سعد الله ونوس
المسرح في المقهى*
أجرى
الحوار
بدرالدين عرودكي
لم يعُد اسم سعد
الله ونوس غريباً على القارئ في الوطن العربي. ذلك أن مسرحيته حفلة سمر من أجل
الخامس من حزيران هي أول مسرحية لكاتب عربي من سورية تشق طريقها نحو أقطار
عربية أخرى لتقدَّمَ على مسارحها قبل أن تقدم على خشبة المسرح في القطر العربي
السوري بالذات. فلقد قدمت هذه المسرحية في لبنان، ثم في السودان ـ حيث أثارت ضجة
كبيرة ـ ثم في الجزائر.. كذلك، فهو أول
صوت مسرحي يخرج من سورية غريباً بادئ الأمر على الأسماع التي اعتادت خلال السنوات
العشرين الأخيرة على أصوات معينة، ثم ما يلبث أن يغدو أليفاً، لأنه يخاطبها
مباشرة، ويستهدفها مباشرة.
لم تكن مسرحية
سعد الله ونوس حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران أول مسرحية له. ففي عام
1964 أصدرت له وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق مجموعة من المسرحيات القصيرة: حكايا
جوقة التماثيل .. ثم سافر إلى فرنسا لمدة سنتين درس خلالهما المسرح على أيدي
كبار المخرجين والمسرحيين الفرنسيين (جان لوي بارو ـ برنار دورت..)
وبعد مسرحيته حفلة
سمر من اجل الخامس من حزيران التي
رشحتها وزارة الثقافة لجائزة مسابقة اليونسكو، كتب مسرحية الفيل يا ملك الزمان
التي عرضت في مهرجان دمشق الأول للفنون المسرحية ثم مؤخراً مسرحية مغامرة رأس
المملوك جابر التي نشرت في عدد مجلة المعرفة الخاص بالمسرح قبل شهرين..
** ** **
*
ما السبب في رأيك الذي يجعل من المسرح القومي مسرحاً غير جماهيري؟ وكيف تفسِّرُ
هذا الانفصال بين الجمهور والمسرح؟
** يتضمن هذا
السؤال شقيْن: الأول يتعلق بأزمة المسرح القومي خاصة. والثاني أزمة التجربة
المسرحية بشكل عام إزاء الجمهور في بلدنا. وبالنسبة لأزمة المسرح القومي، أعتقد
أننا تحدثنا كثيراً عنها، وقلنا إن المسرح القومي بدأ بداية خاطئة، ولم يستطع
بعدئذ أن يتخلص من هذه البداية. لقد أراد المسرح القومي أن يكون جسراً ثقافياً لا
أكثر بين تجربة مسرحية تامة، هي التجربة المسرحية على الطريقة الأوربية، وبين
جمهور يختلف تماماً عن الجمهور الذي تعود على المسرح الأوربي المغلق. وبهذا المعنى
فقد كان المسرح القومي منذ البداية موجهاً لعيّنة معيّنة فقط من سكان دمشق بالذات. وهذا الخطأ جرَّ
المسرح القومي من ثمَّ إلى مجموعة من الأخطاء تراكمت بفعل الزمن حتى شكلت معالم
أزمة أعتقد أن حلها يحتاج إلى قرارات جذرية.
إنَّ تحول المسرح
القومي إلى مجرد مكان للتوظيف أفقره إلى الدوافع الفنية التي يتمتع بها العاملون
في المسرح عادة. ولقد كان لابد له أن يكون عرضة لجملة من التغييرات المستمرة في محاولة للخروج به من الأزمة. لكن هذه
التغييرات لم تصل إلى الخطأ الأساسي الذي كان في البدء. ولذلك فقد استمرت أزمة
المسرح القومي حتى الآن. إن المسرح القومي مسرح منقطع عن الناس والجمهور والبلد الذي يقوم فيه. ويمكن اكتشاف
هذا الانقطاع بتحليل طبيعة النصوص المسرحية التي يقدمها. وحينما يتوفر لنا النص
الذي يتلاءم مع البيئة، يمكن تفسير الانقطاع عن البيئة بطريقة العرض والتقديم.
وهنا ألامِسُ بالطبع الإخراج والتمثيل.
فلا الإخراج له هوية ولا التمثيل ـ
بالتالي وهذا أمر حتمي ـ له هوية. وبوسعي أن أضرب الأمثلة لولا أنها ستقودنا إلى
موضوعات خارجة عن نطاق هذا الجواب. إن أزمة المسرح القومي سوف تبلغ هذا العام ذروتها،
لأنَّ الجمهور قد بدأ خلال المهرجانين المسرحيين اللذين أقيما بدمشق، بدأ يتذوق
نوعاً من المسرح يختلف عما تعوّده. مسرح يخاطب الجمهور ويتحدث عن مشاكله وينبش
عيوبه وأوجاعه، ويحاول بكل وسائل الاتصال أن يقيم حواراً معه.
هنا ننتقل إلى
الشق الثاني من السؤال وهو الأهمّ، وأعني به أزمة المسرح بشكل عام في بلادنا.
وأعتقد أنه يمكن ردّ هذه الأزمة بالدرجة الأولى إلى نوع من الانقطاع عن الجمهور.
ويمكن تعليل هذا الانقطاع بجملة أسباب: غياب الظاهرة المسرحية وتقاليد التعبير في
بلادنا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه عندما ظهرت الظاهرة المسرحية في بلادنا ظهرت كما تعرضت سابقاً بشكل زائف وخاطئ ومليئ
بالعيوب. ولا يجب أن نتوهم كثيراً حول تجربتنا المسرحية. فالمسرح القومي ـ في
الحقيقة ـ هو العمود الفقري في التجربة المسرحية. ولذلك يجب أن ننظر في أزمة
الاتصال مع الجمهور على أنها أزمة انقطاع عن الجمهور، أزمة عدم للجمهور ومشاكله.
وبوسعنا أن ننظر إلى هذه الأزمة من زاوية أخرى على أنها أزمة تحاشي الخوض في مشاكل
الجماهير. ذلك أنني لا أعتقد بأن الجمهور يعزف عن المسرح وإنما يعزف عن نوع معين
من المسرح.
*
في البيانات المسرحية التي نشرتها في العدد الخاص عن المسرح الذي أصدرته مجلة
المعرفة قبل شهرين حدَّدتَ المنطلق الأساسي في معالجة الأزمة المسرحية بالجمهور.
وقلت: إن كل الذين عملوا في مجال المسرح لم يلتفتوا إلى الجمهور ولم يدرسوا واقعه
كما أنهم لم يخوضوا في مشاكله. ذلك أن البداية كانت خاطئة من الأساس. وأضفت ـ من
ناحية أخرى ـ أنَّ رواد المسرح العربي الأوائل كانوا أكثر فهماً للجمهور من
العاملين حالياً في الحقل المسرحي. فهل تعتقد ـ وخاصة أن المؤلف المسرحي في بلادنا
لم يغدُ ظاهرة بعدُ ـ أنّ على المسرحيين أن ينهجوا طريقة الرواد الأوائل كأبي خليل
القباني مثلاً؟
** هناك نقطتان
أساسيتان لابدّ من الاتفاق عليهما. أولاً، النقطة الأولى هي أنني عندما قلت: إن
المسرح بدأ بداية خاطئة، فإنني أريد بذلك أن علينا أن نفهم خطأ هذه البداية لا على
أنه متعمَّد، وإنما بسبب التركيب الفكري للذين بدأوا الحركة المسرحية في
الخمسينيات هذا التركيب الذي لم يكن يسمح
لهم بالتجاوب مع الجمهور، أو بالفهم الواعي له، لم يكن يسمح لهم أن يتوجهوا إلى
جماهير عريضة وإنما إلى طبقة أو عيِّنة معينة من الجمهور لا تضمّ إلا قلة. النقطة
الصانية هي أنه يجب ألا نفهم الجمهور على أنه نوع من النخبة. إنّ الاقتراب من
الجمهور موقف فكري بالتأكيد. والنية الحسنة لا تكفي بهذا الصدد. والموقف الفكري هو
نتيجة تحليل الواقع وفهمه، وبالتالي رسم صورة لما يجب أو لطبيعة التغيير الذي يجب
أن ينال هذا الواقع. وعلى ذلك فإن البدء من الجمهور يبدو سهلاً وصعباً في آن واحد.
وربما كانت الصعوبة هي الغالبة على اعتبار أنه يقتضي كما أشرت في مقالي الذي
ذكرتَه وجود تقليد جديد هو (الجماعة المسرحية). الجماعة المسرحية التي تستطيع أن
تحلل وأن تفهم البيئة، وأن تكشف الوسائل الضرورية للاتصال بها والتفاعل معها
انطلاقاً من رؤية واضحة للمستقبل. ذلك أنه عندما تتوفر مثل هذه الجماعة ويتوفر لها
الوعي الكافي تستطيع أن تحدد مواطئ أقدامها ونوع الجمهور الذي تريد أن تحاوره.
فيما يتعلق بالشق
الثاني من سؤالك، أريد أن أقول إنَّ رأيي هذا قد عورض من قبل كثيرين ـ وبشكل خاص
الدكتور سلمان قطاية ـ الذي قال إنني أعطيت هؤلاء الرواد أهمية أكثر مما يستحقون.
لكن الواقع هو أن الأمر بالنسبة إلى رواد الحركة المسرحية لم يكن تعريب الحركة
المسرحية أو إعطاء المسرحيات ثوباً محلياً، كما أنه لا يكمن في الموضوعات التي
طرحوها، وإنما أهميتهم كامنة في الظاهرة المسرحية إذ ذاك، كظاهرة اجتماعية، كظاهرة
تفاعل وحوار، تلك الأمور التي نسيها فيما بعد خريجو المعاهد والأكاديميات سواء في
أوربا أو في الوطن العربي.
فالجماعة
المسرحية التي أعنيها لا يمكن لها مثلاً أن تفرض شكلاً من أشكال المسرح سلفاً. إلا
أنه بوسعنا القول: نريد مسرحاً يعلم الجمهور على الطريقة البرشتية، نريد مسرحاً
يجعل الجمهور يعي أوضاعه أكثر، يتحرك أكثر، جمهور يعي قيم التقدم لإقامة حياة
أفضل. إنما، ما هو الشكل المسرحي الذي يمكن أن يقودنا إلى ذلك؟ في رأيي أن طرح هذا
السؤال سابق لأوانه.
*
كيف يمكن توفير جماعة مسرحية بالمفهوم الذي حددته؟ وما هي الظروف الملائمة
لإيجادها؟
** هذا سؤال
مهمٌّ جداً. ذلك أن علينا ألا ننسى أن تربيتنا في الأساس تربية عمل فردي. لذلك
يبدو الآن ـ وقد نكون أو نتكوّن ـ من الصعب علينا التخلص من فرديتنا للانصهار في
عمل جماعي، إلا أن الممارسة والوضوح الفكري ـ وألحُّ على فكرة الوضوح الفكري ـ
عاملان هامّان من عوامل الخلاص من الفردية، فالتجانس الفكري بين أفراد الجماعة ،
وقدرتهم على الحوار فيما بينهم ـ ومسألة الحوار هنا هامة جداً إذ أن ملاحظة سريعة
لحياة الناس اليومية يمكن أن تكشف إلى أيّ حدٍّ صدورهم ضيقة بالحوار. إذ أننا ـ
خلال الحوار ـ جميعاً أساتذة، وفي أحوال نادرة نأخذ دور التلميذ ـ أقول، إن
التجانس الفكري والحوار يساعدان كذلك بالإضافة للمارسة والوضوح الفكري على توفر
الجماعة. لكن الحقيقة أن كل الظروف الخارجية الآن، من تكويننا الداخلي إلى تكوين
المؤسسات الثقافية، تمنع وجود جماعة من هذا النوع.
*
واضح من كلامك أن توفر مثل هذه الجماعة لا يمكن أن يتمَّ بقرار رسمي، أو بمجرد
توفر الرغبة لدى بعض الأفراد. إن البداية تتجلى في مبادرة عدّة أشخاص يلتقون على
أفكار معينة، غير أن طبيعة الظروف التي نعيشها: تكويننا النفسي، والمؤسسات
الثقافية الحالية، لا تسمح ـ كما تقول ـ بذلك. إلا أن الملاحظ أن التجارب المسرحية
في العالم ـ في الماضي وفي الحاضر ـ بدأت من مثل هذه الجماعات التي كان أفرادها
يملكون روح التضحية وما يمكن تسميته بـ(الهوس). هوس المسرح لدى عدّة أفراد يمكن أن
يسهم إلى حدٍّ كبير في تخطي الكثير من العقبات والظروف التي تقف في وجه قيام
مبادرات من النوع الذي تتحدث عنه. فهل تعتقد أن روح التضحية يمكن أن توجد الآن بعد
أن غدا المسرح وظيفة رسمية؟
** الحقيقة كان
من الممكن أن تكون موجودة. وأرجو ألا يفهم من قولي بأنها غير موجودة الآن، على أنه
حكم على كل العاملين في الوسط الفني، وبشكل خاص في الوسط المسرحي، كما أنني لا
أريد أن يفهمَ كذلك أنني أحكم عليهم بأنهم نماذج أضحت فارغة ومستهلكة ـ كما يتحدث
البعض. ذلك أن المشكلة في الحقيقة أكثر تعقيداً مما تبدو للوهلة الأولى؛ وهي لذلك
لا يمكن أن تحَلَّ بحكم سريع وتعسفي. يجب أن ننظر إليها على أنها إحدى ظواهر
البنية الاجتماعية الحالية. إحدى ظواهر هذه العلاقة المعقدة التي تربط الفنان
بالمؤسسات الثقافية التي هي بحجمها أضخم من الطاقات الفنية والثقافية والبشرية
المتوفرة في بلادنا. إن التلفزيون والإذاعة بساعات بثهما الطويلة بالإضافة إلى
المسرح ومؤسسة السينما ومسرح الشعب في حلب وإذاعة حلب وبعض المسارح الإقليمية
الصغيرة، في اعتمادها على عينة من الوجوه أو من الكتاب أو من المخرجين لا يمكن لها
إلا أن تقع في مشكلة استهلاك منظم، باعتبار أن هذه المؤسسات ـ كحجم ـ أضخم من
الطاقات البشرية. على أن دراسة هذه الظاهرة يحتاج إلى وقت لا يسمح به مثل هذا الحديث. ثم إنه لم يكن
تركيب الناس في سنوات 1870 ـ 1884 ـ وهي الفترة التي مارس فيها أبو خليل القباني
تجربته المسرحية ـ يختلف كثيراً عن تركيب الناس الآن، إلا أن المغريات في عام 1970
تشكل خطراً فعلياً على المواهب. لذلك تبقى المشكلة في النهاية: كيف يمكن أن نجد
مجموعة من الشباب قادرة على أن تقاوم هذه المغريات؟ أنا متفائل إلى حدٍّ ما. يمكن
أن يوجد بعض الشباب، ولاشك أن البداية صعبة لقوة المغريات من جهة، وللظروف المحيطة
من جهة ثانية. إلا أن التجربة تستحق المحاولة على أي حال..
*
ننتقل إلى موضوع آخر. حين عرضت مسرحيتا مأساة بائع الدبس الفقير و الفيل يا ملك الزمان في مهرجان دمشق الأول
للفنون المسرحية قال بعض النقاد عنهما: إنهما من مسرح التنفيس. صحيح أنهما تنتقدان
وضعاً سياسياً واجتماعياً معيناً ولكنهما تفرغان الجمهور من التوتر الذي شحن به
خلال عرضهما في نهاية كلٍّ منهما. ما رأيك في ذلك؟ ثم ما هو المعيار النقدي الذي
تضعه للتفريق بين مسرح التنفيس ومسرح الشحن؟
** يدهشني إثارة
هذه النقطة بالذات. إذ أن ما يثير حساسيتي ويستقطب اهتمامي ككاتب للمسرح هو هذه
المسألة: مسألة الشحن والتنفيس. ولقد كنتُ واضحاً جداً في الفقرة التي كتبتها في
المقال المشار إليه في مجلة المعرفة عن هذه المسألة. وفي رأيي أن الفاصل
بين الشحن والتنفيس عبارة عن خيط واهٍ جداً. ومن هنا تنشأ الخطورة إذ يمكن لأيّ
كاتب أو لأيّ مخرج أن يعبر هذا الخيط بدون وعي. وفيما يتعلق بهاتين المسرحيتين،
فإنني لا أتبنى إخراج المسرحية الأولى، مأساة بائع الدبس الفقير. فلقد كان
إخراج هذه المسرحية عملاً إفرادياً ، خرج من بين يدي الدكتور رفيق الصبان كما أراد
الصبان وليس كما أردته أنا. ولقد حاولت أكثر من مرة أن أتحاور معه، ولكنه رفض.
والمسؤولية من ثمَّ تقع على عاتقه. ذلك أن هناك نقطة صغيرة يمكن أن يقال عنها
(تنفيس) والتي هي عبارة عن الإضافة التي أضافها إلى نهاية المسرحية. تلك هي مجيء
الولد الصغير إلى بقعة الضوء لكي يذكر المتفرجين بأنه حتى لو مات هذا الرجل فهنالك
أمل. طبعاً هذه عقلية تنفيسية بحتة جداً.
إذ أنه أضعف القيمة التأثيرية التي تركها موت بائع الدبس الفقير، رغم
ميلودراميتها، ذلك الذي طحنته ىلام أكثر تعقيداً من أن تفسَّر. لأنه يجب أن نفهم
المسرح على أنه ديالكتيك بين الصالة والخشبة. ما يحدث على الخشبة ليس مرآة حرفية
لما يحدث في الواقع. المهم في المسرح هو الناتج عن حوار الصالة مع الخشبة.
والنتيجة كانت في رأيي درساً أكثر من أن تكون عملية تنفيسية. إذ ما هو المقصود
بالتنفيس؟ التنفيس هو أن تطرح مشكلة أمام الجمهور، وأن تجعل الجمهور يتوتر مع هذه
المشكلة لأنه يرى فيها مشكلته الخاصة، مشكلته كشعب، أو كفرد، وأن تعمق توتره خلال
سير المسرحية وتجعله يلهث وراءها، ثم في النهاية تجهض هذا التوتر مرة واحدة إما
بحلٍّ مفتعل وإما باقتراح مفتعل. وكلنا نذكر مثلاً العمليات الإجهاضية التي قتلت
مسرحيات مثل سبع سواقي و بلدي يا بلدي. ففي هذه المسرحيات يبدو
التنفيس واضحاً. أما بالنسبة لمسرحيتي فأعتقد أن أهمَّ شيء يثير اهتمامي واستطعت
المحافظة عليه هو أن يبقى الفاصل بين التنفيس والشحن.
*
وبالنسبة لمسرحية الفيل يا ملك الزمان؟ لقد قيل أيضاً إنها تفهم الشعب فهماً
خاطئاً، وإنك اتهمت الشعب بالجبن والخيانة. وأنتَ تعرف بلا شك أن ظروفاً موضوعية
تجعل شعباً ما يكف عن العمل في لحظة ما.. فهل توافق على ذلك؟
** أريد أن أنبه إلى
نقطة تتعلق بهذه المسرحية وبالكتابة للمسرح بشكل عام. إن الكتابة للمسرح حوار مستمرٌّ
ودائم، باعتبار أنه ليس ثمة مسرحية جاهزة وناجزة مادام الكاتب حياً. لابد للمسرحية
من أن تتغير، ويمكن أن تلغى أيضاً أجزاء منها أو تضاف إليها أجزاء أخرى بناء على
رد فعل الجمهور والمناقشات معه أو مع النقد. طبعاً لا أنكر أن المناقشات التي جرت
حول هذه المسرحية قد أفادتني كثيراً، وقد دفعتني في النهاية إلى أن أضع لها نوعاً
من الختام. لكن المشكلة بالنسبة لهذه المسرحية كانت في معاملة النقاد لهذه
المسرحية. فقد نظروا إليها لوحدها. ولكن هذه المسرحية صورة عن الواقع. فأنت عندما تقدم درساً ـ مثلاً ـ في مضمار
المسرح التعليمي، تقدم حدوته أو أمثولة، أو وضعاً معيناً من أجل أن تنفيه. فعملية
النفي يمكن أن تتم بأشكال مختلفة. لاشك أن
جمهور المدينة التي يسكنها هذا الفيل
جمهور خائف من القصر. وقد بدأ يرتعد وهو يعبر دهاليز القصر. وعندما مثل بين
يدي الملك كان الصمت التام، إذ بدت الألسنة وكأنها مقطوعة. وفي الحقيقة فإن علينا
أن ننبه إلى أن أخذ وضع معين يمكن أن يتم بأشكال مختلفة ـ يمكن أن يتم بشكل غير
مباشر: إن تثير عند المتفرج الحنق. وإثارة الحنق هنا يمكن أن تتم عن طريق تقديم
وضع يجب ألا يكون. فكل متفرج شاهد المسرحية كان لديه الإدراك بأنه ما كان على
الناس أن يقفوا هذا الموقف (التخلي عن الرفض). النقطة الثانية، هي أنّ المسرحية لا
تتحدث عن علاقة الشعب بالقائد. فزكريا ـ وهو الصوت الذي يقود هذه الجماهير ـ ليس
ثائراً ولا قائداً. إنه قائد لفترة عابرة قام بفعل احتجاجي بطريقة هوجاء، وليس فعله
فعلاً ثورياً حقيقياً مؤسساً ومنظماً وله قواعده وقيمه.. إلخ. وفهم زكريا على أنه
ثوري يقتل المسرحية ويميتها. إنه غير ثوري، إنه متمرد بطريقة غوغائية وعلى هذا فإن
من السهل عليه أن ينوس من أقصى الرفض إلى أقصى القبول.
ومن ناحية أخرى،
فقد كان يمكن لهذه المسرحية أن تكون مسرحية تنفيس لو أنها انتهت عند كلمة (نحن نحب
اتلفيل يا ملك الزمان)، تلك التي أشار أكثر من ناقد إلى أنه كان يجب على المسرحية
أن تنتهي عندها. ولكني أطلت النهاية لأعطي الشعور بالنتائج. تركت الملك يقدم
فرماناته. ولذلك فأنا لا أعتقد أن هذه المسرحية تتهم الناس بالجبن. إنها مسرحية
أمثولة، قدمنا أمثولة أمام الناس عن موقف كان يجب أن يكون غير ذلك.
*
على الرغم من أن مسرحيتك حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران لم تعرض على خشبة
المسرح بدمشق فقد كتب حولها الكثير. إلا أن من أهم ما قيل عنها النقد الذي تناول
شكلها الذي قيل فيه إنه يعبر عن الفوضوية أكثر مما يعبر عن موقف تقدمي ملتزم
بأفكار واضحة. والمعروف أن الشكل المسؤحي
الذي توصلت إليه في هذه المسرحية هو محصلة عدة تجارب مسرحية عالمية. فما رأيك؟
** قد يكون في حفلة
سمر من أجل الخامس من حزيران ما يعطي الإحساس بالفوضى، وقد يكون فيها ما يعطي
الإحساس بأنها صيحة، وبأن مضمونها هو الغضب. لقد سمعت هذه الآراء كلها وأكثر من
ذلك.. لقد كان هناك من عاب عليها أنها عن 5 حزيران بالذات وهناك من قال بأن الخامس
من حزيران قد أضحى سلماً للارتقاء. كما أن هناك من رفض فكرة الكتابة أصلاً عن
الخامس من حزيران. وهذا رأي لن أردّ عليه، على اعتبار أنه ليس ثمة إنسان إلا وهزّه
الخامس من حزيران بطريقة لابد معها للكاتب من أن يكتب عنه وأن يفكر فيه دون أن
يكون ثمة ما يدفعه إلى التفكير فيه سواه. ولو فهمت هذه المسرحية على أن بناءها هو
المضمون لما قيل إنه تعبير عن الفوضوية، وأن الأصوات التي ترتفع فيها ليست عشوائية
تريد أن تحطم كل شيء. يمكن اختزال المسرحية على النحو التالي: الحركة الأولى، حركة
كذبة تقدم للجمهور.. والثانية، فلاحون لديهم الصلابة ولديهم الجرأة التي تبلغ
أحياناً حدّ الوقاحة يقاطعون هذه الكذبة ويرفضونها وصوت الفلاح الذي يرتفع بعفوية
وتلقائية، ولكن بعناد، هذا يثير في الصالة رغبة الكلام، فتنفجر أصواتٌ أخرى،
وانفجار هذه الأصوات لم يكن عفوياً، كما أنه لم يكن صيحة بلا ضابط. إنه انفجار
مدروس وبدقة.. حتى في ترتيبه، وفي نوعيته وارتفاع درجته واتساعها. والقول بأنني لم
أحل شيئاً، لا معنى له. بالتأكيد لم أحل شيئاً. ولا أعتقد أن بوسع أحد أن يحل
شيئاً. ومن نافل القول إن مشكلة كمشكلة حزيران لاتحلُّ بمسرحية وإلا لما استحقت أن
يكتب عنها مسرحية ـ إن فهم المشكلة هو جزء كبير من الحل: أن ننظر إلى أنفسنا. جزء
كبير من الحل أن نعتاد التفكير، أن نعتاد التفكير بصوت عال. وتدرّج الأمور في
المسرحية واستطرادها، هو عملية إثارة التفكير وتأمل المشكلة وإيجاد حلول لها
وتبنيها. فما لم تتبنّ الجماهير قضيتها، وتفهمها، وتعرف أسبابها، فمن الصعب أن
تخرج منها، وهذا هو الجانب الإيجابي في المسرحية التي ليست عملاً متشائماً على
الإطلاق. قد يقال: ولكنك أسكتَّ الأصوات التي رفعتها في النهاية. الآن نعود إلى
النقطة التي كنا نتحدث فيها قبل قليل: الفرق بين التنفيس والشحن. إذا كنا لا نريد
أن نعطي الناس وهمَ أنهم يصيحون ويفرغون توترهم الداخلي، ثم يذهبون إلى بيوتهم
وينامون في طمأنينة فلكي لا تكون المسرحية مسرحية تنفيس. لابدّ أن أذكر المتفرج في
النهاية بهذا الواقع الذي يُنبَشُ على خشبة المسرح أمام عينيه. لذلك أعتقد أن
المسرحية ليست فوضوية. ولقد كنتَ أنتَ بالذات قد أشرتَ إلى ذلك في دراستكَ النقدية
عن الظاهرة المسرحية العربية بعد الخامس من حزيران التي نشرت في عدد مجلة
المعرفة الخاص عن المسرح ـ وكانت إشارة واضحة وجيدةحين قلَ إن المتفرج والممثل
ينصهران في عملية مشتركة قوامها التفكير بمصيرهما المشترك كجماعة تعيش في ظرف
تاريخي واحد.
*
إلى أيِّ حدّ يصحّ هذا القول في رأيك: في مسرحية حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران كانت المسافة بين
الصالة وخشبة المسرح معدومة، أما في مسرحيتك الأخيرة مغامرة رأس المملوك جابر
فقد كان ثمة فاصلٌ مادّي. فما الذي دعاك لأن تغير الطريق الذي سرت عليه في مسرحيتك
الأولى؟
** الحقيقة أنه
ليس ثمة تغيير جذري وأساسي في الشكل المسرحي. فالمقهى في مسرحية مغامرة رأس
المملوك جابر ليس ديكوراً مسرحياً، وإنما هو المسرح بالذات. وما أحلم به هو أن
تقدم هذه المسرحية في مقهى حقيقي. وفي هذه الحالة يمكن أن تكون أصوات الزبائن التي
وضعت على ألسنتها هذه الجمل أصوات الزبائن الحقيقيين. لقد وضعت هؤلاء الزبائن في
المسرحية لتشجيع الزبائن الحقيقيين الذين لم يشتركوا في المسرحية لكي يتكلموا.
تماماً كالمتفرجين في مسرحية حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران. فالمحاولة
إذن لتشجيع الناس على الدخول في حوار. وما يبدو فاصلاً في مسرحيتي الأخيرة يمكن تفسيره بشكل بسيط جداً. ذلك أن في هذه
المسرحية حكاية. وهذا يعني خلق جو جديد يختلف عن جو حفلة سمر. في حفلة
سمر الحكاية هي معارضة الصالة للخشبة. في حين أنه في مغامرة رأس المملوك
جابر هناك حكاية منفصلة تهم الناس ويتدخلون فيها ويقولون رأيهم بها. والمسرحية
بالشكل الذي نشرت فيه ليست كاملة. إنها لن تكتمل إلا بالتقديم وبعملية الإخراج،
كما أن كلام الزبائن ليس نهائياً، وإنما هو اقتراحات يمكن أن يُغيّرَ أو يُبَدَّلَ
حسب الظروف. لكن المهم سواء في هذه المسرحية أو في السابقة هو أن يبقى الحوار
مستمراً بين الخشبة والصالة. المهم أن تتكلم الصالة. إذ عندما تتكلم الصالة ينشأ
حوارٌ أكثر صميمية وعمقاً.
إن وجود الحكاية
في المسرحية الأخيرة هو الذي أعطاك الإحساس بأنه نوع من العودة إلى خلق فاصل بين
خشبة المسرح والصالة. فالحكاية تروى، والجوّ منفرج ومريح جداً. ليس فيها عقدة
درامية بالمعنى المفهوم للدراما والناس قد يحسون بالخديعة في النهاية، وهذا أقصى
ما أطمح إليه: أن يشعر الناس أن مصيرهم على خشبة المسرح، وأنهم هم الذين يلعبون
على الخشبة، وأنهم قد اشتركوا في المسرحية من خلال تعليقاتهم التي كانوا طرفاً
فيها ولهمموقفاً من كل ما جرى فيها، وأن النتيجة الحقيقية التي توصلوا إليها
وهمياً على المسرح هي النتيجة الحقيقية. لذلك فمن المفروض أن تكون النهاية عبارة
عن مأزق. مأزق يعبر عنه بعض الزبائن حين يحتجون على النهاية ـ هذا الاحتجاج على
النهاية هو ما يدعو إلى التفكير.
*
كيف نبتت فكرة هذه المسرحية؟ ثم كيف عالجتها؟
** لا أكتمك أنني
كتبت هذه المسرحية خلال الأشهر السبعة الأخيرة. بدأت المسرحية من فكرة صغيرة. فقد
كنتُ أقرأ في سيرة الظاهر بيبرس في الصفحة الثانية. حادثة صغيرة: خلاف في بغداد
بين الخليفة والوزير. الوزير يريد أن يرسل رسالة خارج بغداد. وتقول السيرة إن
الوزير قد حاول عدة محاولات لذلك وأسقط في يده لأن الخليفة كان قد أغلق كل أبواب
بغداد. وفجأة نادى أحد مماليكه وقال له: يا جابر أنا أحبك وأريد أن تحمل لي هذه
الرسالة إلى ملك العجم. فأجاب جابر: لا أستطيع يا مولاي، فالحراس يحيطون ببغداد.
فقال الوزير: هذا أمر بسيط. ويجد الوزير التدبير (في المسرحية جابر هو الذي يقترح
هذا التدبير). يحلق شعر المملوك ويكتب الرسالة على رأسه ثم ينتظر حتى ينبت الشعر
من جديد، ويرسله واعداً إياه بالعطايا والهبات.
ويتلقى ملك العجم الرسالة ويقرأها، ويقرأ في نهايتها الحاشية التي كتبها الوزير
(ولكي يبقى الأمر سرّاً بيننا إقطع رأس حامل هذه الرسالة من غير إطالة). فلا شك أن
هذا الرجل الذي يقطع البراري وهو يغني أمله بالحرية والمكافأة والوعود السخية، كان
يغني للمستقبل دون أن يعرف أنه يحمل الموت فوق رأسه. والرأس هنا يتجاوز المعنى
المباشر لكي يعني الوعي عموماً. أثارتني اللقطة فكتبت المسرحية على أساس أن هذا
المملوك يحمل قدره على رأسه. ثم رأيت أن المصير الشخصي يعطي دلالة ضعيفة: مصير
إنسان أراد انتهاز فرصة فكانت النتيجة قطع رأسه. لكن هذا المصير يهمّ أناساً
كثيرين لأنه يتحدث عن كثيرين في الحقيقة. كثيرون هم أؤلئك الذين يحملون قدرهم تحت
رؤوسهم دون أن يعلموا. فإذا حاولنا التفتيش عن صلات لهذا الموقف بالواقع لوجدنا
الكثير من الصلات ـ لقد كتبت المسرحية وفق
الأصل التاريخي لحوادثها. ولكن الشيء الأساسي هو مصير الناس سواء عامة بغداد أو
هذا الانتهازي الذي يسلم رأسه دون أن يعرف لمن وما النتيجة؟ فكما أن جابر يرفض أن
يعرف ما هو مكتوب على رأسه، مما جعله يدفع الثمن في النهاية، فإن الناس أيضاً تدفع
رؤوسها لعدم محاولتها معرفة قدرها. المسرحية إذن محاولة لحث الناس على التفكير
بمصيرهم وبقدرهم، كقدر اجتماعيّ سياسي لابدّ من البحث فيه واكتشاف أبعاده.
*
قلتَ في المقدمة التي كتبتَها لهذه المسرحية إنها تنتمي إلى نوع من المسرح سمّيته
مسرح التسييس. ما الحدود التي تفصل بين المسرح السياسي ومسرح التسييس هذا؟
** باختصار، لقد
بُدِئ باستعمال مصطلح المسرح السياسي في بدايات القرن العشرين للتدليل على نوع من
المسرح بدأ يسود مسارح أوربا في ذلك الوقت وبالذات تجربة بيسكاتور وبريشت وجان
فيلار وبعدهم بيتر فايس وأرمان غاتي. هذه التسمية ماكرة. فعندما نقول عن مسرح ما
إنه مسرح سياسي فذلك يعني بالضرورة أنه يوجد مسرح لا سياسي. وهذا خطأ في رأيي. كل
مسرح سياسي شاء أم أبى. حتى مسرح البولفار القائم على عقدة الزوج والزوجة والعشيق
هو مسرح سياسي. ذلك لأنّ الغاية النهائية فيه إلهاء الناس وإبعادهم عن الواقع. إن
المسرح السياسي كمصطلح لا يعبر عن هذه التجارب التي أرادت أن تستخدم المسرح كوسيلة
لتوعية الجمهور وإيقاظ إحساسه بمشاكله وتوضيحها أمامه. وهذا المسرح هو ما أسميه
مسرح التسييس. إذن كل مسرح سياسي، وليس كل مسرح "مسرحاً تسييسياً". هناك
تجارب يقال عنها الآن إنها مسرح سياسي لأنها تتناول الأحداث السياسية اليومية
وتكتب عنها. ولكن هذا لا يعني أنها من المسرح السياسي أو مسرح التسييس. ذلك أنها
تتناول هذه الأحداث وتعبر عنها بطريقة تخديرية تزيد من نوم الجماهير واستسلامها
للطمأنينة، في حين أن مسرح التسييس يهدف إلى أيقاظ الناس وفتح أعينهم وإثارة الحوار معهم ودفعهم للتفكير بمصيرهم
كجماعة من خلال عمل مسرحي أو حوار مسرحي.
*
نشر هذ اللقاء في مجلة الطليعة السورية، العدد 233
الصادر بتاريخ 2 كانون الثاني/يناير 1971، ص. 32 ـ 36 .