samedi 29 avril 2017


الرواية  والموسيقا 
بدرالدين عرودكي 
لم يكن الشاعر والناقد الفرنسي ستيفان مالارميه (1842 ـ 1898) يتحدث عن الرواية حين كتب: "كل مرة يوجد جهد مبذول من أجل الأسلوب، يوجد شعر منظوم". لكن قراءة كبار روائيي أوربا في القرن التاسع عشر، كبلزاك (1799 ـ 1850) وفلوبير (1821 ـ 1880) وستندال (1783 ـ 1842)، أو في القرن العشرين، كمارسيل بروست (1871 ـ 1922) وأندريه جيد (1869 ـ 1951) وفرانز كافكا (1883 ـ 1924)، على سبيل المثال لا الحصر، تكشف عن قيام مؤلفيها بتطبيق متقن لهذه العبارة. فقد كان ستندال يجهد كي يبلغ بأسلوبه مستوى صوغ القانون المدني الذي يجتهد القضاة في تفسير مواده وفي دراسة مدلولاتها، من أجل الوصول إلى منح قرائه أكبر قدر من الحرية في فهم رواياته أو في تأويلها. في حين ذهب جهد فلوبير لإنجاز ما يمكن أن يطلق عليه كمال الأسلوب، في إيقاع الجملة وموسيقاها وكلماتها المختارة باقتصاد شديد في العدد، وغنى بلا حدود في المعاني. حتى أنه كان يقرأ ما يكتبه بصوت عال فيما عرف لديه بـ"غرفة الصراخgueuloir " كي يحكم على إيقاع جُمَلِهِ وموسيقاها، مُشذِّباً هنا ومُعَدِّلًا هناك، إلى أن يبلغ ما يرمي إليه.
لكن الأسلوب، على أهميته القصوى، لم يكن العنصر الوحيد الممكن للمقارنة بين الرواية والموسيقا. ذلك أن عناصر القرابة بين هذين العالميْن عديدة ومتباينة. ويكاد فن العمارة الدقيق يؤلف القاسم المشترك الأعظم بينهما، لا في اعتماده الرياضيات أساسًا فحسب، بل في فيض الدلالات التي يقدمها العمل المنجز في كل من هذه الميادين: الموسيقا والعمارة والرواية. فأيُّ تحليلٍ بنيوي، على سبيل المثال، لواحد من مُبدَعات بيتهوفن (1770 ـ 1827) أو موزارت (1756 ـ 1791) الموسيقية، سوناتا أو سمفونية أو كونشرتو، شأن ذلك الذي يقوم به أساتذة الموسيقى أمام تلامذته، أو قائد الأوركسترا أمام عازفيه، لبيان تناغمّ عناصر المبدع المتباينة ودور كلٍّ منها في أداء وظيفته التي تتكامل مع وظائف العناصر الأخرى المختلفة، يتيح، عن طريق المقارنة، إدراك التماثل في العلاقات القائمة بين مختلف العناصر التي نجدها في الرواية التي كتبها  معاصرو بيتهوفن أو من جاؤوا بعده، أو في تلك نعثر عليها في تقويم أي مُبدع معماري.
سوى أن للعلاقة بين الموسيقى والرواية كما يبدو وضع متميز لدى عدد من الروائيين الذين ربطتهم بالموسيقا صلات شديدة الخصوصية. صلات تتمثل بالدرجة الأولى في اهتمام الروائي الشديد، بل والصارم أحيانًا، بالأسلوب؛ لكنه، حين لا يقتصر عليه، يتجاوزه ليبني إلى جانبها، أو معها، أو بوحي منها، أو باعتماد معمارها، روايته. ذلك كان على سبيل المثال، شأن أندريه جيد، ومارسيل بروست، وميلان كونديرا.
لم يكن أندريه جيد يستطيع مباشرةَ الكتابة يومياً قبل أن ينصرف إلى العزف على البيانو ساعة أو ساعتين. تحرِّضُه الموسيقى على الكتابة أو تدفعه إليها. ولعل هذا هو سبب تجليها، عالماً ونهجًا وأداءً، في سبْك الجُمَل وتعيين الإيقاعات في رواياته على اختلافها. لم يكن جيد يلجاً، كما كان فلوبير من قبله يفعل، إلى "غرفة الصراخ". لكن التسجيلات السمعية البصرية التي تسمح اليوم برؤيته وبسماعه وهو يقرأ بعضاً من نصوصه، تتيح سماع صوت يكاد يعزف الكلمات في لفظهِ لها واحدة وراء أخرى، كما لو كانت علامات موسيقية يؤديها وفق السرعة والطبقة الصوتية المطلوبة: سريعة جداً، سريعة أو قوية، رقيقة أو شديدة الرقة.. إلخ.
لا يختلف مارسيل بروست عن أندريه جيد في حبه للموسيقى الذي سيطبع، إلى جانب ولعه وإعجابه باللغة الفرنسية وثرائها وموسيقاها، مُبْدَعه الفريد: البحث عن الزمن المفقود. لا شك أنها تتواجد، معمارًا ومنهجًا، في كل سطر من سطور روايته. يتجلى ذلك الاهتمام القلق بكل كلمة، وبإيقاع كل جملة، في مخطوطات الرواية المتاحة اليوم، والتي تكشف عن بعض طرق العمل اليومي لدى بروست روائياً. كان بروست مولعًا بموسيقى فاغنر وبيتهوفن وشوبان وديبوسي وسيزار فرانك وكذلك كميل سان سانس. ومن سوناتا هذا الأخير للكمان والبيانو، إنما استوحى في من حب لسوان (التي تؤلف القسم الثاني من الجزء الافتتاحي لرواية البحث عن الزمن المفقود: من جانب منازل سوان) السوناتا والسباعية التخييليتين اللتين ألفهما فانتوي، وهو شخصية مؤلف موسيقي تخييلية أيضاً. سيلعب سماع السوناتا مرات عدة من قبل بطل الرواية شارل سوان، وبصورة خاصة الجملة الموسيقية القصيرة فيها التي جعلته يقع في غرام أوديت،  دورَ الكاشف للقارئ عن تطور علاقته الحميمة مع الموسيقا، وعن التغيرات المتوالية التي جعلته يحمل هذا الحب إلى ما وراء الواقع والزمان.  
لا تتواجد الموسيقا بصورة محسوسة وصريحة كشخصية من شخصيات الرواية إن جاز القول فحسب، بل تجعل من الرواية ذاتها، بفعل إيقاعاتها ومعمارها، مُبْدَعًا موسيقياً يقترب من أن يؤلف سمفونية هائلة كتبت بالكلمات. ألم تكن الموسيقى هي التي عبَّدَت الطريق أمام بروست في مراحل مختلفة من حياته، طفلاً فصبيًا فراشدًا، كي يصل إلى اكتشاف أنه، بفضل الفن، إنما يستطيع المرء أن ينتزع نفسه من عدم الزمان المفقود؟  
وشأن كبار روائيي القرن التاسع عشر والقرن العشرين، لا يشذ ميلان كونديرا، الموسيقي ابن الموسيقي، في عنايته الصارمة بالأسلوب لغة، وإيقاعاً، ودلالات. لكنه، وبطريقة تتماثل مع وتختلف في الوقت نفسه عن طريقة بروست، يسلك في الكتابة الروائية سبل الكتابة الموسيقية نفسها ولاسيما على صعيد المعمار، سواء من خلال عناصر الزمن، أو من خلال الشكل البوليفوني أو متعدد الأصوات. فهو كبروست، يُدْخِلُ الموسيقا في رواياته عبر تحليلات أو تأملات بعض شخصياته أو، أحيانًا، تأملاته الشخصية هو نفسه كمؤلف، أو من خلال استخدام مُبدَعٍ موسيقي ما، كاستخدامه كلازمة، رباعية بيتهوفن التي تعبر في روايته، خفة الكائن الهشة، حياة إحدى شخوص الرواية، تيريزا، في تأملات شخصية أخرى، توماس. لكنه يختلف عن بروست، حين يلجأ إلى عناصر المعمار الموسيقي، كي يجعل منها عناصر معماره الروائي. والحقيقة أنه يشير إلى ذلك صراحة في "محادثة حول فن التأليف" حين ذكر كيف أن رواياته كلها، باستثناء واحدة منها، تتألف من سبعة أجزاء:
"أريد أن يكون تقسيم الرواية إلى أجزاء، والأجزاء إلى فصول، والفصول إلى مقاطع، أي بعبارة أخرى: أريد أن يكون تمفصل الرواية شديد الوضوح. كلّ واحدٍ من الأجزاء السبعة هو كلٌّ في حدِّ ذاته. كلُّ واحدٍ منها يتسم بطريقته في القصّ: مثلاً رواية الحياة في مكان آخر:
الجزء الأول: قصٌّ "مستمرّ" (أي بوجود رابطة سببية بين الفصول)؛ الجزء الثاني : قصٌّ حلمي؛ الجزء الثالث: قصٌّ متقطع (أي بدون وجود رابطة سببية بين الفصول)؛ الجزء الرابع: قصٌّ بوليفوني؛ الجزء الخامس: قصٌّ مستمر؛ الجزء السادس: قصٌّ مستمر؛ الجزء السابع: قصٌّ بوليفوني. لكل جزء منظوره الخاص (أي أنه محكيٌّ من وجهة نظر أنا خيالي آخر). ولكل جزء طوله الخاص: إن نظام الأطوال في المزحة هو على هذا النحو: قصير جداً؛ قصير جداً؛ طويل؛ قصير؛ طويل؛ قصير؛ طويل. أما في الحياة هي في مكان آخر فالنظام معكوس: طويل؛ قصير؛ طويل؛ قصير؛ طويل؛ قصير جداً؛ قصير جداً. أما الفصول فإنني أريد أن يكون كلٌّ منها كلاً صغيراً في حد ذاته. لهذا ألحّ على ناشريّ أن يوضحوا الأرقام وأن يفصلوا الفصول بعضها عن البعض الآخر بكثير من الوضوح. (إنّ الحل المثالي هو الحلّ الذي اتبعته دار جاليمار الفرنسية: كلّ فصل يبدأ على صفحة جديدة). اسمح لي أن أقارن مرة أخرى الرواية بالموسيقى. إنّ الجزء هو حركة. أما الفصول فهي وحدات القياس. ووحدات القياس هذه هي إما قصيرة أو طويلة أو ذات ديمومة غير منتظمة. الأمر الذي يقودنا إلى مسألة الإيقاع. إن كل جزء من رواياتي يمكن أن يحمل إشارة موسيقية تدلّ على إيقاعه: موديراتو، برستو، آداجيو، إلخ."
أما بالنسبة إلى الإيقاع، فهو يتحدد بالعلاقة بين طول جزء ما وعدد الفصول التي يحتويها، تماماً كإيقاع موسيقي. يلاحظ كونديرا:
"في رواية الحياة هي في مكان آخر:الجزء الأول: 11 فصلاً من 17 صفحة، موديراتو؛ الجزء الثاني: 14 فصلاً من 13 صفحة؛ ألليغريتو الجزء الثالث: 28 فصلاً من 82 صفحة، ألليجرو؛ الجزء الرابع : 25 فصلاً من 30 صفحة، بريستيسيمو؛ الجزء الخامس: 11 فصلاً من 96 صفحة، موديراتو؛ الجزء السادس: 17 فصلاً من 26 صفحة، آداجيو؛ الجزء السابع: 23 فصلاً من 23 صفحة، بريستو."
لم يكن تقسيم الرواية إلى سبعة أجزاء  قصدياً. ولا حساباً عقلانياً، بل كما يقول كونديرا: بل كان "أمرًا عميقًا، لاواعٍ وغير مفهوم". أما مسألة الحركات، والديمومة، والإيقاع، فمن الواضح أنها كانت قصدية وواعية.
هو ذا ما يمكن أن يحيل إلى موضوع الرواية والشعر..

** نشر على موقع جيرون، السبت 29 نيسان/أبريل 2017.


jeudi 20 avril 2017



حين انتقل السوريون إلى العالم الافتراضي!
بدرالدين عرودكي
يُقال: ربَّ صدفة خير من ميعاد!
لم يكن السوريون قبل ست سنوات على موعد مع الثورات العربية كي يقوموا بثورتهم. كانوا في الحقيقة يحاولونها كلما وجدوا الفرصة سانحة بطريقة أو بأخرى. وكانت ثورات أشقائهم في تونس ومصر وليبيا واليمن فرصة كبرى، فلم يتوانوا، وهم يؤيدون هؤلاء الأشقاء، عن أن يقوموا في شهر آذار/مارس 2011 بثورتهم التي لا تزال، رغم كل المظاهر الخادعة، ورغم كل العقبات والآلام، مستمرة حتى اليوم.
كما لم يكونوا على موعد مع سلاح شديد الأهمية في مجال الحركات الجماعية أنجزه عصرنا: سلاح الشبكات الاجتماعية، مدعوماً بوسائلها المختلفة، ولاسيما منها الهاتف النقال وقدراته المختلفة، وخصوصاً في التسجيل الحي وفي التصوير، التي يتضمنها. اختلف، على هذا النحو، عام 2011، وهو عام ثورتهم، عن عام 1082، وهو عام مجزرة حماه التي اقترفها النظام الأسدي خلال ما يمكن أن نطلق عليه: مرحلة ما قبل وصول آثار هذا العصر الرقمي إلى سورية. مجزرة لم تحظ من الصحافة العالمية بأكثر من سطور عدة على  صفحاتها الداخلية: فقد نقلت الخبر وأرقاماً افتراضية لعدد ضحايا مجزرة لم يندِّد بها أحد في العالم كله، على الرغم من معرفة العواصم الكبرى ومراكز القرار على الصعيد الدولي بكل تفاصيل ما جرى.
وعلى أن تواجد المواقع على الشبكات الاجتماعية قد بدأ في تسعينيات القرن الماضي، إلا أن انتشارها الحقيقي لم يبدأ إلا مع منتصف العقد الأول من القرن الحالي، مع موقع يوتوب عام 2005 الخاص بكل ضروب الفيديو، ومع انفتاح شبكة الفيسبوك عام 2007 على الناس جميعاً وفي كل بقعة من العالم ــ بعد أن اقتصرت اعتباراً من سنة إنشائها، 2004، وخلال سنوات ثلاث، على طلبة جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية ــ بحيث أمكنها أن تتفوق على سواها من الشبكات بسرعة مذهلة، ثم أن تتصدر قائمة هذه المواقع على اختلافها.
على هذا النحو أتيح شيئاً فشيئاً للسوريين منذئذ، ولاسيما للشباب منهم، مقاربة عالم آخر ومعرفة قوانينه واكتشاف آفاق إمكاناته. ولسوف يحسنون استثماره، مثل رفاقهم في مدن تونس ومصر، منذ اللحظة الأولى التي انطلقوا فيها معلنين شعار الثورة الأول في الكرامة: الموت ولا المذلة، ثم مطالبين بسقوط النظام ورحيل رأسه.
لم يكن النظام الأسدي يتوقع أن تنتشر صور وأفلام ممارساته الإجرامية اليومية تجاه المتظاهرين في المدن السورية في صحف العالم أجمع وفي مختلف مواقع الشبكات الاجتماعية. فأنكر أن يكون أمام ثورة شعبية ضد استبداد شمولي دام نيفاً وأربعين عاماً. وزعم، منذ البداية، أنه يواجه "مؤامرة كونية" قوام أركانها خليط من السلفيين والمأجورين تحركهم بعض دول الخليج ــ التي كانت إلى عهد غير بعيد آنئذ، أقربها إليه سياسة ومودة ــ فضلاً عن مشجبه المفضل: إسرائيل والصهيونية العالمية. لذلك سرعان ما أطلق أعوانه "جيشاً إلكترونياً" لمواجهة الثورة والثوار في مختلف مواقع الفضاء الافتراضي، كي يتمكن من بثِّ خطاب النظام وتخريب كل موقع شخصي أو جماعي يمثل خطراً إعلامياً يهدده إذ ينشر على الملأ أكاذيبه ويفضح قوامه الأساس: سلطة استبداد وعنف وإجرام تحت غطاء المقاومة والممانعة.
لهذا صار الحساب الشخصي في الفضاء الافتراضي والهاتف النقال وما يحتويه من رسائل وصور وفيديوهات أداتي جرم موصوف في نظر أجهزة النظام الأسدي الأمنية. فكانت كلمة السر وجهاز الهاتف أول ما يبحث عنه رجال الأمن حين يقومون باعتقال شباب الثورة أثناء المظاهرات. لكن الشباب مع ذلك، وقد ارتجلوا مهنة الصحفي والمراسل الحربي، استطاعوا مواجهة هذه الحرب الموازية بذكاء ومهارة، وتمكنوا من الاستمرار في نشر الصور أو التقارير عما يحدث في مختلف المدن السورية على صفحاتهم أو عن إرسالها إلى مراسلي مختلف الصحف ووكالات الأنباء.  
لم يحطم السوريون جدران الخوف جميعاً إذ ثاروا لاستعادة كرامتهم فحسب، بل استحوذوا من جديد على فضاء حرية أتاح لهم أن يطلقوا العنان في التعبير عن آرائهم بعد صمت أرغموا عليه خلال ما يقارب نصف قرن، ودفع بعضهم خلاله، ثمناً غالياً عند محاولتهم كسره.
ولئن اضطر ملايين السوريين إلى الانتشار لاجئين في وطنهم أو في جهات الأرض الأربع، فإنهم سوف يألفون، أياً كان الجيل الذي ينتمون إليه، هذا العالم الجديد الذي بات في متناول أيديهم من حيث لم يتوقعوا. ولسوف يصير بالنسبة إليهم فضاء اجتماعاتهم ولقاءاتهم وحواراتهم وخصوماتهم وشجاراتهم، بل وكذلك مكان تسلياتهم ومسراتهم ومجال التعبير عن هواجسهم أو مخاوفهم أو آلامهم.
كما لو أن العالم الافتراضي هذا وقد بات اليوم ملاذًا لعدد لا يحصى من السوريين، يقدم عينة تمثل مختلف مكوناتهم وانتماءاتهم الاجتماعية والجغرافية، مثلما توضح معتقداتهم وأهواءهم. إذ ربما كانوا بين أكثر شعوب الأرض اليوم استخدامًا له واستثمارًا لإمكاناته. ومن هنا، يمكن النظر إليه بوصفه مرآة تعكس مختلف مشكلاتهم الاجتماعية، وهمومهم اليومية الفردية والجماعية، ونظراتهم ومواقفهم، ومختلف الطرق التي يسلكونها في التعبير عن أنفسهم، أو في رؤية بعضهم للبعض الآخر منهم. هكذا صار ما يُقال خلف جدران البيوت على حذر أو في حلقات الأصدقاء في المقاهي همساً، يقال علنا وعلى مسمع من الجميع. إذ لا جدران لهذا العالم ولا حدود. بما أنه عالم الفرد بقدر ما هو عالم الجميع.
لا رقابة لغوية على ما يقال، ولا رقابة اجتماعية كذلك. فالحرية شبه مطلقة ما دامت لا تخترق الحدود القصوى للشبكة المستخدمة. ههنا وجد السوريون ضالتهم، بعد أن أرغموا على الصمت طوال سنوات نصف قرن. يغضبون ويشتمون وينقدون. يعطون لأنفسهم الحق في النقد وفي التجريح بحق أو بغير حق. لا يراقبون في ذلك مبدأً ولا برهاناً.  بل لقد صار من بينهم من باتوا نجوم بعض هذه الشبكات الاجتماعية. ولربما دفعت نجومية البعض منهم إلى ظنٍّ سريع بزعامة افتراضية تعطيه الحق في إصدار الأحكام التي تدغدغ عواطف البعض أو تساير ميول البعض الآخر من المريدين!  هكذا يسع المرء أن يلتقي الكثير ممن اتخذوا من الشعبوية طريقة يلتمسون بها إعجاب الآخرين. وربما يجد بهذه المناسبة قانون غريشام الشهير: "النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق" في العالم الواقعي، تطبيقاً له في العالم الافتراضي على الأشخاص وعلى الكتابات في آن واحد.
لعل ذلك كله يحمل مراكز الدراسات والبحث المهتمة بالشأن السوري على القيام بتحقيق وإنجاز دراسة اجتماعية ميدانية مقارنة للسوريين في عالميهما الواقعي والافتراضي، من أجل محاولة رصد للشخصية السورية كما تتجلى اليوم قولاً وسلوكاً، بما يتيح إمكان إلقاء الضوء على تكوينها النفسي والاجتماعي ورسم ملامحها الرئيسة؟

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 20 نيسان 2017.



jeudi 13 avril 2017


الرواية، أداة وجود أم مَطِيَّة؟ 
بدرالدين عرودكي 
أكثر من مائة عام مضت على صدور أول رواية باللغة العربية ولا يزال مفهوم فن "الرواية" في كتاباتنا العربية إشكالياً. تارة لما يراه البعض فيه من وضوح شديد لا يحتاج معه إلى مزيد، وتارة أخرى لما يراه آخرون فيه من استمرارية لتراث الحكاية كما تجلت في الملاحم الشعبية أو في الأخبار السائرة التي عرفها أدب العرب في عصوره الكلاسيكية. هذا مع وجود طائفة ثالثة ممن انطلقوا في ما كتبوه من مفهوم لهذا الفن بوصفه ابن الحداثة الأوربية، ووليد المدينة، وسليل الملحمة التي عرفها الأدب الأوربي ولاسيما في القرن السادس عشر  مع الفرنسي فرنسوا رابليه (1494 ـ 1553) والإسباني سرفانتس (1547 ـ 1616).
كان الشيخ محمد عبده أول من أشار إلى انتشار الولع بقراءة الروايات، (وقد سماها "الرومانيات"، نسبة إلى اسم الرواية باللغة الفرنسية: رومان (Roman)، هذا الفن الطارئ على الأدب العربي)، التي كانت تترجم إلى اللغة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وحين بدأت كتابة الرواية باللغة العربية، نهلت من هذا المنهل الذي أشار إليه الشيخ عبده، أي الرواية الأوربية. وسرعان ما عملَ، مع منتصف القرن الماضي، على تمثل أساليبها ومعمارها وغاياتها، كبار أدباء الرعيل الأول العرب، سواء منهم من اتخذوا الرواية وسيلتهم الوحيدة للتعبير، وعلى رأسهم نجيب محفوظ بمصر، وحنا مينة بسورية، أو الذين اعتمدوها وسيلة رئيسة كتوفيق الحكيم ويوسف إدريس بمصر، والطيب الصالح بالسودان، وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي بفلسطين، أو الذين كانت إحدى وسائلهم في التعبير كطه حسين وعباس محمود العقاد وإبراهيم المازني بمصر وشكيب الجابري وعبد السلام العجيلي بسورية، على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال.  
سوى أن مفهوم الرواية هذا الذي تمكن الروائيون العرب الكبار من ترسيخه شيئاً فشيئاً في الكتابة العربية لغة وأسلوباً وشكلاً وأجناساً، سرعان ما تعرض لضرب من التطوير عبر محاولة استعادة الكتابات العربية الكلاسيكية، ولاسيما التاريخية منها. كان الروائي السوري صدقي إسماعيل، مثلاً، يجد في مؤرخ كالطبري، روائياً عربيا بامتياز، نظراً إلى كتابته تاريخ العالم بدءاً من نشأة الخليقة التي لم يشهدها ولم يكن في حوزته وثائق أو شهادات يعتد بها في كتابة التاريخ عنها! ليس المقصود هنا ما يُعرَفُ بالرواية التاريخية التي عرفتها الآداب الأوربية على اختلافها، بل استخدام طريقة ولغة المؤرخين العرب القدماء بوجه خاص في السرد ضمن محاولات تجذير الفن الروائي في تراث الكتابة العربية. ذلك هو الطريق الذي شقه الروائي المصري جمال الغيطاني، وكان بلا شك أهم روائي حاول ذلك في مختلف رواياته التي اتخذت من التاريخ إطاراً ومن سرديته أسلوباً من أجل التعبير عن مشكلات الواقع المعاصر.
سوى أن محاولة الغيطاني  بقيت، مع ذلك، وقفاً عليه على الصعيد الروائي ولم يحاول سواه من الروائيين تبنّيها بصورة أو بأخرى. وقد نعثر هنا وهناك على محاولات قليلة أخرى على صعيد القصة القصيرة كتلك التي قام بها عبد السلام العجيلي في قصته "فارس مدينة القنطرة". لكنها لا ترقى جميعاً إلى ما يمكن أن يؤلف تيارًا في الكتابة، أو نهجًا خاصًا في تجذير الفن الروائي في الأدب العربي المعاصر، يخرج به عن سياق المفهوم الأوربي لفن الرواية. ذلك أن التفكير الرغبي في هذا المجال كان أشدَّ باعًا، على الصعيد النظري، من الإنجاز الفني طوال النصف الثاني من القرن العشرين.
على هذا النحو، أمكن لتراكم المبدعات الروائية العربية على امتداد القرن العشرين، ولاسيما خلال سنوات النصف الثاني منه، ثمرة إنجاز ثلاثة أجيال متتالية من الروائيين العرب، أن يسهم في ترسيخ الرواية جنساً أدبياً كامل الأوصاف في أدبنا العربي المعاصر. كما أمكن للمنجزات الروائية الأساس فيه، أن تجد طريقها شيئاً فشيئاً، ولاسيما اعتباراً من منتصف ثمانينيات القرن الماضي، إلى لغات العالم الأخرى شرقاً وغرباً. ساعد في التشجيع على ذلك اكتشاف رواية نجيب محفوظ بعد ترجمة ثلاثيته إلى الفرنسية، ثم حصوله، من بعدُ، على جائزة نوبل بوجه خاص. هكذا أضحى من الممكن مثلاً تنظيم لقاء بين عشرين روائياً فرنسياً وعشرين روائياً عربياً ينتمون إلى سبع دول عربية حول "الإبداع الروائي اليوم" بباريس في شهر آذار/مارس 1988، وأن تخصص أكبر مجلة أدبية فرنسية واسعة الانتشار هي "الماغازين ليتيرير" عدداً خاصاً عن الكاتب العربي صدر في الشهر الذي عقد في بدايته اللقاء المشار إليه.
كان الوجود الكثيف لكبار روائيي الأجيال الثلاثة المشار إليها يغطي على البدايات الخفرة لجيل جديد من الشبان كان يسعى حثيثاً، اعتباراً من العقد الأخير من القرن الماضي، إلى إثبات وجوده. فجاء إنتاجه، على علاته، يعكس جهداً حقيقياً في الكتابة الروائية ويقدم بعضاً من محاولات سبر إمكانات هذا الفن الأدبي الواسعة في اللغة العربية. إلا أنه، وكما هو الأمر في الأجناس الأدبية الأخرى، وفي مختلف اللغات، لم يكن للرواية العربية أن تؤلف استثناء في أن يجمع فضاء إنتاجها الكثير من الغثّ والقليل من السمين. ومن ثمَّ، فقد أنتجت دور النشر العربية، والمصرية منها خاصة، خلال ربع القرن الأخير، عددًا وفيراً مما حمل تحت العنوان كلمة "رواية".  وتضاعف هذا العدد مرات منذ عقد من السنين بعد أن بدأت الجوائز المخصصة للرواية بالتكاثر على الرقعة العربية وعلى رأسها جائزة البوكر. فيضٌ من روايات لا يمكن بأي حال لمن قرأ محفوظ أو يوسف إدريس أو الطيب صالح أو إميل حبيبي أو جبرا إبراهيم جبرا على سبيل المثال أن يتجاوز الصفحات الأولى من هذه المنشورات التي حُمِّلَتْ صفة الرواية. لا لسوء الكتابة أو بدائيتها، ولا لضحالة التعبير أو عاميته فحسب، بل للرغبة الواضحة أو المفضوحة بالأحرى في الكتابة من أجل ــ لعل وعسى ــ الجائزة المنشودة وما يمكن أن يليها من الثروة والشهرة!
في واحدة من مقالاته حول الرواية، كتب الروائي الفرنسي ميشيل بوتور ذات يوم: "لا أكتب الروايات كي أبيعها، بل كي أحصل على الوحدة في حياتي. فالكتابة بالنسبة إلي هي عمود فقري." أو: "طريقة من أجل البقاء واقفاً".
ومَثَلُ ميشيل بوتور يمكن أن ينسحب لا على كبرى الأسماء التي عرفها تاريخ الرواية في الغرب من أمثال بلزاك وستندال وبروست ودستويفسكي وفوكنر، بل كذلك على عدد من كبرى الأسماء العربية اليوم التي ذكرنا عدداً منها في بداية هذه المقالة.
وشتان بين الذين اتخذوا من الرواية أداة تعبير وجودية، وبين من اتخذوها (وما أكثرهم) مطية للوصول إلى حفنة من دراهم معدودات سرعان ما ستحملهم وما كتبوه إلى غياهب النسيان.

** نشر على موقع جيرون، الخميس 13 نيسان 2017.


jeudi 6 avril 2017





"الأسد أو لا أحد"،
من البراميل إلى الغاز السام 
بدرالدين عرودكي
  لم يعد ممكناً صرف النظر عن أو تجاهل هذا الواقع الماثل اليوم أمام أعيننا: لا أحد في العالم يريد التخلي عن نظام الأسد، ولا حتى عن شخص رأسِه، مهما بلغت فظاعة وفداحة الجرائم التي ارتكبها، ولا يزال يرتكبها، بحق السوريين. ست سنوات مضت وحديث ضرورة بقاء الأسد ونظامه بات لازمة موسيقية مملة يرددها الجميع على مقامات مختلفة: من الإيرانيين الذين جعلوا منه مطية طيِّعة لهم، إلى الروس الذين هرعوا لإنقاذه حين كان على شفا حفرة من الانهيار الكامل، إلى "أصدقاء" سورية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تتوقف يوماً عن القيام بأي فعلٍ يطيل عمر هذا النظام بطريقة أو بأخرى من ناحية، وفي الوقت نفسه، عن تأنيبه بالتصريحات الصحفية المهدِّدَة، لكنها المشجعة على الاستمرار في جرائمه، من ناحية أخرى. ظهر ذلك كله واضحاً في كل مناسبة، سواء في قرارات مجلس الأمن وما انطوت عليه من غموض يستدعي مختلف ضروب لا حدود لها من التفسير أو الفهم، أو في القرارات الصادرة عن مؤتمرات جنيف المتوالية والتي صيغت قراراتها، هي الأخرى، بطريقة يمكن لكل طرف معنيٍّ أن يفهمها كما يشاء. أما الفيتو الروسي أو الصيني أو كلاهما معاً فهما يتدخلان كلما دعت الحاجة لإعادة عقارب الساعة إلى نقطة البداية. وكان استخدام الأسلحة الكيمياوية من قبل النظام الأسدي ليلة 21 آب 2013، والذي سبق أن أُعْلِنَ خطاً أحمر من قبل البيت الأبيض آنئذ، ومواجهته من خلال إبرام صفقة مع النظام الأسدي برعاية الروس، أبلغ برهان على حقيقة مواقف الجميع: أصدقاء وأعداء، محليين ودوليين. 
بدا واضحاً أن مصالح جميع الأطراف الفاعلة، على تناقضها أو على تباينها، تقتضي هذا الموقف. لم تكن إسرائيل، بالطبع، بعيدة عن الدفع في هذا الاتجاه. لكن المصلحة الأميركية العليا، وهي الأساس هنا، أدّت، كما هو واضح، ومنذ إخراج مصر من دائرة الفعل والتأثير في محيطها العربي والإقليمي، إلى اتخاذ مواقف أقل غموضاً وأكثر خبثاً من سواها. إذ يمكن إدراج مواقفها من الحركات الثورية العربية الأخيرة ضمن سلسلة المواقف التي اتخذتها منذ ما يقارب أربعين عاماً مع الحرب العراقية الإيرانية، والتي استهدفت ما أسماه ممثلوها الرسميين منذ عهد جورج بوش الإبن: الفوضى الخلاقة، في صيغة تخضع ــ في التعبير عنها حسب ميول الإدارة القائمة في البيت الأبيض ــ للتعديل كلما اقتضى الأمر ذلك. ولعل موقفها في الحالة السورية يمثل أساساً ضرورياً لفهم مجريات السياسة الأمريكية اليوم في المنطقة العربية وما حولها.
كان النظام الأسدي، ومنذ أيام الثورة الأولى قبل ست سنوات، يعلم حق العلم موقعه بين النظم العربية الأخرى، مثلما يدرك أهمية الوظيفة التي يقوم بها في المنطقة مستجيباً لحاجات مختلف هذه الأطراف الفاعلة إقليمياً ودولياً. ولذلك لم يوفر أي سلاح يقمع به ثورة السوريين عليه. كان جميع الأطراف، خارج سورية، يعلمون هم أيضاً، ما كان ذلك يعني. ويتصرفون بناء عليه. وكان كل طرف يحاول أن يفسر ما يجري في سورية بما يتيح له أن يسوِّق لمصالحه المعلنة أو الخفية. تعلو الأصوات في المؤتمرات الصحفية. ويبدو ما يقال فيها من واشنطن إلى موسكو، مروراً بجنيف وفيينا وسواهما من العواصم الأوربية، عن ضرورة "رحيل الأسد"، كما لو كان لحناً تردده على التوالي أو في آن واحد مختلف مجموعات الآلات في فرقة سمفونية.
أما الغائب الوحيد عن كل ذلك فهو الشعب السوري الذي بدت عمليات تدمير مدنه وقراه المنتظمة تستهدف تهجيره، داخل سورية وخارجها، تحت وطأة قصف القنابل والبراميل والغازات السامة، في عملية منظمة حظيت بموافقة الجميع مسبقاً. لكن الغائب الأكبر، بمعنى آخر، هم أؤلئك الذين تصدوا لتمثيله في منظمات وهيئات بزعم الدفاع عن ثورته وأهدافها، والذين كانوا يعلمون جميعاً أن نظام الأسد يرفض مبدأ التفاوض، بعد أن قبل مبدأ الحوار نظرياً ثم سرعان ما أطاح به عملياً.
لذلك، بدا كما لو أنهم انزلقوا، بوعي أو بغير وعي، إلى الفخ الذي نصبه لهم من قدموا أنفسهم بوصفهم "أصدقاء سورية"، والذي تجسَّدَ في موضوع "المفاوضات" التي أقرها، بما كانت تعنيه في غفلة عن الجميع، مؤتمر جنيف الأول عام 2012، الذي صار مرجعية أممية أولى على غموض مقرراته كي لا نقول خبث صيغتها. "مفاوضات" لن تنتهي إلا بما يحقق رغبات الأطراف جميعاً باستثناء السوريين أنفسهم ومن يمثلهم: بقاء النظام الأسدي على ما هو عليه، بنية وتنظيماً، بعد أن تم إضعافه عسكرياً واقتصادياً وسياسياً والاستمرار في استثماره غطاءً غير رسمي للاحتلال الروسي في المقام الأول مع احترام المصالح الأمريكية أساساً، ومصالح مختلف القوى الإقليمية تالياً.
هذا، في الواقع، ما يسمح بفهم أسباب توالي تصريحات القوى الإقليمية حول قبولها إلغاء شرط إزاحة الأسد ونظامه في الحل السياسي الذي دعت إلى الوصول إليه مؤتمرات جنيف المتوالية. فقد بدت العمليات الإرهابية التي جرت في عدد من الدول الأوربية خلال السنتين الأخيرتين، والتي تبنتها داعش، كما لو أنها تدفع بحكومات تلك الدول إلى تغيير أولوياتها في تعاملها مع المسألة السورية بمنحها الحجة الضرورية لذلك. صارت الأولوية هي القضاء على الإرهاب، في اعتماد صريح وحرفي لما كان يطالب به النظام الأسدي وحليفه الروسي!
شيئاً فشيئاً تسرّبت هذه المواقف إلى سياسات دول كانت لا تكف عن ترداد أولوياتها في كل مناسبة سياسية أو دبلوماسية: ضرورة إزاحة نظام الأسد. وكان بوسع أي مراقب أن يلاحظ كيف أنجزت الانعطافة التركية في هذا المجال، على استحياء في البداية، ثم باسم ضرورة الإقرار بالواقع! لا بل إن قوىً إقليمية أخرى، وهي على وشك القيام بمثل هذه الانعطافة، في طريقها إلى التمهيد لها عبر تقديم صحفها للمسألة السورية كما لو كانت تختصر في الخطأ الجسيم الذي ارتكبه الأسد حين ترك إيران تستقر في قصره وتستحوذ على قراراته. فإيران، حسب هذا المنطق، هي سبب خصومة النظام السوري مع الدول العربية التي تدافع عن نفسها ضد التمدد الإيراني. هكذا تصير خطيئة الأسد الإبن عدم اتباعه سياسة أبيه في علاقاته العربية والإيرانية  ولاسيما حين أبقى على شعرة معاوية مع كلٍّ من الطرفيْن. لذلك،  يتطلب التحول إلى التعامل بإيجابية مع الواقع السياسي الجديد، المتمثل في إعادة التأهيل الجارية الآن، أن يقوم النظام الأسدي بإنهاء الوجود العسكري الإيراني في سورية. ذلك هو الشرط الأساس كي يتم الاعتراف بإعادة تأهيله على نحو كامل. وهو شرط بات يبدو مع إدارة ترامب، شديد التناغم مع انعطافة سياسته الحالية نحو إيران.
هكذا ندرك الأسباب الحقيقية والخفية وراء دعم الشعب السوري ممن أطلقوا على أنفسهم صفة "أصدقاء". فقد كان كلاً منهم يهيئ، على طريقته وفي مجاله، الأرضية المناسبة للقرار الذي سيعلنه "الصديق" الأول، الولايات المتحدة الأمريكية على الملأ: ليست الأولوية رحيل الأسد، بل القضاء على داعش. وما على هؤلاء الأصدقاء الآن إلا ترتيب الإخراج الإعلامي والسياسي لمواقفهم الحقيقية. وقد بدأ بعضهم يفعل.
كانت سياسة "العدو" وسياسة "الصديق" تجاه ثورة الشعب السوري هي نفسها لكنها تقال بلغتين. ولم يكن من ثمَّ ضرورياً القيام بثورة مضادة بطريقة أو بأخرى. بل الإبقاء على نظام أتقن القيام بدوره خلال نيف وأربعين عاماً. قد يخطئ هنا أو هناك، وقد أخطأ. لكنه يبقى الأفضل في نظر الجميع.  
كان ذلك معروفاً لدى كافة مراكز القرار الدولي، لا على مستوى الزعماء أو الوزراء المختصين فحسب، بل حتى على مستوى كبار الموظفين.
إلا لدى بعض من استحوذوا على أمر تمثيل الثورة السورية..
فهل ستكون المجزرة الكيميائية بخان شيخون القشة التي ستقصم ظهر البعير.. أخيراً؟

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 6 نيسان 2017.