mardi 1 juillet 2014


ميلان كونديرا وعيد اللامعنى
بدرالدين عرودكي
 

 
 
 
عشرة أعوام ونيّف مضت قبل أن ينشر ميلان كونديرا روايته التي صدرت مؤخراً: "عيد اللامعنى" (منشورات غاليمار). لم يكن أحد منا يظن أنه سينشر شيئاً من جديد لاسيما وأنه كان أول كاتب حيّ يدخل سلسلة مبدعات الكتاب الكبار الشهيرة "لابلياد"  حين جمعت أعماله في مجلدين اثنين كما لو كان جَمْعها إشارة إلى أنه وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره قد قال كل ما أراد قوله، وأنه يستودع كلَّ ماكتبه في هذه الطبعة المحققة الأنيقة. لهذا كانت هذه العودة المُفاجئة بما أثارته من احتفال جماعي بها من النقاد ومن جمهور القراء على السواء تكريساً جديداً لو احتاج الأمر لمن يعتبر اليوم بحق أحد كبار الروائيين المعاصرين.  
هذه هي رواية ميلان كونديرا الرابعة التي يكتبها بالفرنسية مباشرة (وقد أصدرتها منشورات غاليمار على غرار سابقاتها الثلاث ضمن السلسلة البيضاء التي خصصتها منذ تأسيسها قبل نيِّف وقرن للكتاب الفرنسيين بعد أن نشرت له رواياته الأولى المترجمة ضمن سلسلة "من العالم كله" المخصصة للكتاب غير الفرنسيين، تثبيتاً لاعترافها به كاتباً "فرنسياً") إلى جانب كتبه الأربعة حول فن الرواية. لكنها في الوقت نفسه الرواية العاشرة التي يكتبها كونديرا ـ مع مجموعة وحيدة من القصص ـ كما لو أنه يريد أن يقول بها وعبرها رواياته كلها من خلال ما اعتبره ولا يزال سواء في رواياته أو في روايات الروائيين الذين ينتمي إلى سلالتهم الجوهر المقوِّم للرواية: السخرية.  فما أكثر المرات التي كان كونديرا يلح فيها، في رواياته  وفي كتبه الأربعة حول "فن الرواية"، على هذا العنصر المقوِّم في جوهر ما يعتبره الرواية الحديثة من رابليه وسرفانتس حتى كافكا. وكان هو نفسه قد ألمح إلى حلم راوده زمناً طويلاً في رواية يكتبها على هذا النحو حين سجل في أول رواية كتبها بالفرنسية، "البطء"، سؤال زوجته، فيرا: "ـ قلتَ لي غالباً إنك تريد أن تكتب يوماً ما رواية لن تكون فيها أية كلمة جادّة... أحذرك: انتبه: أعداؤك ينتظرونك."
وها هو يفعل. وها هي أخيراً الرواية المنتظرة كلها، من عنوانها حتى الكلمة الأخيرة فيها، رواية السخرية المحضة، تجسد الجملة التي استشهد بها في كتابه "فن الرواية" نقلاً عن ليوناردو تشاشياLeonardo Sciascia  : "لاشيء أصعب على الفهم، ولا شيء أصعب على التحليل من السخرية". ومن هنا رأى دوماً أن "كلّ رواية جديرة بهذا الاسم، أياً كان وضوحها، تنطوي على قدر كاف من الصعوبة بسبب سخريتها المشاركة في جوهرها."  فكيف يكون الأمر إذا كانت السخرية لا جوهر الرواية فحسب بل الرواية ذاتها مبنىً ومعنىً كما هو الحال في "عيد اللامعنى"؟  
في مقدمته لمجموع مبدَع كونديرا الذي نشر كما سبق القول في مجلدين ضمن سلسلة لابلياد، أشار الناقد الفرنسي فرانسوا ريكار إلى العناصر الأساس في الرواية الكونديرائية: "مزج المستويات (الواقعي والمُرام، عالم الشخصيات وعالم الروائي)؛ مراكبة أزمنة مختلفة (الحقبة الراهنة والماضي التاريخي)؛ استقبال أكثر أصحاب الأهواء تحرراً وخروجاً عن المألوف". ومن الممكن أن يُضاف إلى هذه العناصر الثلاثة التي تسم التقنية الروائية الشكلين اللذين طبعا رواياته التسع السابقة: العمارة الموسيقية في رواياته في صورتها البوليفونية خصوصاً كما تتجلى في جمع عناصر مختلفة بل ومتنافرة أحياناً ضمن وحدة متناسقة، مزج "الطبقات الصوتية"، واستخدام الأزمنة (لا مراكبتها فحسب) ضمن البناء نفسه كما سبق له وشرحه خلال حديثه حول فن التأليف في كتاب "فن الرواية" من ناحية، والشكل الفودفيلي، أو التسلية، المتسق، والأقرب إلى المسرح "والذي يقارب اللامحتمل".
حلم كونديرا بخيانة كبرى تطال هذين الشكلين معاً. وها هو يحقق حلمه هذا، هنا أيضاً! فمع اعتمادها العناصر الأساس المذكورة جميعها، واستخدامها جنباً إلى جنب أو بصورة متداخلة الشكليْن معاً: البوليفونية والفودفيل المسرحي، وباستعادتها ثيمات الروايات التسع بلا استثناء، تحقق "عيد اللامعنى" خيانتها إذ تبتكر شكلاً جديداً يختلف في تجاوزهما عن كلِّ ما سبقه.
الموضوع إذن ذو أهمية بما أنَّ الهدف هو اللامعنى بوصفه "جوهر الوجود": "اللامعنى ياصديقي، هو جوهر الوجود. إنه معنا في كل مكان وعلى الدوام. إنه حاضر حتى في المكان الذي لا يريد فيه أحد أن يراه: في ضروب الرعب، في الصراعات الدموية، في أشد المصائب سوءاً. ذلك يتطلب الشجاعة غالباً للتعرف عليه في شروط على هذا القدر من المأساوية ولتسميته باسمه. على أن المقصود ليس التعرف عليه فحسب، بل لابد من محبته، اللامعنى، لابدَّ من تعلُّمُ محبته (...) تنسّم، ياصديقي، هذا اللامعنى الذي يحيط بنا، إنه مفتاح الحكمة، إنه مفتاح المزاج الحسن.."
ومن أجل ذلك لابدّ من الدخول في أرجاء سبعة فصول يمكن أن نسميها مشاهد أيضاً، وفي زمان هو زماننا مع أزمنة مستعادة أيضاً من حقب تاريخية أخرى، ومتابعة تسع شخصيات تتحرك فيها استعير ثلاث منها من التاريخ إن حملت أسماء مختلفة إلا أنها تشترك جميعها في الثيمة الأساس التي تتفرع بدءاً منها وتتشعب عنها إلى ما لانهاية في ثيمات/تنويعات تقول جميعها عنوان الرواية: اللامعنى.  
ألان، واكتشافه سرّة الفتيات العارية وقد أضحت مركز الجاذبية الجنسية الجديد بدلاً من الأرداف والأفخاذ والأثداء! رامون، الهائم حباً بلوحات شاغال لكن الطابور الطويل بانتظار الدخول إلى قاعة العرض يحمله على التراجع؛ شارل، الذي جاء إلى العالم على الرغم من إرادة أمه وصار مسكوناً بصوتها يلاحقه حيثما كان؛ وكاليبان، الممثل العاطل عن العمل يؤدي كي يكسب عيشه دور خادم باكستاني مبتكراً لغة خيالية يحتمي بها من الآخرين؛ دارديللو، النرجسي الذي لا يهتم إلا بصورته؛ كواليك، الذي يجعل لامعناه المرأة لامبالية في حضوره وبالتالي أقرب منالاً؛ ثلاث شخصيات أخرى ستستعار من التاريخ مباشرة: ستالين، وخروتشيف وكالينين. وبين الفينة والفينة يتسلل الراوي/الروائي إلى المشهد بخفة ومهارة لا يكاد يُرى بسببهما كي يقدم معلومة ما أو يصحح أخرى. على هذا النحو يبدأ روايته بتقديم أبطاله الأربعة وينقلنا في الوقت نفسه إلى موسكو قبل عدة عشرات من السنين: "بين مفرداتي ككافر، كلمة واحدة مقدسة: الصداقة. آلان، رامون، شارل، كاليبان، أحبهم. وبسبب مودتي لهم إنما حملت ذات يوم كتاب خروتشيف إلى شارل  كي يتسلوا قليلاً فيما بينهم".
هكذا وبينما يتنزه الأبطال الأربعة في دروب حديقة اللوكسمبورغ أو يتواجدون معاً في حفل استقبال، يتنقل بنا الراوي/الروائي بلا حرج من باريس اليوم  إلى موسكو الأمس، كي نتابع اجتماعاّ يرأسه ستالين ونشهد معه تدشين عصر اللامعنى: كيف كان جوزيف ستالين يتسلى في ممارسة الهزل العبثي أمام معاونيه الذين لم يكونوا يجرؤون على الضحك أمام زعيمهم الأعظم خشية تفسير ضحكهم على أنه استهزاء به. وكيف صارت المدينة التي ولد فيها كانط تحمل اسم كالينينغراد، نسبة إلى كالينين...
ستستعاد خلال هذه النزهات ثيمات سبق وعرفناها في روايات كونديرا السابقة لكنها تُعزَفُ هنا على مقام السخرية. من تفاهة الحياة اليومية إلى الفلسفة ، ومن أكثر الأمور جدية كحقوق الإنسان إلى أشدها خفة أو مرحاً كالضحك، ومن معنى السعادة إلى العبث، مروراً بثيمة الإنسانية والإرادة وبينهما السلطة. قدمت هذه الثيمة الأخيرة من خلال مشهد مثير يحاول فيه ستالين أن يشرح لمعاونيه سبب رفضه لفكرة كانط "الوجود ـ في ـ ذاته" وتفضيله عليها فكرة شوبنهاور القائلة إن العالم ليس إلا تصوراً وإرادة. يشرح ستالين: "هذا يعني أنه لا يوجد وراء العالم كما تراه شيء موضوعي، لا يوجد أي "شيء ـ في ـ ذاته"، وأنه لكي نوجدَ هذا التصور، ولكي نجعله حقيقياً، لابد من وجود إرادة؛ إرادة هائلة تفرضه." غير أن ستالين وهو يمضي في شرحه يستدرك: فتصورات العالم هي بقدر عدد الناس. وهذا ما يمكن أن يؤدي في نظره إلى الفوضى. كيف يمكن تنظيم الأمر إذن إن لم يكن عن طريق فرض تصور واحد على الناس جميعاً؟ غير أن هذا الفرض لا يمكن له أن يتم إلا بفضل "إرادة واحدة، إرادة واحدة هائلة، إرادة تعلو كل الإرادات. وهو ما أفعله بقدر ما سمحت لي به قواي. وأؤكد لكم أنه تحت هيمنة إرادة كبرى ينتهي الناس إلى قبول أي شيء! نعم يا رفاق، أيّ شيء!". وكيف لا يقبلوا وهم الذين لم يجرؤوا على تكذيبه حين قصَّ عليهم كيف اصطاد أربعة وعشرين حجلاً على دفعتين: استطاع اصطياد نصفها في المرة الأولى لنقص في ذخيرته التي سار مسافة ثلاثة عشر كيلومتراً ليتزود بها ثانية ويعود لاصطياد النصف الثاني الذي كان بانتظاره على الشجرة؟!  
هل يسعنا أمام هذه السخرية المتدفقة في كل صفحات الرواية المائة وأربعة وأربعين أن نخلص إلى أن اللامعنى هو في النهاية المعنى الحقيقي لكل ما يحيط بنا أو لكل ما نعيشه؟  
يقول رامون بوحي من هيغل:" فقط اعتباراً من أعالي المزاج المرح اللامتناهي تستطيع أن تراقب تحتك حماقة البشر الأبدية وتضحك منها".
كما لو أن كونديرا أراد بهذه الرواية الأخيرة أن يجسِّد ما يعتبره فن الرواية بامتياز: فنٌّ إذ لا يثبت شيئاً ولا يدافع عن شيء يطرح السؤال باستمرار عن سرّ أو أسرار هذا الواقع الذي لا يكف عن سحرنا والذي طالما أننا وقد فهمنا منذ زمن طويل، كما يقول رامون إلى كاليبان، أنه لم يعد بوسعنا قلب هذه العالم، ولا تكييفه، ولا إيقاف سباقه المؤلم إلى الأمام.. لم يعد أمامنا سوى مقاومة وحيدة ممكنة: أن نتوقف عن أخذه مأخذ الجد.
* نشرت هذه المقالة في مجلة الدوحة، العدد 81، تموز/يوليو 2014.