأويل التي اجتهدوا سواء في وضع القواعد أو الضوابط النظرية أو العملية، من ناحية، أوفي الاستجابة لمتطلبات الوضع الاجتماعي والسياسي التي تكاثرت وتنوعت بفعل اتساع  الفتوحات واختلاط الشعوب والثقافات، من ناحية أخرى. سوى أن هذه القراءات للنصوص المؤسسة، التي كانت، على قربها الزمني من حقبة وجودها، تستجيب في وقتها لعصرها، توقفت من بعد في حقيقة الأمر عن الاستجابة لما كانت الظروف السياسية والاجتماعية تفرضه من وقائع جديدة، وتحولت بفعل الكسل الفكري إلى ما عرفته العصور اللاحقة من "تقليد السلف" والسير على أقواله واجتهاداته. مما أدى مع مرور الزمن إلى رسوخ هذه السلطة المشار إليها، أي تلك التي لا تنتمي إلى عصرنا الراهن ولا تستجيب،بأي صورة من الصور، إلى ما يفرضه من تحديات على مختلف المستويات وفي كل المجالات.
لكن محاولة العودة إلى النصوص المُؤَسِّسَة وقراءتها مجدّدًا، أي تجاوز طرق ومناهج وضوابط القراءات الكلاسيكية المثقلة بركام قرون من الشروحات والتأويلات، لا يمكن القيام بها من دون توفر شروط الحرية الفكرية التي كان يتمتع بها فقهاء القرنين الثامن والتاسع. ذلك أن تعدد السلطات الخاصة والعامة التي وقفت، ولا تزال تقف، في وجه أي مشروع تنويري يعيد القراءة بعيدًا عنها وعن رقابتها وإجازتها، لا يزال هو العائق الرئيس في هذا المجال. إذ أن القطيعة المعرفية التي تتطلع إليها مثل هذه العودة، هي من الخطورة، بحيث لا يمكن إتمامها دون دعم كافٍ وجذري، أو ثورة تقوم هي نفسها بتأمين شروط تحققها.
بانتظار الحديث عن عناصر مثل هذه العودة.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 11 كانون الثاني 2018



jeudi 4 janvier 2018



سورية المحتلة وسوتشي 
بدرالدين عرودكي 
كان اليوم الأخير في أيلول 2015، الذي شهد دخول روسيا العسكري أرض وسماء سورية، لحظة فاصلة في مسار الحدث السوري إذ أنشأ دفعة واحدة واقعيْن: دعم الوجود الإيراني على الأرض السورية وإنقاذه من فشل كان على وشك التحقق من جهة، ونفخ روح اصطناعية في جسد النظام الأسدي المنهك، يمكن من خلالها للحكومة الروسية أن تشرعن بواسطته كل ما ستقوم به منذئذ على الأرض السورية، من جهة أخرى. ولهذا قدمت روسيا وجودها ونشاطها في سورية بوصفه إسهامًا دوليًا في النضال ضد الإرهاب الذي كان قد صار مشجبًا تبرر به نظم الاستبداد في العالم العربي نفسها، أو تغلف به نظم الهيمنة الغربية مزاعمها وأكاذيبها وجرائمها في علاقاتها الدولية، ولاسيما تلك التي تقيمها مع النظم العربية.
ولأول مرة في تاريخ العلاقات الدولية، لم يجر الحديث في أي مكان في العالم، بدءًا بالعالم العربي، عن احتلالٍ كاملِ الأوصاف لسورية. فقد استبقت روسيا الأمر بإنجاز تغطية دبلوماسية شكلية قدمها لها النظام الأسدي المنهار، تلته، من ثمَّ، شرعنة دولية آلية لحضورها المادي، بما أن هذا النظام لا يزال موضع اعتراف دولي في المؤسسات الأممية. شرعنة صارت من بعد لازمة في الخطاب الروسي مثلما صارت أيضًا وفي الوقت نفسه لازمة في خطاب النظام الأسدي تحت اسم "السيادة" التي تنتهك بصورة شبه يومية، على الأرض السورية أو في سمائها، من لم يكن يراهم، أي من قبل من لا ينتظرون إجازته.  
لكن السوريين، خلافًا لمعظم من تصدى لتمثيلهم، الذين لا يزالون يتلقون قنابل وصواريخ الطائرات الروسية أدركوا، منذ اللحظة الأولى، أنهم باتوا، منذ ذلك التاريخ، تحت الاحتلال الروسي بإرادة وتغطية "الرئيس المنتخب" وشركائه. احتلال يغطي احتلالًا آخر على الأرض، تقوم به قوة إقليمية تحاول استعادة حلمها الإمبراطوري القديم، إيران، بفضل شراذمها التي أتت بها من مختلف الدول بقيادة حرسها الثوري، ودعم وكيلها الحصري في لبنان وسائر المشرق العربي: حزب الله.
بدا كما لو أن أحدًا لم ينتبه لا إلى هذا الواقع الصارخ: سورية تحت الاحتلال الروسي، ولا إلى كل دلالاته: دولة تحت الوصاية، ورئيس برتبة وكيل حصري لقوة الاحتلال، لا يستخدم صلاحياته إلا للاستجابة إلى مطالب القوة التي يمثلها، ولا إلى ضرورة عدم التعامل، منذئذ، مع هذه القوة المحتلة إلا بصفتها كذلك.
لاشك أن روسيا فعلت كل شيء كي تؤدي دوريْن متزامنيْن: فهي كقوة كبرى شاركت ولا تزال تشارك، إلى جانب الولايات المتحدة، في مؤتمرات جنيف لحل المسألة السورية، وسعت ولا تزال تسعى، منذ احتلالها سورية، إلى تنفيذ خطتها في الحل تحت غطائه بصورة تدريجية، بما يسمح لها أن تقود العملية السلمية، وأن تفرض طريقة وإيقاع خطتها وأهدافها. وهو ما جعلها، منذ البداية، تنفرد بتفسير مقررات مؤتمرات جنيف، آخذة على عاتقها تعطيل صدور أي قرار أممي لا يستجيب إلى، أو يمكن أن يعرقل، مساعيها من أجل أداء الدور الآخر عبر مؤتمرات آستانة، واتفاقيات خفض التصعيد في مختلف المناطق السورية، وأخيرًا مؤتمر سوتشي الذي تريد له أن يكون تتويجًا وختامًا لخطتها. وهي، في كل ذلك، ما فتئت ترسل عددًا من الرسائل المشفرة، المتناقضة أحيانًا، كما لو كانت بالونات اختبار، مثل الدستور المقترح الذي نشرته خلال واحد من مؤتمرات أستانة، أو تصريحات مسؤوليها حول مصير بشار الأسد التي تنوس بين عدم التمسك به وبين حقه في البقاء حتى الانتخابات الرئاسية القادمة، بل وفي ترشيح نفسه مجددًا..
هكذا، أمكن لروسيا أن تحقق ثلاثة أهداف في آن واحد: فرْضَ نفسها أولًا، لا كقوة محتلة كما هي بالفعل فحسب، بل، ومن أجل تمويه الصفة الحقيقية، كحَكَمٍ رئيس في مساري تقرير مصير الشأن السوري، الأممي في جنيف وفي مجلس الأمن، والخاص بها في أستانة؛ وفرْضَ إيران ثانيًا، دبلوماسيًا وعسكريًا، بوصفها القوة المحتلة الثانية التي تتيح لها التمدد وبناء القواعد العسكرية وإجراء التغييرات الديموغرافية التي تستجيب لأهدافها؛ وإدخال تركيا، ثالثًا، بوصفها قوة عسكرية وسياسية، ضامنة وشريكة في الحل السياسي. وبذلك، تم حتى الآن تقرير مسار ومآل الحل السياسي، لا في غياب النظام الذي حلَّ محله، أو بات مُمَثلًا في روسيا وإيران، بل في غياب كامل للشعب السوري الذي يجري العمل في إطار مؤتمر سوتشي على تزييف تمثيله على كل الصعد من خلال حشد غير مسبوق لا في طريقة اختيار المشتركين، ولا في عدده الضخم الذي سيحول دون أي نقاش حقيقي حول مصير سورية، ولا في شرعية ممثلي الشعب السوري التي بات يقررها منظم المؤتمر والداعي إليه، وذلك في التفاف خبيث على مسار مرحلة انتقالية حقيقية كان قد تحدث عنها بيان جنيف الأول، والتي لابد، كي تستحق هذه الصفة فعلًا من أجل تقرير مصير مستقبل سورية، من أن تشمل عددا من العمليات الرئيسة، مثل هيئة منتخبة تتجسد في مجلس تأسيسي، يضمن انتخاب أعضائه، ضمن شروط مثلى، مراقبون أمميون، مطلقو الصلاحيات في مجال المهمة الموكلة إليهم.
تبدو روسيا اليوم، بعبارة أخرى، وكأنها تكاد تنجح في تفريغ حتى لا نقول إلغاء، مضمون ومفاعيل البيانات والقرارات الأممية، التي وافقت عليها هي نفسها، لصالح صيغة جاهزة تنوي فرضها على المشاركين في مؤتمر سوتشي، ثم تقوم بعرضها على مجلس الأمن للمصادقة عليها بوصفها الحل الذي وافق عليه الجميع!
كان هذا هو الواقع الذي عاشه ممثلو المعارضة على اختلافهم، من عسكريين وسياسيين، على اختلاف انتماءاتهم وارتباطاتهم أو استقلاليتهم. واقع يبدو أنهم لم يبدأوا بإدراكه إلا مؤخرًا، بعد التصريحات التي صدرت عن كبار المسؤولين الروس، والتي تكاد تقول قرارات المؤتمر القادمة التي وافق عليها النظام الأسدي مسبقًا بما أنها ستكفل ديمومته واستمراره، ونجاته من كل حساب على الجرائم التي ارتكبها خلال السنوات السبع الأخيرة بحق الشعب السوري.
في ضوء ذاك كله، ألا يجدر اليوم إعادة النظر جذريًا في الخط السياسي الذي اتبعته فصائل المعارضة على اختلافها في تعاملها مع الحلول الأممية المطروحة؟ ألا يجب أن يؤدي ذلك إلى أخذ كل المتغيرات التي طرأت على الحدث وعلى الواقع السورييْن بعين الاعتبار، وبالتالي البناء عليها، لا برفض حضور مؤتمر سوتشي فحسب، بل بحشد كل المنظمات الشعبية في الداخل وفي الخارج لرفضه، والبدء في توصيف الخصم الرئيس في هذه المعركة الذي بات يتجسد لا في النظام الأسدي فحسب بل في القوى المحتلة الروسية أولًا وأساسًا، والإيرانية ثانيًا؟ ألا يوجب ذلك نظريًا وعمليًا، ودون إهمال الظروف الدولية والإقليمية، إعادة النظر في الحسابات وفي الخطط وفي الخطابات وفي المفردات من أجل الخلاص من الاحتلال أيًا كانت جنسيته، بدءاً بالاحتلال الروسي؟

** نشر على موقع جيرون، الخميس 4 كانون الثاني/يناير 2018