jeudi 27 juillet 2017



احتواء المثقف  والثقافة

 بدرالدين عرودكي 
حين نشر الشاعر نزار قباني في مجلة الآداب اللبنانية عام 1954 قصيدته "خبز وحشيش وقمر"، وكان في ذلك الوقت دبلوماسيًا في سفارة سورية بلندن، وقف مصطفى الزرقاء، أستاذ الفقه الإسلامي العلم في جامعة دمشق، وكان نائبًا عن حركة الإخوان المسلمين، في المجلس النيابي السوري، يندد بالقصيدة وكاتبها، ويطالب من تحت قبة مجلس ممثلي الشعب بإجراء حاسم ضد "رجل يمثلنا ويعرض صورة عنا في قصيدة داعرة". وبعد نقاش عاصف حول القصيدة وموضوعها، انتهى الأمر بعدد من النواب إلى أن يزوروا في اليوم التالي للجلسة، وزير الخارجية، خالد العظم آنذاك، كي يطلبوا منه إحالة القباني على لجنة تأديبية. وكان جواب الوزير بعد أن قرأ ملف الموظف نزار قباني قوله: "أحب أن أصارحكم إن وزارة الخارجية السورية فيها نزاران: نزار قباني الموظف ونزار قباني الشاعر، أما نزار قباني الموظف فملفه أمامي وهو ملف جيد ويثبت أنه من خيرة موظفي هذه الوزارة، أما نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعرًا، وأنا كوزير للخارجية، لا سلطة لي عليه، ولا علي شعره. فإذا كنتم تقولون إنه هجاكم بقصيدة.. فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة.. وكفى الله المؤمنين شر القتال."
لم تكن في سورية آنذاك وزارة للثقافة، ولم يكن ثمة وجود لأي هيئة حكومية أو شبه حكومية تعنى بشؤون الكتاب أو الأدباء على غرار ما ستشهده سورية من بعد. وكان أقصى ما يمكن للشاعر أو الكاتب في سورية أن يواجهه في ممارسة حريته هو ما يمكن لأي شاعر كاتب في الدول الديمقراطية أن يواجهه: نقد لاذع وصارم كذلك الذي كتبه على الطنطاوي  في مجلة الرسالة المصرية إثر صدور"قالت لي السمراء"، وهو أول ديوان شعري لنزار قباني، عام 1944، أو المطالبة بـ"تأديبه" من أجل مقال أو قصيدة دون أن يستدعي مثل هذا الطلب أي قبول من السلطة السياسية. فلكل مقام مقال، وليس من شأن السلطة السياسية ــ كما جسدها موقف ممثلها آنذاك، خالد العظم ــ إلا أن تحاسب موظفيها على طريقة أدائهم وظائفهم، لا على أقوالهم أو كتاباتهم.
لم يكن ثمة في سورية إذن، ما يمكن أن يُطلق عليه "إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة السياسية". لكن من الممكن تسجيل ولادة هذه الأخيرة عندما قررت السلطة السياسية ذات يوم "احتواء الثقافة" وقامت من أجل ذلك بتأسيس أول وزارة ثقافة فيها، وفي العالم العربي أساسًا، عام 1958، وكان ذلك أيام الوحدة السورية المصرية، أي في الوقت الذي أنشئت فيه وزارة مماثلة، وفي التاريخ نفسه، بمصر أيضًا. وبفعل التباين في مسار الوزارتين بين البلدين، خلال سنوات الوحدة، على صعيد التنظيم والإنجاز، ثم، من بعد الانفصال، على صعيد المسار السياسي في كل من البلدين، فسيكون هناك مجال في بحث هذه الإشكالية لمقارنة نشوئها وتطورها في كلٍّ من البلدين اللذين كانا سبّاقين في العالم العربي لإنشاء هذه الوزارة. على أن وضعًا تاريخيًا مشابهًا يتيح لنا إمكان عقد مقارنة أخرى مع بلد غربي، كان هو الآخر سبّاقاً في أورباً لإنشاء وزارة للثقافة، ونعني به فرنسا، التي كان الجنرال ديغول قد قرر إنشاءها في بداية عام 1959، أي بعد سنة من مصر وسورية.
كان الاسم الرسمي للوزارة في البداية "وزارة الثقافة والإرشاد القومي". ذلك أنها في مصر جاءت بعد وزارة الإرشاد القومي التي كانت قائمة فيها قبل الوحدة السورية المصرية، وتم إدراج مهامها ضمن مهام الوزارة الجديدة. ولا يخفى بالطبع المعنى المراد من "الإرشاد القومي". وهو ما يحمل على اعتبار أن الولادة الفعلية لإشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة قد بدأت مع إنشاء هذه الوزارة.
على أن وزارة الثقافة في سورية لم تحظ، لا عند انطلاقتها خلال سنوات الوحدة، ولا في مسارها خلال السنوات العشر التي تلت انفصالها، بما حظيت به سميّتها في مصر عند ولادتها. إذ خلافاً لهذه الأخيرة، توالى عليها خلال سنوات الوحدة خمسة وزراء كان آخرهم للمفارقة وزير الثقافة المصري، ثروت عكاشة، الذي كان عبد الناصر قد كلفه بها منذ إنشائها بمصر في شباط/فبراير 1958؛ لكنه لم يمارس مهامه فيها إلا خمسة وأربعين يوماً، جال خلالها في عدد من المحافظات السورية لدراسة تكييف خطته التي دشن تطبيقها في مصر مع الوضع السوري. سوى أن حركة الانفصال لم تترك له مجال متابعة ما بدأه، واضطرته إلى مغادرة دمشق في اليوم التالي لوقوعها! ثم توالى عليها أيضًا، وحتى الانقلاب الأسدي عام 1970، أربعة عشر وزيراً لم تتح لأي منهم كذلك فرصة زمنية كافية لوضع خطة عمل متكاملة كما فعل ثروت عكاشة على رأس وزارته في مصر خلال السنتيْن الأوليتيْن من وجوده فيها.
والحقيقة أن دور وزارة الثقافة خلال الفترة التي تلت الانفصال ثم الانقلاب البعثي عام 1963 وحتى عام 1970، كان في سورية محدوداً في التأثير على علاقة المثقف بالسلطة نظرًا إلى دخول عوامل جديدة أخرى مؤثرة في نسج هذه العلاقة وتكييفها مع ما يلائم الوضع الانقلابي الذي أدى إلى هيمنة الحزب الواحد على المجتمع السوري. كان أولها منع الصحف التي عادت إلى الظهور بعد انفصال الوحدة، والاقتصار على صحيفتين أحداهما ناطقة باسم الحزب والأخرى باسم الحكومة، وتلتها الرقابة في وزارة الإعلام التي أنشئت منذ عام 1961 للإشراف على كل وسائل الإعلام ولاسيما التلفزيون والإذاعة، ثم إنشاء الهيئات "النقابية" حسب القطاعات الاجتماعية المختلفة: العمال، والفلاحون، والطلبة، والشبيبة، ثم اتحاد الصحافيين واتحاد الكتاب.
كانت عملية تأطير المجتمع تجري بخطى حثيثة، مع خضوعها، في السنوات الأولى من حكم البعث، إلى التقلبات الناتجة عن صراعات مختلف الأجنحة التي انتهت بإزاحة القيادة المدنية التاريخية للحزب لصالح القيادة العسكرية في الثالث والعشرين من شباط 1966. ولسوف تقوم وزارة الإعلام بالدور الأساس في مجال الهيمنة التدريجية خلال هذه الفترة، بين 1963 و1976، على نشر الكتب والمطبوعات غير الدورية من خلال إجازتها والسماح بطبعها ثم السماح بتداولها أو منع كل ذلك، وفي مجال إجازة أو منع إدخال المطبوعات الدورية وغير الدورية الواردة إلى سورية، فضلاً عن الترخيص لدور النشر وفقاً للشروط والضوابط التي تضعها السلطات السياسية والإشراف على عملها بالتعاون مع اتحاد الناشرين السوريين.
هكذا كان يتم احتواء الثقافة والمثقف في سورية تدريجياً. لم يعد بوسع المثقف السوري (والسوريين جميعاً) أن يقرأ إلا ما يُراد له أن يقرأ مما تسمح به السلطة السياسية عبر وزارة الإعلام سواء بالنسبة إلى ما يطبع داخل سورية أو مما يَرِدُ إليها من خارج حدودها أيًا كان مصدرها، عربيًا أم أجنبيًا. كان كل ذلك قبل أن يعلن رئيس الحركة الانقلابية العسكرية (التي سميت الحركة التصحيحية!) في مجال الحريات العامة للمثقف وللثقافة جملته الشهيرة: "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير".
جملة لا يمكن بطبيعة الحال أن يختم بها الحديث إلا إن كانت له صلة!

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 27 تموز/يوليو 2017.


jeudi 20 juillet 2017


في فهم ما يجري، أين الخلل؟
بدرالدين عرودكي
فجأة، يخرج إمانويل ماكرون، رئيس الجمهورية الفرنسية الجديد،  ليكرر بصيغة رسمية متماسكة ما سبق أن قاله قبل ثلاثة أسابيع من ذلك، في حديث صحفي بصيغة لا تخلو من بعض الرعونة الدبلوماسية، حول "عدو الشعب السوري" الذي يمكن له البقاء في وظيفته بما أنه ليس "عدو فرنسا". فقد قال بالحرف الواحد في مؤتمر صحفي عقده مع الرئيس الأمريكي يوم 13 تموز الحالي: "لن نجعل من رحيل بشار الأسد شرطًا مسبقًا لمشاركة فرنسا" في المباحثات حول سورية. "لقد غيّرنا في الحقيقة الرؤية الفرنسية إزاء سورية من أجل تحقيق بعض النتائج والعمل بصورة وثيقة مع شركائنا، وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية". إذ بخلاف منافسيه من اليمينيْن التقليدي والمتطرف، أو من اليسار المتطرف، الذين أعلنوا صراحة عن ضرورة التعاون مع بوتين في الشأن السوري، لم يكن في كل تصريحات ماكرون مرشحًا لرئاسة الجمهورية ما ينبئ بهذا الانعطاف الجذري في موقف فرنسا من المسألة السورية. فهل كان هذا التغيير مفاجئاً بالفعل؟ نعلم جميعًا أن الأولويات الفرنسية في ما يخص الشأن السوري قد تغيرت منذ كبرى العمليات الإرهابية بباريس في كانون الثاني ثم في تشرين الثاني عام 2015 حين أعلنت الرئاسة الفرنسية يومها عن تغيير في ترتيب الأولويات، ووضعت مقاومة الإرهاب، وتحديداً قتال داعش، في أولى أولوياتها، وبات شرط إسقاط الأسد في أية عملية انتقالية يحتل مرتبة تالية.
هكذا، وبإلغاء هذا الشرط المسبق الذي كان أساسًا مطلب الشعب السوري الذي خرج في آذار 2011 رافعًا مطلب الكرامة والحرية ومناديًا بسقوط الأسد ونظامه، تنضمُّ آخر دولة غربية إلى دول أخرى سبقتها وكانت أطلقت على نفسها مجموعة "أصدقاء الشعب السوري"، الشعب الذي بات اليوم حقًا بلا أصدقاء. لقد كان واضحاً منذ سنوات كيف أمكن من وراء الإلحاح على مكافحة الإرهاب في سورية تحديدًا، أن يبلغ النظام الأسدي ومن وراءه، بالتدريج، مرامَهم في إلغاء كل أثر لثورة الشعب السوري، وفي محو، أو على الأقل في إزاحة، كل ما بذله ولا يزال يبذله طوال نيف وست سنوات من تضحيات في سبيل تحقيق ما خرج من أجله. صار الهدف الآن تحقيق اتفاقات وقف للقتال في المناطق السورية تبرمها الولايات المتحدة وروسيا من فوق رأس الجميع وعلى الجميع أن ينصاع لها كما جرى في منطقة جنوب سورية وكما سيجري تدريجيًا وبالطريقة نفسها في مناطق أخرى.
أين الخلل؟ كيف أمكن أن تُخفى أو تختفي، شيئًا فشيئًا، كل التضحيات والآلام وضروب العذاب وراء المشهد الحالي؟ هل هو تأثير العوامل الخارجية وفعل القوى التي سرعان ما أطبقت على ثورة السوريين واستحوذت عليها مادة ومعنى ورمزًا؟ أم هو في قصور من تصدى لتمثيل الثورة من أفراد وهيئات ومجالس وجماعات ومنصات تقاسمت العواصم "الصديقة" لممارسة نشاطها والتعبير عن مواقفها التي كانت تلائم سياسة العاصمة التي تتواجد كل واحدة منها فيها؟ أم هو بفعل الإثنيْن معًا؟
لن يفيد اللجوء إلى نظرية المؤامرة، فضلاً عن أنه لن يكون مجديًا أو ذا معنى على كل حال. ومن المؤكد أن الجواب الذي قد يكون أكثر ملاءمة (وأكثر راحة أيضًا للتخلص من كل مسؤولية) يتمثل في القول بأن ما حدث حتى الآن كان نتيجة تفاعل العوامل الخارجية والداخلية معًا، وأنه لا يمكن الحديث عن إحداها دون الحديث عن الأخرى. وسواء أكان خيار الإجابة اعتماد هذه أو تلك من العوامل، فإن التساؤل لابدَّ أن يمسَّ ــ من أجل الحكم على فهم ما جرى ويجري والسلوك تالياً بمقتضاه ــ مدى دقة تحليلاتٍ لا حصر لها، سواء تناولت العوامل الخارجية أو العوامل الداخلية، والدرجة التي أمكن لها، حتى مع دقتها، أن تخلو أو أن تتجنب التفسيرات الأيديولوجية أو الصيغ الجاهزة أو السرديات النمطية التي تحفل بها عادة مختلف الدراسات، الأكاديمية أو المقالات الإعلامية، حين يتعلق الأمر بالصراعات أو العلاقات الدولية.
لقد جرت العادة في السرديات الأيديولوجية حول مشكلات العالم العربي منذ خمسينيات القرن الماضي على توجيه أصابع الاتهام تارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة العربية، وتارة أخرى إلى الاتحاد السوفياتي وحلفائه المحليين. وبسبب ذلك، أو ربما لذلك على وجه التحديد، ندرت الدراسات التحليلية الجادة التي تعتمد مناهج الدراسات في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتستدعي مختلف العوامل الفاعلة والمؤثرة في هذا الصراع أو ذاك، كي تبني نتائجها على المعطيات الملموسة أو تلك التي تستخلصها من وثائق أو دراسات أخرى ذات مصداقية علمية معترف بها.
ومن المؤسف أن هذه العادة لا تزال متبّعة في الوقت الراهن في معظم ما يصل إلينا من دراسات وتحليلات، غربية وعربية، رغم تغير الظروف والنظم والمصالح دوليًا وإقليميًا. إذ كثيرًا ما تتسلل ميول الباحثين الأيديولوجية، بما في ذلك كبارهم، إلى تحليلاتهم، فتفقدها جدواها العلمية وتنحدر بها إلى ما لا يليق بمنجزيها أو بالمراكز البحثية التي مولتها.
ولعل أكبر مثل على ذلك ما نقرؤه في بعض الدراسات التي تتناول الأوضاع الراهنة في المنطقة العربية والدول المجاورة لها والتي تنطلق في تحليلها لمعظم ما يحدث فيها منذ نيّف وربع قرن من مشروع الولايات المتحدة الذي يستهدف إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، دون الانتباه إلى تسلل السرديات النمطية ذات الطبيعة الأيديولوجية إلى تحليلها والخلخلة التي تصيب من ثمَّ نتائجه. فهل يمكن اليوم لباحث جاد فعلًا، على سبيل المثال، أن يؤكد في مثل هذا التحليل على اعتبار إيران دولة معادية للأمبريالية، مع أنه يكتب في البحث نفسه أن الثورة الإيرانية الشعبية صودرت من قبل الهيئة الدينية التي استأثرت بها وحولتها إلى ثورة "إسلامية"؟ وكيف يمكن إضفاء أية مصداقية علمية على بحث لا يتناسى ما حدث في سورية عام 2011 بوصفه ثورة شعبية أو حراكاً جماهيرياً ذا طبيعة ثورية فحسب، بل يعتبر أن منشأ "المأساة السورية" هو دفع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة بالجهاديين المتطرفين من أجل قلب "النظام القائم" الذي "لا يسير في ركابها"، كي ينتهي إلى أن يأخذ على تصريحات بعض المسؤولين الأوربيين "شيطنة الرئيس" بشار الأسد ونظامه كما لو كان هذا الأخير بحاجة فعلًا إلى من يشيطنه هو ونظامه؟  أيضًا، كيف يمكن لبحث يتجاهل كليًا طبيعة الأنظمة التي تحكم المنطقة أو اعتبارها بكل بساطة عاملًا ثانويًا في دراسته صراع القوى الكبرى والإقليمية ومآلاتها في المنطقة العربية؟ وماذا يمكن أن توصف به مثل هذه الأبحاث التي تنشر على أنها تتناول الوضع الراهن في "منطقة الشرق الأوسط" التي كتبت مؤخرًا ونشرت هذا العام والتي تتجاهل مع ذلك حين تناولها "المأساة السورية" تواجد إيران العسكري ومعه كافة الميليشيات العاملة معها فضلاً عن الوجود العسكري الروسي الهائل في سماء سورية وعلى أراضيها؟ كذلك، هل يمكن لبحث جادّ فعلًا أن يوَصِّف الحرب التي تخوضها إيران في سورية مباشرة واعتمادًا على ميليشيات وكيلها في لبنان حرب الشيعة ضد السنة؟ أليس في ذلك ترويج لسردية نمطية تلغي بكل بساطة أو سذاجة عوامل التاريخ والجغرافيا في ثوابتهما خصوصًا؟
تلك عينة قصوى ولا شك من محاولات فهم ما يجري في المنطقة العربية وتحديدًا في شرق البحر المتوسط لكنها شديدة الدلالة في الوقت نفسه على ضروب التحليل والتفسير والفهم تحيل بالضرورة إلى طبيعة المواقف وردود الفعل لدى كل من يتواجدون في موقع المسؤولية اليوم في الغرب ويستمعون إليها بطريقة أو بأخرى.
وهو ما يطلق عليه بقدر كبير من الرعونة أحيانًا السياسة الواقعية..

 ** نشر على موقع جيرون في 20 تموز،يوليو 2017.




jeudi 13 juillet 2017


مِحَنُ المثقف العربي 
بدرالدين عرودكي 
أراد ابن المقفع الكاتب والمترجم وصاحب "كليلة ودمنة"، وهو في أوج شبابه، أن ينصح للخليفة المنصور وقد تبوأ سدة الخلافة في أمور الجند والبطانة والخراج وما إلى ذلك من شؤون الحكم وأعبائه، فكتب كتابًا، على أنه كان سبب هلاكه، لم يشتهر به وهو كتاب "رسالة الصحابة". ويبدو أن مضمون هذا الكتاب هو ما أوغر صدر الخليفة على مؤلفه، فأسرّها في نفسه، إلى أن حانت فرصة وجد فيها ضالته، فأمر عامله سفيان بن معاوية المهلبي بقتله، وكان ابن المقفع آنئذ في السادسة والثلاثين من عمره. فهيأ له تنوراً، وألقى فيه بكل عضو من أعضائه، واحدًا بعد الآخر، أمام عينيْه، وقيل إنه أرغمه على أكل بعضها، حتى أتى على جميع جسده ثم أطبق عليه التنور.
لم أقرأ، بل ولا أظن أن أحدًا من أبناء جيلي قد قرأ، هذه القصة التاريخية في أي كتاب مدرسي، ولا أظن، كذلك، أن أبناء الأجيال التالية قد ظفروا بقراءتها وهم يقبلون على معرفة تاريخهم، ومن ضمنه تاريخ حرية الخطاب. من الواضح أن ذلك ينطوي ، بطبيعة الحال، على أكثر من معنى ودلالة. يندرج ضمن ذلك، أيضًا، أن كتب التاريخ القديم التي سردت هذه القصة في روايات متباينة في التفاصيل، اجتمعت مع ذلك على طبيعة السبب الذي حدا بالخليفة إلى الأمر بقتله، وهو سبب لا علاقة له كما ورد في كتاباتهم بما كتبه في "رسالة الصحابة" الذي وجَّهَهُ إلى الخليفة من قبل!
على أن الأمر في تاريخنا لم يقتصر على ابن المقفع وحده. واجه كتابٌ وفقهاء آخرون ما واجهه. فبعضهم ذاق مرارة السجن والتعذيب كالإمام مالك بن أنس في المدينة، وبعضهم عرف السجن ثم القتل فيه مسمومًا كالإمام أبو حنيفة ــ وقد صارت محنته مضرب المثل ــ  الذي لم يقبل أن يتبوأ منصب القضاء، مواجهًا إصرار الخليفة المنصور على قبوله بإصرار لا يقل تصميمًا على رفضه؛ وبعضهم الآخر نجا، كالجاحظ، حين قال مبررًا هروبه بعد أن ألقى الخليفة المتوكل بصديقه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات في التنور: "لا أريد أن أكون ثاني اثنيْن إذ هما في التنور"!
ومع ذلك، كما لو أن هناك رغبة خفية ــ لدى مؤرخي السلاطنة، قديمًا وحديثًا، على وجه الاحتمال ــ في أن يشاع أو يذاع أن المثقف العربي أو الفقيه الإسلامي كان دوماً يسير حسب هوى السلطان، وفي أن أحدًا منهم لم يجرؤ على الخروج عن طاعته أو عن السير في ركابه. هذا على وجود أعدادٍ لا تحصى من أؤلئك الذين ائتمروا بأمر الخلفاء، فساقوا فتاواهم واجتهاداتهم على ما يُراد منهم أن يفعلوه، حين وظفوا، في سبيل ذلك، براعاتهم في التأويل، ومهاراتهم في لوي أعناق النصوص، أو في تثبيت سلامة هذا الحديث النبوي، أو في إنكار صحة ذاك.
لذلك، لا بد أن تُقال مِحْنَة المثقفين على أكثر من معنى لا على معنى واحد. محنة مفروضة، وهي تلك التي تنطوي على معاناة التنكيل والعذاب والإهانة وفقدان الحرية وصولاً إلى القتل؛ ومحنة إرادية أو اختيارية، أي تلك التي تنطوي على دلالات أخلاقية بما تحمله من الخنوع والذل والاستزلام، يعانيها واعياً أو غير واع من يقبل من المثقفين بشروطها لقاء حفنة من مال أو نصيب من جاه.
عرف بعض مثقفي ماضينا التاريخي، كلٌّ على شاكلته، هذه المحنة أو تلك. لكن الذين حفظ التاريخ لنا أسماءهم، هم مَن اقترنت أسماؤهم بالمحنة حتى قيل محنة أبي حنيفة، ثم يذكر أمثاله من بعده ممن ساروا على غراره في احترامهم لفكرهم ونفورهم من إغراءات السلطان أو الجاه أو المال. أما الآخرون فقد وضع التاريخ أسماءهم حيث يجب أن توضع، وترك أعمالهم تضيع في سراديب ظلماته.
وكأنما المحنة في معنييْها باتت تقليدًا تعجز السنون عن تغييره أو استبداله. فهو، على اختلاف الأنظمة والناس والمشكلات، لا يزال في جوهره حيًّا مستمرًا. لقد رأينا في عصرنا الحديث أمثال هؤلاء وأؤلئك. رأينا كيف نُزِعَتْ عمامة العلماء عن رأس علي عبد الرازق، بعد صدور كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، على أيدي أقرانه الذين كانوا يخضعون في سلوكهم للسلطان آنئذ، وكيف طرده هؤلاء من حلقتهم. وشهدنا كيف هوجم طه حسين بعد نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، واستُخْدِمَ في نعته كل ضروب البذاءة، ولا يزال يتلقى مثلها من البعض حتى اليوم. كما رأينا كيف أن عبد الرحمن الكواكبي الذي لم يتردد في إعلان الاستبداد عدوًا، مندِّدًا بالذين يستكينون له خوفًا أو نفاقًا، ومهيبًا بالناس أن يثوروا ويستيقظوا، كيف عاش في منفاه المصري وكيف لوحق فيه حتى قتله مسموماً.
كان ذلك قبل ما سيقارب اليوم من مائة عام. لكننا نشهد الآن ما يكاد يفقأ العيون كل يوم من صفاقة وتلفيق وكذب وممالأة من جهة، وضروب من التضحية قل مثيلها من جهة أخرى. رأينا بأمِّ أعيننا كيف اعتقل وسجن وعذب وقتل مِنَ الشباب مَنِ ارتجلوا أنفسهم صحافيين في بداية الثورة السورية. ورأينا كيف انفجرت أصوات سورية بدَت جديدة لم يكن يسمع بها أحد من قبل، ملأت الصحف والمدونات. لكننا شهدنا في الوقت نفسه سدنة الأنظمة وخدّامها كيف وظفوا مواهبهم في التسبيح بحمدها، لا بل في تزييف الحقائق لصالحها، فضلًا عن ممارسة كل ضروب التنصل من المسؤولية وتزييف الحقائق العيانية.
محنة المثقفين، في معناها الحقيقي، يعانيها من فرضت عليهم نظم الاستبداد اليوم عذاب السجون، أو من أكرهتهم على الهجرة، فقبلوا بها كي يتمكنوا من متابعة عملهم، بعد أن قضى بعضهم في السجون زهرة سنوات عمره، أو كان بعضهم الآخر يعيش مطاردًا تحت طائلة السجن أو القتل.
المحنة ذاتها في صورة أخرى: أن يعاني كل مثقف يخلص للقيم الإنسانية، بعيدًا عن الهويات القاتلة والانتماءات الطائفية والمطامح  الرخيصة، من عزلة قاتلة في سوق تهيمن عليه قيم السلعة والشهرة، وتديره أنساق الاستبداد في عالمنا العربي بكل أطيافها وألوانها. هؤلاء وأؤلئك هم الذين أوتوا الحكمة، الحكمة في أجلى وأجمل معانيها الإنسانية.
لكن هناك المحنة الأخلاقية، الأشدّ وبالًا وفضيحة، تلك التي بات يعيش في ظلها طيف واسع من المثقفين والفقهاء والصحافيين ممن نراهم ينتشرون فرادى في كتاباتهم، لكنهم يرددون في جوقة متناسقة الجمل ذاتها و"الأفكار" ذاتها والشعارات المهترئة ذاتها، خدمة لأرباب عملهم من سادة أو سدنة الأنظمة الاستبدادية التي تسود اليوم عالمنا العربي من مشرقه إلى مغربه. جُمَلٌ جاهزة، و"حِكمٌ" بالية، يرددونها صباح مساء على شاشات الفضائيات إذ يُؤمرون ببثها، أو في كتاباتهم إذ يطلب إليهم نشرها. لا فرق بينهم وبين النظم الشمولية التي عرفها العالم في القرن الماضي حين اختفت التعددية، وغاب الاختلاف، وذاب الأفراد في كتلة واحدة متراصة تتخذ الوجه الذي يرسم ملامحه النظام الشمولي الذي تنتمي إليه.
مِحَنُ المثقفين العرب لا تزال تجسِّدُ اليوم هذا الواقع العربي في مختلف إشكالاته المأساوية.

** نشر على موقع جيرون، الخميس 13 تموز 2017.



jeudi 6 juillet 2017


قناع "حزب الله" الأخير 
بدرالدين عرودكي 
لم تكن صور مشاهد السوريين ممدين أرضاً على بطونهم في عرسال تحت رقابة جنود من الجيش اللبناني نشرتها الصحف مؤخراً، وكذلك تلك التي سربت عن تعذيب آخرين من السوريين أثناء التحقيق معهم، إلا تكرارًا لصور مشاهد أخرى كانت تتم على أيدي جنود الأسد أو شبيحته أو عملائه، مماثلة في عنفها وشناعتها، ومتطابقة في الرسائل التي أراد مسربوها بثها عبرها. ملأت هذه الأخيرة من قبل وطوال سنوات صفحات وشاشات الوسائل الإعلامية على اختلافها في العالم كله، مثلما أذاعتها مختلف وسائل التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية. كان النظام الأسدي وحلفاؤه وعملاؤه يحاولون أن يرهبوا بها من خرجوا يطالبون بالحرية وبالكرامة. فكانت الرسالة واضحة: لا حرية للسوريين مادام تنظيم الأسد قائماً، ولا كرامة لهم وحلفاؤه من مرتزقة إيران في لبنان المنضوين تحت راية "حزب الله" يعيثون جرائمَ وفسادًا في الأرض السورية، ويشوهون بأفعالهم ومزاعمهم كلَّ معاني النضال والمقاومة والتضامن والأريحية التي وسمت حياة السوريين، حتى باتت تقليداً راسخًا في تاريخهم، لا منذ ضياع فلسطين، بل منذ أن وطأت أقدام المستعمرين الأراضي العربية بدءًا من الجزائر والمغرب الأقصى وانتهاء بالعراق.
ست سنوات من الثورة أيضاً، من أجل استعادة الحرية والكرامة، وكذلك وخصوصًا من أجل استعادة المعاني الحقيقية لمفاهيم فُرِّغَت من مضامينها بالكذب والنفاق والجريمة والعمالة والخيانة وكان عنوانها الاستثمار في الطائفية تشجيعًا عليها وتحريضًا من أجل تتويجها سلوكًا ورؤية وسياسة.
وها هي المشاهد الجديدة في عرسال تستعيد صورًا طبق الأصل، في الأوضاع وفي الإخراج، ولصالح مَنْ وضعوا عليها توقيع "الدولة" و "الجيش" في لبنان عن كل ما سبق للسوريين أن رأوه من قبل، مع فارق واحد جديد، هذه المرة، لا يقال علنًا، بل يشحن بكل ما يحمل على فهمه فعلًا: العنصرية، لا  في أبشع معانيها فحسب، بل في أكثر صورها إثارة لضرب من السخرية مريرة.
لا يحتاج المراقب إلى كبير عناء كي يفهم في هذه الحلقة الأخيرة، التي أريد لها أن تكون أكثر صراخًا وشناعة، كي يعرف مَنِ الذي يختبئ وراء ما أريد له أن يظهر بوصفه فعل "الدولة" وممارسة "الجيش" في لبنان. إذ ليس من قبيل الصدفة أن نلاحظ أن هذه "الدولة" التي يعجز ممثلوها عن القيام بأبسط واجباتهم تجاه مواطنيها، تهرع فجأة إلى مخيمات اللاجئين السوريين كي تستعيد، عن طريق المشاهد التي رأيناها، هيبتها الممرغة في التراب. ولا يمكن لأحد أن يجهل أو يتجاهل أن الحزب اللبناني الذي يرتكب جرائمه الموصوفة والطائفية في سورية، ويتواجد فيها لا بقراره، بل بقرار من أنشأه ولا يزال يضخ فيه القوة والحياة، وكل ذلك باسم "المقاومة" و"الممانعة"، هو الحزب الوحيد الذي يبرر لنفسه بقوة الترسانة العسكرية التي يملكها، أن يكون فوق الدولة وفوق الجيش، وأن يسخِّرهما ـ بالتالي ـ لخدمة أهداف القوة الإقليمية التي يدين لها بوجوده وباستمراره. سيحاول البعض تنزيه الجيش اللبناني عن هذه الممارسات الشنيعة بحق من يفترض به حمايتهم. سوى أن الجيش اللبناني، حتى كتابة هذه السطور على الأقل، لم يتبرأ ــ إن لم أكن مخطئاً ــ مما نشر على أنه فعله وممارسته.
ما يمكن أن يراه الناس من فرق بين مشاهد السوريين ممددين على الأرض أو صور تعذيبهم في عرسال أو صور التمثيل المريعة بجثامين من ماتوا أثناء اعتقالهم،  وبين تلك التي رأوا مثيلها في مختلف المناطق السورية خلال السنوات الست الماضية  هو "لبنانيتها". فما يُرادُ لهم أن يفهموه، أن السوري اليوم يُهان أو يعذب من قبل "اللبناني". وحين يقدم اللبناني على أنه الجيش أو الدولة، فهذا يعني كل لبناني، لا مجرد أؤلئك الذين يأتمرون بأوامر مندوب إيران السامي في لبنان. وهذا على وجه الدقة ما أراد حزب الله ورب عمله بطهران أن يستثمرا فيه هذه المرة، بعد أن استنفذا سواه من مجالات الاستثمار الأخرى. ذلك أنه سبق لحزب الله وشارك مباركًا وفاعلًا في جعل اللبنانيين يعانون شرَّ أنواع الهوان تحت هيمنة السلطة الأسدية عليهم ثلاثين عاماً. ولم يكن يقال إن هذه الهيمنة هي فعل نظام استبدادي، بل كان يقال عنها "هيمنة السوريين"، في الوقت الذي كان فيه السوريون أنفسهم، مثلهم مثل اللبنانيين، يعيشون تحت وطأتها ويعانون مثلهم من شرورها. بذلك يضيف حزب الله ومن وراءه إلى جرائمهم، جرائمَ تجذير وتأصيل نزعة عنصرية لاشك بوجودها لدى حفنة من اللبنانيين تجاه السوريين، كي تنسحب على جميع اللبنانيين الذين يعانون اليوم، هم أيضًا، من هذه السلطة خارج كل سلطة، ومن هذا الاحتلال الذي لا يشبه أي احتلال آخر، ومن هذا الحزب الذي اتخذ من اسم الله اسمًا مستعارًا لضرورات "العمل"، وكان واضحاً منذ اللحظة الأولى التي ولد فيها أنه حزب إيران ومندوبها السامي في لبنان.
يعلم قادة هذا الحزب وأرباب عملهم بطهران ما الذي يعتمل في نفوس السوريين ضد هؤلاء الرجال الذين جُنِّدوا واستنفروا من بقاع لبنان أو من جنوبه بحجج واهية أو كاذبة، للمجيء إلى سورية حاملين راياتهم الصفراء، كي يعززوا سلطة الأسد وزمرته، فأعملوا في قراها وأراضيها قتلًا ونهبًا وتخريبًا. كما يعلمون أن السوريين لا يجهلون هوية من يقف وراء التحريض على الإساءة إلى من لجأ منهم مكرهًا إلى لبنان بعد أن جُرِّدوا من كل ما يملكونه: قراهم وبيوتهم وأموالهم، في القلمون خصوصًا. ويدركون أنه لن تقوى الأيام ولا السنون على محو شرور أعمالهم من الذاكرة السورية وأن هذه الأخيرة ستكون لهم، تعييناً، بالمرصاد في يومٍ لن يكون بعيدًا. فكان لابد لهم من أن يستنسخوا بعضًا من جرائمهم في سورية، ضد السوريين على الأرض اللبنانية، هذه المرة، بعد أن صاروا فيها لاجئين. وهاهو حزب الله ، حاكم لبنان الفعلي اليوم، وبدعم من حلفائه المحليين، ينجز ذلك، لا باسمه مباشرة وعلى رؤوس الأشهاد هذه المرة، كما فعل في سورية، بل باسم اللبنانيين وعلى يد من يعلن إعلامه مسؤوليتهم: الدولة والجيش. أي لبنان كله!
يتطلع حزب الله ورب عمله بطهران إلى تبرير وجوده في سورية عن طريق الزج باللبنانيين جميعاً، حتى لو تطلب ذلك منه تشويه سمعة أهم رموزهم، الجيش، من خلال استخدام هذا الأخير غطاءً لممارساته ذات الطابع العنصري الصريح في عرسال، حيث يتواجد اللاجئون السوريون الذين وصل الأمر بوسائل إعلامه وإعلام حلفائه إلى أن تطالب بإخراجهم من لبنان.  
هكذا، بعد أن استثمر في الطائفية حتى استنفاذ كافة طاقاتها، لم يبق لحزب الله إلا العنصرية التي أرد استثمار وجودها لدى بعض اللبنانيين كي يعممه عليهم جميعًا، مستخدمًا كافة إمكاناته التلفيقية والإجرامية والإعلامية التي أتقن استغلالها في سورية ويريد أن يجعل منها مثلًا يحتذى في لبنان بدءًا بالسوريين الذين كان هو بالذات وأرباب عمله بطهران وراء لجوئهم.
سوى أن حبل الكذب ــ كما يرى السوريون ــ قصير. وإن غدًا كما يقولون عادة ــ لناظره قريب.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 6 تموز/يوليو 2017.