jeudi 26 octobre 2017


مديح  الفنان: شاهدًا وشهيدًا

بدرالدين عرودكي 
ما أكثر ما تدور على الألسنة عبارات تقول استحالة الحياة لولا هذا الفن أو ذاك، تارة الموسيقا وأخرى الغناء وثالثة الشعر في تجلياته المختلفة عبر فنون الكتابة كلها، ورابعة فنون العمارة على اختلافها.. لكنها تتجاهل، هذه العبارات أو تنسى، من يحيي، وهو يبذل نفسه، هذا الفن الذي، لولاه، لفقدت الحياة أجمل معانيها.
كنتُ أتابع ذات يوم شرحًا مفصلًا كانت تقدمه أستاذة البيانو لابنتي حول البناء المعماري لسوناتا بيتهوفن (لا باسيوناتا) التي كانت تعزفها لها. وكنت أرى كيف كان أدق أداء لهذه العلامة الموسيقية أو تلك في القوة أو الخفة، في السرعة أو في البطء، في المدِّ أو في الاختصار، يشارك في انسجام المجموع بحيث إذا ثقلت الإصبع على البيانو مقدار ذرة تغيرت ألوان العلامات الأخرى كلها وتخلخل البناء في مجموعه وضاع المعنى. ورأيت كيف يقوم التشابه بل قل تطابق التصميم البنيوي بين مختلف ضروب العمارة الفنية: من كاتدرائية نوتر دام بباريس أو بشارتر، إلى رواية سرفانتس الملحمية دون كيخوته أو رواية مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود، ومن قصيدة أرثر رامبو المركب السكران إلى غيرنيكا بابلو بيكاسو أو منحوتة أوغست رودان القبلة. وقل الأمر نفسه في الفنون التي عرفها العرب، منذ زمن المعلقات التي يكاد كل بيت فيها يؤلف قصيدة إعجازية لوحده، وما تلاها حتى يومنا هذا من إبداع شعري بات سمة القريحة العربية، مروراً بوجه خاص بفرادة القرآن وآياته، وليس انتهاءً بفنون الأداء الموسيقي أو المعماري أو القصصي وهي تستعيد في توليفات خارقة ثمرات حضارات متعاقبة أو متزامنة، مجددة شكلها ومعانيها ووظائفها.  
من كان وراء ذلك كله؟ في التراث الغربي كما في التراث العربي، وفي تراث أيِّ ثقافة أخرى، ثمة فئة اختارتها الأقدار ووهبتها الإرادة والطاقة والقدرة على صنع الجمال في تجلياته المختلفة وعلى العيش فيه ومن أجله مهما كلفها ذلك من عناء وعنت. فئة أنيط بكل فرد منها دور يؤديه راضيًا به ومقبلًا بكل وجوده على مهمة لا يستطيع دفعها أو التخلي عنها. لكن أكثرهم، بل جميعهم، لم يكن يرى فيما يفعله وسيلة ثراء أو سلطة، بل استجابة عفوية لنداء خفي لا يتوقف إلا لحظة إنجازٍ ما، كي يستأنف من جديد، كما لو كان يطلب المزيد. غير أنهم، جميعًا، سرعان ما يختفون وراء أوابدهم التي تقولهم وتتجاوزهم ما إن ينجزوها. ويكاد المرء وهو يتفطر ألمًا لما عاناه بعضهم من آلام أو عاهات خلال مسيرتهم الإبداعية، ويُؤخَذُ في الوقت نفسه إعجابًا وذهولًا بما صنعوه،  يتمنى لو أنهم أوتوا كذلك سمة أوابدهم كي يستمروا في الإبداع إلى ما لانهاية.. لكنها سنة الحياة.
لا حصر للأمثلة في ثقافات الأمم جميعًا. يستوي فيها كل من تلقى شعلة النور الفريد في صدره فطفق يعمل بلا هوادة حتى يحقق ما بدا له أنه خلق لأجله. لا أزال أذكر تفاصيل ما قصّه علينا، تلامذة الصفوف الإعدادية في ثانوية ابن خلدون بدمشق، صميم الشريف، أستاذ الموسيقا يومئذ، والذي كان له فضل ولعي، منذئذ، بالموسيقا الكلاسيكية، وهي القصة التي أعود إليها في مظانها اليوم تثبيتًا لها كي أستعيدها هنا مثلًا.
 لودفيغ فان بيتهوفن: لم يكن بوسعه ذلك اليوم، السابع من شهر أيار 1824، قيادة الفرقة السمفونية لعزف آخر أو قمّة السمفونيات كما قال عنها ريشارد فاغنر، تلك التي ستكرس، من بعدُ، كأعظم عمَلٍ موسيقيّ عرفه العالم الغربي في تاريخ الموسيقا، بدأ التفكيرَ والعملَ فيه منذ أن قرأ قصيدة فريديريك شيللر "نشيد الفرح" وهو في سنواته الثانية والعشرين، ولم ينجزه إلا بعد ربع قرن وقبل رحيله بسنوات ثلاث. لكنه كان على مقربة من الفرقة وهي تعزفه للمرة الأولى، يؤشر للعازفين، الذين طلب إليهم قائد الفرقة عدم الانتباه إليه، بوتيرة الزمن؛ ويسمع بعينيه متابعًا علامات السمفونية التاسعة على المخطوط الذي كتبه بيديه طوال ما يقارب السبعين دقيقة. وحين صدحت الفرقة بآخر علامة فيها، هبَّ الجمهور واقفًا يصفق إعجابًا واحترامًا لمن أعجزه صمَمٌ كان قد أصاب أذنيه عن سماع ما أبدعته عبقريته لآذان وسمْع ووعي الآخرين. كان بيتهوفن لا يزال يتابع بعينيه آخر علامات تحفتِه، حين اقتربت منه الكونترالتو كارولين أونغر وأمسكته برفق من كتفيْه كي تحمله على أن يستدير، وتجعله يسمع بعينيه مرة أخرى ويرى كيف كان الجمهور يعبر عن إعجابه بالأيادي والقبعات المرفوعة بلا توقف. لم يكن ذلك ما كان يتطلع إليه. كان ما أراده وعمل من أجله طوال سنوات شبابه، أن يرقى بموسيقاه إلى مستوى القصيدة التي أذهلته، والتي صارت منذئذ همّه اليومي: كتب الكثير من القطع الموسيقية من وحيها طوال ما يقرب من ربع قرن، إلى أن استقر على خاتمة مبدعاته، سمفونيته التاسعة، فخلدها ومُبدِعَها فيها من حيث لا يدري.
كان هو نفسه الذي مزق إهداءَ سمفونيته الثالثة كان كتبه لبونابرت حين اعتلى هذا الأخير عرش الإمبراطورية؛ وكان هو نفسه، أيضًا، من فرَضَ احترام الموسيقيين جميعًا، حين رفض الدخول من الباب المخصص لهم في القصور التي كانوا يدعون للعزف فيها، مُصِرًّا على أن يُعلَنَ عن دخوله كأي نبيل آخر، بما أنه نبْلُ الفنّ مجسدًا. لا تزال وستبقى موسيقاه تصدح في أرجاء العالم كله ما بقي هذا العالم، تبث الجمال وتحض على الأمل. ولا تزال سمفونيته التاسعة التي جعلت أوربا منها نشيدها الرسمي تثير كوامن الفرح والأخوة الإنسانية حتى في أشد الظروف الإنسانية بؤسًا ومرارة.
ومع بيتهوفن، هل يمكن أن يجهل كل من تذوق الموسيقا الكلاسيكية مثل موسيقيٍّ، معجزة هو الآخر، آماديوس موزارت، وُهِب القدرة على أن يبدأ في آن واحد مسار مؤلف موسيقي وعازف بيانو وكمان في السادسة من عمره، وعلى أن ينجز في أقل من ثلاثين عامًا من المبدعات الموسيقية لا ما يثير الذهول في الكم وفي الكيف وفي التنوع فحسب، بل في الجمال المطلق، بما يبثه من فرح وغبطة، سواء في سمفونياته أو أوبراته التي جعل فيها لغته الأم، الألمانية، لغة للغناء الأوبرالي، بعد أن كانت اللغة الإيطالية وحدها هي اللغة المعتمدة. لكنه لم  يحظ بشيء من الغبطة أو الفرح الدنيويين في السنوات التي عاشها سوى ما كانت تمنحه له مبدعاته المنجزة من متعة روحية لا يعرفها إلا المُبدعون. فكان من فرط انصرافه إليها وحدها أن عاش فقيرًا ولم يحظ حتى بقبر يحتضن جثمانه فدفن في مقبرة جماعية.
تلك آيات معظم المبدعين. لا يسألون شهرة أو ثروة أو سلطة. يستجيبون لهذا النداء الذي يقبض على أنفاسهم لا يستطيعون منه فكاكًا. ولنا في سوى هذين الموسيقيين أمثلة لا تحصى من الكتاب والشعراء والفنانين التشكيليين والنحاتين. كلهم سواء في ما يوحى إليهم، كلٌّ في ميدانه، وفيما يعانونه بشرًا في حياتهم اليومية التي لا يعرفون فيها إلا ما يعملون على إنجازه..
قد يكون في هذه الأمثلة ما يفيد بعض الذين، على ما أوتوا من موهبة، يستعجلون الوصول قبل نضوج الثمرة التي يحملونها، أو قبل انتشار ضوء الشعلة التي انطوت عليها صدورهم. لعلهم يعتبرون. 

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 26 تشرين أول/أكتوبر 2017.


jeudi 19 octobre 2017


في تبعيّة القرار العربي 
بدرالدين عرودكي 
من بعض أهم ما طرحته الثورة السورية وهي تكشف مختلف الأغطية عن سَوْءات الواقع السوري خصوصًا والعربي عمومًا، كان التساؤل عن صناعة القرار في كل بلد عربي: هل القرار العربي في شؤون السياسة الخارجية والداخلية مستقل تمام الاستقلال؟ أين وكيف يصنع القرار الذي يوقع عليه الحاكم العربي اليوم؟ ما هو مدى استقلاله، وإلى أي حدٍّ ينسجم مع المصالح الوطنية ويستجيب إلى متطلبات الإرادة الشعبية العامة؟
ذلك أن العالم العربي عاش سنوات ربع القرن التالي على نهاية الحرب العالمية الثانية مختلف معارك الاستقلال السياسي ثمَّ، وبصورة خاصة، معارك امتلاك القرار الوطني المستقل. ولقد دفعت الشعوب العربية لقاء محاولات الانتقال من الاستقلال السياسي إلى استقلال القرار الوطني ثمنًا باهظًا على كل صعيد. ولم يكن بين بعض أهداف حروب إسرائيل، ولاسيما في عامي 1956 و1967 بوجه خاص، إلا الحيلولة دون القدرة على اتخاذ أي قرار سياسي يمثل الإرادة الشعبية الحقيقية، ويجسِّدُ الاستقلال الحقيقي.
ومنذ بداية سبعينيات القرن الماضي، تراجعت هذه الإرادة السياسية تدريجيًا لدى حكومات الدول العربية التي خاضت تلك المعارك ولاسيما مصر، تحت وطأة الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية. وبات كل قرار مصيري يشي بصانعه أو بمصدره أو بمن فرضه. ولم يتضح ذلك في عالمنا العربي مثلما اتضح خلال السنوات الست الماضية.
إذ أن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد، تباين مواقف كلِّ واحدة من بعض حكومات الدول العربية إزاء كلِّ واحد من الحراكات الثورية التي انطلقت بصورة متزامنة قبل نيف وست سنوات في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن. فقد كان هذا الاختلاف في موقف هذه الدولة أو تلك من الثورة في تونس أو في مصر من ناحية، وفي موقفها من الثورة في سورية أو في البحرين يثير الشك في مصداقية قرار الوقوف مع الثورة هنا أو ضد تلك الثورة هناك. لم إذ لم يشهد العالم العربي، خلال ما يقارب أربعين عامًا من الكمون، مثل هذا التناغم في المطالب وفي طبيعة الحراك وفي الأهداف المعلنة. ومع ذلك، وعلى غرار إيران رغم الاختلاف العميق عنها في الدوافع والمقاصد، رحَّب البعض بالحراك في تونس وفي مصر وأدانه البعض الآخر، أو استنكر هذا الحراك في تونس ومصر والبحرين والبحرين، ورحب به في سورية وفي اليمن. هذا في الوقت الذي كانت فيه شعوب العالم ــ لا حكوماته بالضرورة ــ تقف مذهولة أمام ما كان يجري في هذه البلدان خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2011 ودلالاته التاريخية قبل أن تنقضَّ عليه أفاعيل الثورة المضادة بصورة أو بأخرى في معظم البلدان المشار إليها، وتحيله إلى دمار مبرمج للبشر وللحجر في سورية.
وإذا كان من الممكن فهم أو تبرير تباين المواقف فيما بين الدول التي تلافت على عجل كل حراك نذير بها إزاء هذا الحراك الثوري شبه العام، فإنه لم يكن مفهومًا أن تقف هذه الدولة أو تلك مواقف مباركة للحراك هنا ومندّدة بمثيله هناك. ومع ذلك، بدا أن القوى التي تصدت من بعد لتمثيل الحراك الثوري في البلدان المعنية قد غضت النظر عن مواقف هذه الدول، لاسيما حين بدأت هذه الأخيرة تبدي اهتمامًا غير عادي بما يجري بلغ حدَّ التدخل مباشرة وميدانيًا، من دون أي تنسيق أو تفاهم فيما بينها، سواء في توجيه مختلف الهيئات التي تصدت للقيادة أو للتمثيل، أو في اعتماد ودعم بعض القوى شبه العسكرية التي كانت تتكاثر كالفطر في طول البلاد وعرضها، بما يتيح لها امتلاك القدرة الفعلية على توجيهها حسب خططها الخاصة بها. كانت هذه التدخلات، وهي في معظمها من وراء ستار، تقوم في آن واحد بدور ثورة مضادة غير معلنة، وبدعم غير مباشر للنظام الذي لم يسقط بفعل ما كان يلقاه من حليفيْه الإيراني والروسي، وكل ذلك باسم دعم الثورة السورية ضد النظام الأسدي الذي يجب أن يتم إسقاطه سلمًا أو حربًا كما كان يصرح أكثر من مرة وبلهجة حاسمة أحد وزراء الخارجية العرب كلما سُئل عن مصير الأسد.
لقد بدا بالفعل قبل سنتين أن إرادة الدول الغربية الكبرى تميل إلى إسقاط النظام الأسدي؛ وكانت بعض الأسماء البديلة مطروحة على موائد المباحثات السرية وغير الرسمية بباريس ولندن. لكن سرعان ما أرغمت العمليات الإرهابية باريس في تشرين الثاني 2015 على أن تستبدل أولوياتها بخصوص إسقاط النظام الأسدي، وتبعتها لندن من بعدُ، كي ينسجما في موقفيهما مع موقف واشنطن شكلًا ومضمونًا. تزامن ذلك مع صدور قرار مجلس الأمن 2254 في كانون الأول من العام المشار إليه، وباتت التسوية السياسية بقيادة روسيا قرارًا دوليًا والمرجعية الأخيرة وشبه الوحيدة التي وجب على بقية الدول الإقليمية أن تتكيف معها.  
في تحليل المواقف من طبيعة ومآل هذه التسوية يمكن أن تتضح طبيعة القرار السياسي ومدى استقلاله أو تبعيته أو امتثاليته لدى كل من الدول المعنية أو المنخرطة بهذا القدر أو ذاك بما صار يسمى "الأزمة السورية" ولا سيما منها الدول العربية. فقد بات واضحًا أن التسوية السياسية لا تقتضي بالضرورة، أو لن تؤدي إلى،  تنحية رأس النظام الأسدي عن الحكم. كما أن أستانة استبدلت بجنيف مثلما استبدل القرار 2254 حسب التفسير الروسي كمرجعية ببيان جنيف الأول عام 2012. ذلك ما يشهد على ويؤكد غلبة الإرادتين الروسية والإيرانية اللتين لم تتراجعا في أية لحظة عن تمسكهما بالنظام الأسدي وبرأسه تحديدًا مادام يخدم مصالحهما المعلنة والخفية. تبعًا لذلك، كان على تركيا أن تقوم بانعطافة كاملة في هذا المجال بعد أن ضمنت حرية العمل بكل الوسائل الممكنة من أجل الحيلولة دون قيام دولة كردية على حدودها. أما الدول العربية المنخرطة بصورة أو بأخرى في سورية، فقد وجدنا أن "الواقعية السياسية" من وجهة نظرها سرعان ما دفعتها إلى التماهي مع الموقف الذي بات دوليّا، واقعية تقتضي ــ أو ترغم على ــ القبول بما كان محّرّمًا من قبل: بقاء الأسد على رأس السلطة أثناء المرحلة الانتقالية.
لا يمكن للقرار الوطني أن يكون مستقلًا إن لم يصدر عن دولة تملك مصيرها ومصير شعبها. ولا يمكن لأية دولة امتلاك هذا المصير إن لم تمتلك وسائل حمايته: استقلال سياسي تدعمه قاعدة اقتصادية قوية، ونظام حكم تمثيلي يؤدي وظيفته بالإرادة الشعبية التي جاءت به والتي تحميه في مواجهة أية قوة خارجية تريد النيل منه أو ومن قراره.
هل نجد مثل هذه الدول في عالمنا العربي؟ وهل يمكن اعتبار أي قرار يصدر عنها قرارًا وطنيًا مستقلًا حين لا يستجيب إلا لإرادة غير إرادتها ولا لأيّ مصلحة يمكن أن تلتقي مع مصالح بلدها؟


* نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 19 تشرين أول 2017


jeudi 12 octobre 2017


حين  يكون المثقف حرًّا  
 بدرالدين عرودكي 
لم  يكن ما طرحته الثورة السورية خصوصًا، والوضع السوري الناتج عنها في مجمله، من أسئلة على المثقفين العرب والسوريين منهم بوجه خاص، يختلف في قليل أو كثير عما طرحته أوضاع مماثلة في في بقاع أخرى من العالم، وفي فترات متباينة شهدها وعاشها عصرنا منذ نهاية القرن التاسع عشر مع قضية دريفوس، مرورًا بالنازية والمسألة اليهودية، والستالينية ومعسكرات الاعتقال والأشغال الشاقة (الغولاغ)، وليس انتهاء بقيام دولة إسرائيل واعتمادها دولة غير خاضعة لضرورات القانون الدولي في حقوله جميعًا. كان جوهر هذه الأسئلة يتمثل في معنى الحرية وفي معنى ممارستها. ويستطيع كل من يعود إلى أدبيات هذه الفترات أن يتحقق كيف تجسد هذا المعنى لا تعريفًا فحسب بل ممارسة بكل ما كان يؤدي إليه ذلك من عنت ورفض وجدال ونزاعات.    
كان الفيلسوف الألماني كانط يرى، مستعيدًا لما سبق لأفلاطون أن قاله، أن الفلسفة ليست معرفة كل شيء بل هي معرفة الذات بوصفها مبدأ مقاربة الحرية. بذلك، يضع الفلسفة نفسها لا في إطار التفكير التجريدي بل في إطار الممارسة والفعل، بما أن مفهوم الحرية نفسه لا يتجسد جوهرًا ومعنىً إلا في الفعل، وفي حمل الأعباء التي تؤدي إليها نتائجه.
أكثر الأمثلة دلالة على طريقة مقاربة الحرية من خلال ممارستها ضمن هذا المفهوم مثلان شهدتهما الفترة المشار إليها. أولهما قضية دريفوس والموقف الذي اتخذه الروائي الفرنسي إميل زولا، والثاني السياسة الصهيونية في فلسطين خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي ومناهضة الفيلسوفة الألمانية اليهودية حنة آرانت للمشروع الذي كانت هذه السياسة تستهدف تحقيقه في فلسطين.
المثل الأول: في عام 1894، اتُّهِمَ ألفريد دريفوس، الضابط في الجيش الفرنسي، بالتجسس، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالتجريد من الرتبة العسكرية وبالنفي إلى جزيرة إبليس. وقد تبين بعد سنتين من الحكم أنه بني على وثائق مزورة، وأن ضابطاً آخر، إسترهازي، كان هو المذنب الحقيقي. ومع ذلك، حوكم هذا الأخير وأعلنت براءته في حين أعيدت محاكمة دريفوس وثبتت إدانته. وهو ما دفع إميل زولا إلى كتابة رسالته الشهيرة المفتوحة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، نشرتها جريدة "الفجر"، التي كان السياسي الفرنسي كليمنصو قد أسسها، يوم 13 كانون الثاني 1898 تحت عنوان اختاره كليمنصو نفسه: "إني أتهم!". رسالة جاءت في صورة مرافعة كثيفة وطويلة احتلت صفحتين من صفحات الجريدة على ستة أعمدة، بدأها زولا مذكراً ظروف القضية واكتشاف الملف وإدانة دريفوس، ثم اكتشاف المذنب الحقيقي وبالتالي خيانة القائد إسترهازي وتبرئته المخزية، منتهياً إلى اتهام وزير الحربية، وضباط هيئة الأركان، والخبراء الذي استدعتهم المحكمة خلال محاكمة إسترهازي، بوصفهم مسؤولين جميعًا عن إدانة بريء وتبرئة مذنب. اعتبرت هذه الرسالة / المرافعة صرحاً أدبيًا بما تضمنته من معلومات صحيحة ودقيقة. لكن هذه الرسالة التي أثارت ضجة هائلة في الأوساط السياسية والشعبية أدت بكاتبها إلى قيام الحكومة بملاحقته وملاحقة الجريدة. سوى أن هذه الملاحقة التي أدت إلى إدانته يوم 23 شباط 1898 أثارت دعاية  إعلامية مذهلة نتج عنها انقسام الجمهور بين مؤيد ومناهض لدريفوس، وكشفت في الوقت نفسه للعالم ما كان يحيط بالقضية من عبث وتزييف، و سببت أزمة سياسية وأخلاقية لم تنته إلا بإعادة الحكومة الفرنسية  الاعتبار إلى دريفوس عام 1906.
من الواضح أنه لم يكن سهلًا على إميل زولا أن يتخذ هذا الموقف القاطع والجريء في وجه حكومة بلده وكافة قياداتها العسكرية والسياسية. لكنه فعل ذلك بأسمى معنى للحرية كما عناها كانط نظرًا وفعلًا.
المثل الثاني: في عام 1944، كتبت حنا آرنت نصًا تاريخيًا وسياسيًا حول جوهر الصهيونية تضمن نقدًا عنيفًا لسياسة المنظمة الصهيونية التي باتت شديدة الوضوح آنئذ في فلسطين. اقترحت النصَّ في البدء على مجلة كومنتري (Commentary) التي رفضت نشره بحجة إمكانية اتهامها ــ هي اليهودية ــ بالعداء للسامية! لكن مجلة مينورا جورنال (Menorah Journal )  نشرته في تشرين الأول من ذلك العام تحت عنوان: إعادة النظر في الصهيونية، وقد كان هذا النصُّ مؤسِّسًا لبحوث أخرى قادتها إلى كتابها أصول الشمولية.  يقدم مجمل هذا البحث وصفًا لفشل الصهيونية بوصفها حركة تحرر ضلت طريقها وغرقت في مستنقع الواقعية السياسية، ونقدًا للقرار الذي اتخذه أكبر قسم من المنظمة الصهيونية العالمية مطالبًا بأرض يهودية حرة وديمقراطية تتضمن كل أرض فلسطين بلا تقسيم. فقدد رأت أنه يؤلف ضربة قاصمة للأحزاب اليسارية التي ناضلت من أجل التفاهم بين العرب واليهود، وأنه يعزز سياسة ورؤية بن غوريون؛ ورأت في السياسة التي تتبعها المنظمة الصهيونية في فلسطين سياسة انتهازية ومتناقضة وغير منطقية إزاء العرب الذين عاشوا ولا يزالوا يعيشون على هذه الأرض، وانتهت إلى أنه لا يمكن للمشروع الصهيوني أن يوجد إلا إذا قبل العرب. ذلك أن الحكومات، كما أشارت، تمضي لكن الشعوب تبقى، وأنه يكفي النظر في الخريطة كي يتبين المرء استحالة استمرار وجود دولة يهودية في فلسطين بمعزل عن قبول مسبق من العرب، وإلا كان وجودها قابلًا للانهيار.
وفي السياق نفسه، وباسم محكمة الذاكرة، تلاحق حنة آرانت الصهاينة وتعتبرهم مسؤولين ومتهمين بجريمة التعاون مع هتلر اعتبارًا من عام 1933. وكان لديها من الشجاعة ما حملها على التذكير بهذه المفاوضات بين الصهاينة والمسؤولين النازيين، التي بدأت غداة وصول هتلر إلى السلطة وقامت على مصالح مشتركة: فهتلر يريد اليهود خارج ألمانيا، والصهيونية تريدهم في فلسطين. أدت هذه المفاوضات إلى اتفاق رأى فيه بعض اليهود أنفسهم اتفاقًا يقوم على "بيع الأمة اليهودية نفسها لقاء أجرة عاهرة". بهذا التذكير بالذات، وفي الوقت الذي كانت تحظى بدعم الجميع في العالم، شككت حنة آرانت بطبيعة الحركة الصهيونية ذاتها وبفشلها الكامل كحركة تحرر.  
بسبب هذه المواقف الصارمة التي تعبر عن المعنى الأعمق للحرية، فقدت حنة آرانت معظم صداقاتها الحميمة أو علاقاتها مع أقرب الناس إليها. حاول الجميع ثنيها عما كتبته، لا بل إن أحدهم طالبها باعتذار رسمي وعلني عما كتبته بوصفه "جريمة بحق اليهود" ــ لكنه مع ذلك لم يصل إلى اتهامها بمعاداة السامية ــ. ولا تزال كتاباتها حول هذا الموضوع موضع نقد شديد وتأويل يتعثر في تبرير حججه أمام صلابة القيم التي اعتمدها خطابها في الأساس.
كما نرى، يقدم كل من إميل زولا وحنة آرانت ــ وسواهما كثير في أوربا وفي الولايات المتحدة ــ مثلاً على الكيفية التي يمارس فيها المثقف حريته الكاملة التي لا تكتسب معناها إلا حين يعتمد في مواقفه قيمًا إنسانية، وعلى شجاعة أخلاقية ضرورية لكي يواجه بمواقفه هذه ضروب الاستنكار والرفض على صعيد الجماهير، أو الملاحقة القضائية والإدانة على صعيد السلطات الرسمية، أو كلاهما معًا. ولعل هذا المعنى بالذات، وهذه المواقف الصلبة القائمة على القيم الأساس في الحياة الإنسانية، هو ما كانت الثورة السورية بأمسِّ الحاجة إليه في سنواتها الماضية. لا يعني هذا الحديث المثقفين الذين اكتشفوا انتماءاتهم الطائفية مع خروج الشعب السوري ضد النظام الأسدي. إذ أنهم بهذا الاكتشاف ــ وأيًا كانت قيمة إبداعاتهم ــ إنما خانوا دور المثقف كما يقدمه المثلان السابقان. أما الآخرون، فقد تشابه على الكثير منهم دور المثقف ودور السياسي ودور الأجير، فقاموا، حسب كفاءاتهم الانتهازية،  بالأدوار الثلاثة معًا، أو بدور المثقف الذي طغى عليه دور السياسي فأفقدوا الدور الأول معناه، أو بدور الأجير حين لم يكن على وعي بدور المثقف أو بدور السياسي.
وربما وجب أن يجري الحديث بتفصيل أكثر عن هذه الأدوار التي شهدتها الثورة السورية خلال السنوات الأخيرة.

** نشر هذا المقال على موقع جيرون يوم الخميس 12 تشرين أول 2017.



jeudi 5 octobre 2017


قراءة  في فوضى الأولويات 
 بدرالدين عرودكي  
ما الذي كان يعنيه هذا الصراع الخفيٍّ والمرير بين مختلف أطراف الصراع في بلدان المنطقة العربية ومحيطها المباشر على تحديد الأولويات ومحاولة كل طرف فرض أولوياته على خصومه بوصفها هدفًا استراتيجيًا، من العراق الذي باتت الحرب بين أولويات مختلف الأطراف  فيه قائمة علانية وعلى كل الصّعُد، إلى ليبيا، ومرورًا بدول الخليج؟  وما الذي كان يعنيه هذا الصراع القائم، خصوصًا في سورية، بين شعب خرج يطالب بحريته وبكرامته بعد خمسين عامًا من الاستبداد والقهر ونظام شرس في البداية ومَنْ حلّ تدريجيًا محله من بعدُ وصار ناطقًا ــ فعليًا ــ  باسمه من حلفائه؟  
كانت أولوية الثوار السوريين في بداية حراكهم عام 2011  استعادة الكرامة والحرية المهدورتين. وكانت أولوية النظام الأسدي وهو يردُّ، تغييب أولوية الثوار بل وطمسها عبر الترويج لأولويات أخرى متزامنة في طرحها، ومتناقضة في ظاهرها، لكنها متحدة في وظيفتها وفي أهدافها. وبدت ساحة الصراع طوال العام الأول من الثورة كما لو كانت قاصرة على طرفين لا ثالث في الظاهر لغيرهما: جماهير الشعب السوري في مختلف المدن السورية، والنظام الأسدي عبر مؤسسات الدولة السورية الرئيسة (وفي المقام الأول منها المؤسسات الأمنية والجيش والإعلام)، والتي اتضح شيئًا فشيئًا أنه كان قد هيأها لمثل هذه المواجهة تجهيزًا وتنظيمًا وقيادات. لكن الحليفين الإيراني والروسي، الأول على الصعيد الإقليمي وقبل أن يدخل صراحة طرفًا في الحرب ضد الشعب السوري من خلال وكيله الحصري في لبنان، حزب الله، ومستشاريه العسكريين وقيادات الحرس الثوري الإيراني، كان يتواجد على الساحة ومن وراء ستار من خلال خبراء فنيّين خصوصًا في مواجهة المظاهرات ماديًا وتقنيًا، لما له من خبرة في قمع مختلف ضروب التمرد والحراكات الثورية التي عرفتها إيران منذ عام 1979؛ والثاني على الصعيد الدولي، دعمًا دبلوماسيًا وعسكريًا في البداية ثم وجودًا مادياً في سماء سورية وعلى أراضيها، هما من صار يحدد الأولويات التي تناسب سياستيهما من خلال توافق تتقدم فيه مصالح روسيا على المصالح الإيرانية بفعل حجمها الدولي وقوتها الحاسمة، فضلًا عن التواطؤ الذي استحال توافقاً بينها وبين واشنطن حول الوضع السوري، لا تعرقل بموجبه الثانية إدارة الأولى للصراع في سورية حسب مفهومها ومصالحها بما لا يمس بطبيعة الحال المصالح الأمريكية العلية في المنطقة ومن ضمنها إسرائيل.   
صاغ النظام الأسدي في البداية أولوياته من خلال مجموعة من الخيارات تسمح له إذن بتغييب ثم طمس ثم استبدال أولويته الأساس بأولوية من خرجوا ينادون بإسقاطه. وكان ما رفعه في وجه الثوار من مسميات لوقائع وهمية: المؤامرة الكونية والإمارات السلفية من جهة، وضرورة الحوار اعترافًا بـ"المطالب الشعبية الاجتماعية المُحِقَّة" من خلال مؤتمرات نظمها بين ممثليه وعلى أرفع مستوى وبين ممثلي مختلف هيئات وأحزاب وكتل المعارضة (ولم يكن معظمهم بل وربما جميعهم وراء أو على صلة مباشرة بانفجار الشارع السوري). لكن أولويته الأساس كانت القضاء على الحراك الثوري بأي ثمن؛ أما الأولوية التي استخدمها على صعيدي الإعلام والدبلوماسية في المحافل الدولية فكانت تتخذ صيغًا مختلفة، بدءًا من القضاء على "السلفيين الذين خرجوا على سلطة الدولة" وانتهاءً بالأولوية التي استقر عليها وحلفاؤه بعد أن صارت شماعة تعلق عليها حجج الدول والهيئات دفاعًا عن سياساتها، ونعني بها "القضاء على الإرهاب". وقد استطاع بالفعل، بدعم حاسم من حلفائه جميعاً وبلسان روسيا، قولًا وفعلًا، أن يجعل من الأولية التي أطلقها بنصيحة منها أولوية الدول الكبرى جميعًا، ولاسيما الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن: أولوية على جدول أعمال المفاوضات المتتالية في جنيف وفيينا وأستانة، وأولوية في العمل العسكري بإضفاء صفة الإرهاب على كل من يحمل السلاح ضد النظام الأسدي، وأولوية في العمل الدبلوماسي حين شهدنا إثر عمليتيْن قامت بهما داعش كيف استبدلت فرنسا مثلًا أولوية القضاء على الإرهاب بأولوية الخلاص من رأس النظام الأسدي، بحيث انتهى الأمر إلى العمل بصورة أو بأخرى على تعويم هذا الأخير والعمل على إعادة تأهيله إقليميًا ودوليًا.
هكذا لبست أولوية القضاء على الحراك الثوري السوري وطمس مطالبه ثم محوها أولوية القضاء على الإرهاب، تحت سمع ونظر دول العالم كله، وفي مقدمتها الأقربون، أعني معظم الدول العربية، التي كانت تضبط إيقاع سياساتها على إيقاع سياسات الدول الكبرى التابعة لها والأولى بينها: الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يكن ذلك هو النهج الذي اتبعته المعارضات التي تصدت لحمل مطالب الشعب السوري الثائر. فالنظام الأسدي كان بلا شك ماهرًا في المناورة على الصعد كافة، يداري سياسيًا، مفوِّضًا نائب رئيس الجمهورية برئاسة مؤتمر الحوار، وفي الآن نفسه رافضًا أي تنازل لأهل درعا الذين قلعت أظافر أطفالهم المعتقلين، وبادئًا في التصعيد حين كلف رجال الأمن بإطلاق الرصاص ضد المتظاهرين متهمًا بإطلاقه "المندسين" من "السلفيين"، بما يشي بحقيقة مواقفه وحقيقة الأولوية التي كرسها منذ البداية أساسًا لسياسته التي تبين فيما بعد أنها بحذافيرها سياسة إيران وروسيا، كل منهما بلغته ورطانته. في حين وقعت المعارضات على اختلافها في حبائل مناورات النظام الذي تمكن من زرع بذور الاختلاف بين صفوفها، والحيلولة بكل الطرق دون اتفاقها على أولوية واحدة تكون شعارها وأساس برنامج واحد لعملها. كانت الأولويات لديها كثيرة كأولويات النظام. لكن، بقدر ما كانت كثرتها تعكس شرذمتها، بقدر ما كانت كثرة أولويات النظام تقول وحدته وتصميمه مناوراته. وعلى أن الذين خرجوا يواجهون الرصاص بصدورهم العارية كانوا قد حددوا أولويتهم: إسقاط النظام ورحيل رأسه، وأنه كان بوسع فصائل المعارضات على اختلافها أن تتلقف هذه الأولوية وتتبناها قولًا واحدًا، فإن ما حدث في الواقع هو الاختلاف على تبنيها، وعدم استطاعتها خلال السنوات الست كلها أن تجتمع على أولوية واحدة تحدد نهجها وسلوكها ومواقفها. وبمعزل عما شهدناه من تفاوت شديد في مستوى القدرات والخبرات السياسية لدى من توالوا على تمثيل هذه المعارضات في المحافل الدولية ، فضلًا عن غياب الإمكانات التنظيمية في مجالات الخطاب والإعلام الضرورية في مواجهة أعتى نظام عرفه العالم العربي في عصره الحديث، فقد كانت استحالة الوحدة أو الاجتماع على أولوية أو أولويات يتطلبها العمل النضالي والسياسي كافية لتبديد الأوهام والآمال معًا. وكان غياب المناورة، حتى في اختيار الأولويات، دليل ضعف في الخبرة السياسية والنضالية حملت الجميع على سوء الظن الشديد بمن يمكن أن يمسك بمفاتيح حكم سورية إن تمَّ التخلص من الأسد وأعوانه، ولا سيما رئيس الولايات المتحدة السابق الذي وصف رجال المعارضات السورية بما لا يليق به وبها.
خلاصة المشهد اليوم يمكن أن تكون: فوضى الأولويات الكارثي لدى المعارضات السورية، واستخدامها الخبيث لدى النظام الأسدي وحلفائه، والنتيجة: محاولات فرض النظام الأسدي على الشعب السوري إلى أجل غير محدود..
 كما لو أن شيئًا لم يحدث..  كما لو..

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 5 تشرين أول 2017.