mardi 31 mai 2016


"معجز" مصطفى إسماعيل



بدرالدين عرودكي

1

حلب، المسجد الأموي، ربيع 1957

أئمة المؤذنين والقراء والمنشدين وحشد من أهل الفن ممن تميزوا بين أهل الشام جميعاً بأذن موسيقية مرهفة، جاؤوا يملأون قاعات المسجد الكبير ذات يوم جمعة يتطلعون إلى الإصغاء مباشرة إلى ضيف فذَ لم يعرفوا مثيلاً له من قبل.

الشيخ مصطفى إسماعيل. وفي ذاكرته ما أخبره به صديقه محمد عبد الوهاب حين علم بسفره إلى حلب من أنه سيشعر بسعادة غامرة حين يلتقي فيها جمهوراً ذا حساسية فنية استثنائية.. 

يفتتح الأداء بالآية 238 من سورة البقرة: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين".. وعلى غير انتظار ينساب الصوت منذ البداية رقيقاً بلا حشرجات الدقائق الأولى. يتساءل المستمع وقد غرق في الجمال الكلي فجأة: أين كانت هذه الموسيقا الكامنة في آيات ذات طبيعة وصياغة تشريعية وكيف تسنّى لصاحب هذا الصوت أن يكتشفها وأن يؤديها بهدوء وسلاسة. لكن تساؤلاته سرعان ما تتلاشى كي يتماهى مع صوت ثري بمعاني ما ينطق به، تزداد جمالاً بجماله، وتتوالى على مسامات الجسد والروح  تنفذ عبرها وتسكنهما. لا حاجة إلى تفسير أو إلى تأويل. ينزلق المبنى والمعنى في جماله وهيبته، في جماله وعنفوانه، في جماله وغبطته كي يسكن الأجساد والقلوب والأرواح جميعاً. يتلقى الجمهور الجمال الأكمل بترنيمة "الله" يتردد صداها خافتاً في أرجاء المسجد الجامع. ثم، فجأة، يبدأ المشهد الملحمي: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم" بصوت يتصاعد حتى يبلغ الذروة في عذوبة الهاء والميم كي يتصاعد من جديد انطلاقاً منها إلى ذروة أخرى "إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون" بما تتيحه الواو والنون من قرار ما يلبث أن يقود إلى مشهد جديد يلهث الناس وراءه إلى أن يبلغ "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين" كي تتحول الترنيمة، الخافتة قبل قليل، "الله"، إلى لازمة يرددها الجميع، تصخب بها قاعات المسجد وباحته الخارجية ويبرز منها فجأة صوت منفرد يطلقه إمام المؤذنين في وجه الشيخ: "الله.. يا أستاذ الكل"!  

لكن الشيخ كان في عالم آخر حمله إليه هذا الجمهور، دقيق الإصغاء مرهف الحساسية، وهو يتلاشى في أدائه، ومعه،  قلباً وقالباً..

2

دمشق، مسجد جامعة دمشق، ربيع 1957

المراهق الذي كانه، خافق القلب، في صحبة أبيه، يتجهان إلى مسجد جامعة دمشق، يلتقيان فيه الشيخ مصطفى إسماعيل للمرة الأولى ويسمعانه عياناً.

يعرفه الأب منذ أول أداء له عبر إذاعة القاهرة. واظب وحده أو بصحبة رفاقه على موعديْن أسبوعيين مع الشيخ محمد رفعت ومع الشيخ مصطفى إسماعيل.: الإثنين والجمعة. الثامنة مساءً قبل نشرة الأخبار المسائية.

يصلُ الشيخ ويجتاز بخفة صفوف جمهور المصلين في المسجد الصغير كي يبلغ المحراب حيث كرسيه. لكن المراهق يستوقفه قبل أن يجلس ويمسك بيده يضمها إلى صدره. ابتسم الشيخ وداعب بيده الأخرى شعره. قال له: هل ستقرأ سورة التحريم؟ ويجيبه الشيخ: وعرفت ازاي؟ والمراهق يسرع في ما أراد للشيخ أن يعرفه: أحفظها كلها وتلوتها على طريقتك في المدرسة الإعدادية!

دقائق ويباشر الشيخ تنويعاته متعددة الأصوات (كأنها فوغات جان سباستيان باخ كما سيكتشف من بعد) وهو يردد بعد أن نفث طاقة هائلة من الحنان في نون "منكنَّ" ينطلق بعدها مفرِّداً: "مسلماتٍ، مؤمناتٍ، قانتاتٍ، تائباتٍ، عابداتٍ، سائحاتٍ، ثيباتٍ وأبكاراً" قبل أن يستعيد الآية كلها في بوليفونية صاعدة على وقع التاءات السبع تتوالى بالغاً الكلمة الأخيرة بواحدة من القراءات التي تحيل الهمزة هاء حتى يستقر المعنى في شموله: كلمات وموسيقى وأداء في تناغم عجيب يستعيدها  الشيخ مرات دون أن يعيدها مرة واحدة!

يدرك المراهق على يفاعته معنى وظيفة الموسيقى الطبيعية هنا: جزء لا يتجزأ من الآيات، كامنة فيها لا مقحمة عليها.

وأسرَّها في نفسه. 


3

دمشق، المسجد الأموي، ربيع 1960

يضحك أبي وصديقه وهما في طريقهما إلى المسجد الأموي حينما يستعيدان محاولة أحد كبار المنشدين بدمشق تقليد الشيخ مصطفى إسماعيل في ابتهالات نهاية الأذان" الصلاة والسلام عليك أيها النبي". تخرج من المنشد/المؤذِّن: يا أيها الناااابي! في حين كانت النون تبقى مع الشيخ مصطفى إسماعيل تدور على نفسها بينما يرسم صوته سكونها المشدّد لا يحيد عنه. يعلق أحدهما مستخدماً بعض اسم المنشد: نجَّدهُ الله!

4

المسجد الأموي وسورة يوسف. الشيخ مصطفى إسماعيل في أبهى حالاته. وجهه يشع رضا وحبوراً. يستقرّ على كرسيه وينتظر تقديم المذيع له عبر الأثير قبل أن يباشر تلاوة ستبقى أمثولة في كل لحظة من لحظاتها.

النفَسُ طويل، رحب، واسع، رخيّ. والصوت ينساب هادئاً على ثقة، رقيقاً يتموج على إيقاع أثير الآيات وحركاتها. تكاد تلمس بأذنيك كيف يعثر على تلك الموسيقى الكامنة كي تسير في عروق الكلمات يتلقفها الصوت كي ينثرها على الجميع كالرياحين.

وها هي المعاني تتألق مثل ضحى النهار. لن تكون بحاجة إلى ابن كثير أو سواه كي يشرح لك هنا أو يفسر لك هناك. قصص التاريخ مشاهد تجري أمام عينيك. ومثل المعاني، يثبتها الأداء مثلما أريدَ لها. وحين تكون الكلمة أو الجملة حمّالة أوجه فلا بدّ من تقديم مختلف هذه الأوجه: ها هو ينطلق في: "وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيْتَ لك قال معاذ الله"، ويستعيد: "وغلقت الأبواب وقالت هيتَ لك" وحدها أربع مرات في أربعة معان: هيتَ، هيْتُ، هِئتُ، هئتَ.  يؤدي كلاً منها بمقام وعلامات وإيقاعات تقول فرادتها واختلاف معناها في آن.

ولابد للإعجاب أن يبلغ مداه حين يصغى إليه يؤدي في نَفَسٍ واحد بكل ما تقتضيه تنويعات الأداء والمعنى "إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين" وكأنما يهلل عند استقراره على الياء والنون احتفالاً بالمعنى وبمؤداه. إذ كيف يسعك الوقوف عند "وهو من الكاذبين" والضمير يعني نبياً؟ حتى هو، وقد سبق له الوقوف عندها، ربما قبل أن يدرك خطأ الأداء، فجاء التصحيح في منتهى بلاغته.

5

لكنه يجتهد أيضاً كي يبلغ هذه المرة المعنى الأعمق، بل الأكثر عمقاً. يصلُ في سورة القمر إلى نهايتها: "عند مليك مقتدر" ولأنه يريد الاستمرار مع سورة الرحمن، يصل بين الآية الأخيرة من "القمر" بالآية الأولى من "الرحمن" دون البسملة المعتادة مع بداية كل سورة فيأتي الأداء، عند مليك مقتدر.. الرحمن".

من يحتاج والحالة هذه إلى تفسير أو إلى تأويل للمقدرة والرحمة في تلازمهما وعدم انفصالهما الأشد بلاغة ووضوحاً وعفوية؟

وإذ يجتهد هنا ها هو يجتهد هناك، مع سورة مريم، ولكن على صعيد آخر: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عينا" يستعيدها مرات دون أن يعيدها فيحضر أمامك "روح الله" مثلما حضر أمامها بقوة الصوت والأداء.

كنت رفعت صوت المسجلة حتى منتهاه ظناً مني أنني وحدي ذلك المساء في مبنى معهد العالم العربي بباريس. لكن زميلي روبير يهرع إلي وقد أخذه الوجْد: ما هذا؟ أشرح له، فيجلس معي حتى نهاية السورة. لم يكن يفهم العربية ولا قرأ القرآن من قبل. لكنه كان، مثلي، أمام الروح وقد تمثل لي وله صوتاً مثلما تمثل لمريم بشراً سوياً.

6

باريس، مارس 1991، استعادة مصطفى إسماعيل

"ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.."

ما عليك!  دع المعاني تسري في خلاياكَ عبرَ مساماتك. تسْتقرُّ فيكَ وتندهشُ أنكَ مُدْركَها وما أنت مدركها بجهدٍ عقليٍّ بذلته. فما الذي يحدث إذن؟

هوذا .. هوذا الصوتُ ينطلق، حنوناً، مترفقاً، يداري حرفاً بعد حرفٍ وكلمة بعد كلمة ثم جملة بعد جملة. يتوقف هنا هنيهة ليستأنف من ثمَّ على قوة وثقة. يترفق حيث يتوجبُ الرفقُ فتترفق. يتراقصُ جذلاً من فرحٍ مُستوجبٍ فإذا بك تتراقصُ معه على استحياءٍ وتخشى، حاشَ، من أنْ.. ثمَّ لا تجدُ في ذلك مأخذا. يتألمُ إذ يرقُّ وهو يمدُّ الياءَ في أليم فتتألمُ الألمَ تستقرؤه كيفَ يستقرُّ شحنة معنىً لا تنضب في كل حرف من الحروف الأربعة وكيف تتلاشى الحدودُ بين الصوتِ والكلمةِ والحروف عندما يدرك الميم ويرتاح عند سكونها ليتدفق المعنى.

هوذا.. يدهشك أنه إذ يغنّي لا يغنّي بل يتغنى.

"فلا تذهب نفسُكَ عليهم حسرات"..

وأنت تستمعُ إليه يعيدها مرة ثانية وثالثة مترفقَ الخطاب والصوت تذرفُ دموعاً لا تدري كيف أتتكَ على أجنحة السنوات الأربعين تجتاز في طرفة عين كل ما عشته من أيام وليال لتتدفق من جديد كالمرة الأولى حارة وافرة..

7

تسأل أم كلثوم الشيخ مصطفى إسماعيل وقد أخذها الذهول من ملاحظات دقيقة قدَّمها لها على أدائها أثناء قيامها بتسجيل إحدى أغنياتها في ستوديوهات الإذاعة المصرية: أين وكيف تعلمت الموسيقى يا سيدنا الشيخ؟ فيجيبها: ربنا!. ويحمد محمد عبد الوهاب هذا الربَّ نفسه أنه اكتفى بجعل مصطفى إسماعيل يلتفتُ إلى القرآن ولا يتجاوزه إلى الغناء وإلا لأغرق معاصريه من نجوم الغناء جميعاً في طوفان عبقريته الموسيقية الاستثنائية..

لكني أرى أن "ربنا" على لسان الشيخ مصطفى إسماعيل يقود إلى أبعد مما فهمه عبد الوهاب أو أم كلثوم. كما لو أراد أن يقول: إنني لم أفعل سوى أن أتبع نوتة الآيات نفسها، بثرائها وبتنوعها، وبما تتيحه لمن يشاء من إمكانات التنويع والزخرفة إن كان قادراً عليها.

نعم. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.





** نشر في مجلة الهلال، حزيران/يونيو 2016، ص. ص.: 24 ــ 29.

lundi 30 mai 2016


الحنان يتدفق من عينيْكِ*

بدرالدين عرودكي

وهو في طريقه إلى مدرسة سعد الله الجابري، مدرسته في حيِّ عرنوس الدمشقي، ، يسترعي انتباهه إعلان وضع في واجهة متجر لثياب الأطفال الصوفية، مكتوب بخط أسود عريض: "بحاجة إلى شغالة صوف". يعلم أنكِ سيدة من أتقن حياكة الثياب الصوفية لأولادك ولمن يشاء من معارفك. يثير فضولكِ حين يقول لك ما قرأه في واجهة متجر "يحيى الأفندي"، في مواجهة المستشفى الإيطالي. فتطلبين منه مرافقتك إليه.

 يستقبلكِ يحيى الأفندي بتحفظ شديد تكشفه عيناه ويداريه ببعض ابتسامة لا تكاد تخفيه. ما كان ينتظر أن تستجيب لإعلانه امرأة لا يخفي حجابها شبابها. لكنه يريد أن يستيقن من قدراتك. يناولك قطعة يريد منك أن تنجزي مثلها وتعودين إليه في اليوم التالي كي يرى. لكنكِ تبدين استعدادك لإنجازها في التوِّ والساعة.  

يناولك الصوف وسنارتيْن. تباشرين العمل واقفة في زاوية المتجر الصغير دون أن ترفعي الحجاب عن وجهك. كانت أصابع يديْكِ تصنع العُقَدَ بسرعة أصابع عازف ماهر على البيانو. لم تمض دقائق قليلة حتى وضعتِ بين يديه ما أنجزتِه: صورة طبق الأصل عن القطعة الجاهزة بزخرفتها البارزة الدقيقة. لم يعلق بشيء. كان الذهول يعقد لسانه. وكنتُ أرى ذلك.

يعهد إليكِ بالعمل بعد اتفاقكما على الأجر والمهلة. وتخرجين من متجره ممسكة بيدي بخطوات تكاد تشبه قفزات راقصة. كان الفرح يغمرك. فرح رأيته يضيء وجهكِ حين وصلنا البيت. لم تقولي شيئاً. لكني شعرت بشفتيكِ تطبعان القبل على وجهي نائماً. لم يكن من طبعكِ أن تُبدي عواطفكِ أمام من تحبين.

حين أردتِ الذهاب إلى "يحيى الأفندي" كي تقدمي له عملك طلبتِ إليّ مرافقتكِ. ناولك أجركِ مضاعفاً. لم يكن يتوقع هذه الموهبة في حياكة الصوف لديكِ.  فأراد أن يعبر لهذه الفتاة التي لا يرى وجهها عن امتنانه. كانت تلك طريقته في أن يقول: شكراً.

تخرجين من المتجر في اتجاه عرنوس. على مسافة مائة متر يتواجد متجر الحلويات الغربية الجميل "فيينا"، بواجهاته الحافلة بقوالب أو قطع الحلوى المزينة بالشوكولاتة أو بقطع الفواكه الشهية. تدخلين المتجر وتطلبي إلي أن أختار ما أشاء "مما يشتهيه قلبك" تقولين لي.

تتذكرين، حين قدتِ طفلكِ إلى مدرسته على مقربة من هذا المتجر للمرة الأولى، والتياع قلبكِ حزناً وحِرقة أن يمر طفلك كل يوم من هنا وترى عيناه ما كانت يومئذ تراه عيناكِ وتبكيان أسفاً. ها أنت الآن تثأرين من فقركِ إذ يمنحك تعب يديْك ما يشفي غليلك أماً. كان الحنان يتدفق من عينيك وهي تراه يتناول تلك الحلويات بنهم طفولي..

كان لديك واحدٌ ممن "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً". وكنتِ تريدين أن يغمره هو الآخر ذلك الفرح الذي استحوذ عليكِ يوم حملتِ للمرة الأولى أجر يومين من العمل. ولقد فعلتِ.  

**  **  **

فجأة ترين ابنك يعود على حين غرة عند منتصف النهار. تسألين فلا يجيب. لا تزال الكلمات حبيسة غضب شديد تشي به قسمات الوجه المشدودة وصرامة النظرة. يعترف لكِ أنه استقال من عمله بعد مشادة بينه وبين المدير الفني للمصنع شتمه على أثرها أمام عمال المصنع بكلمة غريبة أدركَ أنها شديدة البذاءة: "شيوعي، بازاونغ". كان المدير حلبياً. كان يصرخ في وجه أحدهم بالكلمة الأخيرة كلما غضب.

لكن الكلمة الأولى أرعبتكِ. كانت بدايات عام 1961، وكنتِ تعرفين أن كل من حمل هذه الصفة يسكن السجون منذ سنتيْن. لم تبحثي عن دلالة الكلمة الثانية التي دفعت ابنكِ إلى الاستقالة.

تقولين له: وماذا لو اعتذر هذا المدير عن إهانته لك أمام العمال؟ 

تمنى ذلك في أعماقه لكنه يعرف شراسة الرجل وكبرياءه. تسألينه: كم قبضت من راتبك قبل أن تغادر؟ ستة وعشرون ليرة!

خذ منها ليرة واحدة وأعطني الباقي. إذهب بها إلى السينما سيراً على الأقدام. فإن عدتَ إلى البيت بعد اعتذار هذا الشخص احتفظتُ بالليرات الباقية، وإلا أعدتُها لك!

ضحك ابنكِ من أعماقه. قبل الصفقة بحبور. يضع كل ما معه بين يديكِ ويحتفظ بليرة واحدة. يغادر البيت كما شئتِ. كان عليه أن يهبط جادة الشمسية الخامسة على سفح قاسيون في حي المهاجرين، وأن يجتاز شارع ناظم باشا وصولاً إلى منطقة شورى، لينعطف منها نحو شارع أبي رمانة ثم باتجاه حي العفيف متابعاً السير نحو الجسر الأبيض فشارع الصالحية وصولاً إلى سينما الأمير..وهو يجتاز مفترق أبي رمانة سمع صرير دواليب سيارة فولكسفاكن تتوقف حذاءه فجأة. يناديه من فيها. كان مديره العام في المصنع  يلح عليه أن يصعد السيارة. يمتثل.

لم يكن بوسعه الرفض ولا الاعتذار.

في الطريق إلى المصنع يسمع مديره العام يسرد حكاية استقالته كما سمعها من المدير الفني. يؤكد له أن هذا الأخير ندم على ما قاله وما فعله. لم يكن في وضع نفسي طبيعي. كان يبحث عن طريقة يحملك بها على أن تعود إلى مكتبك. اتصلت بعمكَ كي يعطيني عنوان بيتك. لم أجده. قلتُ أفعل ذلك هذا المساء. وها أنت تسير في الطريق على غير انتظار. سترى. سيعتذر أمامك وبحضور عمال المصنع جميعاً.

يعودُ ابنك إليكِ مساء. ويرى في وجهك قلق السؤال. يقول لك: ولكن ما الذي فعلتِه؟ وجوابك: لاشيء. لاشيء. أبداً.

ديدنك على الدوام. ودهشة تسكنُ عينيك.

**  **  **

يوم رحيلك

ثلاثة أيام وأنتِ على هذه الحال. كما لو لم أن عينيك المغمضتين تريان ما لم يكن أحدٌ من حولك يراه. بناتك وأبناؤك من حولك يودون لو يستمعوا ثانية إلى كلماتك الحانية. تُسمَع فجأة طرقات على الباب. تهرع ابنتك لمعرفة الطارق. شباب يحملون أكياساً من اللحوم يريدون تسليمها للحاجّة. فجأة تستيقظين. تنهضين كي تجلسي على السرير دون مساعدة أحد. تنادي ابنتكِ أن تطلب من هؤلاء الشباب أن يحملوا ما أتوا به إليها إلى جيرانك، في العمارة المقابلة. وتقولين اسم العائلة المَعْنية بهذه الأكياس.

تستجيب ابنتكِ. ويستعيد الشباب الأكياس التي وضعوها خلف الباب.

وتعودين إلى ما كنت فيه، ممدّدة على السرير، مغمضة العينين. لكن الباب ما يلبث أن يُطرق من جديد. وتهرع ابنتك ثانية إليه تسأل من الطارق. فتسمع من يرجوها أن تعيد الأكياس التي استلمتها قبل قليل لأن حامليها لم يعرفوا العنوان الصحيح. تقول لهم: وصلت الأكياس إلى من تريدون؟

كان العنوان هو الذي أشرتِ به كي يحملوا أكياسهم إليه. تتساءل ابنتك: كيف عرفتِ وأنتِ فيما أنتِ فيه؟

ترى، أكنت تفكرين: أدّوا الأمانات إلى أهلها؟

ما أكثر ما أستعيد هذين السؤالين وسواهما، بهذه الكلمات أو تلك، كلما أثرتِ ذهولَ مَنْ حولك.

ربما أعثر على الجواب في ما تبادله ذات يوم ابن عربي وابن رشد.



** مقتطفات من كتاب "فسيفساء امرأة"، نشر في الملحق الثقافي ـ العربي الجديد، العدد 85، ص.: 6.




mercredi 25 mai 2016


بعض منجزات النظام الأسدي

بدرالدين عرودكي

سوف يحتاج المؤرخون إلى زمن طويل من البحث والتدقيق في دهاليز نصف القرن السوري المنصرم قبل أن يباشروا الكتابة التأريخية الجادّة عن فاصل استثنائي ــ في سبيله اليوم إلى التلاشي ــ  اخترق تاريخ أرض ولدت فيها الحضارات واللغات والأبجديات، وحمل اسم أسرة حكمت سوريا طوال أكثر من نصف قرن واستطاعت في السنين الأخيرة من وجودها أن تحيل مدنها وقراها هياكل حجرية وأن تبعثر أهلها في أرجاء المعمورة كلها، وأن تعلن على الملأ بلا تردد أنها تقاتل من أجل الوطن الذي استحال كلمة تحيل إلى الخراب والذل والموت. وربما يبدو مفيداً اليوم التذكير العاجل ببعض مفردات هذا الفاصل الذي عاشه السوريون طوال العقود الخمسة الماضية ولا يزالون يعيشونه، على اختلاف أجيالهم وميولهم، يختلفون في تأويله أو يتفقون، لكنهم في سرِّهم وفي جهرهم يصرخون باللعنة على من افتتح هذا الفاصل، أكان الحزب أو من لاذ به أو الفرد الذي أحاط نفسه بسياج مكين من أفراد على مثاله يمسكون البلاد والعباد بيد من حديد.

 وللقارئ أن يعثر على صفة هذا المنجز الذي ارتكب خلال الفاصل المذكور بعد أن تسرد أمثلة قليلة من مفرداته في ميادين السياسة والإنسان والقضايا في لحظتين: ما قبل الفاصل وما بعده.   

أولها ميدان السياسة. عاش السوريون قبل هذا الفاصل حقبة امتدت نصف قرن منذ أن واجهوا الاحتلال الفرنسي على الأصعدة كلها حتى الاستقلال، ثم السنوات التالية له والتي تناوب خلالها حكم ديمقراطي لم يتمكن من توطيد نفسه بفعل سلسلة الانقلابات العسكرية التي تناوبت معه على السلطة وطغت على ثلثي هذه الفترة التي دامت ربع قرن ختمت بانقلاب عام 1970 الذي قام به حافظ الأسد. اعتاد السوريون طوال هذه الفترة كلها، بما انطوت عليه من ثورات واضطرابات وآمال وخيبات، على تلاحم الأسماء بمسمياتها وبدلالات لا تخرج عن طيفها مهما اتسع. هكذا بعد أن كانت السياسة في سوريا شأناً عاماً لا يقتصر على فئة أو نخبة بل يمكن للناس جميعاً ممارستها فيما وراء سعيهم اليومي من أجل قوت يومهم، ويستطيع من شاء منهم أن يجعل منها عمله الوحيد إذ يتخذ منها جانب الخدمة العامة هدفاً أو جانب المشاركة في الهم الاجتماعي العام مسارا، وبحرية كاملة تسم سلوكه وسلوك كل من يقارب هذا الفضاء المفتوح، أضحت ممارستها، اعتباراً من سبعينيات القرن الماضي، وقفاً على حفنة أشخاص، في الوقت الذي أفرغت فيه من معناها على الصعيد المجتمعي العام الذي أرغم على الانصراف عنها أو على الخوف من ممارستها إلا سراً أو خارج الحدود. ولم تكن الديمقراطية كذلك مفهوماً غريباً على السوريين بقدر ما كانت لديهم ممارسة عامة أياً كانت العواهن التي اعتورتها، تبنتها الأحزاب كلها بما فيها تلك التي اعتمدت الدين الإسلامي طريقها في الممارسة السياسية. يمارسها السوريون في كل فضاء عام كما لو أنهم هم الذين ابتكروها فكراً وممارسة. وقد تجلت أبهى صور ممارستها في ما كان يسمى المجلس النيابي الذي كان يضم تمثيلاً حقيقياً لمكونات الشعب السوري الذي أرسل بنوابه إليه يراقبون سلوك الحكومة وقراراتها ويشرعون القوانين التي ينبغي على مؤسسات السلطة التنفيذية تطبيقها؛ لكن هذا المجلس النيابي استحال مع النظام الأسدي هو الآخر مجلساً "للشعب" يُرسل إليه "نواب" تمت تسميتهم من قبل دوائر الأمن التي تطلب إليهم ترشيح أنفسهم "ممثلين عن الشعب" لانتخابات يعرف جميع من يشارك فيها دوره الكوميدي. هكذا استحال "التمثيل الشعبي" صورياً لا وظيفة له إلا الإيحاء بسلطة تشريعية لا يملك فيها من يؤدي الدور فيه إلا سلطة الموافقة على التشريعات والقوانين التي يمليها رأس النظام. وإذا كانت الديمقراطية قد تجلت قبل الانقلاب العسكري الأخير ورغم الانقلابات  المتناوبة التي سبقته في تعدد الأحزاب وحرية الصحافة والجمعيات الثقافية والنقابات المهنية، وهي سمة أي حكم ديمقراطي بامتياز، إلا أن الأحزاب والنقابات استحالت اعتباراً من 1970 هياكل فارغة، سواء فيما سمي بأحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" التي كانت تقوم بتسويق قرارات "الحزب القائد" أو في "الاتحاد العام لنقابات العمال" الذي صارت مهمته ضبط العمال وتجنيدهم بأمر رأس النظام في مسيرات تأييد لا تنتهي. هذا في الوقت الذي انتشرت فيه منظمات تباينت مهماتها وصيغها وإن تمثلت خصوصاً في ضبط القطاعات الأخرى في المدارس وفي الثانويات وفي الجامعات. أما الجمعيات الثقافية فاختفت من الساحة كلياً لتحل محلها الجمعيات الدينية الخيرية التي يعين مسؤولوها، هم أيضاً، من قبل الدوائر الأمنية على اختلافها. كان ذلك هو الطريق الذي عرفته أسماء أخرى مثل "الوطن" و "فصل السلطات" و"الأمن".

وثانيها ميدان الإنسان، فرداً وجماعة وبيئة. فبعد أن كان الفرد السوري يحتل موقعه الطبيعي في المجتمع وفي السلطات على اختلافها ويتمتع بحرية حقيقية يكفلها له دستور فاعل وفعال، صار أقرب إلى جزء من قطيع تسوسه دوائر الأمن لا يتحرك إلا بإذنها ولا يمارس فعالية دون شراكتها. أما السوري جماعة فبقدر ما برهن عن تكافل وتضامن عابر للانتماءات القومية والدينية سواء خلال النضال ضد المحتل الفرنسي أو خلال العهود الديمقراطية القصيرة التي عرفتها مرحلة ما بعد الاستقلال، بقدر ما استحال، شأن الفرد، إلى كتل مهمشة معرضة لمختلف ضروب العنف والإقصاء والإرهاب. امتلأت السجون في مختلف بقاع سوريا ومنها بلا أي شك سجن تدمر، وتعددت المذابح التي ارتكبت بحق السوريين كجماعات سواء في سجن تدمر أو بوجه خاص في مدينة حماه، وشمل الإرهاب "الإخوان المسلمون" والشيوعيين في وقت واحد. ومثلما طال تفريغ المعاني الفرد والجماعة السورييْن، طال كذلك ذاكرتهم التاريخية في معالم مدنهم وأحيائها. تكفي الإشارة إلى ما حل بالجامع الأموي بدمشق الذي تم ترميمه ضد كل المعايير الدولية السائدة فضلاً عن الاعتداء على التماسك العمراني في محيط الجامع الأموي والسماح بالبناء خارج كل معيار جمالي أو ديني في منطقة المسجد ذاتها.

وثالثها وليس آخرها ميدان القضايا العربية الكبرى، وفي مقدمتها قضية فلسطين. لم يكن السوري فرداً أو شعباً قبل عام 1970 يتبنى القضية الفلسطينية بوصفها قضية إنسانية أو سياسية. كانت قضيته اليومية والشخصية.ولقد برهن في أكثر من مناسبة على مدى التضحيات التي كان يبذلها وعلى استعداد لبذلها من أجل استعادة فلسطين، وذلك حين لم تكن هناك سياسة "الصمود والتصدي" ولا سياسة "المقاومة" ثم "الممانعة" التي سجلت التخلي عن القضية الفلسطينية فعلاً ورفعها شعاراً من أجل تغطية كل مثالب وجرائم السياسة الأسدية التي قتلت باسم حمايتهم الفلسطينيين وحاصرتهم وجوَّعتهم في مخيماتهم السورية واللبنانية. هكذا سرقت القضية الفلسطينية من أصحابها الأصليين واستحالت شعاراً لا يواري بها النظام الأسدي ومن والاه سوأتهم فحسب بل يتاجر بها في كل محفل وفي كل مناسبة.

لم يقتصر المنجز الأسدي على صعيد الداخل السوري على تفريغ المجتمع من السياسة والسياسة من معانيها ومقوماتها فحسب، بل شمل القضية الفلسطينية التي جعلها النظام الأسدي بممارساته خلال السنوات الخمس الأخيرة قضية ثانوية بالنسبة إلى القضية السورية. بذلك يسجل انتصاره الأكبر على أهم قضية عربية تخص الشعبين السوري والفلسطيني، السوري الذي أراد استعباده على نحو تفوق فيه على شراسة مستعمريه الفرنسيين، والفلسطيني الذي استثمر قضيته على نحو تفوق فيه على محاولات مستعمريه الإسرائيليين إلغاءه من الوجود.

أما ما قام به النظام الأسدي من بيع سوريا إلى إيران وروسيا فتلك قضية أخرى فتحت منذ الآن أبواب جحيم لن يكون سهلاً على أحد إغلاقها مادام برهان التاريخ يؤكد أن الشعوب هي التي تنتصر في النهاية..



** نشر في صحيفة القدس العربي، 26 أيار 2016،  ص. 23



mercredi 18 mai 2016


منذ الآن، العدالة الا نتقالية

بدرالدين عرودكي

قد يبدو الحديث عن "العدالة الانتقالية" في سوريا أو مجرد التطرق إلى موضوعها ضمن ظروف واقع الحدث السوري اليوم ضرباً من السذاجة أو أنه، في أفضل الأحوال، يشي بعدم فهم الأولويات التي تطرحها وقائع اليوم وكل يوم في سوريا، مادام تحريرها من محتليها الداخليين والخارجيين أو استعادتها واحدة موحّدة بات موضع شكوك كثيرة، وربما مصدر يأس يخيم على كثير من السوريين، ولا سيما منهم من فقد الكثير خلال هذه السنوات الخمس الأخيرة: بعض أسرته أو كلها، بعض أقربائه أو كثيراً منهم، مأواه ومستقبله وأحلامه التي دفنها قبل أن يتشبث بالبقاء أياً كان المآل أو يهيم على وجه الأرض. وذلك كله بعد أن عانى خلال أربعين سنة حياة كانت تفتقر إلى الكرامة وإلى الحرية. فهل يمكن الآن تناول موضوع قانوني يستهدف توطيد السلام الأهلي وردّ الحقوق الضائعة أو المعتدى عليها لأصحابها ما دامت المذابح تتوالى كل يوم بلا هوادة، ينفذها النظام عبر ميليشياته المختلفة وحلفاؤه من الإيرانيين والحزباللهيين والعراقيين وأفواج المرتزقة الأفغانيين والباكستانيين. وبشتى الوسائل: القصف بالبراميل، وبالتعذيب حتى الموت في المعتقلات، وبالذبح أو بتقطيع أوصال الجثث على مرأى من العالم كله الذي فضل الصمت بعد أن اكتشف بفضل الولايات المتحدة الأمريكية "تعقيد الأمور في سوريا". أو ينفذها أيضاً بين الحين والآخر حلفاء النظام موضوعياً حتى لا نقول عضوياً: تنظيم الدولة ومن والاه أو ارتبط به كي ينبئ عن هويته الإجرامية ويثير الرعب في كل مكان من الأرض. أو ينفذها إضافة إلى هؤلاء من رفعوا رايات أخرى غير رايات الثورة السورية وأعلنوا شعارات وأهداف لا تمت إلى ما خرج من أجله الشعب بصلة، مشوهين بذلك مُثل الثورة وأهدافها ورايتها وكل من دفع حياته من أجل تحقيقها، مبررين أفعالهم بضرورة القصاص  من النظام وأتباعه ومن والاه ناشرين صور وأفلام المجازر فخراً وترهيباً؟

تجد هذه التساؤلات مبررها، فضلاً عن كل ذلك، في ما يبدو انسداد أفق نهاية العذاب السوري بفضل أعداء الشعب السوري وأصدقائه معاً. لكنها مع ما تنطوي عليه من ضروب الخيبة وبعض اليأس تشير في الوقت نفسه إلى ضرورة قصوى تتمثل في استعادة العمل الذي سبق أن بدأ في أوساط الثوار السوريين سواء على مستوى هيئات التنسيق المحلية أو على صعيد مؤسسات المعارضة في الخارج، ثم أخذ بالتراجع تدريجياً بقدر ما بدأ طريق التحرر يبدو طويلاً.  

ما الذي تغير في المشهد السوري حقاً كي يبرر تراجع الاهتمام بهذه المهمة الأساس التي لابد من الاستمرار في الإعداد لها والعمل على جعلها ضمن أولى مهام المرحلة الانتقالية التي سيتم خلالها وضع أسس سوريا الجديدة؟ كل عناصر المشهد الحالي كانت موجودة وفاعلة بهذه الصورة أو تلك: سواء الاحتلال الإيراني عبر ميليشيات ذراعيه اللبنانية والعراقية بالإضافة إلى "مستشاريه" من الحرس "الثوري" من ناحية، أو، من ناحية أخرى، الدعم الروسي عسكرياً وديبلوماسياً. كان هؤلاء وأؤلئك يتدبرون أمر دعم النظام الأسدي كلما بدا موشكاً على السقوط. وكانت أعداد المقاتلين إلى جانبه تزداد بقدر ازدياد الخطر، مثلما بلغ الدعم الروسي له درجة حمايته من الأمريكيين عبر إلزامه بالتخلي عن الأسلحة الكيمياوية حين استخدمها على نطاق لم يكن من الممكن السكوت عليه. لاشك أن درجات العنف التي بلغتها ممارسات النظام وحلفائه في المقتلة وما نتج عنها من تصدعات لدى مختلف المكونات السورية من ناحية وتراجع الهيئات الدولية التي كانت تدعم منظمات المجتمع المدني التي كانت قد بدأت العمل في هذا المجال عن الاهتمام بهذا الجانب قد لعب دوراً حاسماً في هذا التراجع. سوى أن قرار استعادة العمل ينطوي على طابع سياسي بامتياز، ولعل هيئات المعارضة على اختلاف مؤسساتها تتخذ قرار وضع هذه الاستعادة ضمن أولى أولوياتها أياً كانت المدة الزمنية التي تستشرفها من أجل الوصول إلى نهاية النفق. 

من المعلوم  أن العمل الأساس القائم على التوثيق والإحصاء الذي كان يقوم به منذ البداية عدد من منظمات المجتمع المدني أو المراكز التي أسست لهذا الغرض كـ"المركز السوري للعدالة والمساءلة" الذي تأسس عام 2012 بدعم أمريكي مغربي بإدارة الناشط الحقوقي محمد العبد الله، على سبيل المثال لا الحصر، لا يزال جارياً رغم الضربات التي تلقاها العديد من العاملين في هذا الحقل اعتقالاً أو خطفاً أو قتلاً سواء من قبل النظام الأسدي أو من بعض أطياف المعارضة. لكن تنسيق هذا الجهد اليوم يتطلب في الواقع قراراً سياسياً تتفق على عناصره وتتبناه في برامجها مكونات المعارضة على اختلافها كواحد من أهم أهدافها واجبة التحقيق مع بداية المرحلة الانتقالية القادمة طال الزمن أم قصر.

ولا يعني ذلك البدء من الصفر بأي حال من الأحوال. ففي شهر كانون الثاني عام 2014، اجتمع عشرون ممثلاً عن ما لا يقل عن أربعة عشر منظمة من منظمات المجتمع المدني السورية العاملة  في مجال العدالة الانتقالية والسلم الأهلي ومعهم عدد من الهيئات السياسية المعارضة من أجل تأسيس "مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية في سوريا"، بوصفها هيئة مستقلة تستهدف القيام بتنسيق العمل بين المنظمات العاملة في مجال العدالة الانتقالية في سوريا، وتوثيق الانتهاكات، والقيام بالدعاية والدعم والتوعية، فضلاً عن تكوين مكتبة رقمية مرجعية لحفظ كل ما يتم وضعه من تقارير وكتب ودراسات تمسّ قضايا العدالة الانتقالية في سوريا. لقد استطاعت هذه المجموعة بما أنجزته خلال فترة قصيرة أن تثبت جدارتها للقيام بهذا العمل غير المسبوق بل والمجهول في سوريا. ويمكن لمن شاء العودة إلى موقعها الإلكتروني كي يتعرف على أوجه هذه الإنجازات الثرية سواء في مجال البيانات والإحصائيات الخاصة بالانتهاكات التي يرتكبها النظام وسواه من الميليشيات العاملة إلى جانبه أو في مجال توثيق المجازر أو قصف المدنيين بالقنابل العنقودية والصواريخ الفراغية أو أيضاً في مجال نشر الكتب والكتيبات الموجهة لمختلف العاملين في الإعلام أو الناشطين في مجال حقوق الإنسان والتي تتحدث عن مفهوم العدالة الانتقالية وتطبيقاته مثل كتاب كاتي الحايك "إجراءات تحقيق النهج الشامل للعدالة الانتقالية في سوريا ما بعد النزاع" أو كتاب علياء الأحمد "هل ستحقق العدالة الانتقالية في سوريا العدالة للسوريات؟" أو كتاب "العدالة الانتقالية في سوريا بين المفهوم وتحديات التطبيق".

سبق هذا النشاط ورافقه منذ تأسيسه نشاط إعلامي في الصحافة السورية الجديدة المطبوعة  للتعريف بمفهوم العدالة الانتقالية ربما كان محدوداً، لكن التقارير والشهادات التي نشرتها هذه الصحافة السورية الجديدة بمختلف أشكالها تؤلف إسهاماً شديد الأهمية في مجال العدالة الانتقالية في سوريا يبنى عليه ويمكن استثماره في مختلف الميادين القضائية والقانونية فضلاً عن التاريخية.

هل يمكن أن تُهمل كل هذه الجهود؟

لقد مهدت منظمات المجتمع المدني السورية الجديدة هذا العمل الأساس وسوف يكون من الأخطاء المميتة التي يمكن أن تتحمل مسؤولياتها مختلف القوى التي تتصدر اليوم مواقع المعارضة الحقيقية للنظام الأسدي إهمال هذا العمل المنجز في مجال هذه المهمة الأساس وعدم متابعته على الصعيديْن النظري والعملي في برامجها لليوم التالي، أي اعتباراً من بدء المرحلة الانتقالية، مهما كانت هذه الأخيرة تبدو اليوم مؤجلة أو بعيدة المنال. 

ذلك أن التاريخ لن يرحم من يخطئ في قراءته.


** نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، 19 أيار 2016، ص. 23.


lundi 16 mai 2016



شِراكُ الترجمة

بدرالدين عرودكي

"ما أشدّ سلاسة النص، ينسابُ كأنه مكتوب أصلاً بالعربية"!

كثيراً ما تتردد هذه الجملة بصيغة أو بأخرى في كتابات بعض النقاد أو على ألسنة العديد من القراء أثناء تقييمهم رواية مترجمة. جملة تحمل على التساؤل مع وعلى غرار ميلان كونديرا: أليس من الرداءة أن نقرأ روائياً فرنسياً كبروست، أو أمريكياً كهمنغواي، أو يابانياً كتانيزاكي مثلاً بوصفه كاتباً عربياً؟ هل يمكن تصور أسلوب أحدهم لدى كاتب عربي؟ ألا يعني هذا أننا في هذه الحالة لا نقرأ نصوصاً تُرجِمَت وصيغت ترجمتها وفق ما تقتضيه قواعد اللغة العربية بل كُتِبَت ــ بحثاً عن السلاسة والانسياب ــ كما لو كان النص الأصلي نصاً ركيك الصياغة ولابد من إعادة صياغته كلياً بأسلوب عربي مبين؟ هنا، يمكن مع كونديرا، مرة أخرى، طرح السؤال: من هي السلطة العليا التي يجب على المترجم أن يطيعها، الأسلوب الشخصي للمؤلف الذي يترجم نصّه أم سلطة الأسلوب العام للغة التي يترجم إليها والذي تعلمه المترجم في المدرسة الثانوية؟  

لا تخص هذه المشكلة الترجمات العربية فحسب بل الترجمات إلى سواها من اللغات أيضاً ما دامت تُطرَحُ بهذه الصورة أو تلك في الثقافات الأخرى. يقول الناشر الإيطالي روبرتو كالاسو: "إننا نتعرف الترجمة الجيدة لا من خلال سلاستها بل من خلال كل هذه الصيغ الغريبة والجديدة التي كان للمترجم الشجاعة في أن يحافظ عليها ويدافع عنها."

قضى ميلان كونديرا عدة سنوات من حياته يراجع ترجمات رواياته إلى اللغات الأوربية التي يعرفها ويعيد صياغتها بعد أن اكتشف بطريق الصدفة مدى التشويه الذي طرأ على رواياته الأولى بعد ترجمتها من اللغة التشيكية التي كتبت بها أصلاً إلى اللغة الفرنسية. فهذا مترجم يزخرف أسلوبه، وذاك يعيد تركيب فصول رواياته وناشر إنكليزي  يقصُّ المقاطع التأملية ويستبعد المقاطع الموسيقية. اقترح بيير نورا الذي كان رئيس تحرير مجلة لوديبا على كونديرا إثر ذلك أن يكتب لمجلته قاموس كلماته الجوهرية في رواياته ففعل، ونشرها من بعدُ فصلاً في كتابه فن الرواية.

أول وربما أهم شِراك الترجمة جهلُ الكلمات الجوهرية أو الكلمات المفاتيح التي تنطوي عليها أعمال كل روائي، أو عدم الاهتمام بها. تلك التي تؤلف المداخل الرئيسة إلى عالم الرواية ولا يمكن بدون فهمها وإدراكها أن تستقيم قراءة أو ترجمة عمل إبداعي كالرواية. إذ أن مترجماً عربياً يجهل على سبيل المثال مدى ودلالة ارتباط روائي مثل كونديرا بأصول الرواية الأوربية عن طريق معلميْها الأكبريْن: سرفانتس ورابليه سوف يستخدم كلمة  "الفكاهة" بدلاً من "السخرية" الأقرب إلى نظيرتها الفرنسية، وشتان ما بين الكلمتين ودلالة كل منهما في عالم روائي تعتبر فيه هذه الكلمة من كلماته الجوهرية، وسيلجأ إلى كلمة "التفاهة" ــ وهي تنطوي على حكم قيمة ــ بدلاً من الكلمة الأكثر التصاقاً بنظيرتها الفرنسية "اللامعنى" ــ الخالية، خصوصاً في سياقها، من أي حكم قيمة ــ. ومثل المترجم العربي زميله الفرنسي الذي سبق له أن استخدم تعبير "كانت المرأة بثياب حواء" بدلاً من التعبير المباشر الأصلي "كانت المرأة عارية"، أو لجأ إلى الصورة الزخرفية "كانت السماء لازوردية الزرقة" بدلاً من "كانت السماء زرقاء"! تشويهان موصوفان وعدوانيان: على معنى النص ودلالاته من خلال كلمة واحدةّ لدى المترجم العربي، وعلى الأسلوب المباشر بلا زخرفة لدى المترجم الفرنسي.

يدرك كل من مارس الترجمة أن ترجمته التي أنجزها لن تخرج في نهاية التحليل عن كونها قراءة ومقاربة للنص الذي بين يديه تقترب منه أو تبتعد عنه بمقدار ثروته الثقافية العامة ومعرفته العميقة بالنص الذي ترجمه وبعالم مؤلفه. ذلك ما كان يعنيه وصف جاك بيرك لترجماته عدداً من النصوص الكبرى في التراث العربي: محاولة ترجمة. لاشيء نهائي في نصِّ الترجمة، كما كان يرى، وهو قابل للمراجعة والتعديل دوماً بهدف الاقتراب من النص الأصلي.  نعلم أن لكلِّ كلمة في كلِّ لغة أصولها وتاريخها ومسارها ومعانيها المختلفة في السياقات المختلفة. وبالتالي فلا مجال لطبق الأصل المطلق في الترجمة على صعيد المفردات، بل لما هو أقرب ما يمكن من الأصل مع التحفظ الشديد. ذلك شِركٌ آخر من أخطر شِراك الترجمة الذي لابدّ أن يؤدي، حتى في أفضل الترجمات المنجزة، إلى اختلاف القراءات للأعمال الأدبية في لغتها الأصلية عنها في اللغات التي ترجمت إليها. وربما كانت الطريقة المثلى لتجنب هذا الشرك تحقيق ما أمكن من مطابقة الدلالات بين النصين بما يتيح قراءات متماثلة في اللغتين: لغة النص الأصلية واللغة التي ترجم إليها.

من الواضح أن تطابق الدلالات أو تباعدها هو ثمرة قدرات المترجم على تلافي مختلف الشراك المشار إليها. وإلا كيف يمكن مثلاً تفسير ضحك أصدقاء كافكا حين قرأ عليهم الفصل الأول من روايته "القضية" وعدم ضحك القارئ الفرنسي أو القارئ العربي حين يقرأ الفصل نفسه باللغة الفرنسية أو العربية التي نقلت عنها؟   

سنعثر على جواب عن هذا السؤال في فصل خصصه كونديرا في كتابه "الوصايا المغدورة" لقراءة جملة واحدة من رواية كافكا "القصر"، عرض فيه تأملاته التي قادته إليها انعكاسات هذه الجملة في مرآة ترجماتها الفرنسية الثلاث بدءاً من أول ترجمة أنجزها ألكسندر فيالات بقدر من الحرية لروايات كافكا بين عامي 1933 و 1938 ونشرتها دار غاليمار آنئذ في سلسلة لابلياد، ثم التصحيحات التي ارادت القيام بها من أجل طبعة عام 1976 وعهدت بالمهمة إلى كلود دافيد لتطبع في هوامش مستقلة بعد رفض ورثة فيالات إدخالها ضمن متن ترجمته، وأخيراً الترجمة الثالثة التي أنجزها برنار لورتولاري عام 1984 بسبب رفضه الترجمتين المذكورتيْن. سوف نلاحظ في هذه التأملات إلى أي حدٍّ تلعب خيارات المترجم دوراً حاسماً في دلالات النص على صعيد ترجمة الكلمات الجوهرية الخاصة بالجملة المعنية أولاً،  وعلى صعيد اختيار الكلمات المطابقة أو الموازية لمثيلاتها في النص الأصلي ثانياً، وأخيراً على صعيد ما يسمح به المترجم لنفسه من حرية في التصرف أثناء نقل النص، سواء في إعادة صياغة جملة المؤلف مستعيضاً عن فعلي "الملك" و"الكينونة" مثلاً بأفعال أخرى تنتقل بالمعنى وبالدلالة إلى مسافات بعيدة عن مقاصد الروائي الأولى في استخدامهما أو في تلافي التكرار الذي ترفضه اللغة الفرنسية مثلاً لكنه يلعب أدواراً شديدة الأهمية في لغة الروائي.

من الطبيعي والحالة هذه ألا يضحك على غرار أصدقاء كافكا قراؤه الفرنسيون وعلى أثرهم أوائلُ قرائه العرب ماداموا قد وقعوا جميعاً في شِراك  الترجمة الفرنسية الأولى لروايات كافكا ومنها "القصر" التي كتب عنها جورج حنين مقالة عام 1939، ثم طه حسين الذي  قدّمَ للقراء العرب عام 1946 مجمل روايات كافكا في دراسة مطولة حملت عنوان "الأدب السوداوي" ونشرها آنئذ في مجلة "الكاتب المصري" قبل أن ينشرها كأحد فصول كتابه "ألوان" تحت عنوان "فرنز كافكا".



** نشر في الملحق الثقافي، العربي الجديد، العدد 83، 17 أيار 2016، ص 6.