vendredi 23 août 2013


لماذا يوسف  عبدلكي؟ 

بدرالدين   عرودكي

 

كان أول ردِّ فعلٍ لي على خبر اعتقال يوسف عبدلكي: كيف يعتقل فولتير السوري؟ من هو النظام الذي يمكن أن يعتقل فولتير..ورحت أستشهد بمن لم يسمح لنفسه على أنه عسكري اعتقال سارتر ذات يوم حتى لامني صديق: لو قارنت النظام السوري بموسوليني وستالين لظلمتهما، فما هذه المقارنة مع ديغول؟ كان ذلك تذكيراً لي بضرورة العودة إلى الواقع من جديد: واقع هذا النظام، واقع فرادته في تاريخ سورية والعالم الذي تنتمي إليه، واقع أن يعتقل فناناً مثل يوسف عبدلكي، واقع أن يعتقل إنساناً مثل يوسف عبدلكي..

ردود أفعال الأصدقاء كانت شبيهة. كأنما على كلِّ ما نراه ونشهده كلَّ يوم نريد باستمرار ألا نصدق ما يحدث. كأنما نريد الاستمرار في الظن أن ثمة خطأ ما في مكان ما في زاوية ما. كأنما نسينا أو تناسينا أو نريد ألا نصدق على الدوام أن هذا النظام نفسه هو من قتل غياث مطر، الشاب الذي كان يوزع الزهور والماء في داريا على الجنود؛ وأنه من اقتلع حنجرة إبراهيم القاشوش، وأنه من كسر أصابع الفنان علي فرزات؛ وأنه، خصوصاً، ومنذ البداية، كسر كل جدران المحرمات واللامعقول عندما اقتلع في درعا أظافر أطفال في عمر الزهور، وأنه منذئذ قد أمعن وهو يقتل ويدمِّر في خرق كلِّ ما حاولت الإنسانية وضعه من قواعد للحرب أو للصراع أو للخصومة، سائراً على آثار غزاة سورية الأقدمين من الشرق ومن الغرب، من تيمورلنك إلى الصليبيين، لا يروم شيئاً سوى استمراره على ما كان عليه منذ أكثر من أربعين عاماً. 

ولن يكف عن تقديم الأمثلة. بل وأكثرها فصاحة. فقد ارتقى منذ البداية أيضاً بفعل الكلام أو الكتابة أو الرسم إلى مستوى الجريمة. نعرف جميعاً أن في أقبية أمن النظام ما لا يحصى عددهم من المواطنين المغمورين ممن كسروا جدار الخوف ونطق لسانهم بما كانوا يخفونه في قلوبهم. لا يعرف بوجودهم إلا الأهل والأصدقاء. ليسوا كتاباً أو صحافيين أو رسامين بالضرورة. ولم يحملوا سلاحاً بالضرورة. ذنبهم واحد في الحالات كلها: نطقوا ذات يوم أو ذات ساعة بكلمات لا وجود لها في قاموس النظام؛ أو أنهم آووا ذات يوم من نطق بمثل هذه الكلمات أو كانوا من أهله أو من أقربائه.

وفي ذلك على وجه الدقة إنما تكمن "جريمة" يوسف عبدلكي. جريمة تمثيله لكل هؤلاء المغمورين من السوريين الذين ملأوا ولا يزالون يملأون زنزانات السجون وأقبية المخابرات في أرجاء سورية كلها. ليس يوسف عبدلكي مجرد فنان استثنائي في مشهد التشكيل السوري أو العربي فحسب، بل كان أخطر من ذلك في نظر النظام: فهو الذي وقد عرف من قبل السجن والمنفى سنوات طويلة، اختار العودة الطوعية إلى وطنه مستمراً في ما بات يؤلف سبب وجوده بالذات: أن يجسد في مبدعاته الفنية وفي سلوكه اليومي وفي مواقفه العامة صورة المواطن والوطن الجريح الذي ينتمي إليه.

لا يكفي أن تتأمل في مبدعات يوسف عبدلكي لكي تستغرق في عالمه. لابد من التأمل أيضاً في وجهه، هذا الوجه الذي يمتزج فيه الألم بالأمل. ولا بدّ أيضاً من التأمل في حياته، تلك التي لم ينسلخ فيها الخاص عن العام في كل ما يمسُّ شؤون البلد الذي ينتمي إليه والذي يحمله حيثما كان إلى أن عاد إليه ليمتزج فيه وليصير بعضه. ولابد من الإصغاء إلى صوته: صوت يفيض خشوعاً أمام عذاب وآلام أبناء وطنه، آلامه..ذلكم هو يوسف.

ندر بين فنانينا من صار العام خاصّته لا واحداً من خصوصياته.

ويوسف عبدلكي أحد هؤلاء النادرين.

ذلك أنه لم يكفّ عن الشعور بنفسه معتقلاً حتى حين كان يعيش طليقاً في منفاه بباريس على ما كان يمكن أن يتمتع به من حرية، مادام شعبه في سورية يعيش ضمن سجنه الكبير. تلك هي جريمته، الجريمة التي لا يمكن لنظام كالنظام السوري أن يحتملها أو أن يسكت عنها أو أن يغفرها. لكنه في هذه الخصوصية بالذات إنما يمثِّلُ يوسف عبدلكي وهو معتقلٌ من جديد المعتقلين السوريين المغمورين جميعاً ويذكِّرُ بهم. ومن ثمَّ يصير الحديث عن هذا الاعتقال بالضرورة حديثاً عن الآلاف المؤلفة منهم،  أؤلئك الذين كنا نراهم دوماً في عينيه، وفي ضربات ريشته، وفي صوته الخافت خشوعاً أمام عذاباتهم، عذاباته.
          ذلك أنه ينتمي إلى النخبة الحقيقية، تلك التي رفضت الصمت، ورفضت الخنوع،  ورفضت المذلة، رافعة رأسها، دافعة الثمن. غالياً. ولا تزال.
 
 
* كتبت هذه المقالة  يوم 8 آب/أغسطس 2013.
 

samedi 17 août 2013

 
 




في الاحتفال  بعبد السلام العجيلي 

                           بدرالدين عرودكي
 
 
بدعوة من الكوليج دو فرانس بباريس، قسم التاريخ الاجتماعي للاسلام المعاصر الذي كان الأستاذ جاك بيرك يشرف عليه حتى عام 1981 ، ألقى الدكتور عبد السلام العجيلي في شهر أيار 1978 محاضرة موضوعها عرب اليوم والعودة إلى الينابيع.
وكان بيرك قد جعل من هذه المناسبة فرصة لتنظيم ندوة جامعة حول العجيلي فطلب إلى الأستاذة أوديت بتي،  تقديم عرض نقدي لرواية قلوب على الأسلاك التي كانت أنئذ قد قامت بترجمتها إلى الفرنسية وقدم لها جاك بيرك، كما طلب إليَّ تقديم عبد السلام العجيلي قاصاً وشاعراً. فكانت هذه الكلمة المنشورة أدناه والتي ألقيت بهذه المناسبة.
وكنتُ قد نشرتُ في مجلة المعرفة، العدد 199، أيلول 1978 وقائع هذه الندوة التي ضمت تقديم جاك بيرك وتقديمي وعرض أوديت بتي وكذلك محاضرة عبد السلام العجيلي عرب اليوم والعودة إلى الينابيع أو سلفية العرب المعاصرين.
 
تبدو لي محاولة تحديد ملامح أعمال بتنوع أعمال عبد السلام العجيلي واتساعها في الزمن مهمة حرجة لاسيما وأن إشكالية هذه الأعمال هي إشكالية الثقافة العربية المعاصرة. أعني بالأعمال هنا الأعمال أو المبدعات المكتوبة بالطبع، ذلك أن أعمال العجيلي إنساناً كما انعكست في مختلف الفعاليات التي مارسها منذ أكثر من ثلاثين عاماً تثير أيضاً حماسة أؤلئك الذين يولون الجانب العيني والمادي من حياة الإنسان أهمية كبرى.
من الممكن مثلاً الحديث عن العجيلي نائباً عن بلدته الصغيرة على الفرات: الرقة، في عام 1947، والذي غادر مقعده النيابي دون ضجيج أو تصفيق أو خطابات حماسية ليلتحق بجيش المتطوعين لإنقاذ فلسطين عام 1948.
ومن الممكن الحديث عن العجيلي الطبيب الذي ما إن تخرّجَ من كلية الطب بجامعة دمشق حتى عاد إلى بلدته بعيداً عن إغراءات وأضواء العاصمة التي كان يمكن أن تجتذب شاباً ريفياً كما اجتذبت كثيراً من أمثاله، حتى منهم أؤلئك الذين يطالبون بتطوير الريف وإيقاف الهجرة من الريف إلى المدينة وخاصة إلى العاصمة. غير أن العجيلي عاد إلى بلدته واعياً مستجيباً بذلك لحاجة ملحة إلحاح المرض الذي كان يشكل مع الفقر والجهل ثلاثي البلدان المتحررة حديثاً من الاستعمار كسورية في النصف الثاني من الأربعينيات.
نعم، من الممكن الحديث أيضاً عن العجيلي وزيراً في مرحلة دقيقة كتلك التي عرفتها سورية إبان الإنفصال وضمن وزارة حاولت عبثاً إعادة وحدة سبق أن حكم عليها بالضياع مكتشفاً بذلك اتساع المسافة بين النوايا الطيبة والإمكانات الفردية.
من الممكن الحديث عن كل ذلك وغيره أيضاً، إذ أن هذه التجارب الفنية والخصبة والتي تبدو للوهلة الأولى فردية هي في الواقع تجارب تخص فريقا من الناس قابل للتحديد؛ وهي بهذا يمكن أن تكون على الأقل عنصراً مقوِّماً في تكوين مبدعات عبد السرم العجيلي إن لم تكن تكوينها نفسه.
أما تناولها في حالتها الخام، فإنه لن يضيف شيئاً إلى ميزات إنسان يحيا حياة أرادها حيوية وفعالة وذات معنى. إذ أن ما يميز العجيلي في النهاية عن بقية أترابه، ويعلم الله أنهم قلة، إنما هو هذه المبدعات الأدبية من حيث إنها إذ تنطلق من التجربة المعاشة، من الواقعي ومن التاريخي، إنما تعبر وتصوغ إشكالية جيل كامل، بل إشكالية ثقافة كاملة.
فهو شاعر، ويشهد على موهبته الشعرية ديوانه الليالي والنجوم فضلاً عن أشعار كثيرة لم ينشرها بين دفتي كتاب؛ وهو باحث نشر حتى الآن ثلاث مجموعات من الأبحاث: أحاديث العشيات؛ السيف والتابوت؛ أشياء شخصية. وهو كذلك حكواتي في حكاياته المنشورة في مجموعتين: دعوة إلى السفر و حكايا من الرحلات. وهو كذلك كاتب ساخر كما تشهد على ذلك المقامات التي كتبها شاباً ونشرها مؤخراً. على أن كتاباته ضمن شكلي القصة القصيرة والرواية هي التي تبرز أكثر من غيرها من أعماله الأدبية على الرغم من أنه شاعراً أو باحثاً أو محدثاً أو ساخراً لم يكف لحظة عن أن يكون "قاصّاً"، وهنا تكمن في ظني أصالته ككاتب، وأكاد أقول خصوصيته.
قلت إن هذه المبدعات تمتد في الزمن، على أن يفهم ذلك ضمن معنييْن: الأول هو المعنى المباشر، أعني الأربعين عاماً أو أكثر التي تفصلنا عن أول قصة كتبها العجيلي ونشرها في أكبر مجلة أدبية آنذاك، أعني مجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات، عام 1936. ومنذ ذلك الحين تتالت كتابات العجيلي منشورة في أهم المجلات العربية : الأديب، الآداب، الهلال، المعرفة، وغيرها، ثم ضمن كتب تتالت: بنت الساحرة، ساعة الملازم، قناديل إشبيلية، الحب والنفس، الخائن، الخيل والنساء، فارس مدينة القنطرة، حكاية مجانين؛ ثم رواياته: باسمة بين الدموع، قلوب على الأسلاك، أزهار تشرين المدمّاة.
أما المعنى الآخرلامتداد هذه الأعمال في الزمن فهو محاولته إنجاز استمرارية قصصية عربية لم تكن موجودة أو على الأقل تدشين مثل هذه المحاولة في نوع أدبي هو، في الأساس، من إبداع الغرب الحديث، وأعني به القصة القصيرة والرواية. نحن نعلم أن تاريخ الإبداع القصصي العربي تاريخ حديث نسبياً. صحيح أن محاولات الكتابة القصصية ضمن شكلي القصة القصيرة والرواية قد بدأت منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا أن الإنتاج الروائي العربي الحقيقي لم يرَ النور إلا في فترة ما بين الحربيْن ولم ينطلق انطلاقته المُبدعة إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سواء أكان الأمر في سورية أم في غيرها من البلدان العربية. لهذا كانت الإبداعية في هذا النوع محاولة إنتاج أعمال تتضمن كافة عناصر القصة القصيرة أو الرواية الغربيتيْن. وهكذا كانت عوالم تشيخوف أو موباسان أو سارويان وغيرهم تجد نسخاً عربية عنها إلى درجة أن النقد المحلي نفسه سار على هذا الطريق فتحدث عن الواقعية والكلاسيكية والرومانتيكية وحتى عن الواقعية الاشتراكية!
ومع أن العجيلي كان معاصراً للمرحلة نفسها، أعني بداية الحمسينات التي تعتبر سنوات الإنتاج القصصي الخصبة في سورية، فإنه كان يبحث عن عناصر إبداعيته بعيداً عن القصِّ الغربي؛ إذ لم يكن المقصود في الواقع ترجمة أو تعريب وإنما تأصيل نوع أدبيٍّ غربي في الأدب العربي بحيث لا نستطيع أن نتكشف في منتجاته آثار أيٍّ من أساتذته الكبار. وهذه هي فيما أرى ميزة مجموعة من الكتاب السوريين، والعجيلي من بينهم، ميزة تجلت في وضع كلٍّ منهم، حسب رؤيته للعالم وللأشياء، خطوط قصٍّ، صحيح أنه خصوصي ومتميِّزٌ عن أمثاله في البلدان العربية الأخرى، إلا أنه يتطلع إلى فرض نفسه في الثقافة العربية بوصفه القصَّ الممكن الوحيد. على أن معيار الإمكان هذا يجب أن يطبق لا على الشكل فحسب وإنما على تماسك ودلالة المبدع أيضاً.
ضمن هذا المنظور يقدم العالم القصصي للعجيلي الذي تعكسه المجموعات القصصية والروايات التي أشرت إلى عناوينها عناصر واحد من هذه الإمكانات التي كان يحاولها القصُّ السوري. ويمكن ضرب مثل على هذه الفرضية إحدى قصص العجيلي التي كتبها في الأربعينات، وأعني بها قصة انتقام محلول الكينا المنشورة في مجموعته القصصية بنت الساحرة.
أبطال هذه القصة طالبان في كلية الطب صديقان لا يراهما الناس إلا معاً حتى سموهما "الزوج"، وامرأة تحبهماً معاً. وإبان الامتحان الأخير، ينجح أحدهما ويضطر الآخر لإعادة السنة بسبب جواب مغلوط عن سؤال يتعلق بمحلول الكينا. كان السؤال هو التالي: "أمامك محلولان من محاليل الكينا أحدهما تعرض منذ ثمانية وأربعين ساعة إلى غبار ملوث بالجراثيم والآخر تعرض إلى ذلك الغبار منذ خمس دقائق، واضطررت إلى حقن مريضك المصاب بالملاريا بواحدٍ منهما على حاله قبل أن يتاح لك تعقيمه بالحرارة، فأيهما تفضِّل؟". كان الجواب المغلوط هو اختيار المحلول المعرض للغبار منذ خمس دقائق. إذ أن محلول الكينا قاتل للجراثيم بنفسه إذا بقيت فيه مدة معينة. إثر نتيجة هذا الامتحان إذن تفرق الصديقان وغدا الذي نجح طبيباً في قرية واستأثر بالمرأة لنفسه، في حين أن صديقه يعاني من ألم رهيب بسبب انفصاله عن صديقه وعن المرأة التي يحب أدى به في نهاية المطاف إلى الجنون. على أن الطبيب سوف يقترف في الحياة العملية نفس الخطيئة التي ارتكبها صديقه أثناء الامتحان وذلك باستخدامه محلولاً للكينا تعرض للغبار منذ وقت قريب وبحقنه لسبعة من مرضاه ماتوا جميعاً بسبب ذلك. ولسوف يؤثر موتهم فيه إلى درجة يحاول معها الانتحار، ثم يغدو مجنوناً ويدخل مستشفى الأمراض العقلية ملتحقاً برفيقه ليعودا الزوج الذي لا ينفصل. مصادفة محضة إذن هي التي جمعت بين الصديقيْن اللذين فرق بينهما رسوب أحدهما في الامتحان. غير أنها تبدو لنا كذلك. فالواقع أن المرأة التي كانت تحبهما معاً ثم استقرّت مع الطبيب تقص لنا قصة أخرى تلقي الضوء على ما سمعناه قبل قليل.  فالرسوب الذي كان نتيجة الجواب المغلوط قد تسبب به الآخر الذي همس في أذن صديقه بهذا الجواب؛ إذ لكي يختص بالمرأة لنفسه ضحّى بصديقه. لكن محلول الكينا كان هناك لكي ينتقم دافعاً الصديق لارتكاب نفس الخطأ الذي أودى به إلى الجنون مثلما أودى بصديقه من قبله.
يمكن رسم مخطط هذه القصة على النحو التالي:
1.    القاص الرئيسي هو طبيب يحكي قصة؛
2.    لقاء القاص الرئيسي بالمرأة التي كانت تحب "الزوج"؛
3.    هذا اللقاء يستثير سرد القصة الرئيسية التي كان القاص شاهداً عليها؛
4.    تغدو المرأة القاصّ الثانوي لكي توضح السبب الذي هجرت من أجله الطبيب ما إن جعلها تكتشف مسؤوليته في رسوب صديقه..
يقدِّم هذا المخطط فيما آمل ملامح العالم التخييلي لهذه القصة، لابل ولكل إنتاج العجيلي القصصي، ومن هذه الملامح:
* صدامٌ حاضرٌ دوماً وحادّ بين العقلانية واللاعقلانية؛
* اللاعقلانية بلا هوية، أي أنها  يمكن أن تكون القدر أو المجهول أو الغيب أو المخفي أو غير المفهوم؛
* يؤلف هذا الصدام شكل القصة نفسه من حيث إن العقلانية تتجسّدُ دوماً في القاص الذي يسرد الحكاية الرئيسية بطريقة يواجهنا عبرها بحدود وسائله للشرح، وهي حدود يتجاوزها القاص الثاني الذي يقودنا إلى التساؤل الكبير الخاص بالمجهول الذي يحرك هذا العالم.
ربما بدت هذه الوحدة المتماسكة التي يمثلها مبدع العجيلي للبعض مجانية أو في أحسن الأحوال لعبة مخيلة مولعة بالشاذ إذا لم نقم بإدماجها ضمن وحدة أوسع. هذه الوحدة في الواقع ما إن يتم إيضاحها حتى تحدد لنا طبيعة هذا المخفي أو غير المفهوم أو هذا المجهول. ولكي أعطيكم بعض الأمثلة، يكفي أن أستشهد لكم ببعض روائع مبدعاته، قصة فارس مدينة القنطرة، التي يبحث فيها الحاضر، أي حقبة ما بعد حرب حزيران 1967، عن ألغازه في التاريخ؛ أو مذاق النعل التي هي اتهام للحداثة عندما تولي تطوير أدوات التعذيب اهتماماً أكبر من ذلك الذي توليه لتطوير الإنسان نفسه؛ أما حكاية مجانين فإنها تخلق بواسطة تقنيتيْن قصصيتيْن: التسلسل والترصيع، جواً من الجنون الحقيقي لا يمكن تفسيره إى في ضوء ما تقدمه القصة من عناصر.
هذا الإدماج يوضح ما إن يتم القيام به طبيعة الإمكانات التي قدمها قصُّ العجيلي. فليس المقصود إذن مجرد إمكانات تقنية تجعل من المبدع قصة، وإنما توظيف هذه الإمكانات في دلالة المبدع بطريقة تصبح فيها التقنية نفسها دلالة تؤدي إلى استخلاص بنية متماسكة وذات معنى.
وجدارة العجيلي في ظني هي أنه استطاع أن يبلغ هذه الغاية. لقد قلتُ إنها ميزته وخصوصيته وإبداعيته.