mardi 28 février 2017




مَنْ يطغى على من: السياسة أم الثقافة؟
بدرالدين عرودكي

لا بَّد من الإشارة بادئ ذي بدء إلى ما تنطوي عليه كلمتا السياسة والثقافة العربيتان من معان تجعلهما عرضة لاستخدام يعتمد المراوغة أكثر من الوضوح. أولاً بفعل اشتقاقهما واختلاف جذريهما اختلافاً شديداً عن جذر كلٍّ من هاتين الكلمتين ودلالاته في اللغات الأوربية، أي اختلاف أساس المعنى الذي ستبنى عليه دلالة كل منهما، وثانياً بسبب تعدد المعاني التي يُراد من كلٌّ منهما الدلالة عليها. وربما كان أكثر المعاني شيوعاً لدى قطاع واسع من مجتمعاتنا العربية هو ذلك الذي لا يزال يراوح ضمن الفضاء الدلالي لجذر كلٍّ من الكلمتين: "ساسَ"، و"ثقف"، مما يؤدي بمن يعتمده في واقع النظر والممارسة إلى أن يجعل من كل منهما عالماً يبدو مستقلاً بذاته ولذاته، له همومه وقوانينه وآلياته التي تختلف اختلافاً جذرياً عن العالم الآخر.
وربما لهذا كان السؤال الذي يطرح غالباً حول طغيان السياسة على الثقافة الصادر عن هذا المعنى الأخير الشائع يبدو بالتالي طبيعياً بل وشبه تحصيل حاصل. إذ لا يتم الحديث في فضاء هذا الفهم عن تأثير الثقافة على السياسة بما يجعل هذه الأخيرة  ــ بالمفهوم الشائع على الأقل  ــ أكثر نبلاً؛ وإن حدث وجرى الحديث على هذا النحو فلهدف الحط من شأن السياسة التي "تلوثت بالثقافة"!
ولكن، إن كان السؤال يبدو طبيعياً فعلاً فهل يمكن الاكتفاء به لتغطية الواقع العربي؟ وبعبارة أخرى، إلى أي حدٍّ لا زلنا نفهم ونعيش السياسة والثقافة وفق معنى جذريهما؟ وهل من الممكن تجاوز أو تجاهل ما اكتسبته هاتان الكلمتان بوصفهما مفهوميْن من معان جديدة بحكم عمليات التثاقف والتفاعل مع الثقافات الأخرى التي فرضتها قواعد العيش في عالمنا "المُعَوْلَم" اليوم؟
لاشك أن الانطلاق من اعتبار الثقافة والسياسة عالميْن منفصليْن ومختلفين لابد أن يؤدي بالضرورة إلى التساؤل لا عن طغيان أحدهما على الآخر بلا تمييز بل بطغيان السياسة على الثقافة تحديداً كما لو أن ثمة ما يشبه حكم قيمة يضع السياسة في منزلة أدنى من منزلة الثقافة. هنا يُنْظَرُ إلى تأثير السياسة على الثقافة نظرة تذمّر بما أنه يؤدي إلى حَرْفِ هذه الأخيرة عن مهماتها الأساس ضمن مفهومها الرومانتيكي "في الخير والحق والجمال". لكنها تبقى نظرة من جانب العاملين ضمن هذا الفهم للثقافة في حقولها المختلفة. إذ لو حدث أن طغت الثقافة على السياسة ـ وهو أمر نادر الحدوث في حياتنا العربية وينحصر غالباً في ممارسة مثقف ما للعمل السياسي ـ إذن لَنَظَرَ أولو السياسة للأمر بكثير من الاستخفاف أو الاستهجان، لا لأن السياسة أرقى من الثقافة في نظرهم بل لأن المثقف لا يملك بحكم تكوينه الفكري الأدوات اللازمة التي يملكها السياسي لممارسة عمله. وبقدر ما تبدو ـ ضمن هذا الفهم ـ آثار السياسة على الثقافة عامة ما دامت تمسّ ضروب الإنتاج الثقافي بمختلف أجناسه وصوره، بقدر ما تبدو آثار الثقافة على السياسة فردية وأقرب إلى أن تكون غير مرئية في فضاء الأخيرة الواسع.
على أن انطلاقنا من مفهوم آخر للثقافة وللسياسة سيؤدي بنا إلى نتيجة أخرى مختلفة جذرياً عن السابقة. فمفهوم الثقافة يعني في أبسط صياغة له مجموع الممارسات والمعارف والتقاليد والمعايير الخاصة بشعب ما، ومفهوم السياسة الآخر هو الذي يعتمد أصل معناها الأول في الثقافة اليونانية والذي نحتت من عنصريه "المدينة polis" و "علم   techné" كلمة "السياسة Politique" في اللغات الغربية، ويعني علم حكم المدينة.  وهذان المفهومان باتا اليوم معتمديْن فكراً وممارسة في الحياة العربية اليوم وإن بدرجات متفاوتة من الاختلاف عن فهمهما في الفكر والممارسة في الحياة الغربية. ويكفي مقارنة هذين التعريفين كي نلحظ عبر هذا المعنى العام أن السياسة ليست إلا جزءاً لا يتجزأ من الثقافة. أي، بعبارة أخرى، السياسة جزءٌ من الكلِّ الذي هو الثقافة.
بهذا الفهم للسياسة جزءاً من الثقافة لن يدهش أحدٌ من طغيان السياسة على المبدعات الثقافية ، في فترات تاريخية محددة. ودون الذهاب كما يفعل البعض إلى اعتبار أن كل فعل أو نتاج ثقافي ينطوي على بعد سياسي، وهو اعتبار لا يخلو من الصحة، تكفي العودة إلى عدد من الحقب التاريخية المختلفة التي سنجد فيها بعض مُبدعاتها الأدبية أو الفنية التي لا يمكن فهمها وتفسيرها دون فهم الظرف السياسي الذي كتبت فيه أو تحت تأثيره أو استجابة لمعانيه.  فاللوحة التي رسمها الفنان الإسباني بابلو بيكاسو عام 1937 وحملت اسم مدينة "غيرنيكا" في منطقة الباسك على إثر قصف هذه المدينة أثناء الحرب الأهلية الإسبانية من قبل الطيران النازي الألماني، ليست مجرد عمل فني فذٍّ واستثنائي بل هي أيضاً وبالقدر نفسه عمل سياسي بامتياز. كثيرة هي الأعمال الأدبية التي يمكن الإشارة إليها بوصفها أعمالاً أدبية سياسية بامتياز أو يطغى فيها البعد السياسي. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر كتب أحد كبار الروائيين الفرنسيين، ستندال، روايته الشهيرة: "الأحمر والأسود"، التي لا يمكن فهمها دون العودة إلى الظروف السياسية التي سادت بعد الثورة الفرنسية وإلى ما بعد الحقبة النابوليونية والتي فرضت الخيار الوحيد أمام أجيال متتابعة من أجل الصعود الاجتماعي: الجيش أو الكهنوت، الأحمر أو الأسود؛ أو في النصف الأول من القرن العشرين رواية "الوضع البشري" لأندريه مالرو التي تدور ثيمتها حول الثورة الشيوعية في الصين خلال الربع الأول من القرن الماضي؛ أو مسرحية جان بول سارتر "الأيدي القذرة" التي كتبها عام 1948 والتي تستعيد ثيمتها المقاومة ضد النازية.  
وبوسعنا التدليل أيضاً على أن كثرة من الأعمال الأدبية التي لا يمكن من الوهلة الأولى العثور فيها على أي ثيمة سياسية مباشرة أو غير مباشرة، بل والتي لن يشك أحد في انطوائها على السياسة فعلاً وممارسة تتواجد أيضاً في تراثنا العربي. فمن يمكنه أن يظن لحظة واحدة وهو يقرأ مثلاً كتاب ابن حزم الأندلسي الشهير عن الحب، "طوق الحمامة في الألفة والألاف"، على أنه كتاب سياسي بامتياز؟ تلك هي في الحقيقة وعلى سبيل المثال القراءة السياسية التي قام بها مؤرخ فرنسي معاصر، غابرييل مارتينيز غرو، لكتاب ابن حزم هذا في كتابه "الهوية الأندلسية"، والتي يخلص فيها إلى أن طوق الحمامة تعبيرٌ عن خلاصة أفكار مؤلفه حول الحرب الأهلية التي اجتاحت مدن الأندلس وكذلك دفاعٌ عن الأمويين وسط الكارثة التي كانوا يتعرضون لها خلال هذه الحرب.
تبرهن مثل هذه القراءة لعمل أدبي محض في ظاهره أن من المستحيل على المثقف كاتباً أو فيلسوفاً أن يعزل نفسه عن الشروط التي يعيشها مجتمعه لا في الأوضاع الاستثنائية كالحروب مثلاً فحسب بل في كل الظروف. وأن مبدعاته الفنية أو الأدبية لابد أن تشي بهذا الانخراط بصورة أو بأخرى، تساعده على ذلك كلُّ الإمكانات التي تتيحها أدوات الفن الذي يمارسه فضلاً بطبيعة الحال عن قدراته ومواهبه.
على هذا النحو نرى أن السياسة، بخلاف النظرة التقليدية، تتجلى أمامنا بالفعل جزءاً لا يتجزأ من الثقافة وليست عالما منفصلاً عنها.      
  

 ** نشر في المجلة العربية، العدد  485  ، آذار/مارس 2017، ص. 38 ـ 39.



jeudi 23 février 2017



عن هموم الثقافة  في الصحافة 
  بدرالدين عرودكي 
لابد أن يثير التساؤل عن وظيفة ومهام الصحافة الثقافية في عالمنا العربي اليوم الكثير من الشجون، ويؤدي إلى ضروب من العودة إلى أمثلة باتت الآن حبيسة خزائن الأرشيف، بعد أن طواها النسيان تحت وطأة التطورات المتسارعة التي مسّت المجتمعات العربية على اختلافها منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي، والتي بلغت أوجها قبل ست سنوات مع الحراك الثوري في العديد من البلدان العربية.
من الممكن العودة إلى الصفحات التي ملأها حضوراً طه حسين والعقاد ومصطفى صادق الرافعي وإبراهيم المازني وسواهم، ممن تركت مقالاتهم وسجالاتهم أثراً لا يمكن إنكاره أو تجاهله في تطور النظرة إلى الأدب إبداعاً ونقداً وممارسة سواء بسواء. كما أن من الممكن استعادة تجارب أسهمت، دون أي شك، بصورة أو بأخرى، وعلى اختلاف اتجاهاتها الفكرية أو الأيديولوجية، في تطوير الوعي الفكري، وفي اكتشاف مواهب ما كان لها أن تجد طريقها إلى الجمهور لولاها، كمجلة الآداب والثقافة الوطنية والأديب، على سبيل المثال لا الحصر، في لبنان، أو المجلات التي برزت في مصر في النصف الثاني من القرن الماضي، على إثر تلك التي عرفها نصفه الأول، كالكاتب المصري لطه حسين، والرسالة لأحمد حسن الزيات، والتي سادت طوال أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي: مجلة المجلة، والطليعة، والمسرح والسينما، دون نسيان الصفحات الثقافية في الصحف القومية الكبرى فيها، من الأهرام بالطبع، إلى الأخبار وأخبار اليوم والجمهورية..إلخ. أتاحت هذه الصفحات والمجلات، على اختلافها، ظهور أجيال عديدة من الكتاب والأدباء والشعراء، مثلما أتاحت، أيضاً، ظهور نقاد بارزين كانوا استمراراً لتقاليد في التجديد أرساها أسلافهم ممن دشنوا طرق الحداثة في الفكر وفي المنهج نظراً وتطبيقاً.
يكاد كل ذلك يبدو اليوم "من نشوة الماضي". لا لأن النظم الاستبدادية حاولت تأطير الثقافة والمثقفين فحسب، ولا لاختفاء كل أثر للحرية، أو حتى لهامش ضئيل منه في الحياة العربية طوال ما ينيف عن نصف قرن فحسب، بل أيضاً، بفعل الانتقال السريع على الصعيد العالمي كله إلى عصر الثورة الرقمية، التي باشرت فعلها الحاسم على مختلف مستويات الحياة المعاصرة، ومن القمة إلى القاعدة، ولاسيما في العالم العربي في السنوات الثلاثين الأخيرة.
ومن ثمَّ، لابد من إعادة صياغة الأسئلة في ضوء ما جرى ويجري على هذا الصعيد. ذلك أن الحدث الذي شهدناه قبل ست سنوات في عالمنا العربي، يمثل، في حقيقة الأمر، وعلى الرغم من كل ما تلاه مما يمكن أن يشي أو يوحي بتلاشي مفاعيله، قطيعة معرفية وتاريخية مع الماضي، القريب منه والبعيد. سقطت جدران الخوف جميعها، وكذلك مختلف الأكاذيب الأيديولوجية التي كان لها طوال عقود لبوس الحقائق الراسخة. فالأصوات المكمومة والمكبوتة خرجت فجأة تعلن عن وجودها، وتحتل كل مكان بقوة المعنى والدلالة: في الشوارع وعلى صفحات الصحف الورقية، بل وخصوصاً على مختلف شبكات التواصل الاجتماعي. ثم ما لبثت أن احتلت، وبالفعل ذاته، صفحات المواقع الإلكترونية التي برزت على الشاشات حرة من كل قيد، جنباً إلى جنب، مع مواقع الصحف الأخرى، "الرسمية" أو "التقليدية"، القديم منها والجديد. وكان هذا الهامش الواسع من الحرية أول مكسب حقيقي لهذه القطيعة مع الماضي. حرية لن تتمكن من الوقوف في وجهها، كما جرى من قبل، ضروب الحجب أو المنع التي مارستها ولا تزال تمارسها بعض الأنظمة العربية، كلما كان الأمر يتعلق بالموضوع السياسي أو الفكري، ما دام تفاعل الأفراد والجماعات مستمراً في الشبكات الاجتماعية عبر إعادة نشر ما ينشر على هذا الموقع أو ذاك بنصه الكامل، وبسبب الاستحالة العملية لتحقيق هذا المنع.
من الصعوبة بمكان إحصاء المواقع الجديدة التي تتكاثر كل يوم في فضاءات الشبكات العنكبوتية على اختلافها. ومن المؤكد أن معظمها لا يحظى بقوة الاستقبال الذي تتمتع به المواقع الرسمية الأشد عدّة وقدرة. ولعل هذا ما  يضع على كاهل المواقع الثقافية التي تعيد إنتاج الصفحات الثقافية الورقية، أو تلك التي أنشئت كي تحل محل هذه الأخيرة، مسؤولية أشد ثقلاً من تلك التي كانت من قبل في مرحلة التحول الجارية اليوم. ليس المقصود بالمسؤولية هنا، تلك التي مارستها أنظمة القمع والاستبداد طوال نصف القرن الماضي، وتحت شعارات خلابة، بقدر ما هي كاذبة. بل تلك التي تمسّ طرق فتح الآفاق الجديدة أمام هذه الأجيال الصاعدة، التي أعادت الأمل التاريخي في انتفاضتها قبل ست سنوات، والتي برهنت عن مواهب وقدرات بلا حدود.
إذ لا يكفي موضوعياً أن تتماهى هذه المواقع مع الشبكات الاجتماعية، بحيث تستحيل منابر مفتوحة الأبواب، دون أية قواعد مهنية صارمة تميزها وتضمن لها سلطة القول المسؤول لغة ومضموناً. فمثل هذه الأخيرة، هي التي ستسهم في وضع أسس العالم الجديد المنتظر. ولن يستقيم، من ناحية أخرى، تحت أي حجة، تجاهل الفروق بين "من يعلم" ومن "لا يعلم"، إن شئنا التبسيط والإيجاز في آن. ذلك يفرض، في الوقت نفسه، إعادة النظر بكل المصطلحات والمفاهيم التي عرفتها الحقبة الماضية: مفاهيم النقد، والحرية، والإبداع على سبيل المثال جنباً إلى جنب مع الأشكال الفنية والأدبية: الشعر والقصة القصيرة والرواية والسيرة وضروب السرد المختلفة. ذلك أن التضخم الذي تشهده الحياة الأدبية الراهنة اليوم، ليست وليدة الصدفة ولا الطفرة، بل نتيجة هذا التحول الذي نشهده، والذي من أولى مظاهره هذه الفوضى العارمة، والطبيعية.
ليس من الممكن أن تترسخ قواعد هذه الصحافة الثقافية الإلكترونية الجديدة، ما لم تعمل على أن تضاف إلى صفتها كمنابر صفة أخرى لا تقلُّ أهمية: أن تكون مرجعاً. وفي كل فرع من فروع المعرفة يمكن لها أن تستقبله في فضائها بلا حدود.
من المهم في سبيل ذلك أن يكون القارئ هو السبيل الهادي. فقد عمدت الصحافة الورقية، عند إنشائها مواقع خاصة بها على الأنترنت، أن تضع عدّاداً لقراء النصوص التي تنشرها في مختلف أبوابها الأساس. تكتفي، أحياناً، بالإشارة إلى العناوين الأكثر قراءة منها من دون وضع عدد القراء، وينشر بعضها الآخر عدد القراء لكل واحد من تلك الموضوعات الأكثر قراءة. إلا أن ثمة مواقع عمدت إلى وضع عداد خاص بكل مقال منشور، بما يتيح لمسؤولي التحرير إمكان وضع رسم بياني لأكثر الموضوعات استقبالاً لدى الجمهور، واستخلاص الدلالات وفق عدد من المعايير التي يراها كلّ واحد منهم من موقعه، مثلما يتيح للكاتب تقويم اهتمام القراء بما كتبه ومقدار أو أسباب إقبالهم عليه. ومن ثم فإن ما تتيحه التقنية الرقمية اليوم يسمح للمسؤول الصحفي وللكاتب معاً أن يتابعا كل ما يمكن أن يستثير اهتمام القارئ: لا على صعيد الموضوع وحده فحسب، بل كذلك على المعالجة أو المقاربة منهجاً ومضموناً. وربما كان حرياً بالاثنين، كل منهما من موقعه أيضاً، أن يقوما بنوع من الدراسة المعمقة اعتماداً على إحصاءات أعداد القراء والتي يمكن، انطلاقاً منها، الوصول إلى رسم نموذج إجمالي للقارئ الواقعي، من أجل الوصول إلى القارئ المُبتغى. سيكون ذلك تفاعلاً غير مباشر بين الطرفين، يمكن أن يتحول، بما تتيحه إمكانات المواقع الرقمية، إلى تفاعل مباشر عبر التعليقات والردود عليها في مرحلة أولى، ثم بتكييف العمل الصحفي والكتابي تبعاً للخلاصات التي تؤدي إليها هذه وتلك.
إمكانات جديدة لم تكن متاحة من قبل في الصحافة الورقية. لكنها تحتاج إلى وعي حادٍّ بما تمليه من مسؤوليات، من أجل استجابة خلاقة في إطار هموم الثقافة التي هي في النهاية هموم المجتمع الذي تقوله.


** نشر على موقع جيرون، الخميس 23 شباط 2017.


lundi 20 février 2017



حين يتحقق الحلم في فينيسيا


بدرالدين عرودكي
                                                   إلى جيجي بون
هي المرة الثانية التي كانت الطائرة تتجه بي إلى فينيسيا، أو البندقية كما أطلق عليها العرب تحويراً ــ لا أدري كيف أمكنهم إنجازه ــ لما كان الإيطاليون يصفونها به: بونودوتشيا، أي الدوقية الجميلة. وعلى أنها رحلة مهنية من أجل الإشراف على أول معرض ينظمه معهد العالم العربي بباريس خارج فرنسا، فقد كنت أرسم في مخيلتي خطة الزيارة التي لم تتحها لي المرة الأولى حين وصلتها صباحاً وغادرتها مساء بعد أن تركت لديّ ذكرى لا تمّحي!
لكن صوت قائد الطائرة سرعان ما كبح توارد الأفكار في رأسي حين كان يعلن : "بسبب عاصفة تملأ الآن سماء فينيسيا، سنضطر إلى البقاء بعض الوقت في الفضاء بانتظار تلاشيها." أدركتُ فجأة أنني، ربما، على وشك أن أقضي قبل أن أتعرف هذه المدينة التي كان من الأفضل لي أن أزورها بصحبة حبيبة ــ كما جرت عادة معظم الزوار ــ  قبل زيارتها مدفوعاً بواجب العمل! سوف تنوب ابنتي عني وتقوم بمثل هذه الزيارة مع حبيبها. لكن ذلك حديث آخر..
وأنا أرتعد من اهتزاز الطائرة كغيري من الركاب، وزميلتي جويل إلى جانبي تداري مشاعر الرعب التي ترتسم في عينيها، مثلي على كل حال، لجأت في سرّي، كعادة أمثالي في الأوقات الحرجة، إلى الله! رجوته إن لم يكن قد سبق وعهد إلى ملاك الموت أن يستعيد أمانته، أن يحقق لي أمنيات ثلاث في هذه المدينة الساحرة:  1) أن يؤجل سقوط الطائرة هذه المرة؛ 2) أن ألتقي خلال هذه الزيارة امرأة فينيسية الأصل والمحتد؛ 3) أن أدعى إلى بيت فينيسي حقيقي، قصراً أو بيتاً عادياً أستطيع زيارته وقضاء بعض الوقت فيه.
بدا لي طبيعياً أن أخاطب الله بهذه الحميمية. تلك عاداتنا على كل حال. نرفع "الكلفة" بيننا وبينه. وابتسمت في سرّي ثانية مفكراً بهذه السذاجة الجماعية إذ أتصرف بموجبها، ولو سرّاً!..
***   ***   ***   ***
حين مسَّت عجلات الطائرة الأرض أدركت أن أولى دعواتي كانت مستجابة.
كان "الفابوريتو" يسعى بنا إلى فندق حجز لنا فيه قنصل فرنسا في البندقية. رفضت النزول فيه حين تحققت من قذارته كما بدت لي ولزميلتي جويل. فعرض علينا فندقاً كان الفيلسوف والكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه (وكان آنئذ أحد مستشاري الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران) ينزل فيه كلما زار المدينة. ذهبنا إليه. لكننا لم نعثر على غرفة. حينئذ اقترحت عليه أن يصحبنا إلى فندق غريتي، حيث كان إرنست همنغواي ينزل على الدوام.
على الطريق إلى غريتي كانت شمس ما بعد العاصفة قد سطعت وألقت بأشعتها على ألوان جدران القصور التي كنا أمامها وقطرات الماء تتلألأ على سطوحها كما لو كانت خارجة للتو من حمام مشرقي.
قصور صماء. أو بيوت ما كانت نوافذها المغلقة لتشجع أحداً على زيارتها. لكنه الفضول. رجوتُ مرة أخرى في سري لو أنني أُدعى إلى زيارة واحد منها. ولم أكن أدري كيف يمكن لي تحقيق ذلك.
***   ***   ***   ***
بعد اطمئناننا إلى انتهاء العمل في ترتيبات معرضنا بقصر الدوج، خرجت وجويل للنزهة في شوارع فينيسيا بانتظار حلول ساعة الافتتاح. عند خروجنا، استمتعت بمنظر اللوحة الحمراء التي علقت على مدخل أحد أبواب القصر تحمل عنوان المعرض وأسماء منظميه: بلدية فينيسيا، الإدارة الثقافية فيها ومعهد العالم العربي..

استوقفتنا فجأة واجهة زجاجية عرضت فيها لوحة فنية تمثل مقتل مارا على يد جولييت بخنجر تغرزه في صدره وهو في حوض الحمام. لكن الحوض يطوف على سطح اللاغون، البحيرة الشاطئية بفينيسيا..وراء الواجهة كان ثمة رجل ستيني شديد الأناقة يراقبنا عن كثب. انتبهتْ جويل إلى وجوده وهمست لي: أعرفه.. إنه هو.. غالباً ما يشارك في ندوات فنية على شاشات التلفزيون..أما أنا فقد راحت عيناي إلى عمق القاعة حيث كان هناك وجه أنثوي منكباً على المكتب يضيئ قسَماته الفاتنة ضوء المصباح الصغير إلى جانبه.
دعانا الرجل إلى الدخول. كان واضحاً أنه سيد هذه القاعة أو الغاليري التي تعرض أعمالاً فنية مختلفة: منحوتات، ولوحات زيتية أو مائية، قديمة أو حديثة. علِمَ سبب وجودنا بالمدينة، فسألته إن كان تلقى دعوة إلى حضور افتتاح معرضنا. قال: "أنتَ تعلم، في فينيسيا كل يوم هناك عشرات المعارض.. قد آتي لمعرضكم.. لم لا"
حيّتني صاحبة الوجه الساحر وقد تلقت نظراتي بهزة من الرأس.. قلت في نفسي: لابد أنها عريقة المحتد في هذه المدينة؛ كان جمال سمات الوجه الدقيقة يشي بفرادتها..ورحت أستعيد في مخيلتي وجوه بعض النساء في أفلام فيلليني...
***   ***   ***   ***
كنتُ أنهي من على المنصة كلمتى الافتتاحية حول المعرض حين انفرج باب القاعة عنهما: الرجل الستيني والوجه الساحر. صمتُّ فجأة، دهشة وفرحاً. ثم اختتمتُ حديثي عن فينيسيا المدينة/المرأة: امتزجت فيها ملامح العالمين، الغربي والشرقي، لكنها بقيت لا تنتمي إلا إلى نفسها.. وكان هذا الانتماء الفريد هو ما رافقها على تقلب الأزمنة، منذ عصور وعصور.
***   ***   ***   ***
بقي الستيني والوجه الساحر بصحبتنا حتى خروج آخر زائر من قاعة المعرض، ثم ما لبث أن دعانا إلى تناول شراب ما معاً. عندها عرفت اسمها، جيجي، واسمه: كارلو.

في مقهى فلوريان، بساحة سان ماركو، نجلس معاً: جيجي وكارلو، وزميلتي جويل وأنا. لآول مرة أرى الهاتف المحمول، حين أخرجت جيجي من حقيبتها اليدوية هاتفاً صغيراً وطفقت تتكلم. أمام أريحية مضيفنا، عبرت عن رغبتي بدعوتهما إلى العشاء. وكان جوابه حاسماً:
ــ أنتم في بلدنا.. وعلي أنا أن دعوكم. ثم إني أعرف ما تحب: الماء والخضرة والوجه الحسن! أليس كذلك؟
أبتسمُ وقد فوجئت. بينما تابع:
ــ أما الماء، فكما ترى، لدينا الكثير.. وأما الوجه الحسن، فليس لنا إلا أن نحمد حظنا..لكن الخضرة هي الندرة، وهي ما أريد أن أجعلك تراه هنا في بلد الماء والوجه الحسن!
أجبته: سترى إذن كيف سأحتفل بكما بباريس!
***   ***   ***   ***
ها نحن في المطعم وأمامنا الماء وبصحبتنا الوجه الحسن، بينما ترتفع الخضرة أمام أعيننا عالياً متجسدة في شجرتي دلب على الأرجح. تجلس عن يميني جيجي، وعن شمالي كارلو، معلمها الفنان، وفي مواجهتي زميلتي جويل. سرعان ما ألحظ سهاماً ناريّة في ذهاب وإياب تطلقها العيون عن يميني وعن يساري. عرفت وقد سألتها، أن جيجي محامية، وأنها تميل كثيراً إلى الفنون، وخصوصاً إلى ترميم التحف الفنية، فاختارت أن تدرس على يد هذا الفنان، وهو ما أرادت أن تفسر به سبب وجودها في غاليري كارلو. أسألها: "هل أنت فينيسية الأصل؟" فيجيبني كارلو: "كان أجدادها هم من بنى قصر الدوج الذي كنا فيه قبل قليل"!
لكنها تصحح: لا.. كانوا مَنْ صنعَ الأبواب الخشبية!  كانوا نجارين!
غبطة عارمة تغمرني فجأة. ها هي أمنيتي الثانية تتحقق: في حضرة امرأة فينيسية وخارقة الجمال أيضاً!
وبخفة مراهق طائش أسألها: هل أنتِ متزوجة؟ فتجيب بهزة من رأسها أن نعم. وتنطلق مني، مرة أخرى بالخفة نفسها، مع بعض اللهيب في لفظ الكلمة: "يالها من خسارة!" وسرعان ما ينتهز كارلو الفرصة: "كل يوم أقول لها ذلك!".  لكني بدوري أسارع إلى سؤاله كي أفلت من آثار طيشي: "وأنت؟ هل أنت فينيسي مثلها؟" فتسارع جيجي إلى الإجابة بدلاً عنه: "يقول دوماً لزبائنه اليابانيين إنه حفيد ماركو بولو!"،  ثم يسارع كارلو إلى إجابتي: "أنا من روما لكني أعيش هنا منذ طفولتي.."
بقيت معرفته بالمثل السائر في بلادنا تستثير فضولي. أسأله. وها هو يفيض في عرض معارفه التاريخية بادئاً بأكثرها إثارة:
ــ العلاقات التجارية بين فينيسيا وبلاد الشام شديدة القدم.. بل هي تعود إلى عصر الأمويين! فقد كان دوج فينيسيا يبيع الأمويين المراكب الحربية لمساعدتهم في حروبهم ضد الروم في القسطنطينية! وحين احتج البابا في روما على ذلك، اتفق الدوج مع الخليفة الأموي على أن يرسل له العمال لبناء المراكب محلياً  اعتماداً على الخشب المحلي..
كان حماسه في سرد ذلك يحمل على الإقناع.. ولن تذهبَ بسبب ذلك إلى التحقق من صحة ما سرده.. كان، على طريقته، واعياً أو غير واع، يقول إن الغرب كان دائم الحضور بصورة أو بأخرى في بلادنا!
***   ***   ***   ***
كان علينا، جويل وأنا، أن نستجيب في اليوم التالي إلى دعوة صحفية أمريكية تجاوز عمرها السبعين عاماً لنا كي نتحدث معها عن المعرض الذي أعجبت به والذي ستكتب عنه في صحيفتها. حين أخبرتني جويل بمكان اللقاء ابتسمت في داخلي. لم تكن الدعوة إلى مقهى، أو إلى مكتب، بل إلى بيتها الذي لم يكن شديد البعد عن فندق غريتي.
يقف التاكسي المائي أمام المدخل. ننزل منه ونصعد سلماً لا يقل عدد درجاته عن الستين قطعاً. ذلك هو كما يبدو مدخل البيوت الفينيسية كلها تقريباً. تفتح لنا السيدة الأمريكية الباب. وأجدني في قاعة فسيحة لا يُرى لون جدرانها.. لوحات فنية مختلفة الحجوم والأنواع: بالألوان الزيتية أو المائية أو الغواش أو الحبر الصيني أو الفحم.. معلقة مابين سقف القاعة وأرضها.. أتعرّفُ من الأسلوب على بعض مبدعيها الأشهر بالطبع: مارك شاغال، بابلو بيكاسو، سلفادور دالي، جورج براك، بيير بونار، بول سيزان.. وآخرون وآخرون.. أسأل السيدة وتكاد الدهشة تلجم لساني: يا إلهي، هذا متحف للفن الحديث!..تجيبني: "كلها لوحات مهداة إلى زوجي المرحوم. كان واحداً من كبار المهندسين المعماريين في إيطاليا وكان كل الفنانين الذين ترى لوحاتهم هنا من أصدقائه.. أردتُ بعد رحيله أن أعيش حياته من جديد عبر عيون أصدقائه الذين اختاروا ما يهدونه من لوحاتهم بعناية كما ترى.."
على أحد الجدران، كان ثمة صورة فوتوغرافية متوسطة الحجم لطريق صحراوي مع شارة خشبية عتيقة يعلوها سهم حديدي عريض  كتب عليه: إلى بغداد! تقول لي السيدة: نعم. كان زوجي يحب السفر أيضاً.. وقد زار بلادكم كما ترى.
نتحدث عن المعرض وعن السجاد: "هدية الشرق إلى الغرب" كما كان عنوان المعرض بباريس. تأسف السيدة الأمريكية لأن الفينيسيين لم يحتفظوا بهذا العنوان..ثم يأخذنا الحديث إلى حياتها..تقول: "هل تعلم؟ لي في كل مدينة من مدن هذا العالم الجميلة شقة لي، إلا بباريس!" أبادر إلى أن أقول لها: "اعتبري شقتي بباريس لك إذن منذ الآن!" ابتسمتْ (وكان بوسعها أن تضحك أيضاً بالطبع!) وأجابتني إن بيتها هنا يمكن أن يستقبلني متى شئت..وهذا هو السرير..
كان السرير بالفعل وسط القاعة وقد وضعت فوقه قبة أو "بالدكان" شفاف نطلق عليه في بلادنا "ناموسية" ..ضحكنا جميعاً وهي تصر على أن نتناول طعام الغذاء بصحبتها..كانت تلك الدعوة فرصة إضافية كي نزور الدور الأعلى من المبنى..قاعة كبرى هي الأخرى تتناوب على جدرانها اللوحات والكتب..
وددت فعلاً لو تتاح لي فرصة البقاء يوماً أو بعض يوم كي أتأمل في هذا التاريخ الحافل للفن الحديث عبر شخصية معماري ربطته برسّامي وفناني أوربا صداقة لا تبلى..لكنها أمنية لم تكن ماثلة في الرأس حين رجوت في سري أن أدخل بيتاً فينيسياً.
***   ***   ***   ***
تساءلت وأنا أخرج مما يشبه الحلم: ألم يكن بوسعي أن أتمنى شيئاً آخر مادامت أبواب السماء كانت مفتوحة حينئذ؟ ربما لأن من كان يملي الأمنيات في تلك اللحظة كان هو من سيحققها فيما بعد.. ربما نعم.. وربما لا.


** نشر على موقع ضفة ثالثة، الإثنين 20 شباط/فبراير 2017



jeudi 16 février 2017



تحت طائلة استمرار مسلخ البشر الأسدي
بدرالدين عرودكي
قبل سنتين ونصف تقريباً استرعى انتباهي، كما حدث لغيري آنئذ دون شك، فيلم قصير بثته فضائية مجهولة الراعي والممول، يعرض رجلاً في لبوس شيخ، يحاضر في كيفية جزِّ الرقبة على أحسن وجه وكأنه في غيبوبة نشوة جنسية، وأمامه حاسوب كأنما يلهمه ما فيه ما كان في سبيله إلى قوله.
في تلك الآونة كانت أفلام داعش هوليودية الإخراج تعرض على العالم ضروباً من العقاب الذي تمارسه: قطع الرقاب أو حرق الأحياء أو إلقاء البشر في حفر بلا قرار. وفي الوقت نفسه كانت هناك خمسة وخمسون ألفاً من صور "قيصر" لأحد عشر ألف جثة معتقل قتل تحت التعذيب في سجون النظام الأسدي "العلماني" تنتشر على مواقع الإعلام في العالم أجمع وتقدم دليلاً ملموساً على عنفٍ رسمي سبق للعالم أن عرفه في عهود غابرة أو حديثة لم يكن عهد النازية آخرها، وكان قد أقسم على أن ذلك لن يتكرر. لكنه يتكرر. بل ويتفاقم في كل مرة أكثر من سابقاتها. وعلى مرأى ومسمع من هذا العالم الغارق في أجواء صمت شامل ومريب.
ما كان والحالة هذه لتقرير منظمة العفو الدولية الذي حمل عنوان سوريا: المسلخ البشري، عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسوريا، حول إعدام ثلاثة عشر ألف معتقل في هذا السجن وحده بين عامي 2011 و2016  أن يثير دهشة من عرف وتابع سلوك النظام الأسدي منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، ولا كذلك أن يفاجئ دوائر القرار في عواصم كبرى الدول الإقليمية والدولية. فدوائرها الأمنية على علم دون شك بما كان ولا يزال يجري وراء جدران السجون الأسدية العالية. وليس سجن صيدنايا وحده من يحمل هذا السجل في القتل، فمن قبله كان هناك سجن تدمر، وسجن حلب، وسجن عدرا، وأقبية الفروع الأمنية التي لا يحصى عددها لا في دمشق فحسب بل في كل مدينة من مدن سورية. ومن قبله أيضاً كانت المجازر التي ارتكبت على رؤوس الأشهاد بحلب وحماه وتدمر على امتداد ثمانينيات القرن الماضي وفي ظل النظام الأسدي، مثلما مورست خلال السنوات الست الماضية المجازر بمختلف الوسائل والكيفيات، من الجو وعلى الأرض، وباستخدام كافة الأسلحة التقليدية والاستثنائية بما فيها الكيميائية. أيضاً على مرأى من العالم أجمع.
في ضوء ذلك، لا يمكن لأي مراقب عقلاني النزعة ــ أي لا يستخدم نظارات الأيديولوجيات التي ترسم للعينين ما يجب أن تراه ــ إلا أن يلحظ أن النظام الأسدي من جهة، لا يفعل سوى  السير على هدي النظم الاستبدادية مُجّدِّداً أساليبه وأدواته. وفي كل مجالٍ سياسيّ أو إعلامي بطبيعة الحال. ومن ثم فلا مجال للدهشة أو حتى للتذمر من تكذيب رأس النظام لتقرير منظمة العفو واعتباره "مُسَيَّساً". ذلك أن اتهام "الآخرين" بجرائمه المستمرة بات سياسة رسمية ومعتمدة، لكنها مفضوحة، منذ انفجار الثورة السورية قبل ست سنوات، فضلاً عن أن حلفاءه اليوم يعتمدون هم أيضاً سياسته في الإنكار والاستنكار تحت عناوين متعددة: الكذب أو التلفيق أو التسييس أو غياب المهنية.. إلخ.؛ وأن كل المحاولات الدولية، من جهة أخرى، باتت تصب اليوم في اتجاه واحد: إعادة تأهيل تدريجي لا للنظام الأسدي وحده بل لشخص رأس هذا النظام الذي يعرف الجميع أنه ليس تجسيده فحسب بل رمزه الأساس. ومن ثم فالاستنكار المنافق ليس إلا ضريبة تدفعها القوى الدولية بوجه خاص لكي تلتفت إلى ما هو أجدى في نظرها: حلُّ ما بات يسمى "المقتلة السورية"، في تناسٍ وتجاهلٍ كاملين للسبب الأساس وراء ما يسمونه المقتلة أو بالأحرى، ما يجب أن يُطلَقَ عليها، المجزرة الأسدية، ورأسها المسؤول: النظام الأسدي برجاله ونسائه وأتباعه وحلفائه المحليين والدوليين.
هنا تتجلى خطورة مآلات كل حركة يقوم بها مَنْ يتصدون بجرأة يحسدون عليها "لتمثيل" الثورة السورية أو الشعب السوري.
فما دام البعض ممن اتخذوا "المعارضة" مهنة جديدة ومدرارة يتحدثون بصفاقة غير مسبوقة عن "مقام الرئاسة" كخط أحمر، وما دام آخرون يتغاضون بحجة "الضغوط الدولية" و"ميزان علاقات القوى الذي يميل اليوم إلى جانب القتلة"، وينساقون بالتالي إلى التوقيع على ما لم ولن يسكت عنه ملايين السوريين ممن اعتقِلوا وعُذِّبوا وهُجِّروا وحُرِموا من بيوتهم وأموالهم: أي التعايش مع القتلة أو تحت هيمنتهم أو في ظلهم، فمن الطبيعي أن يرتاح نظام المسلخ إلى مصيره مثلما يرتاح حلفاؤه الضالعون معه في جرائمه، وأن تبدو الطرق أمام السوريين على هذا النحو معبدة بالدماء لا تزال.   
لن تكون ثمة فائدة من الاستمرار في التنديد بالعالم الصامت عن جرائم النظام الأسدي، كما لن يكون مجدياً استنكار محاولة الأعداء والخصوم والأصدقاء إعادة تأهيل النظام المجرم. والأهمُّ أنه لن تكون مجدية أيضاً وخصوصاً ــ في واقع الأمر اليوم ــ ضروب الحراك التي تقوم بها روسيا من أجل فرض حلها السياسي على الجميع، بدءاً بالشعب السوري الذي بات جميع أعدائه الحقيقيين يتنطعون للحديث باسمه ولـ"صالحه". إذ لا شيء في الأفق يشير إلى إمكان فرض مثل هذا الحل الذي لا يملك عناصر إرضاء القوى الإقليمية المتواجدة على الأرض مباشرة أو عبر وكلائها، وفي المقدمة منها إيران وذراعها اللبناني، ثم النظام الأسدي الذي يعلم فيما يخصه كل العلم أن أية مفاوضات جادة حول حلٍّ حقيقي سيطيح به، ومن ثم فقد قرَّر وأعلن منذ المرة الأولى التي جرى فيها الحديث عن حلٍّ سياسي أنه سيعمل دون كلل على الإغراق في التفاصيل؛ وها هو يتابع اليوم ذلك أكثر من أي وقت مضى ريثما يتمكن مع وليِّ نعمته الإيراني من فرض حلِّهما عسكرياً مهما طال بهما الأمر.
ومن المؤسف أننا في مواجهة كل ذلك، نرى أن المعارضة بكل فصائلها وهيئاتها ومنصّاتها وقواها المقاتلة بعيدة كل البعد عن وعي هذا الوضع بكل تعقيداته والعمل بما يمليه من ضرورات ملحة. فهي فضلاً عن تشرذمها الفكري والسياسي والتنظيمي، لا تملك، بفعل غياب الهدف الاستراتيجي الواضح الذي يوحِّدها ويغطي خلافاتها المشروعة وغير المشروعة مرحلياً على الأقل، أيَّ وزن يمكن لها به أن تؤثر على مجرى أو وجهة أية مفاوضات تجري اليوم أياً كان مآلها، وخصوصاً في هذا الوقت الذي تبقى فيه روسيا حتى الآن ــ وفي غياب أي توافق إقليمي ودولي على تحديد الهدف من التفاوض وعلى طبيعته ومآله ــ هي من يهيمن على المسرح السوري سياسياً وعسكرياً.
ضمن هذه الشروط كلها، وما لم يبادر من تصدوا لتمثيل السوريين ضد النظام الأسدي إلى القيام بإعادة نظر شاملة في طرق العمل والتنظيم وتحديد الأهداف المرحلية والاستراتيجية، بالاعتماد على والاستفادة من كل ما يقوم به وينجزه الناشطون السوريون هنا وهناك على صعيد الدراسات والبحوث والمقترحات في كل ما يعني الثورة السورية وتحقيق أهدافها في الحرية وفي الكرامة وفي العدالة ــ وهي الأنوار الوحيدة اليوم في هذه الظلمات ــ، سيبقى نظام المسلخ البشري الأسدي على الساحة، وسيبقى خطر تمدده حقيقياً وماثلاً أمام وبرضى جميع الأعداء والأصدقاء.


** نشر على موقع جيرون، الخميس 16 شباط/فبراير 2017



vendredi 10 février 2017



عمر أميرالاي: ست  سنوات، هو الآخر..


بدرالدين عرودكي
لا يمكن لكل من عرف عمر أميرالاي عن كثب وعلى امتداد السنوات التي عاشها إلا أن يتساءل بين يوم وآخر ما يمكن له أن يقوله بصدد هذه المشكلة أو تلك، وما أكثرها، ولا سيما خلال هذه السنوات الست الأخيرة التي مضت على الثورة وعلى رحيله الذي لم يعلِن عنه: ولكن أين عمر؟
لم تتح لعمر أميرالاي فرصة أن يشهد بأم عينيْه انفجار الثورة في سورية كما كان ينتظر وهو الذي كان يبدو وكأنه يعد الساعات والدقائق حالماً بثورة عاتية تجتث من أرض البلد الذي انتمى إليه وعاش فيه وعمل من أجله كل عفن الفقر والظلم والجهل والتسلط. فقد أريد له أن يرحل على وجه الدقة في اللحظات التي كان البركان خلالها يغلي في أعماق الأرض السورية قبل أن يفجره أطفالٌ في عمر البراعم بدرعا وشبابٌ بدمشق ظنه الجميع قد استقال من التاريخ ومن الجغرافيا خرج يطالب بالحرية والكرامة وابتسامة الأمل تتألق على وجهه قبل أن تمتزج بالآلام والدموع صامدة رغم كل شيء.
لكن هذا الاستثناء في حياة عمر أميرالاي يحيل إلى حياة حافلة بالاستثناءات. فهو على حبه للرسم الكاريكاتوري الذي كان يطمح وهو في الثامنة عشر من عمره أن يبدع فيه بما يتيحه له من استثمار لموهبته في أنبل ضروب السخرية التي كادت أن تكون عيناً أخرى يرى بها العالم من حوله، وعلى حبه للموسيقى وللغناء ومحاولته المتعثرة في ضبط هذه الموهبة الكامنة والسير بها إلى مآلها  ثم الاحتفاظ بآثارها سواء كلما انطلق بصوته الجهير (باريتون) في إنشاد أول الجمل الموسيقية لنشيد الفرح في سمفونية بيتهوفن التاسعة أو حين يجعل من نفسه واحدا من المنشدين في جوقة تؤدي المدائح النبوية، انتهى به الأمر إلى السينما وإلى نوع منها لم يكن شديد الجاذبية في نظر جيله لا في سورية فحسب بل في معظم البلدان العربية، أي السينما التسجيلية. كان ذلك أحد هذه الاستثناءات، وربما كان أهمها دون جدال أن أفلامه التسجيلية التي أنتج منها حوالي العشرين فيلماً خلال ما يقارب أربعين سنة لم تحظ بما كان يسعى إليه من خلالها في المقام الأول: جمهورها. فقد منعت أهمّ إن لم يكن كلّ أفلامه من العرض في سورية باستثناء أول فيلم قصير حققه بعد عودته مباشرة من فرنسا: محاولة عن سد الفرات (1970)، والذي رأى فيه هو نفسه بعد لأي ــ "ولعله كان في ذلك بالذات مخطئاً فيما رأى!"ــ أنه كان خطأ من أخطاء الشباب حين عاد بعد ثلاثة وثلاثين عاماً إلى أماكن تصويره التي اتخذ منها أماكن تصوير فيلمه الآخر مستعيداً مآلات موضوع فيلمه الأول: طوفان في بلاد البعث.
السينما في نظر عمر أميرالاي، وفي ممارسته أيضاً عيْن. عين ترى، وتراقب، وتحاول الفهم، وتشتغل على الإحاطة، وتسجل كل ما التقطته من التفاصيل. كان ذلك ديدنه حين حقق بصحبة الكاتب المسرحي سعد الله ونوس أول فيلم تسجيلي طويل في سورية عام 1972: الحياة اليومية في قرية سورية. وهو فيلم ما كان ليتم تحقيقه وإنجازه لو لم تكن مؤسسة السينما التي أنتجته تحت إدارة شخصية استثنائية الثقافة والإرادة، حميد مرعي. أراد عمر أميرالاي وسعد الله ونوس حينذاك أن يحققا الفيلم بمشاركة أهل القرية التي كانت حياتهم اليومية فيها موضوع الفيلم، على أن يعودا ما إن ينتهيا من إنجازه، بالنسخة الأولى منه وقبل عرضها على الجمهور، إليهم، إلى أبطال الفيلم الحقيقيين، أهل القرية ذاتها، كي يقولوا رأيهم فيما يرونه. وكانا ينويان أن يستكملا بأقوالهم الفيلم قبل عرضه على الجمهور. لكن سرعان ما صدر القرار بمنعه. فقُمِعَ بهذا المنع مشروعٌ ومنهج. مشروع النفاذ إلى واقع كان عمر أميرالاي يتطلع إلى تحقيقه عبر تناول مختلف جوانب الواقع الاجتماعي ومشكلاته في سورية السبعينيات، ومنهج التفاعل بين ما كان يراه ويلاحظه ويسجله بعدسته ثم يعكسه عبر خطاب الفيلم الذي ينجزهمن ناحية، وبين رؤية المعنيين بالمشكلة موضوع الفيلم، من ناحية أخرى. والحقيقة أنه ما كان للنظام الأسدي منذ ذلك الحين أن يسمح بذلك في غمرة همِّهِ العمل على استملاك البلد أرضاً وشعباً.
منع الفيلم الذي أنتجته مؤسسة وطنية. وستمنع الأفلام التالية ما دامت تمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة مشكلة اجتماعية ما. سيمنع الدجاج (1977)، وسيعمل عمر أميرالاي تحت طائلة التوقف عن العمل على التعاون مع القناة الفرنسية الثانية أو القناة السابعة، آرتيه، وكذلك من خلال شركة إنتاج أسسها لتشارك في الإنتاج. هكذا سيحقق عدداً من الأفلام التسجيلية للقنوات الفرنسية كالثانية أو آرتيه مثل فيلمه عن الحرب الأهلية اللبنانية : مصائب قوم (1981)، أو فيلمه عن حصار إسرائيل لبيروت وللمقاومة الفلسطينية فيها، رائحة الجنة (1982).
 لا يغادر عمر أميرالاي في كل الأفلام التي أنجزها خارج سورية همّه الوطني أو الاجتماعي أياً كان الموضوع الذي يتناوله في بيروت أو في الكويت، وانطلاقاً من دمشق أو من باريس، ولن يحيد عن النهج الذي اختطه لنفسه في عمله سينمائياً تسجيلياً. لكن الفيلم الذي سيثير زوبعة لن تهدأ كان فيلمه الرجل ذو النعل الذهبي (2000)، فيلم "عن المال والحياة" سيكون بطله رفيق الحريري، المقاول الملياردير والسياسي الذي، وقد برز "من كواليس" الحرب الأهلية في لبنان كـ"مخلِّص"، "لم ينقسم  اللبنانيون منذ انتهاء الحرب حول قضية مثلما انقسموا حول شخصيته". لم يكن موضع نقد شديد من قبل اليسار اللبناني فحسب بل كذلك من قبل حزب الله وأنصاره قبل أن يهيمن هذا الأخير على لبنان كله بصفته وكيلاً فوق العادة لإيران ولطموحاتها الإمبراطورية المستعادة.
ولأنه كان يعلم كل العلم صعوبة مقاربة شخصية بمثل هذا التعقيد وفي الظروف التي ولدت فيها فكرة الفيلم، فقد حاول منذ البداية أن يحيط نفسه بسياج يحميه من الانصياع لرأي ذاتي مسبق عن بطل فيلمه، وفي الوقت نفسه يفتح أمامه مختلف إمكانات مقاربته. هكذا عاد في آن واحد إلى ما يمكن اعتباره جمهور رفيق الحريري الطبيعي، أم عصمت، التي ترى فيه "شخصية طيبة ومعروفة في العالم كله ولاسيما في بلدها، لبنان"، وأنه "محبوب من قبل الناس، رغم الأعداء الكثر بسبب الحسد"،  وكذلك إلى مختلف أصوات المثقفين اليساريين الصارمة من أصدقائه: فواز طرابلسي الذي يتوقع من عمر أن يتوصل إلى حمل الحريري على تقديم كشف الحساب بعد حكم استمر ست سنوات، والياس خوري الذي تساءل عما إذا كان عمر سيتمكن رغم المعايشة الشخصية أثناء الفيلم من الاستمرار في رؤية المسؤولية السياسية لدى بطله، وسمير قصير  الذي لم يكن يرى للفيلم معنى إن لم تؤدِّ محاولته النفاذ إلى الإنسان في رفيق الحريري إلى نقد ذاتي لدى هذا الأخير.
سيكتشف عمر أثناء حواره المستمر مع بطله كيف كانت تتهاوى عناصر رؤيته/فرضيته  التي انطلق منها في الفيلم، فبدا له عمله وكأنه استعراض لشجونه حين لم يتمكن من تحقيق ما كان الأصدقاء ينتظرونه: أن يُحضِرَ لهم كما قال رأس الفتنة! سيعود إليهم ثانية مع ذلك، وسيقول كل منهم رأيه فيما رأى وبعض الخيبة تشوب كلماته. فطرابلسي يعلن رفضه أن يكون "في بلد خارج من حرب أن يكون بهذا المستوى من البذخ يقابله هذا المستوى من الحاجة" كما يقول عدم فهمه أن يسمح رئيس وزراء لنفسه بذلك. في حين يخلص سمير قصير إلى اعتبار أن "ما عمله الحريري في البلد فريد بمنهجه إلى درجة استغلال الثروة كوسيلة للاحتفاظ بالسلطة". وعلى أن الياس خوري رأى في صيرورة الحريري مجرد زعيم للسنة في لبنان فشلٌ لمشروعه، إلا أنه رأى مع ذلك وجهاً آخر في هذه الشخصية الإشكالية التي عايشها عمر طوال الفيلم، حين سينهي قوله برؤية استباقية عبر عنها بجملة تكتسب اليوم كل معانيها: "يمكن أن يصير رفيق الحريري بعد عشر سنوات شخصية درامية هائلة"! كان ذلك عام 2000. وقد صار.
ربما لا ينطوي أي فيلم آخر أنجزه عمر أميرالاي على كل ما كان يعتبره من ضرورات وشروط تحقيق فيلم تسجيلي كما انطوى عليه فيلم عمر هذا. وربما كان الشك والخشية اللذان أحاطا بفرضيته المسبقة عن بطل فيلمه عند بدء عمله هما من أتاحا فيه مختلف الإمكانات. فشرعية تعدد زوايا الرؤية، ونقد الأحكام المسبقة، والصدق الفني حتى النهاية مع قبول نتائجه غير المنتظرة وتقديمها كما هي، تبدو، على وجه الدقة، قوام العناصر التي جعلت من الفيلم التسجيلي فيلماً درامياً بامتياز.
كان عمر يخطط لإنتاج عدد من الأفلام الروائية: عن القرامطة، وعن أسمهان، وعن إغراء..وكان بوسع هذه الأفلام لو تحققت أن تكشف أطيافاً لا حصر لها من خبرة درامية فيّاضة لدى هذا الفنان الاستثنائي..خبرة تقولها مع ذلك الأفلام العشرون التي حققها والتي رسمته منذ الحياة اليومية في قرية سورية، فارس السينما التسجيلية الأول في العالم العربي..

*  نشر هذ المقال على موقع جيرون، الجمعة 10 شباط/فبراير 2017.




jeudi 2 février 2017



من إسقاط  النظام  إلى مواجهة  الاحتلال 
بدرالدين عرودكي
بعد أن أدت قواتها الجوية خلال خمسة عشر شهراً دورها في تغطية الميليشيات الأسدية والإيرانية بتشكيلاتها المختلفة في أرجاء سورية دون أن تحقق معها هذه الأخيرة أكثر من الحيلولة دون سقوط النظام الأسدي، وبعد عدم توانيها بعد اتفاقها مع تركيا عن أن تمارس كل ضروب التدمير في حلب من أجل تمكين هذه الميليشيات من دخول أحيائها الشرقية وإخراج المقاتلين منها وبالتالي السيطرة على كامل مدينة حلب، قررت روسيا في انتظار استقرار الإدارة الأمريكية الجديدة وبدء عملها الفعلي أن تدشن ما كانت تسعى إليه، أي استئناف ما أطلقت عليه عملية الحل السياسي، فكانت مبادرتها إلى فرض وقف إطلاق النار بضمانة الشريكيْن: روسيا وتركيا، ثم دعوة النظام والجماعات المسلحة على اختلافها باستثناء داعش والنصرة إلى اجتماع أستانة من أجل تثبيت وقف إطلاق النار هذا بين "الطرفيْن".  
من الواضح أن روسيا تعلم أنها لن تستطيع مهما فعلت أن تنفرد بفرض الحل الذي تريده في سورية. وأنه لا بد لها للوصول إليه من الموازنة على الصعيد الإقليمي بين المصالح الإيرانية والتركية على ما بينهما من تباعد، وبين مصالح مختلف القوى العربية الأخرى وإن بدت في الفترة الأخيرة خارج المشهد. وأنها لا يمكن أن تحقق كل ما تشاء في فترة المرحلة الانتقالية بين الإدارتين في الرئاسة الأمريكية نظراً للاختلاف المتوقع في تشخيص المسألة السورية وطرق حلها من ناحية، وما يمكن أن تؤول إليه العلاقات الروسية الأمريكية على مختلف الأصعدة من ناحية ثانية.
لكن بعض مآلات التواطؤ الأمريكي الروسي فيما يخص المسألة السورية ولاسيما فيما يتعلق بإطلاق اليد الروسية في في فرض الحل السياسي بسورية تحت مظلة قرارات الأمم المتحدة التي ستطبقها روسيا حسب فهمها لها، كانت مع ذلك ماثلة في وضع النوايا الروسية موضع التنفيذ وباتفاق مع الشريكين، إيران (التي، وقد باتت تخشى من الانقلاب المنتظر في السياسة الأمريكية نحوها، لم تتوقف عن التذكير بحضورها المادي في سورية وتحاول صيانته بالاتفاقيات الموقعة على عجل) وتركيا (التي ضمنت سلوك ومواقف القوى المقاتلة ضد الميليشيات الأسدية والإيرانية)، اعتباراً من الدعوة إلى مؤتمر آستانة الأخير: وضع  الأولويات، أي الحل السياسي كما عملت من أجله روسيا منذ البداية، تحديد واختيار وفد المعارضة السياسية لهذا الغرض بعد مختلف ضروب التهميش التي مارستها إزاءها كي يمكن تشكيل الوفد "المناسب" للحل السياسي المنتظر، اقتراح "دستور" لسورية حسب التصور الروسي وبترجمة بائسة للعربية، والذي كان يراد منه في الحقيقة فيما انطوى عليه من عناصر أساس، وضعَ النقاط على الحروف  بالنسبة إلى جدول أعمال المفاوضات القادمة، ثم تثبيت موعد المؤتمر القادم  في جنيف الذي ستنظمه الأمم المتحدة تحت الرعاية والرقابة الروسيتيْن.
 لم يكن والحالة هذه إعلان تأجيل هذا المؤتمر، الذي خطط له من أجل البدء في بحث الحل السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 الذي يعتمد مرجعية بيان جنيف عام 2012 وبيانيْ فيينا، ولما تمض ساعات على انتهاء مؤتمر أستانة، لا عبثاً ولا مفاجئاً. إذ كان واضحاً أن الإدارة الأمريكية الجديدة التي ما فتئت تعلن انكفاءها نحو الداخل الأمريكي لم تكن شديدة الاكتراث بمؤتمر أستانة التي مثلها فيه سفيرها في كازاخستان. إذ أن السبب الرئيس في التأجيل كما بدا على الفور من التصريحات الروسية والأممية كان يتجلى في ضرورة استكمال إعداد الوفد "المناسب" الذي يفترض فيه تمثيل "المعارضة". لم يُدْعَ أي تشكيل من "المعارضة" ولاسيما الهيئة العليا للمفاوضات إلى أستانة بحجة موضوع اقتصار المؤتمر على بحث آليات "تثبيت وقف إطلاق النار" مع العسكريين، في حين لم يُشترَط أن يكون وفد النظام عسكرياً! ولم يُدع بعد المؤتمر إلى المدينة نفسها إعداداً لمؤتمر جنيف سوى الأشخاص المنتمون إلى هذه الهيئة أو تلك من "المعارضات" السورية بصفتهم الفردية حصراً لا بصفتهم التمثيلية. كان ذلك يعني أول محاولة روسية لكسر مفهوم الوفد الموحد الذي مثلته الهيئة العليا للمفاوضات لصالح صيغة أخرى عبَّر عنها ديمستورا أمام مجلس الأمن حين أعلن مُهَدِّداً، أنه سيقوم في حال عجز هيئات المعارضة عن تشكيل وفد موحد إلى جنيف، بتسمية أعضاء الوفد المنتظر!
لا يشي هذا القول الأخير مع عِلمِ قائله أنه لا يملك مثل هذه الصلاحية التي يهدد باستخدامها إلا بما يدور في مطبخ الخارجية الروسية بناء على توافق روسي/أمريكي مسبق. والحق أن تأليف وفد يستجيب للتطلعات الروسية ولرؤيتها للحل السياسي هو ما لم تتوقف السلطات الروسية عن العمل له منذ عام 2012 بعد إنجاز النظام الأسدي كسر اندفاعة الثورة بالعنف غير المسبوق الذي استخدمه ضد المتظاهرين المطالبين بسقوطه، ثم عبر اختراقاته صفوف مختلف هيئات المعارضة التي حلت على الصعيد الإقليمي والدولي محل تنسيقيات الثورة وهيئتها العامة الممثلة لها. وعلى أن روسيا حاولت منذ الاتفاق على وقف إطلاق النار وتثبيته بقرار لمجلس الأمن أن تلعب دور الراعي لمفاوضات تجري بين النظام الأسدي والجماعات المقاتلة على الأرض، فإنها لا تستطيع ــ وربما يكون ذلك آخر همومها ــ أن تنزع عن نفسها صفة الدولة المحتلة أو المنتدبة على مصير سورية دون تفويض من أحد.
يعزز هذا الواقع مسارعة الشريك الآخر لروسيا، إيران، لتثبيت مواقعها في سورية عن طريق العديد من الاتفاقيات التي لم يتوان النظام الأسدي عن توقيعها والتي تضمن لها أكثر من موطئ قدم في سورية، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الإعلامي أو الميداني. في حين ستكتفي تركيا بعد أن ضمنت عن طريق تحالفها مع روسيا في المسألة السورية عدم قيام كيان كردي على حدودها، أن تخفف ما أمكنها ــ ولو شكلياً ــ من آثار انعطافة موقفها السياسي من المسألة السورية على طبيعة الحل السياسي الذي تعمل روسيا على فرضه بموافقتها.
لو أردنا وصف الحالة السورية الراهنة لما أمكن القول سوى أن سورية بلدٌ محتل وما يسمى فيها بالنظام ليس إلا دريئة المحتل وحلفائه على الصعيد الدولي. بلدٌ تتقاسمه اليوم في مقدمة المشهد مصالح قوة عظمى وقوتيْن إقليميتين، مثلما تتقاسمه في  خلفيته ومنذ البداية مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة، فضلاً عن مصالح قوى أخرى لا حصر لها. وأن العدوّ لم يعد يتمثل فعلاً بالنظام الأسدي بقدر ما يتجسد في روسيا صاحبة القرار الأول على الأرض السورية وإيران القادرة على عرقلة كل ما لا يستجيب لمصالحها.  
إذا كان ذلك صحيحاً، فما العمل؟
لا نعثر اليوم على الأقل لدى من رفعوا شعار إسقاط النظام على جواب واضح رغم أن هذه الحالة تتواجد فعلياً منذ الثلاثين من أيلول عام 2015. ولا كذلك عن استراتيجية واضحة يمليها هذا الوضع غير المسبوق.
من المؤكد أنه لن يكون في التوقف عن أو الاستمرار في ممارسة السياسة في مثل هذه الظروف الحافلة باختلال موازين القوى سياسياً وعسكرياً، والمشحونة بإرادات القوى الخارجية. ولكن، ألا يملي هذا الوضع تغيير الخطاب والمفردات بعد إعادة توصيف الأهداف والطريق إلى تحقيقها؟


** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 2 شباط/فبراير 2017.


mercredi 1 février 2017





ألف  ليلة  وليلة 
في الكلام غير المباح!


لوحة للفنان ليون باكت، مسرحية شهرزاد 1910 (Getty)

بدرالدين عرودكي
لم يحظ مُبْدَعٌ أدبي في تاريخ الآداب الإنسانية بما حظيت به حكايات ألف ليلة وليلة: اجتازت مئات السنين وشهدت عصور التنوير والحداثة والثورات العلمية والفكرية والأدبية دون أن تتوقف عن متابعة طريقها إلى قلوب الناس وعقولهم وخيالهم على اختلافهم في المنبت والانتماء والمقام واللغة. ومع ذلك فهي تكاد تكون الوحيدة بين كبرى المبدعات الأدبية الإنسانية التي لا يمكن لأحدٍ، فرداً أو جماعة، زعمَ حيازته ملكيتها الأدبية. ويبدو أنه على الرغم من آلاف الصفحات التي حررت نتيجة البحث والتدقيق والتمحيص وبمختلف اللغات شرقاً وغرباً لا تزال النتائج منحصرة في ميدان الفرضيات، ولَمْ وربما لنْ يتمكن أحدٌ من قولٍ فصلٍ في هذا المجال.
ولن يغير من هذا الواقع على ما يبدو حتى اليوم ما يراه الباحث المغربي أبو بكر الشرايبي من ناحيته مُقرَّراً بإجماع المؤلفين العرب في القرنين التاسع والعاشر على اعتبار أصل ألف ليلة وليلة فارسياً ما دامت قد انطلقت من ترجمة كتاب هزار آفسانه أو ألف خرافة، الذي أشار إليه المسعودي (956) في كتابه مروج الذهب مثلما أِشار إليه ابن النديم في الفهرست (995). وعلى أن أياً منهما لم يُسَمِّ من ترجم الكتاب إلى العربية ولا متى تمت ترجمته على وجه الدقة أو التقريب، فإن الشرايبي يخلص مما قالاه بيقين إلى ما رأى فيه تلاشي السرِّ عن ألف ليلة وليلة حين يقرر أن جوهر الكتاب "رسا في الأدب الفارسي المكتوب". وهو ما لم يكن ليقطع به بهذه الطريقة كلٌّ من الشاعر والكاتب الجزائري جمال الدين بن شيخ (1930 ـ 2005)  الذي قضى ما يزيد عن أربعين عاماً بحثاً دؤوباً حول هذا المبدع وصولاً إلى ترجمته ترجمة جديدة إلى الفرنسية بصحبة الكاتب والأكاديمي الفرنسي أندريه ميكيل. لم يقل كلاهما بـ"الرسو في الأدب الفارسي المكتوب" بل إنَّ "إيران قد أدت دوراً حاسماً عبر الترجمات التي قامت بها عن الهندية لعدد من المؤلفات مثل كليلة ودمنة أو سندباد الحكيم، وكذلك عبر إسهاماتها الخاصة، في هذا الكنز المشترك" وكلاهما أيضاً يريان أن في تحليل نصوص الحكايا ذاتها ما يمكن أن يجيب عن كثير من الأسئلة التي ما فتئ مؤرخو نصوص الليالي يطرحونها دون أن يعثروا على جواب حاسم في متون الكتب أو المخطوطات الكلاسيكية. إذ لا يخرج عن مجال الافتراض القول بأن ترجمة ألف خرافة قد جرت في النصف الثاني من القرن الثامن، لكن ما هو في منزلة المؤكد أكثر وبدليل نصوص الليالي ذاتها في تلك الفترة إسهامُ الهند في الحكاية/الإطار كما يقول بن شيخ. أما الدراسات التي تناولت ألف ليلة وليلة كما وصلت إلينا من طبعة بولاق الأولى عام 1835 في 122 حكاية ثم طبعة كلكتا الثانية عام 1839/1842 والتي تعتبر أكمل طبعة لاحتوائها على 123 حكاية، فلسوف تبين لنا عبر تحليل مورفولوجية كل حكاية على حدة وتدقيق عناصرها وعباراتها وصيغها السحرية أو إشاراتها أصولَها الهندية أو الفارسية أو العربية.
ذلك أن هذه الدراسات قد أظهرت أيضاً فضلاً عن الأصول الهندية والفارسية في الليالي، آثاراً يونانية من خلال بعض الإشارات أو القرابات أو التفاصيل الإثنية. لكن الآثار العربية التي بلغت منزلة الأصول كانت تتكامل بالتدريج عبر رحلة هذا المبدع في الزمان بين القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر وفي المكان من بغداد إلى دمشق فالقاهرة.  رحلة انعطفت بكتاب ألف ليلة وليلة مخطوطاً عند وصولها دمشق نحو باريس ثم جعلت منها حين انتهت في مصر كتاباً ما كان للمسعودي أو لابن النديم أن يعثرا إلا على القليل مما سبق لهما أن قرآه فيه في القرن العاشر، والذي سينطلق اعتباراً من القاهرة ثانية إلى أوربا في نهاية القرن التاسع عشر كي يبدأ رحلته في العالم كأحد كبرى روائع الآداب العالمية. 

خلال هذه الرحلة في الزمان التي استمرت ألف عام، وفي المكان، في بغداد أو في دمشق وحلب أو في القاهرة، كانت الحكايات تنسخ ويعاد نسخها مرات ومرات. وكانت كلما نسخت تزداد حجماً وتغتني بإضافات النساخ تعديلاً أو تصحيحاً أو إضافات جديدة من حكايات تشي بالمكان وبأهله، أو بالعصر وعاداته. فقد كان عدد نسخ المخطوطات الموجودة في أوربا باستثناء تلك الموجودة في القارات الأخرى، والتي أحصيت في نهاية الرحلة، قد بلغ سبعين مخطوطة صنفت حسب انتمائها الجغرافي: فهناك الفرع السوري، الذي يضم الحكايات التي عرفتها الحقبة العباسية والتي نقل عنها الفرنسي أنطوان غالان، أي مخطوطات أحمد الرباط (الحلبي ثم الدمشقي) والذي أعاد حسب الباحث السوري إبراهيم العاقل كتابة نسختين على الأقل من الليالي: إحداهما مقسمة حسب الليالي، والأخرى بغير تقسيم وحملت عنوان سمر،  كلاهما مقسم إلى أجزاء بعضها محفوظ في المتحف البريطاني وبعضها الآخر بين برلين وتوبنجن.  أما الفرع المصري، فهو يضيف في المخطوطات التي كتبت فيها إلى حكايات الحقبة العباسية والشامية كل ما أضافه النساخ المصريون ولاسيما المخطوطات التي تنسب إلى علي الأنصاري ابن الشيخ إبراهيم الأنصاري والتي بلغ عدد ورقاتها حسب إبراهيم عاقل 7677 ورقة وتمت بين 1800 و1810 والتي كانت أساس طبعة بولاق ثم المخطوطتان اللتان أنجزهما في كلكتا عام 1829 نساخ عرف باسم علي سلطان، وكانتا مصدر الطبعة التي تنتمي إلى هذه المدينة. هكذا كثرت المخطوطات حتى جرت العادة أن يقال إن هناك من كتب ألف ليلة وليلة بقدر ما هناك من المخطوطات!
كان ذلك كله ماثلاً أمام جمال الدين بن شيخ وأندريه ميكيل عندما باشرا العمل قبل أكثر من وطوال ما يقارب أربعين عاماً في مشروعهما المشترك: ترجمة ألف ليلة وليلة ترجمة جديدة تتجاوز نواقص وعثرات أو إهمال أو قصور الترجمات السابقة. لكن ذلك كان يحتاج بالطبع إلى مقاربة هذا المبدع الأدبي الفريد تاريخاً ونصاً، تحليلاً وفهماً، فضلاً عن العمل على إتاحة قراءته بمفاتيح تتجاوز القراءات التي أتاحتها تلك الترجمات.

هكذا كانت أولى كتابات بن شيخ عن ألف ليلة وليلة تقديم هذا المبدع بصورة إجمالية لا يعتورها خلل في المنهج أو الدقة في موسوعة أونيفرساليس الفرنسية (الجزء الحادي عشر) الصادرة عام 1968، والذي سيكون في الوقت نفسه مدخلاً إلى مشروعه الكبير: "ألف ليلة وليلة أو الكلمة السجينة" كما عنون كتابه الأول حول هذا المُبدع الذي صدر عام 1988 بعد أن شرع بالعمل في مشروع ترجمة جديدة مشترك لليالي إلى الفرنسية. كما كان أول ما كتبه أندريه ميكيل على وجه الدقة يؤلف مدخلاً إلى ما سيصير هو الآخر مشروعه الكبير والذي سيقوده بالضرورة إلى اللقاء والعمل جنباً إلى جنب مع جمال الدين بن شيخ، أي كتابه الذي نشره عام 1977 تحت عنوان "حكاية من ألف ليلة وليلة: عجيب وغريب"، واحتوى ترجمته للحكاية التي لم تكن ضمن حكايات ألف ليلة وليلة التي ترجمت من قبل إلى الفرنسية سواء تلك التي  قام بها أنطوان غالان (1646 ـ 1715)، أو تلك الأقرب عهداً من الأولى والتي أنجزها  شارل ماردروس (1868 ـ 1949) أو الترجمة الثالثة التي حققها رينيه خوام (1917 ـ 2004). كما احتوى أيضاً دراسة واسعة بدأت في البحث في "العجيب" وفي "الغريب" انطلاقاً من اسميْ بطليْ الحكاية: عجيب وغريب! كي تصير نتيجة تحليل مختلف عناصرها بحثاً يعالج فضاء الحكاية وزمانها وحدثها وخطابها بما يجعلها تحيل إلى قراءة أخرى حسب حكاية جوهرية أساس، أي حكاية عربٍ منتصرين يرويها عربٌ مهزومون. على هذا النحو، سيعلن أندريه ميكيل في نهاية كتابه هذا بعد طرح الأسئلة وإن بصورة مواربة "ضرورة طبعة محققة للنص بما أثاره الكتاب من رغبة في التنافس مع تحفة على هذا القدر من العظمة، تحفة سيتوجب ذات يوم عبر عروبيتها ذاتها وسمُ المكانة الفريدة التي تحتلها في الأدب العالمي." وسيشترك كلاهما مع زميل ثالث لهما، كلود بريمون، في كتاب صدر عام 1991 وحمل عنوان "ألف حكاية وحكاية عن الليل" وحلقات دراسية في الجامعة ستمتد حتى نشر الترجمة الكاملة اعتماداً  على نسختي بولاق وكلكتا في أعرق سلسلة أنجزتها دار نشر فرنسية، سلسلة لابلياد عامي  2005  و 2006. ذلك أن "التنقيح المصري لليالي سيبلغ من العمر عما قريب قرنين من الوجود، وأنه ولد في بلد معروفٌ دوره في المحافظة على الكنز وأنه أخيراً كان مصدر أهم الترجمات".
لكن ما يسترعي الانتباه في هذا الجهد المذهل تواضع الشريكين اللذيْن بذلاه، جمال الدين بن شيخ وأندريه ميكيل، حين يعلنان في مقدمتهما له أن الطبعة المحققة التي كانا يدعوان إليها لم تتحقق في هذه الترجمة إلا جزئياً. على أنه يكفي أن يستعرض القارئ المراجع التي اعتمدوها، والمخطوطات التي درسوها، وكافة الجهود التي أنجزت من قبل في ترجمة هذا المبدع الاستثنائي إلى اللغات الأوربية كي يعلم أن هذه الترجمة ستبقى الترجمة المنجزة الأكمل لهذا المبدع الذي بات منذ زمن طويل جزءاً أساساً في تراث الإنسانية الأدبي.


** نشر على موقع ضفة ثالثة، الأربعاء 1 شباط/فبراير 2017