الربيع العربي
سراب أم منعطف؟*
بدرالدين
عرودكي
بلا
مواربة، واعتباراً من العنوان، يطرح سامي عون في كتابه "الربيع العربي، سراب
أم منعطف؟" السؤال الأساس. وهو سؤال يكاد يفرض نفسه كل يوم مع التحولات التي
نشهدها في بلدان ما سُمّيَ بالربيع العربي ولا سيما على أستاذ للسياسة التطبيقية
في جامعة شيربروك بكندا يُطلب إليه في الحلقات الجامعية أو في وسائل الإعلام
المحلية أن يدلي برأيه حول الحدث العربي الذي انطلق مع نهاية عام 2010 ولا يزال
مستمراً حتى اليوم.
اختار
عون، لكي يجيب عن السؤال، شكل الحوار. يصير السؤال أسئلة كثيرة يطرحها زميله في
الجامعة وشريكه في الكتاب، ستيفان بورجي، تتناول مختلف جوانبه مكاناً وزماناً
وثيمات. وربما كان هذا الشكل هو الأنجع حين يستهدف جمهوراً يجهل الكثير عن المنطقة
العربية أو لا يعرف عنها إلا ما تتيحه له وسائل إعلام عالمية تعيد صياغة الحدث حسب
موقعها وزاوية رؤيتها أو أدوات فهمها.
والأسئلة
هنا لا تقلّ أهمية عن الإجابات. لا لأنها تستعيد بصورة أو بأخرى تساؤلات الجمهور
العريض من الغربيين عامة والكنديين خصوصاً فحسب، بل لأنها تصوغ كذلك المشكلات على
نحو يمكن معه للإجابات أن تفيض في الشرح الضروري. هذا فضلاً عن تقسيم للكتاب يأخذ
بيد القارئ للسير على طريق مليء بالألغاز كي لا نقول بالألغام التي تحول غالباً
دون فهم مجتمعات مختلفة ثقافة وتاريخاً ومشكلات.
يفتتح
الكتاب بنظرة تسترجع مجمل صورة "الربيع العربي" خلال السنوات الثلاث
الماضية، كي يدخل من بعد في القسم الأول في ما حدث ويحدث في كلٍّ من تونس ومصر
وليبيا وسورية، ثم ليتناول في القسم الثاني عنصريْن حاسميْن في الربيع العربي: دور القوى الأجنبية من جهة، والإسلام من خلال موضوعات
الخلافات من جهة أخرى.
لا
بدّ من الإقرار في الواقع أن ثورات الربيع العربي كانت واحدة في الشعار الذي رفعه
شبابها: الحرية والكرامة، وربما هذا ما دعا المنصف المرزوقي إلى القول "إننا
أمام ثورة عربية واحدة تختلف حسب البلدان فى بعض التفاصيل، إلا أنها فى النهاية
واحدة". لقد تجلت رؤية هذه الوحدة من الخارج في هذه التسمية الشاملة: الربيع
العربي. إلا أن من الممكن رؤية عناصرها في الداخل من خلال طبيعة نظم الحكم التي
قامت الثورة ضدها ولاسيما حكم العائلة في حالة تونس ومصر وسورية أو حكم العائلة
والعشيرة في ليبيا، والقوى السياسية التي برزت على الفور كي تحتل مقدمة المشهد
السياسي ولا سيما القوى الإسلامية التي كانت هي الأكثر تنظيماً وقدرة على الحشد. لكن
التفاصيل العديدة والمختلفة سرعان ما تبرز إلى العيان ما إن نبدأ في تناول جوانبها
في هذا البلد أو ذاك. وهذا ما جعل صياغة الأسئلة تلح على هذه التفاصيل في كل بلد،
مع إلقاء الضوء على العناصر الأساس في الاختلاف بين بلد وآخر.
كان الجيش مثلاً في تونس
ضامناً لعملية الانتقال السلسة على صعوبتها في تونس، وكانت القوى الإسلامية
الممثلة خصوصاً بحزب النهضة عازمة على التكيف مع الليبرالية والتعايش مع النزعات
العلمانية والحداثية التي تجد صداها لدى النخبة التونسية، وهو الأمر الذي جعلها
تتلافى أخطاء سواها في البلدان الأخرى وتقدم العملية الديمقراطية على سواها من
الاعتبارات الأخرى. ذلك ما حمل سامي عون على أن يجيب عن السؤال حول إمكان أن تكون
تونس نموذجاً للمجتمعات العربية بالإيجاب نظراً لأن تجربة انتقالها الديمقراطي
بليغة في "بحثها عن توازن سياسي جديد وعن إجماع اجتماعي واسع" بقدر ما
هي "كاشفة عن الرهانات الأيديولوجية والثقافية والجيوسياسية الكبرى التي تثقل
على الربيع العربي".
أما في مصر، فقد كان
الجيش منذ البداية عاملاً أساساً وحاسماً وحاضراً في مقدمة المشهد السياسي قولاً
وفعلاً، توجيهاً وحسماً. من الواضح أنه كان ضد عملية التوريث التي كانت تقف ضدها
قطاعات واسعة من بنى المجتمع المصري، كما أنه استوعب، كما يقول سامي عون، أسباب
فقدان الثقة بحكم مبارك لدى العواصم الغربية: فشلُ مبارك في غزة وفي الحيلولة دون
قيام تحالف بين سورية وإيران؛ فشله أيضاً في مواجهة صعود إيران؛ ودعمه للبشير في
السودان وعدم نجاحه في فضِّ الخلاف بين الشمال والجنوب، وأخيراً قيام الثورة في
البلد. أدت هذه الأخيرة إلى انتخابات حملت الإسلاميين وخصوصاً الإخوان المسلمين
إلى سدّة الحكم. لكن الإسلاميين في مصر يختلفون عن نظرائهم في تونس. فقد كان وصول
محمد مرسي للحكم فرصة تاريخية لهم بعد خمسة وثمانين عاماً من محاولات الوصول إلى
السلطة. غير أن سنة واحدة كانت كافية لتبديد هذه الفرصة نظراً لنقص تجربته الفاضح
في الإدارة الحكومية من جهة، وغياب برنامج سياسي واقتصادي واضح، وتحالفات إقليمية أثارت
غضب الدول الخليجية خصوصاً، هذا على الرغم من الاستراتيجية التي اتبعها تحديداً
ولاسيما في ما يسمى سياسة التمكين أو محاولة تحييد الجيش من خلال غض النظر عن
امتيازاته. كان عزل مرسي بمثابة موعد لعودة الجيش إلى مقدمة المشهد ثانية. وهو
مشهد لا يزال شديد الاضطراب. وعلى أنَّ الأساس يبقى أن فرض برنامج سياسي بالقوة
بات مستحيلاً، مثلما باتت الاحتجاجات تحول دون أي محاولة لإعادة تأهيل السلطة
السابقة، إلا أن الأبواب لاتزال في مصر مفتوحة على إمكانات شديدة الخطورة: أن تغرق
مصر على غرار الجزائر في حرب استنزاف بين الجيش والإسلاميين، أو أن تقوم حرب
بالوكالة بين القوى الإقليمية على أرضها.. وبما أن فشل مصر يعني أيضاً وفي الوقت
نفسه فشل العرب فإن الربيع العربي سينقلب كابوساً حقيقياً.
وهو كابوس كاد الربيع العربي
الليبي أن يصيره بالفعل من خلال انقسام ليبيا الذي كان على وشك التحقق بعد أن بدأت
الثورة بمدينة بنغازي التي تقع على مسافة 600 من من العاصمة طرابلس. ذلك أن ليبيا،
كما يلاحظ سامي عون، "على غرار معظم الدول العربية كيان هش ومصطنع" تكوَّنَ
من اتحاد مناطق طرابلس غرباً وبرقة شرقاً وفزان جنوباً. وكانت الحرب الطويلة التي
خاضها الثوار الليبيون وتدخل الناتو في حسم هذه المعركة في النهاية من ناحية ووجود
الميليشيا الإسلامية التي نشطت خلال الحرب ضد كتائب القذافي والتي لم تضع أو ترفض
وضع سلاحها، قد زادت من هشاشة الوحدة الليبية. ذلك أن الفروق بين المناطق عادت
للظهور على السطح مثلما ظهرت كذلك الفروق الإيديولوجية بين الإسلاميين
والليبراليين وبين من يريدون الجمع بينهما. يبقى أن النواحي الإيجابية في هذا الوضع المعقد
وجود دستور وبرلمان منتخب فضلاً عن وجود نخبة إسلامية ليبرالية ومتنورة ضمن بيئة
شعبية تراجعت فيها الأمية تراجعاً كبيراً. وجاءت استقالة رئيس المؤتمر العام
احتراماً للقانون وللدستور بعد صدور قانون العزل السياسي لكل من شارك في حكومات
القذافي بمثابة علامة إيجابية للمستقبل.
لكن الربيع السوري هو
الاستثناء في هذا الربيع العربي. ولعله الاستثناء الذي يمثل التفصيل الأعمق ضمن هذه
الثورة العربية الواحدة كما وصفها المرزوقي. وعلى أن سامي عون يقدم تحليلاً يعكس
إحاطة عميقة بالوضع السوري، فإن تحليله يبقى للأسف دون الواقع، شأنه على كل حال
شأن معظم التحليلات التي قدمت عن هذا النظام الاستثنائي في تاريخ العالم العربي
الحديث وربما القديم أيضاً. فبقاء النظام رغم ثلاث سنوات مضت على ثورة الشعب
السوري سؤال ما زالت تطرحه الغالبية العظمى من المواطنين في معظم دول الغرب
والأمريكتين. يقول سامي عون بحق إن قدرة النظام على البقاء والاستمرار مستمدة من
الداخل والخارج في آن واحد. وفي حين يحدد بدقة تأثير العوامل الخارجية في هذا
المجال حين يشير إلى إيران التي تعمل على الحصول على الاعتراف بها قوة إقليمية،
وإلى روسيا خصوصاً التي، على فشلها في تحقيق التسوية المنتظرة منها، استخدمت سورية
لتعلن نفسها قوة عالمية ثانية لا يمكن تجاوزها بعد ما اعتبرته خداع الغرب لها في
موضوع ليبيا، ثم إلى تركيا التي استحالت
إلى نمر من ورق بفعل عوامل عديدة داخلية وخارجية، فإنه حين يتحدث عن الدعم الداخلي
لنظام الأسد لا يفصِّل هذا الدعم، مكتفياً بالإشارة إلى عامل الخوف من الإسلاميين
من ناحية، وإلى ظهور الجماعات المسلحة وصدامها مع قوات النظام من ناحية أخرى. سوى
أن ظهور هذه الجماعات المسلحة الإسلامية، والتي أعلن النظام عن وجودها منذ الشهر
الأول للثورة السورية، كان مخططاً له من قبل النظام بالذات، ولم تكن في النهاية سوى
أداة في استراتيجية اتبعها منذ البداية من أجل تسويق صورته أمام الرأي العالمي
كمحارب للإرهاب الإسلامي ممعناً في إنكار وجود ثورة شعبية حقيقية تطالب بالحرية
وبالكرامة. إذ سواء أكانت قد نشأت بفعل قوى أهلية أو بفعل قوى إقليمية أو حتى
دولية، فقد أمكن للنظام لا أن يخترقها فحسب بل أن يستغل كل فعل من أفعالها لصالح
ما اعتبره معركته ضد الإرهاب الذي تقوده دول إقليمية خصوصاً. سوى أن هذه السياسة
السينيكية أو الكلبية التي اتبعها النظام منذ اليوم الأول للثورة استطاعت أن تخدع،
وربما أريد لها أن تخدع في الظاهر، دوائر القرار الغربية. ولا تزال.
يصيب سامي عون كبد
الحقيقة حين يقرر أن المشهد السوري اليوم مأساة إنسانية لا يمكن للضمير قبولها. مأساة
صارت اليوم أسيرة الاستراتيجية الروسية من أجل تثبيت روسيا قوة عالمية لا يمكن
تجاوزها من ناحية، وأسيرة استراتيجية أوباما في ترك أعدائه جميعاً (الأسد وإيران
وحزب الله) يغرقون في حرب تستهلكهم جميعاً، من ناحية أخرى.
لم
يتطرق محاور سامي عون إلى اليمن ولا إلى البحرين. يبقى مع ذلك واضحاً
أن سراب الربيع العربي قد تبدَّد، لكنه لم يتكشف بعد عن منعطف حقيقي.
* نشر في مجلة الدوحة، العدد 78، نيسان/أبريل 2014، ص. 106 ـ 107.
http://www.aldohamagazine.com/emagazine/data/20140401/106/emagazine20140401_106_1.pdf
http://www.aldohamagazine.com/emagazine/data/20140401/106/emagazine20140401_106_1.pdf