vendredi 25 novembre 2016



من استحالة الترجمة إلى إمكانها 
بدرالدين عرودكي 
هل ما يُطلق عليه عادة "الترجمة الأمينة" ممكنة فعلاً أم أنها من المستحيلات؟
سيبدو السؤال ساذجاً ولاشك بل وربما شديد السذاجة. غير أن السؤال الأكثر واقعية سينصب على الإمكان وعلى مداه: إلى أي حدّ يمكننا الحديث عن ترجمة ممكنة، وما مدى هذا الإمكان، وهل هناك مقومات لوجوده  تجعله واقعاً طبيعياً ممكن التحقيق؟
لابد أن أغلبنا، أو أنَّ عدداً منا بصورة أدق، قد ظن عندما أقبل للمرة الأولى على ركوب هذه المغامرة الخطيرة قبل أن يراوده أي إحساس بما تنطوي عليه، أن الترجمة تقتصر على معرفة لغتين، لغته الأم التي يفترض أنه يتقنها واللغة الأخرى التي يحسب أنه أتقنها وبوسعه الترجمة عنها. فيكفيه آنئذ أن يبحث في القاموس عن الكلمات المقابلة وأن يختار ما يراه أقرب إلى المعنى المراد في النص الأصلي كي ينقل من لغة إلى أخرى نصاً أدبياً أو فكرياً ظاناً أنه سيُفهم في اللغة التي نقل إليها مثلما فُهِمَ في لغته الأصلية.
ثم يكتشف بعد سنوات أن الأمر ليس على هذا النحو، ولا كذلك بهذه البساطة، وتكاد المشكلات التي يواجهها يوماً بعد يوم وكتاباً بعد كتاب، أن تكون على قدر ما يكتشفه من شراك ومصاعب تكاد بها أن ترسي لديه القناعة بما يشبه استحالة الترجمة.. أو، بصيغة أخف وقعاً، استحالة الأمانة في الترجمة لسبب بسيط: أنه لا مجال في هذا المجال للأمانة ولا للدقة إلا بصورة نسبية بل وشديدة النسبية.
سيحدث الاكتشاف فجأة ذات يوم حين نقرأ قصيدة نحفظها عن ظهر قلب مترجمة إلى لغة أخرى نعرفها، أو رواية سبق أن قرأناها وأعجبنا بها وبعالمها في لغتها الأصلية، أو كتاباً فلسفياً أو في أي فرع من فروع العلوم الاجتماعية أو الإنسانية، سنكتشف أننا في الحالات الثلاث أمام عالميْن مختلفين، لكل منهما كلماته أو مصطلحاته وقوانينه ومشاهده وإيحاءاته ودلالاته. لن يكون العالمان متطابقين، وربما لن يكونا متشابهين أيضاً بما أن المشكلة الأساس لا تكمن في قدرة المترجم أياً كان عمق معارفه اللغوية بقدر ما تكمن في إمكانات أية لغة من لغات العالم على أن تقول ما تقوله لغة أخرى بصورة متطابقة. 
هل ستؤدي بنا ملاحظة ذلك إلى القول باستحالة الترجمة؟ ربما قادتنا كثرة المقارنات بين النصوص في لغتها الأولى وتلك التي صاغتها الترجمة في لغة أخرى إلى ما يشبه هذه النتيجة. لكن علينا قبل الاستقرار عند هذه النتيجة العبثية أن نتساءل واقعياً: ولكن، ما الذي ننتظره في حقيقة الأمر من الترجمة؟
نعلم حق العلم أن القارئ الفرنسي مثلاً لن يتلقى المعلقات العشر مترجمة إلى لغته، ولو كان مترجمها جاك بيرك، كما يتلقاها القارئ العربي، مثلما لن يتلقى القارئ العربي قصائد سان جون بيرس، ولو كان مترجمها أدونيس، كما يتلقاها القارئ الفرنسي. يسري ذلك على النصوص الشعرية مثلما يسري على النصوص السردية في الآداب العالمية بلا تمييز. من هنا نفهم لماذا حرص كبار مترجمي النصوص الجوهرية في تاريخ الآداب العالمية على عدم اعتبار ترجماتهم نصوصاً نهائية. أعاد جاك بيرك النظر مراراً وتكراراً في ترجمته للمعلقات العشر لدى كل طبعة جديدة كانت تصدر بها وذلك على ما بذله من جهد خارق في ترجمتها. ولخص رأيه في موضوع الترجمة حين كتب عند نشر ترجمته للقرآن: محاولة ترجمة.
عرفت اللغة الفرنسية خلال القرن العشرين على الأقل عدداً كبيراً من الترجمات للقرآن توضح المقارنة بينها المعنى الذي حمل بيرك على تسمية ترجمته محاولة. وبوحي من هذه التسمية يمكن وصف الترجمة بأنها محاولة نقل للنص الأصلي إلى لغة أخرى لا يمكنها أن تفلت من  مختلف التحفظات اللغوية والدلالية والمعرفية التي يمكن أن تستثيرها أو تستدعيها.
سنلاحظ في مقارناتنا أن المشكلة المعنية هنا، أي مشكلة التطابق التام بين النص الأصلي والنص المُترجم، مشكلة عامة في كل اللغات وليست وقفاً على اللغة العربية كما يظن بعض العاملين في الترجمة من العرب على وجه الخصوص حين يتهمون اللغة العربية جهلاً بها أو كسلاً بقصور قدراتها على استيعاب المفاهيم الحديثة في العلوم الاجتماعية أو الإنسانية، ناسين أن العرب استطاعوا أن ينقلوا إلى لغتهم ثمرات الفلسفة اليونانية في المنطق والطبيعة وما وراء الطبيعة في عصر لم تعرف لهم فيه كتابات من قبل في هذا المجال!
استحالة المطابقة لا تعني بطبيعة الحال استحالة المقاربة. لكن هذه الأخيرة تطرح في بيئة اللغة العربية اليوم عدداً من المشكلات التي واجهت ولا تزال تواجه المترجم العربي في ممارستها والتي يمكن محاولة حصرها قدر الإمكان في فئتيْن: الأولى في ما يخص ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية، والثانية فيما يخص ترجمة المُبدعات الأدبية.
فوضى المصطلحات هي المشكلة الأساس في الفئة الأولى. وهي أول ما يمكن ملاحظته في ما يصدر من ترجمات في مشرق العالم العربي وفي مغربه في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. ليست المشكلة كما سبق القول في اللغة العربية بقدر ما هي افتقار المترجم العربي إلى قواميس حديثة وناجعة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية تكون ثمرة عمل المؤسسات المختصة بها وفي مقدمتها بالطبع المجامع اللغوية العربية التي تبقى شديدة التقصير في هذا المجال. تجدر الإشارة هنا إلى محاولات بعض مؤسسات الترجمة العربية الإسهام في توحيد المصطلحات عن طريق الطلب إلى المتعاونين معها وضع فهرس تفصيلي بالمصطلحات التي اختاروها في ترجمة كتبهم. ولقد بات لدى واحدة من هذه المؤسسات كمّاً من المصطلحات نشرته على موقعها تحت عنوان "مشروع المصطلحات الخاصة بالمنظمة العربية للترجمة". لكنه حتى الآن لا يزيد للأسف عن أن يكون تجميعاً للمصطلحات التي اعتمدها مختلف مترجمي المنظمة في ترجمة كتبهم عن عدة لغات أوربية خصوصاً. ربما يصلح هذا العمل كي يؤلف قاعدة مشروع أوسع يطمح إلى توحيد المصطلح بناء على قواعد لغوية ومعرفية تلائم الفروع العلمية المختلفة وتأخذ بعين الاعتبار مختلف وجهات نظر المترجمين والمختصين واللغويين بحيث تؤدي إلى وضع قاموس عام يمكن أن يقبله ويعتمده المترجمون في مختلف البلدان العربية.
أما فيما يخص ترجمة المبدعات الأدبية فالمشكلة، وهي متشعبة وشديدة التعقيد وإن كان ذلك على أصعدة أخرى، تمسّ هنا بالذات لا قدرة المترجم فحسب بل حساسيته ومنهجه في تناول المبدع الأدبي. ههنا تبرز أمامنا شراك الترجمة ومطبات دهاليزها الخفية التي لا تتكشف لنا إلا بعد لأي! ذلك أن الأمر لا يتعلق بالعثور على مصطلحات يمكن نحتها أو تركيبها في اللغة التي تنقل إليها انطلاقاً من  معطيات تلك التي تتم محاولة ترجمتها، بل يمس خصوصاً الكلمات الجوهرية التي تعتبر مفاتيح المُبدع السردي أو الشعري، وهي كلمات غالباً ما تفلت من كل إمكان للتحديد يسهل العثور على معادلاتها في اللغات الأخرى. والأمثلة على مثل هذه الكلمات أكثر من أن تحصى. يقول ميلان كونديرا في قاموس كلماته الجوهرية عن فعل (Ensevelir) باللغة الفرنسية (وترجمته: كفَّنَ) أنه ينزع "بصورة رحمانية عن أكثر الأفعال إثارة للرعب جانبَه المادي المرعب. ذلك أن جذر الفعل (sevel) لا يستثير فيّ شيئاً، في حين أن رنين الكلمة يحملني على الحلم: نسغ (sève) ـ حرير (soie) ـ حواء (Eve) ـ إيفلين (Eveline) ـ مخمل (velour)؛ حَجْبٌ بالحرير وبالمخمل." فإلى أي حدٍّ يمكن للكلمة العربية "كفَّنَ" التي نترجمها بها أن تؤدي من حيث المبدأ معناها وإيحاءاته المختلفة هذه؟
هنا مكمن المعضلة الأساس في ترجمة المبدعات الأدبية، الروائية منها والشعرية.
كلمة أخرى مماثلة فيما يمكن أن تنطوي عليه أيضاً من إيحاءات بفعل تاريخ استخدامها لا بفعل رنين حروفها أو دلالات عناصرها، وهي الكلمة الفرنسيةLibertin : " لقد انطوت هذه الكلمة بالفرنسية دوماً على مفهومين يدلان على واقع واحد. ففي القرن السابع عشر كانت الكلمة تعني كلّ من كان على استعداد للقتال حتى التضحية بنفسه دفاعاً عن حرية التفكير ولا سيما التفكير ضد الفكر السائد. ثم عنت بعد ذلك كل من وسَّعَ من مساحة مفهوم هذه الحرية إلى الحياة اليومية والعلاقات بين الرجال والنساء والأخلاق، وهكذا انطلقنا من الحرية حتى الإباحية ولا سيما الإباحية الجنسية. لكن هذه الأخيرة طريقة أكثر شهرة، ومن ثم فهي أكثر قوة، لمناهضة الفكر والنظام السائدين."
ألا نرى كيف أن كلمة "المتحرر" تارة أو كلمة "الفاسق" تارة أخرى التي نترجم بها هذه الكلمة حسب المراد منها في سياق النص تبتعد بنا عن إيحاءات الكلمة الأصلية ومدلولاتها؟ وفي هذه الحال، ما هي الكلمة العربية الأخرى التي يمكن أن تقوم بوظيفة أداء كافة المعاني والدلالات لا مجرد تقديم المعادل الموضوعي الذي نراه جديراً بها؟

في تساؤلاتنا هذه إنما ننوس بين الاستحالة والإمكان. أما في ما ننجزه من ترجمات، فمن المؤكد أننا نبقى ضمن حيز الإمكان، وبقدر ما تسعفنا به ذخيرتنا من المعرفة والتجربة. إن أمكننا توظيفهما توظيفاً حسناً. 

** نشر على موقع جيرون يوم الجمعة 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2016




mardi 22 novembre 2016




حوار مع فرانسوا بورغا
"فهم الإسلام السياسي"
بدرالدين عرودكي

بين الباحثين الأكاديميين في الإسلام السياسي في فرنسا يحتل فرنسوا بورغا موقعاً متميزاً يضعه لخصوصيته على مسافة من سواه من الباحثين: فقد قضى أكثر من عشرين عاماً في عدد من البلدان العربية أستاذاً وباحثاً عاكفاً منذ البداية على متابعة تطور ظاهرة الإسلام السياسي التي باتت اليوم تحتل مقدمة المشهد السياسي العربي من خلال مختلف ضروب التعبير عنها والناشطين فيها فكراً وعملاً.  ومن هنا الأهمية الاستثنائية بين كتبه الأخرى لكتابه الجديدة فهم الإسلام السياسي الذي يقدم فيه تطور مسيرتين: مسيرته باحثاً في الإسلام السياسي في العالم العربي منذ عام 1973، أي خلال نيف وأربعين عاماً، ومسيرة هذا الإسلام السياسي منذ نشوئه في بدايات القرن الماضي وحتى أيامنا هذه عبر ما يطلِقُ عليه  "لسان المسلمين (parler musulman)"، مسيرة عرفت ثلاثة أزمنة : مرحلة التأسيس أو محاولة تجديد الفكر الإسلامي على أيدي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا) وتمتد من نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين؛ والمرحلة الثانية التي تبدأ مع استقلال البلدان العربية وتنتهي مع نهاية الحرب الباردة عام 1990، والمرحلة الأخيرة التي تبعت سقوط الاتحاد السوفياتي والتي شهدت ظهوراً طاغياً للجماعات الإسلامية سواء في برلمانات عدد من الدول العربية أو من خلال تواجدها كحركات ثورية تتجاوز الحدود الوطنية وتتخذ صيغاً وبنى مختلفة في الفكر والعمل السياسيين.
يلخص فرنسوا بورغا رؤيته حول الشرط الأساس لمقاربة الظاهرة الجهادية في جملة واحدة: "أعتبر أن مقاربة الظاهرة الجهادية التي لا تأخذ في الحسبان الآثار المتعددة لاستمرار علاقات الهيمنة بين الشمال والجنوب تُبْنى على أخطاء منهجية خطيرة. هل ستقولون إن هذا بدهي؟ ليس الأمر كذلك بالنسبة لاثنين من كبرى "تفاسير" الجهادية اللذين يحتكران المشهد الإعلامي ـ السياسي: أ) إنهم "مجانين الله" ب) إنهم "مجانين" بكل بساطة!
حول هذا الكتاب وهذه الرؤية كان الحوار التالي:
* كتابك، فهم الإسلام السياسي، هو أولاً مسيرتك كباحث. مَنْ أو ما الذي دفعك إلى الاهتمام بهذا الفرع من الثقافة السياسية العربية في أيامنا؟
** فرضت ثيمة البحث هذه نفسها عليّ طوال فترة التعليم في الجزائر ضمن إطار ما يطلق عليه في فرنسا "الخدمة الوطنية النشطة". ظهرت التيارات الإسلامية عند منتصف الثمانينيات من القرن الماضي غداة الثورة الإيرانية  في كل مكان بوصفها القوى السياسية الصاعدة. كانت غير معروفة جيداً، وقليلاً ما كان من الممكن الوصول إليها، كما كانت موضوع تشويه أكثر مما هي موضوع تحليلات حقيقية. كان هذا لدى الرأي  العام الغربي  بل وكذلك في قلب النخب الوطنية. لم يكن إذن ثمة أي شيء جديد في مسعاي. ولقد تغذى اهتمامي بالإسلاميين من ثمَّ من الصدمة التي أحسست بها عند اكتشافي، متأخراً بقدر ما، أن واقع تاريخ الاستعمار الفرنسي كان شديد البعد عن التاريخ الذي نقلته إليَّ الكتابة التاريخية الرسمية في بلدي. بدا لي "تاريخ الآخر" بوصفه، قبل كل شيء، تاريخاً "آخر" عليَّ أن أكتشفه عبر تغيير زاوية رؤيتي. هذه العلاقة مع مكبوت كل ما اقتضاه التاريخ الاستعماري غذى إرادتي في التجرد من "اليقينيات" التي تنقلها النظرة السائدة (الغربية بل وكذلك العربية) حول موضوع بحثي الإسلاموي
* لم يكن في كتابك إية إحالة إلى باحثين أو مختصين بالإسلام مثل مكسيم رودنسون، جاك بيرك، ماسينيون أو ريجيس بلاشير.. هل لأنهم غير معنيين بالإشكاليات المطروحة في كتابك؟
** إنهم "الآباء المؤسسون" « founding fathers » لمسيرة معرفتي العلمية واحترامي لهم حقيقي. لكن من الصحيح أن أكثر إنجازاتهم جدارة بالتقدير تناولت الجيل السياسي الذي سبق الإسلاميين. ولم تكن أبحاثهم حقيقة مركزية في فهم الظاهرة الإسلاموية، التي فاتهم على نحو واسع، وبصورة خاصة بيرك، رؤيتها وهي في قيد التكوّن في المهد..
* عشتَ في عدة بلدان عربية: الجزائر، تونس، اليمن، ليبيا، مصر، فلسطين، سورية، لبنان. كيف تقيم الاختلافات المهمة بين صِيَغ التعبير عن الإسلام السياسي في هذه البلدان؟
** صيغ التعبير عن التيارات المسماة "الإسلام السياسي"، وهي، كما نعلم، شديدة الاختلاف، وليس ذلك من وجهة نظر جغرافية أو قومية فحسب. فهي تمتدُّ من الغنوشي حتى أبو بكر البغدادي، مروراً  بسلفيي حزب النور الذين تحالفوا مع السيسي. ترتبط تموضعات الإسلاميين، مثل أي تيار سياسي آخر، بالظرف (الداخلي أو الدولي) الذي ينمو فيه التيار ارتباطاً وثيقاً. ليست أية "أيديولوجية إسلامية" في الواقع هي مَنْ يحدد فعل الناشطين، بل بالأحرى تواجدهم في ميادين سياسية محددة ـ هي بصورة عامة تحت الضغط القوي في آن واحد لانغلاق النظم العربية وللتدخلات الإمبريالية للدول الغربية. بهذا المعنى، ليست أنماط فعل المعارضين بلا علاقة مع  المناهج التي تتبعها النظم إزاءهم: هكذا يواجه المهيمنون على هذا النحو المعارضات أو المقاومات التي يستحقونها. فحزب النهضة، الأقصى التونسي الأكثر "اندماجاً" ضمن الطيف الإسلامي السني الواسع، ينمو في بيئة  أقل قمعية بكثير من البيئة العراقية أو السورية اللتين نما فيهما التعبير الأكثر جذرية الممثل في الدولة الإسلامية. يمكن أيضاً لأنماط نشاط الفاعل السياسي نفسه أن تتغير  جذرياً حين يتطور الظرف السياسي: مثلاً، حين سقط الديكتاتور المصري أو الديكتاتور الليبي، اختار جهاديان، أحدهما عبود الزمر، عضو الجماعة المتطرفة التي قتلت السادات، والليبي عبد اللطيف بلحاج، كلاهما، المعركة السياسية الشرعية. جَهْلُ هذا المتغير الجوهري ـ الصلة بين أنماط فعل الإسلاميين وبيئتهم المؤسسية ـ يقود الأكثرية الساحقة من المراقبين الخارجيين للمنطقة، كلما تساءلوا حول "أسباب العنف الإرهابي" إلى التركيز على ما يعتبرونه التناقضات الكامنة جوهر الدين الإسلامي، في حين أن هذه التناقضات هي في الواقع محايثة للأوضاع السياسية التي يتفاعل ضمنها الناشطون المعنيون. والحال أن الغربيين لا يزالون في هذه البيئات السياسية، في وضع شبه مهيمن: لا يمكنهم  إذن إلا أن يتحملوا قسطاً جوهرياً من مسؤولية إنجازاتهم المخيبة.
* تكتب أنه اعتباراً من سنوات الستينيات من القرن الماضي، أعادت مكونات هامة في المجتمعات العربية تأهيل "لسان المسلمين" في حياتهم الاجتماعية كما هو الأمر في المجال السياسي. وتربط هذه الظاهرة بالتحرر من الاستعمار. لكن نهاية ستينيات القرن الماضي هي أيضاً الفشل المعيش في العالم العربي لأيديولوجيتيْن: القومية العربية والاشتراكية.. المرجعية الوحيدة التي بدا أنها الممكنة آنذاك كانت الإسلام.
** من الممكن في الواقع أن نصوغ الأمر على هذا النحو لكن هذا التقديم لا يتناقض في شيء مع تقديمي. في رأيي، هناك من الاستمرارية أكثر من القطيعة بين القومية العربية المعتبرة علمانية، عبد الناصر، أو القذافي أو البعثيين (التي يعتبر فشلها نسبياً فقط لأنه لا يمكن إهمال إنجازاتها بالطبع) والاندفاعة الإسلاموية. وهذه الاستمرارية تعبر عن نفسها ضمن إطار الإرادة ذاتها في استعادة نزعة "التحرر من الاستعمار" في مواجهة الغرب؛ بهذا المعنى، يتابع الإسلامويون في ميدان هوياتي وثقافي عملية بدأت في ميداني السياسة والاقتصاد على أيدي القوميين من الجيل السابق. في كتابي الذي حمل عنوان "النزعة الإسلامية مواجهة" (1995) « L’islamisme en face » جهدتُ في تشريح المسار الفكري للناشطين الذي قاموا مثل عادل حسين، المناضل الشيوعي المصري، بضرب من الهجرة السياسية بين هذه القومية العربية المعتبرة علمانية والإسلامية. فغداة الصدمة الرهيبة للهزيمة المصرية 1967، التي أسهمت بطريقة حاسمة في تجريد خطاب اليسار الناصري أو البعثي من أية قيمة، تساءل عدد من مناضلي اليسار العربي  بمعنى ما: "هل نستطيع، بوصفنا مناضلين قوميين، التخلي عن المرجعية إلى الإسلام، هذا الإسلام  الذي هو في قلب هويتنا؟". بالطبع لم تكن هذه المرجعية تتضمن تأويلاً خاصاً للقوانين الدينية الذي يمكن له، وقد قلنا ذلك، أن يغذي، ولاسيما في السياسة، طيفاً واسعاً نسبياً من الموافقات.
* تقوم بعرض تاريخ أربعين سنة لما تسميه "لسان المسلمين". ما الذي يعنيه في الواقع لسان المسلمين انطلاقاً من فرنسا؟
** سؤال ممتاز! الإشكالية المبنية على قاعدة أعمالي في العالم العربي لا مكان لها إلا في المجتمعات ذات التقليد الإسلامي.  وباستثناء التموضع ضمن مسار مواجهة ثورية، لا يمكن أن يكون ثمة مجال لمسلم في فرنسا أن يزعم "اعتماد مركزية المرجعية الإسلامية في الخطاب السياسي" في قلب مجتمع ذي تقليد علماني ـ مسيحي". على أنَّ مفهوم "لسان المسلمين" يستبقي مع ذلك معنى ما، أدنى ومختلف، لكنه هام على كل حال. يستطيع المسلمون الفرنسيون بصورة مشروعة أن يطمحوا إلى المشاركة في إعداد القرار السياسي، الداخلي منه والخارجي، عبر التعريف بقراءاتهم أو بمعارفهم أو بميولهم. ولابد أن يكون من المشروع أيضاً أن يشارك الآخرون  ـ مع ما يمكن لانتمائهم أن يقدم من جوانب نوعية لوجهة نظرهم ـ في تحديد الخيارات الوطنية، في المجال الاجتماعي أو السياسي، في السياسة الداخلية كما هو الأمر في السياسة الخارجية، كما يفعل المواطنون الآخرون  بوصفهم مسيحيين أو بوصفهم يهوداً، بما في ذلك بمعارضتهم للقراءة التي يقوم بها هذا الجزء أو ذاك من النسيج السياسي الوطني. هذا هو التحدي الذي لا يبدو أن الجمهورية الفرنسية التي يمكن لها أن تحصد ثماره في كل مجال، قد نجحت كلياً حتى الآن في التغلب عليه.
* يُختَصَرُ الإسلام السياسي وهو يُرى من فرنسا إلى مجرد إسلام جهادي. لِمَ تحجب جوانب الإسلام الأخرى الذي كان على الدوام يؤلف جزءاً لا يتجزأ من تيارات الفكر والعمل في العالم العربي؟
** ليست المشكلة إنكار وجود إسلام يمكن أن يكون غير جهادي  بقدر ما هي إرادة صياغة هذا الإسلام من أجل استصناع "إسلام صالح" كما يتوهّمه قادتنا.
تستمر فرنسا بهذا المعنى في الاستسلام لعادة سيئة شديدة القدم، سارت عليها عندما كانت تهيمن على جزء من العالم الإسلامي. فهي تتدخل بآليات تمثيل المسلمين السياسي. فتستصنع نخباً مزيفة تضفي عليها شهرة تتناسب عكساً مع درجة تمثيلها ومصداقيتها اللتين تتمتع بهما لدى من يشاركونها في الدين. والطريقة ليست جديدة. فالمفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي كان قد ندّدَ بالتلاعب المفضوح الذي تقوم به السلطات الاستعمارية أثناء الانتخابات بصيغة لاذعة: "إنزع ضميرك من هنا كي أضع فيه ضميري"
نحن هنا في قلب الصعوبة الفرنسية القديمة في إلقاء نظرة  خالية من الانفعال على ضفاف البحر المتوسط الجنوبية والمشرقية. مشكلة فرنسا ليست عدائيتها ـ المشروعة بقوة ـ إزاء ما يمثله البغدادي حتى وإن كنا نحن الذين أعلنا الحرب عليه وليس العكس. إنها تكمن في واقعة أن من نراه بوصفه أكثر المرشحين لرئاسة الجمهورية "ليبرالية" في ميدان الغيرية الإسلامية، آلان جوبيه، يرى نفسه مرغماً على الصياح برفضه استقبال طارق رمضان في مدينته بوردو! من الصعب الخروج من رخاء الهيمنة السياسية والاقتصادية التي كان قد وضعنا في ظلها العصر الاستعماري. ومن الأصعب في الظاهر أيضاً  الخروج من عصر الهيمنة الإيديولوجية. فالضفة الشمالية  تميل ميلاً مرضياً إلى الإضفاء على قضايا أيديولوجية (ومن ثم دينية) أصل العدائية التي يمحضنا أياها جزء من العالم الإسلامي. سوى أن قناعتي العميقة هي أن التوترات التي تؤثر اليوم على علاقة العالم الغربي بالعالم الإسلامي ذات أصل سياسي أكثر مما هو أيديولوجي. وأن هذه التوترات هي نتاج أنانيات الغربيين أكثر بكثير مما هي نتاج أنانيات هذا "الآخر"، المسلم، الذي لم ينته من "تحرره من استعمارهم".  
* حول إيران والبلدان العربية، هل يسعنا اليوم حقاً أن نتحدث عن حرب دينية، بين الشيعة والسنة؟
** للأسف نعم، لا يمكن إنكار هذا البعد. إلا أنه يبدو لي جوهرياً القول إن الانقسامات الطائفية هي بصورة شديدة العمومية نتيجة التشنجات السياسية لا العكس. عندما لا تؤدي المؤسسات السياسية دورها، ولا تسمح لكل إنسان أن يشعر بنفسه مواطناً "كامل الحقوق" كما كان الحال في العراق وفي سورية، حينئذ يشوه إغراء الانكفاء الطائفي الرابطة الوطنية. واستمرار الانتماءات ما دون القومية، الإثنية منها أو الطائفية، راسخة، ليس مشكلة في حد ذاته. المشكلة الحقيقية هي في عجز المؤسسات عن السماح لهذه الاختلافات أن تتعايش، وأكثر من ذلك أيضاً، محاولة المهيمنين المتكررة استخدام هذه الاختلافات من أجل الاستمرار في الحكم عن طريق تفتيت جبهة معارضيهم. ودور بشار الأسد أو علي عبد الله صالح (بل وكذلك الغربيين، "أساتذتهما" الاستعماريين في هذا الموضوع) مثاليٌّ على وجه الخصوص في هذا الميدان. على مستوى العلاقات الدولية أيضاً، يمكن للمرجع الطائفي هو الآخر أن يُسْتنفرَ من قبل الأنظمة لخدمة أي ضرب من الأجندات، وليس بالضرورة أكثرها إنسانية. كذلك هي الدبلوماسية الإيرانية، ولاسيما في سورية وفي العراق، (حتى وإن كان دورها في اليمن قد بولغ فيه دون شك)، حيث استخدم المتغير الطائفي من قبل الجمهورية الإسلامية لطرد العناصر الوطنية المحض. لا تخلو هذه الدبلوماسية من  تناقضات صفيقة: فإزاء المملكة العربية السعودية، من المثير للفضول أن نسمع القادة الإيرانيين منذ عدة سنوات يتلاعبون في اتجاه الغربيين خصوصاً  بحجج واهية بدائية ذات طابع "مناهض للإسلام" تذكر إلى درجة الخلط معها بالحجج التي كان الغربيون يستخدمونها ضد الثورة الخمينية.
* تنتقد في فرنسا حجب المسائل السياسية: الصراع العربي الإسرائيلي، النظم الاستبدادية، إلخ. أليس هذا الاختصار، هو السمة في فرنسا التي تميز كل مقاربة سياسية في كل مرة يتناول الحديث فيها مشكلة العرب؟
** سأبدو هذه المرة "لطيفاً" مع الذين يأخذون علي أحياناً المبالغة في حجم قسطهم من المسؤولية. فالميل إلى "حجب الصفة السياسية" في قراءة الصراعات والمقاومات ليست سمة خاصة بالغربيين. إنها سمة... المهيمنين أياً كانت ثقافتهم أو دينهم. ليس لدى المستبدين العرب ما يحسدون عليه الطغاة الغربيين في تشويه معارضيهم السياسيين، وفي إنكار حصتهم من المسؤولية المحايثة لممارساتهم الاستبدادية الخاصة بهم. من الأفضل عملياً على الدوام إضفاء مزاج الآخر السيء على دينه أو على ثقافته بدلاً من اعتبار أن الخلاف سياسي، لأننا في هذه الحالة سنكون مرغمين غالباً على الاعتراف  بحصتنا من المسؤولية.  
* في نظرك، يقتضي فهم الغيرية علمياً بالنسبة إلى الباحث في الغرب أن يكون مشبعاً بثقافة غير غربية. لكن ذلك ايضاً يصح بالنسبة إلى الباحثين غير الغربيين بالنسبة إلى الغرب! أليس هناك بفعل ذلك صعوبات في عدم الفهم الدائم بين الغربيين وغير الغربيين؟
** بالتأكيد... المعرفة المتبادلة ضرورة. وهو أمر مرغوب فيه إلى حد كبير  شأن كل ما يمكنه أن يسمح بتجاوز هذا التمزق الثقافي والسياسي. لكن الميزان في هذا الميدان يميل بوضوح في اتجاه أكثر مما يميل في اتجاه آخر. ونظراً لثبات علاقة الهيمنة النسبي، لا تزال العلاقة الثقافية بين الغربيين وبقية العالم اليوم أبعد من أن تكون علاقة متساوية. حين كنت معلماً في الجزائر، أذكر أنني دهشت ذات يوم من رؤية تاجر لحوم على عتبة دكانه منغمساً في قراءة صحيفة اللوموند. لم يكن بوسعنا أن نتخيل مثيله الباريسي يقرأ الطبعة العربية من صحيفة الأهرام، أليس كذلك؟ بصورة عامة، حتى وإن كانت الأشياء  قد تطورت والحق يقال بصورة كبيرة منذ سبعينيات القرن الماضي، فإن "الآخر" المسلم يملك حتى أيامنا هذه معرفة ـ حتى وإن كانت إجبارية ـ بالغربيين تتفوق على معرفة الغربيين به. يسمح المعيار اللغوي إجراء إحصاءات سريعة دقيقة نسبياً ومعبرة بصورة بليغة. من هم الذين يعرفون لغة الآخر في اجتماع يضم صحفيين عرب وفرنسيين؟  
* يرى البعض أن الدولة الإسلامية (داعش) هي ظاهرة جديدة في  تعبيرات الإسلام السياسي. هل ترى أن هذا التعبير هو ابن شرعي للإسلام؟ أو بعبارة أخرى، ألا ترى أن داعش هي مخلوق محض للدوائر الأمنية هنا وهناك، مع استخدام الإسلام بوصفه مرجعاً كي تخدع به العالم كله وتكسر كل حركة ثورية تتطلع إلى وضع حدّ للنظم الاستبدادية في العالم العربي؟
** صنعُ جهاديّ ما في رأيي عملية معقدة لاسيما وأن الظاهرة لا يمكن اختصارها إذن في علاقة سببية واحدة. ذلك يتطلب تعاوناً واسعاً... على الصعيد الدولي. لكن ذلك يتعلق  باتجاهات سياسية ثقيلة أكثر مما يتعلق بتلاعبات خفية تقوم بها دوائر أمنية. وليس لتحليلاتي  ولمواقفي  من طموح سوى تذكير كل من يقتصرون في جردهم للمسؤوليات عن الجهادية ـ سواء على المسرح المشرقي أو في أوربا ـ على المسلمين وحدهم بتحميلهم قسطاً ثقيلاً من المسؤولية في هذه العملية. يبدو قولُ ذلك باللغة العربية دون أي شك أمراً بديهياً. لكن ذلك ليس هو حال اللغة الفرنسية! أحاول إذن أن أذكر الغربيين (بل وكذلك عدداً لا بأس به من قادة العالم الإسلامي، مثل السيسي، كي لا نذكر سوى أكثرهم رمزية) أن عليهم أن يأخذوا في الحسبان بصورة أكثر واقعية مشاركتهم الخاصة في الكارثة القائمة حالياً.
أما فيما يتعلق بمعرفة ما إذا لم تكن داعش سوى "مخلوق محض للدوائر الأمنية" السورية أو سواها، فجوابي سيكون سلبياً  لكنه متباين على كل حال. كان صعود داعش بلا جدال مراداً من قبل استراتيجية النظام السوري. وكانت ولادته على هذا النحو، بكل وضوح، بمساعدة متعددة الطرق قام بها مختلف دوائره التابعة له. ذلك معطى لا جدال فيه. فقد فعل بشار الأسد منذ أيام الأزمة الأولى كل شيء كي تتمكن هذه الفزّاعة من لعب دورها بأكبر قدر من السرعة والإذهال. إزاء الرأي العام الدولي من جهة ثم بعد ذلك إزاء السكان الذين تديرهم داعش والذين كان يأمل  منهم، ولم يكن بالضرورة على خطأ في ذلك، أن يبلغ بهم الأمر الأسفَ على ديكتاتوريته. لقد تصرف بوضوح في هذا الاتجاه عدة مرات. بتحريره من السجون منذ أيار/مايو 2011 جهاديين كان قد استخدمهم في إدارة الصراعات العراقية واللبنانية. ثم استنكافه بعد ذلك عن المواجهة العسكرية شأنه في ذلك شأن حليفه الروسي القوي، لهيمنة داعش على الرقة. وبتسهيله على نحو واضح (وخصوصاً في تدمر) بعض التقدم الميداني للمنظمة كي يستفيد من المظهر المنفر لفعلها المتوقع بشدة ضد الآثار والتراث العالمي للمدينة. وقد غض النظر بشدة على ما يبدو عن تجارة البترول التي كانت تغذي المنظمة. وأخيراً، ليس كذلك من المستحيل كلياً تصور  ـ حتى ولو لم يكن هناك حالياً ما يسمح بالبرهنة على ذلك ـ أن بعض الضباط  بعد هروبهم من الجيش باتجاه داعش قد احتفظوا بصفتيْهم عملوا للجهتين وقاموا بالمزاودة الطائفية والمضادة للغرب في صفوفها. ولكن فيما وراء هذه المشاركة الجوهرية أساساً، يبدو لي مفرطاً وخدّاعاً أن نفكر، كما فعلت من ثم أنا نفسي في بدايات ظهورها، بأن داعش هي تماماً وكلياً بين أيدي المخابرات السورية (أو سواها).     
* في الفصل المعنون "في مواجهة بحث الآخرين: جيل كيبيل وأوليفييه روا والموضوع الإسلامي"، تشير إلى أنهما أكثر حضورأ إعلامياً منك وتفصل سببين لهذا الحضور الإعلامي. يحملني السبب الثاني خصوصاً على أن أسألك إن كنت مسموعاً من قبل من أصحاب القرار في فرنسا. وبعبارة أخرى، من هم برأيك أولئك، وخارج المجال الأكاديمي، الذين يمكن لتحليلاتك ومقارباتك للإسلام السياسي أن تستثير اهتمامهم؟   
** إن مشكلة الخبرة الأكاديمية هي أنها لا تمارس على علم "صلبٍ" يمكن لنتائجه أن تقدر  بسهولة. يملك السياسيون إذن كل الحرية في اختيار إحدى الخبرات...التي تروق لهم.  أو حتى في استثارتها بما أن الحدود بين الإنتاج الجامعي وإنتاج "الخلايا الفكرية" الملائم للأسر السياسية ليست على الدوام. واضحة تماماً. ويمكن أن يقال بقليل من المبالغة إن الطبقة السياسية ـ وحتى المجتمع بكليته يعطي ـ لإنتاج الباحثين صدى يتناسب مع ما يرغب في سماعه. فـ"الأبحاث" التي تسير حسب هوى الحس المشترك بتجريدها غير المسلمين من المسؤوليه ("ذلك خطأ السلفية وبالتالي.. ليس خطؤنا")، أو تسمح بطمس بعض تناقضات السياسات الغربية الفاضحة في العالم الإسلامي (" ليس للصراع العربي/الإسرائيلي أي تأثير على تجذر بعض المسلمين") ستحتل إذن مساحة إعلامية تتفوق  بوضوح على الأطروحات الأكثر تبايناً والتي تشير إلى مسؤولية بعض سياساتنا الخارجية. وهكذا، ففي حين أن أطروحات جيل كيبيل شديدة القرب من الفكر المحافظ الأمريكي الجديد ومن المدرسة المعروفة الخاصة ببرنار لويس (التي تؤدي في النهاية إلى اختصارات من نمط "يقاوم الفلسطينيون الاحتلال العسكري الإسرائيلي لأنهم... أصوليون مسلمون")، تُدْحَض علمياً من قبل أكثرية واضحة من الأبحاث الجامعية، فإنها تحتل مساحة إعلامية تتناسب عكساً مع ضعف الاعتراف الأكاديمي بها.
من المهم إذن أن توجد قراءة بديلة كتلك التي أُسْهِمُ مع كثيرين غيري في صياغتها. لكن ذلك للأسف لا يكفي للتأثير كما ينبغي على القرار السياسي.


  نشر على موقع ضفة ثالثة بتاريخ 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2016  ** 


jeudi 17 novembre 2016



ترامب عبر المنظار الفرنسي 
بدرالدين عرودكي

"هل أحتاج إلى القول إن القليل مما سيبقى من السياسة سيتخبط بألم في معانقة الحيوانية العامة، وأن الحكومات سترغم من أجل بقائها ومن أجل إيجاد شبح نظام على أن تلجأ إلى وسائل سترتعد من جرائها فرائص إنسانيتنا المعاصرة التي اشتد مع ذلك عودها."
كتب الشاعر الفرنسي بودلير هذه الكلمات قبل نيف وقرن ونصف، أي حوالي عام 1861. وعن أمريكا تحديداً. كما لو أنه يعيش بيننا اليوم. وستقرأ للمرة الأولى عام 1887 ، بعد عشرين عاماً من وفاة الشاعر، طافحة بعنف لهجة الحقيقة. وكما يقول فيليب روجيه، مؤلف كتاب "العدو الأمريكي، في أصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا"، يصف بودلير "قبل قرن من جان بودريار، مجيء عالم اللاحدث الذي جاء فعلاً: عاصفة لا تنطوي على أي شيء جديد، لا معرفة ولا ألم". بودلير الذي نحت بالفرنسية عام 1855 فعل تأمْرَكَ (s’américaniser) والذي أراد عبره أن يصف الإنسان الذي غسلته الفلسفة المادية "فأضاع مفهوم الاختلافات التي تسم ظواهر العالم المادي والعالم الأخلاقي، الطبيعي وما فوق الطبيعي"!
أسَرَ هذا الصوت القادم من وراء القبر عدداً من كبار كتاب فرنسا: من كلوديل إلى بروست. وكان ستندال، قبلهم، بعد أن اختصر عام 1830 رأيه في أمريكا بكلمات ثلاث: "وهناك لاوجود للأوبرا!"، قد صفق بيديه عام 1834 حين قرأ ماقاله صراحة تاليران، أحد كبار الساسة الفرنسيين في القرن التاسع عشر، وهو يجيب نابليون الذي سأله عن طبع الأمريكان: "يا صاحب الجلالة، إنهم خنازير كبيرة، وخنازير متوحشة"!
وفي عام 1900، سيسخر كاتب إنكليزي هذه المرة، شارل ديكنز، عبر لازمة ستكون كلية الحضور لدى الفرنسيين آنئذ وستتكرر في محاضراته الأمريكية مثيرة حملات العداء ضده حين قال: ": "يبدو غريباً في بلد يحكمه أنصار الحماية، أن تحمى فيه  كل المنتجات الوطنية فيما عدا منتجات العقل".
تشير هذه المقتطفات التي تحفل بأمثالها الأدبيات الفرنسية، السياسية منها والفكرية والأدبية على امتداد أكثر من قرنيْن، إلى عمق العداء الكامن في اللاوعي الفرنسي إزاء الولايات المتحدة الأمريكية، لن تخفف منه تصريحات السياسيين الفرنسيين بهذه المناسبة أو تلك حين "تؤكد" على عمق الصداقة الفرنسية الأمريكية وتاريخيتها.
وفي ضوئها إنما يجب أن تقرأ تصريحات فرنسوا هولاند على إثر إعلان فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية. فهو يعلم تمام العلم أنه لن يكون بوسع الرئيس الجديد للولايات المتحدة التي سبق وصادقت على اتفاقية باريس حول التغير المناخي أن يضرب بالاتفاقية عرض الحائط كما صرح خلال حملته الانتخابية. لكنه مع ذلك لم يتوان عن القول إن فوز ترامب يدشن حقبة من الشك. فهناك أولاً المسافة بين نوايا الرئيس الأمريكي المنتخب على صعيد السياسة الدولية التي عبر عنها خلال حملته الانتخابية والتحديات التي بدأ يكتشف عدداً منها في الواقع السياسي الدولي أكبر من أن تستوعبها مشروعات سياسية وإن صيغت لأغراض الحملة الانتخابية إلا أنها تنبئ عن إرادة حديدية في التغيير على صعيد السياستين الداخلية والخارجية في آن. وهناك ثانياً الحزب الجمهوري الذي حمل ترامب وهناً على وهن كي يكون مرشحه لرئاسة الولايات المتحدة وعانى في سبيل ذلك من التضارب الحاد في آراء ومواقف مسؤوليه الكبار مما كان هذا المرشح يقدمه على أنه السياسة الأمريكية الموعودة باسم حزبهم. هذا بالإضافة ثالثاً إلى أنه لا يمكن بالطبع وراء ذلك كله تجاهل ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية، أياً كان الحزب الحاكم، سواء تجاه أوربا أو بقية مناطق العالم، والتي لا يحيد عنها الرئيس، أكان ديمقراطياً  أم جمهورياً، إلا في بعض التفاصيل التي لا تمس خطها العام.
كان دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية قد استثار العداء الفرنسي الكامن حين قال إن "فرنسا لم تعد فرنسا!"، الأمر الذي استدعى جواباً مباشراً وسريعاً من مانويل فالس، رئيس الوزراء الفرنسي: "فرنسا هي فرنسا. وفرنسا قوية". كان ذلك بمناسبة الحديث عن الهجمات الإرهابية التي  عرفتها فرنسا في مدينتي باريس ونيس خصوصاً. وربما ذلك ما جعل أول رسالة وجهها الرئيس الفرنسي لتهنئة الرئيس الأمريكي المنتخب: "ما هو على المحك إنما هو السلام، ومكافحة الإرهاب، والوضع في الشرق الأوسط، والعلاقات الاقتصادية، والمحافظة على الكوكب الأرضي" تبدو وكأنها تنبيه يبقى على طابعه الدبلوماسي، شديد اللهجة. فهي على وجه الدقة الموضوعات التي كان ترامب يصرخ بمواقفه بصددها خلال حملته، والتي أعلن عبرها صراحة عن الانقلاب الذي يريد القيام به في مجالاتها، مثيراً بذلك، إثر نجاحه، مخاوف الجميع، وفي مقدمتهم فرنسا.  ذلك أن هذه الأخيرة التي عانت من الإرهاب بسبب موقف حكومتها من النظام الأسدي ورئيسه وعلى الرغم من إضفائها الأولوية القصوى على ما أسمته الحرب ضد الإرهاب وضد داعش بوجه خاص غداة هجمات 13 تشرين الثاني 2015 بباريس، لا تبدو أنها سوف تقوم بأي تغيير في موقفها المبدئي إزاء النظام الأسدي الذي وضعته ولا تزال تضعه في سلة واحدة مع داعش.
لكن اليمين الفرنسي المتطرف الذي صفق كثيراً على لسان زعيمته الحالية ماري لوبان لنجاح ترامب يأمل أن يكون هذا النجاح بشيراً ممكناً بوصوله إلى سدة الرئاسة الأولى في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة. فطروحاته في العمق لا تختلف في قليل أو كثير عن طروحات ترامب ولاسيما حول موضوعات الهجرة والمهاجرين، وطرق مكافحة الإرهاب، والعلاقة مع نظم الاستبداد في العالم العربي. ولسوف يؤلف لو تحقق طموحه رأساً أوربياً لمثلث مرعب يضم بوتين في روسيا وترامب في أمريكا! على أن ذلك وإن بقي واحداً من بعض استيهامات وأوهام هذا اليمين الذي يتخذ من مخاوف الناس عتلة لصعوده، إلا أنه في الوقت نفسه احتمال سيكون من الخطأ الاستهانة به. فعناصره تتوافر في المشهد السياسي الفرنسي الحالي من خلال ضعف الاشتراكيين نتيجة إخفاقاتهم خلال السنوات الأربع الأخيرة لدى الرأي العام وتشرذم اليسار عموماً من ناحية، وانقسامات اليمين التقليدي التي يمكن إن تفاقمت أن تودي به لصالح اليمين المتطرف، من ناحية أخرى.
قد يحول هذا العداء الفرنسي العريق الكامن لأمريكا دون ذلك كله. ففرنسا، بخلاف بريطانيا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، هي الدولة الوحيدة التي لم تدخل  حرباً ضد الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها مع ذلك هي الوحيدة بين هذه الدول جميعاً وسواها من ناصبها العداء. ولعل الفرنسيين الذين سيجدون في ترامب تجسيداً مادياً للسبب الأساس، الحقيقي أو الخيالي، لعدائهم الذي لا يزال في الحقيقة لغزاً تاريخياً، أن يتلافوا ما ذهب إليه الأمريكيون فلا يتيحون  للتطرف أن يحقق مراميه.

** نشر على موقع جيرون، الخميس 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2016




jeudi 10 novembre 2016


النقد الأدبي الغائب!
بدرالدين عرودكي
 ما الذي يجعل النقد الأدبي اليوم أكثر غياباً عن الساحة الثقافية العربية العامة مما كان عليه في أي وقت مضى؟ وما الذي يجعل الطابع العام لما ينشر من "تعليقات" على أو "متابعات" لما يصدر من أعمال أدبية، ولاسيما في مجال الرواية والقصة، مفتقراً إلى أدنى المعايير المنهجية أو الجمالية التي تتطلبها قراءة جادة في الأعمال الأدبية؟
لا شيء في ظاهر حياتنا الثقافية خلال العقديْن الأخيريْن، من حيث المبدأ، يمكن أن يفسر هذا الغياب للنقد أو لمعاييره العامة. فالإنتاج الأدبي، الروائي منه خصوصاً والقصصي عموماً، فضلاً عن المجموعات الشعرية، لم يكن، من حيث الكمِّ، أكثر عدداً وتنوعاً مما هو عليه اليوم؛ فها هي دور النشر تتكاثر هنا وهناك في أرجاء العالم العربي كلها كما لو أنها تستجيب لحاجات أو لضرورات أخرى لم تعد دور النشر "العريقة" في مصر وفي لبنان خصوصاً، قادرة على الاستجابة لها وحدها؛ والجوائز، ولاسيما في مجال الرواية، هي الأخرى، تتكاثر في مشرق العالم العربي ومغربه وتجد على الدوام عدداً كبيراً من الأعمال الأدبية المرشحة لنيلها.
هناك دون أدنى شك أبحاث جامعية لا حصر لها تُقدَّمُ كل عام في كليات الآداب في الجامعات العربية أو في تلك المختصة بالأدب العربي في الجامعات الأجنبية حول هذا الكاتب أو ذاك أو حول هذه الرواية أو تلك. ومن المفترض أن من سمات هذه الأبحاث جميعاً جديتها ومنهجيتها ودقتها التحليلية وغياب كل غاية سوى الغاية العلمية المحضة التي دفعت للقيام بها. لكنها للأسف الشديد بقيت وتبقى حبيسة أرشيف الكليات المعنية، لا يعلم بها أحد سوى مؤلفها والمشرف عليها وأعضاء لجنة التحكيم التي قررت قبولها ومنح الدرجة العلمية المطلوبة عليها؛ هذا ما لم يعمل مؤلفوها، وقلما يفعلون عادة، على إعادة صياغتها وإعدادها للنشر.
كانت المجلات الثقافية التي ازدهرت كمّاً وكيفاً في ستينيات القرن الماضي ومثلها الملاحق الثقافية التي كانت الصحف اليومية تصدرها ولاسيما في مصر وسورية ولبنان، قد أسهمت على نحو واسع لا في استمرار حركة نقدية نشيطة وفعالة من قبل فحسب بل وفي ظهور جيل جديد من النقاد كان يرافق جيلاً آخر من الروائيين والقصاصين والشعراء ويتابع إنتاجه تحليلاً وتعريفاً وتقويماً. لكن هذه المجلات والملاحق أخذت في التلاشي بالتدريج من المشهد الثقافي العام. وأخذت تغيب معها ما كانت الحياة الثقافية العربية قد عرفته من ضروب النقد التي كانت تحتل مكانة مهمة على صفحاتها.
معظم هذه المجلات غاب اليوم. وعلى الرغم من محاولات استعادتها في هذا البلد العربي أو ذاك، إحياء أو تجديداً، فإنها لم تؤد مع الأسف ــ حتى الآن على الأقل ــ إلى إحياء حركة نقدية بدت وكأنها قد تلاشت مع من لعب الدور الأهم في وجودها واستمرارها. ذلك أن غياب كبرى المجلات أدّى أيضاً إلى غياب النقاد الكبار الذين حفلت طوال ظهورها بها مثلما احتفلت بكتاباتهم. ولا يبدو أن من جاءوا على إثرهم في محاولات الاستعادة هذه  قد أدركوا حتى الآن الأهمية الشديدة للنقد نظريةً ومناهجَ وتطبيقاتٍ في الميدان الثقافي عامة والأدبي خاصة، ولاسيما في أيامنا هذه التي تفرض بكل ما تطرحه من مشكلات وإشكالات ضرورة ممارسة النقد في كل مجال، وبطبيعة الحال في مجال الأعمال الأدبية على اختلاف أجناسها. ولا أدلّ على ذلك ما نلاحظه من المساحات الخجولة المخصصة للنقد أو للمتابعات النقدية أو من مضمون هذه الكتابات.
إذ أن ما نقرؤه اليوم على أنه "نقد أدبي"، سواء في هذه المجلات أو في الملاحق الثقافية التي لا تزال تصدر حتى اليوم، لا يتجاوز في معظمه مجرد قراءات سريعة لهذا العمل الأدبي أو ذاك أو تعليقات بسيطة عليه أقرب إلى الأخبار الأدبية منها إلى العمل النقدي الجاد. لا تفرق في قراءاتها هذه بين أجناس المُبدعات الأدبية وقوانينها الداخلية التي لا يمكن بدون تفكيكها تقنياً الوصول إلى دلالاتها، أياً كانت طبيعة هذه الدلالات، اجتماعية أو تاريخية أو سياسية. بحيث يتم تناول الرواية أو القصيدة كما لو أنها منشور سياسي أو مقال اجتماعي.
ذلك أن الاختصارات في هذه المجالات تتكاثر كالفطر. فالقراءة السياسية أو بالأحرى السياسوية لرواية ما لا تنطلق من تحليل دقيق لعناصر بنائها الأدبي والجمالي وصولاً من بعد ذلك إلى استخلاص الدلالات الممكنة التي يمكن الوصول إليها في نهاية عملية تحليلية إضافية، بل من مجرد انطباعات سريعة توحي بها أو ربما تقولها هذه الشخصية أو تلك من الرواية أو، وغالباً ما نلحظ ذلك، من بعض ما يدلي به المؤلف إلى صحفي يستبدل أقوالَ المؤلف خلال مقابلة سريعة يجريها معه بنقد جادٍّ للعمل الذي يعنون به مقابلته!   
وليست القراءات السياسوية وحدها التي تحفل بها تلك المساحات، بل تحفل كذلك بالقراءات الاجتماعوية والنفسوية الساذجة التي تقوم على اعتماد بعض المصطلحات الملتقطة هنا أو هناك دون إدراك لمعانيها أو لمدلولاتها ومواضع استخدامها.
بذلك لا يغيب النقد فحسب بل يغيب معه أيضاً كل ما يفترض به أن يؤكد على وجوده ويحلل عناصر بنيته، أي ما يميز المُبدعات الأدبية في جمالياتها ومقوِّماتها وقوانينها التقنية المحضة الخاصة بجنسها عموماً وبكل مبدع منها خصوصاً.
إذا كان غياب المجلات والملاحق الثقافية أو تهاون ما بقي منها في الاهتمام بهذا الميدان يمكن أن يجيب جزئياً عن السؤال المطروح في البداية، فما هي العناصر الأخرى التي يمكن أن تستكمل الإجابة المنتظرة؟
لعلَّ أكثر هذه العناصر دلالة ولربما أهمها قصور التكوين الثقافي الحقيقي أو الخبرة العملية والمهنية أو كليهما معاً لدى معظم من يتصدّون للعمل في الصحافة الثقافية أو الأدبية. ومن المؤسف أن كثرة ممن يملكون مثل هذه الخبرة أو هذه الثقافة الضرورية من الجيل الشاب على وجه الخصوص لا يجد طريقه إلى العمل في هذه الصحافة مسؤولاً أو محرراً أو مُستكتباً. من السهولة بمكان مثلاً،على صعيد تقسيم الأبواب في الصحافة الثقافية، أن نلحظ الإهمال شبه الكامل للأبواب النقدية والاحتفال المفرط بالأبواب التي تحمل عناوين شتى: نصوص، إبداع، شعر، إلخ. هناك أيضاً ما يمكن أن يؤلف عنصراً تابعاً، أي أن إمكان وجوده يتوقف على وجود غيره، وهو عدم وجود علاقة شخصية، ثابتة ومستقرة، بين دور النشر وبين الصحفيين العاملين في الملاحق أو المجلات الثقافية. إذ تفترض مثل هذه العلاقة أن تقوم دور النشر بتزويد هؤلاء الصحافيين أو النقاد بكل جديد من منشوراتها بما يسمح قدر الإمكان من تقديم هذا الجديد نقداً أو تعليقاً أو في أقل الاحتمالات تعريفاً.
ذلك بعض ما يمكنُ أن يفسر ـ في هذه العجالة ـ غياب حركة نقدية حية في مجال الأدب ومبدعاته. حركة ربما كانت من أكثر الحاجات الضرورية والملحة التي تتطلبها حياتنا الثقافية الراهنة.


** نشر على موقع جيرون، الخميس 10 تشرين ثاني/نوفمبر 2016.


jeudi 3 novembre 2016



في الكذب على الله والتاريخ والبشر
بدرالدين عرودكي
لم يقتصر الحل الأمني الذي استخدمه النظام الأسدي وحلفاؤه ضد السوريين من أجل القضاء على ثورتهم منذ ست سنوات على استخدام العنف المطلق عبر قصفهم وتدمير مدنهم وقراهم بكل ضروب الأسلحة فحسب، بل شمل سلاحاً أكثر خبثاً تجسَّد في الاستثمار الأقصى لمختلف الجماعات الإسلامية التي أعلنها منذ البداية عدوة له والتي رفعت منذ البداية، بعد أن تسلل قادتها بالتدريج إلى صفوف الثورة ثم انفصلوا عنها، علماً آخر غير علم الثورة الحقيقي وقدمت نفسها بيقين مطلق ممثلة لله على الأرض بمختلف الصيغ والرايات والشعارات. كان قد أفرج عن معظم قادتها من سجونه ما إن بدأت المظاهرات السلمية تعمُّ أرجاء سورية كلها مطالبة بسقوطه، في الوقت نفسه الذي كانت وسائل إعلامه الرسمية وسواها من الصحف العاملة تحت إشرافه في لبنان خلاله تتحدث عن إمارات سلفية في مناطق الثورة دون استثناء إلى درجة الحديث عن مثيل قندهار في حمص كما كتبت صحيفة إيرانية الهوى في بيروت!
 لم يكن ذلك بالطبع إلا بداية تطبيق الخطة الموازية: القمع بلا هوادة من ناحية ووضع عملية سياسية وإعلامية واسعة المدى موضع التنفيذ ترمي إلى تشويه أصول وأهداف الثورة وعزل الثوار في خانة السلفية الجهادية العميلة بما يسمح للنظام الأسدي في نهاية الأمر من فرض رؤيته على العالم ومساعدة حلفائه السياسيين المباشرين وغير المباشرين على إعادة تسويقه عالمياً باعتباره، على سوئه، الأقلَّ سوءاً.
لم تكن المظاهرات التي انطلقت في شهر آذار 2011 ترفع شعاراً آخر سوى شعار الحرية والكرامة وإسقاط النظام من أجل استعادة الكرامة والحرية المفقودتين، متخذة من علم الاستقلال الذي رفعته رمزها. على أنه ما إن بدأ السلاح يفرض نفسه رداً على عنف النظام الأسدي المتنامي، حتى بدأت رايات وشعارات أخرى تظهر في مقدمة تغطية وسائل الإعلام العربية والأجنبية. عشرات من الجماعات ما لبثت أن تكاثرت في أشهر وصارت مئات تتفاوت في عدد أفرادها وفي قوتها وفي طبيعة مزاعمها، تعلن انتماءها إلى الإسلام وترطن كلها بخطاب ركيك دينياً ولغوياً بما يعكس نمطاً من قصور فكري وعقلي لا يمكن إلا أن يكون نتيجة إعداد وتدريب أو اختيار منهجي من قبل من يقف وراءها لتحقيق الغرض المطلوب من الصورة التي كانت تنتشر كالنار في الهشيم عن "الإسلام الجهادي" الذي "يهدد" سورية اليوم ويفرض إعادة النظر في مواقف الجميع من الثورة السورية.  
وحين بدأ السوريون الذين ثاروا من الشباب وممن في عمر آبائهم وربما أجدادهم يقرؤون كتابة أو يستمعون إذاعة إلى بيانات هذه الجماعات التي انتشرت كالفطر في كل مكان من سورية لم يصدقوا، في البدء، ما يصل إلى عيونهم أو آذانهم: إذ أخذت تعابير سبق لهم ــ أحياناً ــ أن قرؤوها في كتبهم الدراسية عن "دار الإسلام" وعن "ديوان الحسبة" وعن "حكم الشرع" و "الحكم بشرع الله" و "القضاء الشرعي"، تبدو حقيقة وواقعاً وكأنها تعود بالناس خمسة عشر قرناً إلى الوراء متناسية ما يعيشونه اليوم أو ما سبق لهم أن عاشوه حتى ولو كانوا في أعماق الريف أو الصحراء.  وإلى جانب ذلك، كان الناطقون باسم هذه الجماعات على اختلافها يتناسون عمداً سبب خروج السوريين ضد النظام الأسدي، مثلما يتجاهلون مطالبهم أو طموحاتهم إذا ما حققت الثورة هدفها الرئيس: الديمقراطية التي صرح ذات يوم أحد زعماء إحداها أنه "يضع الديمقراطية تحت أقدامه"، وأن "الإسلام هو الحل الوحيد" وأن "السنَّة" هي الحق، وأنه "لا حكم إلا حكم الله"، وما إلى ذلك من اختصارات تذهل بما تكشف عنه من جهل أو سوء نية أو الأمرين معاً. بدا هؤلاء "القادة" المحاربون وكأنهم "أنبياء" إسلام آخر قادم من أزمنة مضت عقلاً ولغة ومظهراً وسلوكاً، يحملون وكالة ناجزة من الله كي يحكموا وينطقوا باسمه. لا وجود في مفرداته للبشر أو للإنسان الحر، ولا لمن أسند إليه هذه الوكالة الإلهية، ولا من كلفه النطق باسم هذا الإسلام أو باسم نبيه.
خطاب جديد لم تعرف منطقة المشرق العربي من قبل له شبيهاً. فقد سبق مثلاً لسورية وللسوريين أن عرفوا طوال القرن الماضي حركات إسلامية لا تمتّ بصلة لهذه الجماعات المصطنعة، سواء من خلال الجماعات ذات الطابع السياسي كحركة الإخوان المسلمين أو من خلال الجمعيات ذات الطابع الاجتماعي أو التربوي أو الثقافي غير البعيد كلياً عن الهمِّ السياسي كجمعية التمدن الإسلامي أو جمعية الغراء. لكن قادة هذه الحركة كانوا مفكرين أو أكاديميين أو كتاباً أو علماء دين أو سياسيين على درجة عالية من الثقافة والاطلاع فضلاً عن الحنكة والخبرة والتجربة. يمكن أن نذكر منهم معروف الدواليبي الذي كان أستاذاً للقانون في جامعة دمشق ورئيساً للوزراء، ومصطفى الزرقا النائب والأستاذ الجامعي الذي اقترح، بعد اعتماد قانون مدني مترجم ترجمة حرفية عن القانون المدني الفرنسي، مشروعاً لقانون مدني يستمد مواده من الفقه الإسلامي ويستجيب إلى حاجات المجتمع السوري وينسجم مع الأعراف والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع السوري، والشيخ عبد الحميد الطباع الذي كان صرَّح بوصفه نائباً في البرلمان عن الكتلة الإسلامية بأنه يؤمِّن فارس الخوري على الأوقاف الإسلامية "أكثر مما نؤمن أنفسنا"، وسواهم من أمثال عصام العطار وجودت سعيد ومصطفى السباعي.
غير أن ورثة هؤلاء اليوم ممن يعتبرون أنفسهم أكثر عقلانية وحداثة في فهم الدين ودوره في الحياة الاجتماعية لاذوا بالصمت ولم يجدوا ما يدلون به حول خطاب هذه الجماعات لا على الصعيد الديني ــ إذ من غير المطلوب الدخول في نقاش لا طائل من ورائه حول مستندات تأويلاتهم الدينية أو فهمهم لدور الدين ــ بل على الأقل على الصعيد السياسي المحض حول دورهم التخريبي المدمر لثورة الشعب السوري. هكذا خلت الساحة السياسية ــ فضلاً عن العسكرية ــ لهذه الجماعات التي كان يغذيها ويساعد على نمو قوتها هنا وهناك كل من كان له مصلحة في فشل الثورة السورية في تحقيق أهدافها الأولى.
لم يقوموا بتفنيد الكذب على الله أولاً مادام لا يستطيع أحد أياً كان أن يزعم النطق باسمه أو حمل وكالة منه. ولا بتفنيد الكذب على التاريخ ثانياً وهو الذي لم يحدثنا عن دعوة محمدية خاضت حرباً لأسباب دينية بل لأسباب سياسية محضة سواء داخل الجزيرة العربية أو خارجها ضد الإمبراطورية الفارسية أو الرومانية. ولا بتفنيد الكذب على البشر، وعلى السوريين أساساً، بزعم القتال من أجل "دولة إسلامية" لم يترك لنا التاريخ،  قديمه وحديثه، أثراً لها أو نموذجاً يمكن أن يُحتذى.
هكذا ابتُلِيَ السوريون خلال خمسين عاماً بنظام قمعي ذي طابع مافيوي فثاروا كي يستعيدوا حريتهم وكرامتهم وحقهم في اختيار حكامهم. لكنهم ما لبثوا أن ابتلوا في ثورتهم ، بفعل النظام أولاً، بجماعات من الجهلة والسذج كانوا في استخدامهم للدين، من حيث يدرون أو لا يدرون، أي وهم  يكذبون  على الله وعلى التاريخ وعلى البشر، يحرِفون الثورة عن طريقها ويشوِّهون الأهداف التي قامت من أجل تحقيقها.


** نشر على موقع جيرون، الخميس 3 تشرين ثاني/نوفمبر 2016.